1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآيات 15 الى 19

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (۱٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (۱٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (۱۷) وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (۱۸) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (۱۹)


تذكير لأهل الكتاب بالحجّة بعد تقريعهم بنقض الميثاق الذي أخذ منهم على نصرة رسله و تعزيرهم، و العمل بما أتوه من الكتاب و التشريعات الإلهيّة، فنسوا حظّا ممّا ذكّروا به، كما عرفت في الآيات المباركة السابقة.
و في هذه الآيات الشريفة تذكير لهم بالإيمان برسله و الكتاب الذي أنزله عزّ و جلّ عليه و تعريفهم بهما، و يقيم سبحانه و تعالى الحجّة عليهما و ينوّه بهما و يعظم شأنهما، ثمّ يوبّخ النصارى على مقالتهم الباطلة في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلّام، و يبطلها ببرهان قويم يقتنع به كلّ من ألقى السمع و هو شهيد، حيث أثبت لنفسه‏ الملكية التامّة على خلقه بما فيهم المسيح عليه السّلام، إيجادا و تدبيرا و افناء، و أطلق السلطة التامّة له عزّ و جلّ على جميع مخلوقاته، فهو يخلق ما يشاء و يفني ما يشاء.
ثمّ يعنّف السياق مع اليهود و النصارى في مقالتهم: نحن أبناء اللّه تعالى و أحباؤه، و يردّها، و يوعدهم على ذنوبهم. و في ختام الآيات الشريفة يرجع إلى ما ذكره تعالى في صدرها من تذكيرهم برسالة رسوله الكريم، و يقيم الحجّة عليهم و يفصل الكلام معهم.
و تشترك الآيات السابقة مع اللاحقة في غرض معين، و هو إثبات الإيمان المطلوب بالبرهان، و إبطال ما يخالفه.

قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا.
التفات إلى خطاب الفريقين- اليهود و النصارى- و الكتاب اسم جنس يصدق على الواحد و الكثير، فيشمل كتب اليهود و النصارى.
و التعبير عنهم بهذا العنوان لزيادة التشنيع، فإنّ أهلية الكتاب تقتضي مراعاته و العمل بما ورد من الأحكام و التوجيهات.
و في الآية المباركة تعريف للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و إقامة البيّنة و الحجّة على صدقه و حقية الكتاب الذي انزل عليه، و تذكير لهم بأنّ الرسول الذي أرسله اللّه تعالى، شأنه التبليغ و شرح الحقائق الواقعيّة و المعارف الإلهيّة، و بيان ما أخفوه مع علمهم بأنّه الحقّ الذي يجب الإيمان به.
و نسبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى ضمير العظمة، للتشريف و التنويه بمقامه و عظيم منزلته عنده جلّ شأنه، و فيه الإشارة إلى وجوب اتباعه، فإنّه من اللّه تعالى الذي آمنتم به عزّ و جلّ.
قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ.
إرشاد إلى أهمّ أعمال الرسل و الأنبياء، فإنّهم عليهم السّلام رسل اللّه تعالى في بيان الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و إقامة الحجّة و البرهان على ذلك.
و الآية الشريفة أصدق شاهد على صدق رسالة الرسول الأمّي، الذي لم يقرأ كتبهم، و لكن أخبر بما أوحى اللّه تعالى إليه، مع أنّ مثل هذا البيان يتطلّب الإحاطة بجميع كتبهم و العلم بمواضع التحريف و المطالب الحقّة التي وردت فيها، و لا يحصل ذلك إلّا بوحي إلهيّ، لدقّة الموضوع و أهميّته، فكان هذا الإخبار و البيان لشاهد صدق على حقيّة رسالته و ما أتى به صلّى اللّه عليه و آله. و أما إخفاء ما في التوراة و الإنجيل، فقد عرف به اليهود و النصارى، و هو أعمّ من الحذف و التغيير في كتبهم و التبديل و التأويل الباطل، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.
و من أهمّ ما أخفوه تلك الآيات التي وردت في كتبهم التي تبشّر برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و الأحكام المقدّسة التي وردت فيها، كما أشار إليه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥۷]، و قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [سورة الفتح، الآية: 29]، و قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ* [سورة البقرة، الآية: ۱٤٦].
و أما إخفاء الأحكام المقدّسة و المعارف الحقّة، فقد حكي القرآن الكريم الشي‏ء الكثير منه، مثل تحريم الطيبات، و إحلال الصيد المحرّم عليهم في يوم السبت، و حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحقّ كما بيّنه صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي ذكره في قوله تعالى: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [سورة المائدة، الآية: ٤۱].
قوله تعالى: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
أي: و يعفو عن كثير ممّا كانوا يخفونه من الكتاب. و المراد بالعفو إما الترك، أي: لم يذكر سبحانه كثيرا ممّا كانوا يخفونه و لم يظهره عزّ و جلّ، فإنّ ذكر البعض يكفي لإتمام الحجّة عليهم، و يشهد لذلك ما اشتملت عليه كتبهم، ممّا يتعلّق بالتوحيد و النبوّة و المعاد ما لا يصحّ نسبته إليه تعالى، كالتجسّم و الحلول، و لا انتسابه إليه جلّ شأنه، كالكفر و ارتكاب الفحشاء و الزلّات، و اشتمال كتبهم على بعض العقائد الوثنيّة، و عدم ذكر المعاد في بعضها، مع أنّه من دعائم الإيمان و التوحيد في الأديان الإلهيّة.
أو يكون المراد من العفو هو التوبة إذا رجعوا إلى دين الحقّ، فيكون ترغيبا لهم في الدخول في الإسلام.
و اعترض على هذا الوجه بأنّ هذا الكثير كالكثير السابق، فيتعيّن المعنى الأوّل.
و لكن يمكن المناقشة فيه بأنّ الكثير أمر نسبي، مع أنّ الظاهر اختلاف اللفظين، و اشتهر أنّ النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة.
و كيف كان، فالمراد واضح، و هو إقامة الحجّة على صدق الرسالة و افتضاح أهل الكتاب.
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ.
تعظيم لشأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل عليه، فإنّ التعبير بالمجي‏ء يدلّ على أنّ الجائي قائم به عزّ و جلّ بأي نحو كان من القيام.
و النور: معروف، و هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، فإنّه لو لا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات، و هو على قسمين: نور ظاهريّ جسمانيّ، و معنويّ، و الثاني أهمّ من الأوّل، و هو المراد به في المقام، فإنّ به تحيى القلوب و تهتدي البصيرة، و تستضي‏ء به النفس، و يسير به الإنسان في ظلمات الجهل و المادة، و يسلك به الصراط المستقيم، قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏ [سورة طه، الآية: ۱۲٦].
و يطلق على الرسول صلّى اللّه عليه و آله كما في قوله: وَ سِراجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب، الآية: ٤٦]، كما يطلق على القرآن الكريم كما في عدّة آيات، قال تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥۷]، و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: ۱۷٤]، و قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [سورة التغابن، الآية: 8].
كما اطلق على ما انزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الأحكام و الإرشادات و التوجيهات، أي الإسلام، قال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ* [سورة البقرة، الآية: ۲٥۷].
و يطلق على الفطرة أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور، الآية: ٤۰].
و يطلق على العقل أيضا، كما في عدّة من الروايات التي ذكرت في كتاب العقل و الجهل.
و يطلق النور على اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [سورة النور، الآية: ۳٥]، و لكنّ هذا النور الحقيقي لا يعلم أحد كنهه إلّا اللّه تعالى، فهو الحياة، و العلم، و الإرادة و غيرها من صفات ذاته عزّ و جلّ، و من هذا النور يستضي‏ء سائر الأنوار. و سيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.
و لأجل اختلاف المصاديق، اختلف العلماء و المفسّرون في المراد به، فقيل: إنّه‏ الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قيل: إنّه القرآن، فيكون قوله تعالى: وَ كِتابٌ مُبِينٌ عطفا تفسيريّا له، و قيل: إنّه الإسلام، و قيل: إنّه النعم الثلاث التي خصّ بها العباد: النبوّة، و العقل، و الكتاب، بقرينة الآية التالية التي اشتملت على أحكام ثلاثة يرجع كلّ واحد منها إلى نعمة ممّا تقدّم، فقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ، يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا، و قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ، يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ، و قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يرجع إلى قوله تعالى: وَ كِتابٌ مُبِينٌ.
و الحق: أن يقال: إنّ المراد به جميع ما تقدّم، أي الرسول، و العقل، و القرآن، و الإسلام، لأنّ المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب الذين أتمّ اللّه تعالى الحجّة عليهم بتلك الحجج الثلاث، مع أنّها متلازمة، فإنّ كلّ واحدة منها تهدي إلى الاخرى و تدعو إليها، و الآثار التي ذكرها عزّ و جلّ في الآية التالية تترتّب على كلّ واحدة منها، فإنّ بها يخرج العباد من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، فيكون ذكر الكتاب لبيان أهميّته و عظمته في هداية النفوس و تكميلها.
و المبين: هو الظاهر في نفسه المظهر لما يحتاج إليه الناس، و هو من أوصاف القرآن الكريم لهدايتهم، و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [سورة النساء، الآية: ۱۷٤- ۱۷٥].
قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ.
الضمير في (به) يرجع إلى ما تقدّم و لا يضر توحيده على القول بتعدّد ما في الآية السابقة، لاتّحاد المرجع في الحقيقة و الواقع، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و القرآن يشتركان في الهداية، و كلّ واحد منهما سبيل ظاهريّ من سبلها، و قد نسب سبحانه و تعالى‏ الهداية إلى القرآن الكريم و إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله في عدّة آيات، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: ٥٦]، و قال تعالى: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى، الآية: ٥۳]، و لكنّ الجميع يرجع إلى اللّه تعالى، فإنّه الهادي حقيقة، و غيره سبب ظاهريّ لها.
و تقديم المجرور على اسم الجلالة للاهتمام، كما أنّ إظهار الاسم الجليل، لكمال الاعتناء بأمر الهداية.
و كيف كان، فالآية الشريفة تبيّن أهمّ الآثار المترتّبة على هذا النور، و هي ثلاثة:
الأوّل: أنّه يهدي بسبب رسوله و كتابه من اتّبعهما و يبتغي بذلك رضاه، باتباع أوامره و الانتهاء بنواهيه عزّ و جلّ، فيورده تعالى سبيلا من سبل السلام التي يسلم بها في الدنيا و الآخرة من كلّ ما يوجب شقاؤه و ما يرد به إلى سوء العذاب، فيتخلّص ممّا يلزم منه إخلال سعادته في الدنيا و الآخرة.
و سبل السلام و إن كانت متعدّدة، قال تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: ٦۹]، إلّا أنّها تتّحد في الغرض العظيم المترتّب عليها، و هو الإيصال إلى كرامته عزّ و جلّ، و لعلّه لأجل ذلك و صف تلك السبل بالصراط المستقيم الذي يوافق الفطرة المستقيمة في قوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: ۱٥۳].
و من ذلك يستفاد أنّ الهداية إلى السلام و السعادة، مشروطة باتباع رضوان اللّه تعالى، و هو الإيمان المطلوب، و الإعراض عن كلّ ما يوجب سخطه، و ذلك بالاجتناب عن أنواع الظلم و ما يوجب الانخراط في سلك الظالمين، و قد أكّد عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم أنّ لا هداية لمن كان كذلك، و أنّه محروم‏ عن نيل هذه الموهبة العظيمة و الكرامة الإلهيّة، قال تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* [سورة الجمعة، الآية: ٥].
و يبيّن ما في هذه الآية الكريمة قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ [سورة الأنعام، الآية: 82]، حيث ذكر عزّ و جلّ أنّ الأمن من العذاب و الهداية إلى السعادة، مشروطان بالإيمان و ترك الظلم و الاجتناب عن ما يوجب الانخراط في الظالمين.
ثمّ إنّ الرضوان بكسر الراء أو ضمّها لغتان بمعنى واحد، كما أنّ السبل بضمّ الباء و التسكين كذلك. و الأوّل الرضاء الكثير و أعظمه، فإنّ لرضائه جلّ شأنه مراتب، و إنّ أعلى مراتبه كانت رضوانا، بحيث أظهر كلّ واحد من الربّ و العبد الرضا العظيم لا مطلقه، فإنّ ذلك التراضي لا الرضوان. و الثاني الطرق كما تقدّم.
قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ.
هذا هو الأثر الثاني، و هو الخروج من الظلمات التي هي فنون الكفر و الضلال و الجهل و العناد إلى نور الإيمان، و لعلّ ذكره عزّ و جلّ الظلمات جمعا و النور مفردا، إشارة إلى أنّ طريق الباطل متعدّد، بخلاف طريق الحقّ، فإنّه واحد و إن كان متعدّدا بحسب الظاهر و المواقف، و قد أكّد ذلك القرآن الكريم في عدّة مواضع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الانعام، الآية: ۱٥۳].
و التقييد بأنّ الخروج هذا إنّما يكون بإذنه، لبيان أنّ أمر الهداية و الدخول في الإيمان و الخروج عن كلّ الظلمات، لا بدّ و أن تكون بعلمه و توفيقه، و أنّه السبب الحقيقيّ فيها، و أنّ الرسل و الأنبياء و الكتب الإلهيّة إنّما هي سبل ظاهريّة نازلة من السماء، لم يكن لها الاستقلال في السببيّة- مقابل المبدأ تعالى- قال عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [سورة إبراهيم، الآية: ٥]، فلم يقيّد عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة الإخراج من الظلمات إلى النور بالإذن، لاشتمال الأمر الصادر منه تعالى على معناه، و أنّ موسى عليه السّلام كان واسطة في‏ التبليغ، بخلاف قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [سورة إبراهيم، الآية: 1]، فإنّه تعالى قيّده بالإذن، ليخرجه عن الاستقلال في السببيّة.
و كيف كان، فإنّ الهداية من الأمور العظيمة في حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة، الدنيويّة و الاخرويّة، و تحتاج إلى العلم بجميع خصوصيات المهتدين و ما يوجب الهداية و أثرها، و هذا لا يمكن أن يتحقّق من غير اللّه تعالى، فإنّ له السلطة التكوينيّة و التشريعيّة على خلقه، إلّا إذا أفاض عزّ و جلّ شيئا منها على بعض المخلصين من عباده، فيكون المراد من الإذن في الآية المباركة التوفيق الخاصّ الذي يتوقّف على العلم، فحينئذ لا فرق بين أن يكون المراد من الإذن هو التوفيق أو العلم، كما ذكره بعض المفسّرين.
قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
تقدّم الكلام في الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، و ذكرنا أنّه الصراط الموصل إلى دين الحقّ، لا يضل سالكه، و هو أقرب إلى اللّه تعالى، و هو عين الهداية، و فيه اجتمعت العلّة الفاعليّة و الغائيّة من الإسلام و دين الحقّ المهيمن على الطرق كلّها، فالهداية إليه هداية عامّة مهيمنة على سائر أفراد الهداية التي تتعلّق بالسبل الجزئية، و هي التي تتّحد في الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذه الهداية هي الهدف من الهداية إلى السبل الجزئيّة. و لعلّ التنكير في الآية المباركة يرشد إلى ذلك، أو لتعظيم شأن الصراط المستقيم و تفخيم أمره.
كما أنّ تكرار لفظ الهداية إمّا لأجل حيلولة قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ بين الهدايتين، أو لبيان أنّ الهداية الثانية هي المهيمنة على الاولى، أو لأجل أنّ الاولى هي الموجبة للهداية الثانية.
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
بيان لكفر النصارى، و ما كفروا به خاصّة بعد إقامة الحجّة على أهل الكتاب‏ عامّة، و القائلون بهذه المقالة هم طائفة خاصّة من النصارى.
و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّ القائلين بها كانوا يعتقدون العينيّة، فإنّ القصر فيها للمسند إليه على المسند، أي: أنّ المعبود منحصر في المسيح لا غير، و إن أمكن تطبيق الجملة على البنوّة و على القول بثالث ثلاثة، كما حكى عنهم عزّ و جلّ في ما تقدّم من الآيات المباركة، و ذكرنا ما يتعلّق بهذه العقيدة في سورة النساء مفصّلا فراجع.
و التأكيد على ذكر النسبة في المسيح لبيان أنّه عليه السّلام منسوب و متولّد من امرأة و محلّ للحوادث، و كلّ ذلك ينافي القول بألوهيّته كما عرفت.
قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
برهان قويم يدلّ على بطلان مقالتهم تلك، و هو يرجع إلى أمرين أحدهما:
إثبات مناقضة قولهم، و الثاني: تثبيت الألوهيّة لنفسه عزّ و جلّ، بإثبات السلطة التامّة له تعالى، و قدّم الثاني في الذكر بقوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، لأنّه الأصل، فتكون له السلطنة التامّة على جميع خلقه، و هم مملوكون له تعالى مسخّرون تحت إرادته و سلطانه، يحكم فيهم بما يشاء و ما يريد، لا مانع يؤثر عليه عزّ و جلّ بأي وجه كان و يقطع تأثير سلطنته عن شي‏ء فيغلبه عليه فيه، فهو اللّه تعالى مالك الملك وحده لا شريك له، و لا مالك غيره يبطل سلطانه أو يحدّ منه، فإنّ مشيئته لا يردّها شي‏ء.
و الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، حيث نفي الاستطاعة عن دفع الشرّ عن نفسه بنفي ما يمنع عن تأثير إرادته عزّ و جلّ و قدرته، فها هو المسيح بن مريم لما نزل الصلب عليه لم يقدر على دفعه عن نفسه، فاستغاث بربّه خائفا، و جلا، ضارعا، خاضعا، ليصرف عنه ذلك الكأس، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.
قوله تعالى: إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.
بيان لتهافت أقوالهم في المسيح بن مريم عليه السّلام و تناقضها، فإنّ كون المسيح إلها يناقض وصفهم له بأنّه ابن مريم، فإنّه يدلّ على كونه بشرا تامّا، و أنّه مربوب له تعالى و واقع تحت سلطانه عزّ و جلّ و إرادته جلّ شأنه، كسائر أفراد البشر، مضافا إلى كون أمّه أيضا مثله في البشريّة و مسانخة له من دون ريب، يجري عليها ما يجري على جميع من في الأرض، فإنّ الحكم في الجميع على حدّ سواء، و هذا من أعظم الأدلة على برهان الإمكان الذي ينافي الألوهيّة، التي تتّصف بالوجوب.
و خلاصته: أنّ المسيح مخلوق يماثل سائر أفراد البشر، يجوز عليه ما يجوز على غيره، كما أنّه لا يجوز عليه ما لا يجوز عليهم، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد، و منه الألوهيّة، فإنّها لا تجوز لغيره، فلا بدّ أن لا تجوز عليه أيضا، كما أنّ غيره يجوز عليه الهلاك، فيجوز عليه ذلك، و لا مانع هناك يمنع منه، و لو كان هو اللّه سبحانه و تعالى لما جاز ذلك.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ أمّ المسيح مع اندراجها في عموم المعطوف، لزيادة تأكيد عجز المسيح، و زيادة للتقرير و التبكيت، و إما لتعميم إرادة الهلاك مع حصول الغرض بقصرها على المسيح عيسى عليه السّلام، لتهويل الخطب و إظهار كمال العجز، ببيان أنّ الكلّ تحت إرادته و قهره تعالى لا يقدر على دفع ما يريده فضلا عمّا يريده غيره.
قوله تعالى: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما.
تعليل للجملة السابقة و تأكيد لما اعترف به النصارى من ثبوت الملكية المطلقة للّه تعالى، فيكون دليلا آخر لإبطال الوهيّة المسيح عيسى بن مريم، إذ لو كان إلها لكانت له هذه الملكية المطلقة، و قد أكّد عزّ و جلّ هذه الملكية في هذه الآية الشريفة بأمور:
منها: التصريح باسم الجلالة الدالّ على اختصاصها به تعالى، و نفيها عن ما سواه استقلالا و اشتراكا.
و منها: التنصيص بذكر «و ما بينهما»، على أنّ الكلّ تحت قهره و مملوكيته تعالى، فيكون الكلام أقرب إلى التصريح و أبعد من الشبهات، أي: أنّ له وحده‏ ملك جميع الموجودات و التصرّف المطلق فيها، إيجادا و إعداما و تربيبا، و ليس لأحد سواه ذلك، و من كان كذلك فهو حقيق باختصاص الألوهيّة به.
قوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ.
تعليل للجملة السابقة، و بيان لبعض أحكام الملك و الألوهيّة، فإنّ الملكية المطلقة تقتضي ثبوت السلطنة التامّة له عزّ و جلّ و تعميم قدرته، فلا يمنع من نفوذ مشيئته مانع، فهو يخلق ما يشاء من الأشياء.
و الآية الشريفة ردّ لمزاعم النصارى من أنّ المسيح قد صدرت منه أعمال غريبة لا تصدر من عامّة البشر، و أنّ خلقه كان خلاف المتعارف و السنّة العامّة في خلق سائر البشر، فإنّ كون خلقه كذلك و صدور بعض المعاجز على يديه عليه السّلام، لا يدلّان على كونه إلها مالكا لجميع ما في السموات و الأرض، يتصرّف فيه بما يشاء، بل أنّ ذلك من بعض الفيوضات التي منحها عزّ و جلّ له، إذ لا يخرج بذلك عن كونه مخلوقا كسائر خلقه يتصرّف فيهم عزّ و جلّ بما يشاء، فبالحقيقة لا بدّ أن ينسب إليه عزّ و جلّ دون من أجراه اللّه تعالى على يديه.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.
تقرير لمضمون ما سبق و تأكيد له، و بيان لتعميم قدرته إلى ما هو الأوسع من عالم الوجود و إرشاد إلى برهان قويم، و هو أنّ الإله لا بدّ أن يتّصف بتمام القدرة و شمولها لجميع الأشياء، و إلّا فلا يكون إلها، و لعلّه لأجل ذلك ذكر اسم الجلالة، لبيان أنّه الإله المستجمع لجميع صفات الكمال التي منها الملكية المطلقة للسماوات و الأرضين و ما بينهما، و ثبوت القدرة التامّة، فهو يخلق ما يشاء بما يشاء، و هو يدلّ على أنّه لا شريك له في الألوهيّة.
قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ.
حكاية لبعض ما صدر عن الفريقين من الدعاوي الباطلة بعد ذكر ما صدر من أحدهما في غيره عزّ و جلّ. و هذه الحكاية تدلّ على جرأتهم على اللّه تعالى، و عدم مبالاتهم بالمواثيق و العهود التي أخذت منهم على العمل بمقتضاها، فلا تفيد الادعاءات و الشعائر في القرب إلى اللّه تعالى و نيل جزائه العظيم.
و الابن: تارة يطلق و يراد منه المعنى الحقيقي، و هو المراد في الاستعمالات الدائرة عند العرف، و هو محال على اللّه تعالى، لأنّه يستلزم الاختلاط و المجانسة مع مخلوقاته، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، و قد نفاه عزّ و جلّ عنه في ما سبق من الآيات التي حكي فيها مقالتهم عن بنوّة المسيح و شدّد النكير على قائليها، و أقام البراهين الكثيرة على إبطالها.
و اخرى: يطلق و يراد منه المعنى المجازي، أي: القرب و الرحمة، حيث إنّ الأولاد مقرّبون من آبائهم و موارد رحمتهم و عنايتهم، و لعلّ هذا المعنى هو المناسب في المقام، فيكون قوله تعالى: وَ أَحِبَّاؤُهُ، عطفا تفسيريّا له، و يدلّ على ذلك أنّهم لم يدّعوا البنوّة الحقيقيّة لغير ما ادّعوها فيه كالمسيح، و عزيز، فلا اليهود تدّعي تلك حقيقة و لا النصارى، فكانوا يطلقونها على أنفسهم تشريفا.
و المتتبع في كتبهم المقدّسة يرى أنّ لفظ الابن قد استعمل فيها كثيرا، فقد اطلق على آدم عليه السّلام و على يعقوب و داود و على أقوام، و على المسيح، و لم يريدوا منه المعنى الحقيقيّ سوى ما اطلق على الأخير فقط، كما حكي عزّ و جلّ عنهم في عدّة آيات، كما اطلق على الملائكة و المؤمنين الصالحين، و هذا الاستعمال كثير في العهد الجديد، فقد روى متى في وعظ المسيح على الجبل: «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء اللّه يدعون» (متى- ٥: 9)، و في الرسالة الاولى من رسالتي يوحنا: «كل من هو مولود من اللّه لا يعقل خطيئته لأنّ زرعه يثبت فيه و لا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود من اللّه بهذا أولاد اللّه ظاهرون و أولاد إبليس» (يوحنا- 3 الآيتان 9 و 10)، فيستفاد من ذلك أنّهم أرادوا من إطلاق الابن عليهم لأجل إظهار أنّهم مورد عنايته عزّ و جلّ و عطفه و محبّته، فلا يجازيهم على أفعالهم، كما لا يؤاخذ الأب الحنون ولده المسي‏ء، فهم من اللّه تعالى بمنزلة الأبناء من الأب، فلهم أحكام‏ خاصّة تختلف عن سائر الخلق، فيكون الغرض من هذا الاختصاص هو معافاتهم عن العذاب و العقوبة، و أنّهم مهما عملوا من القبائح لا سبيل إلى تعذيبهم، لأنّه يناقض ما خصّهم به من المزيّة و الفضل و ما حباهم من الكرامة، فلا محالة مصيرهم إلى النعمة الدائمة و الكرامة الأبديّة، و لأجل ذلك كان الردّ عليهم حاسما و واضحا من دون تأويل و شبهة.
و الآية الشريفة ترشد الناس إلى أمر عظيم، و هو ترك التقوّل على اللّه تعالى و التزام الأدب معه عزّ و جلّ، فإنّه لا يجوز نسبة صفة أو قول إليه تعالى إلّا إذا وردت الرخصة فيه، و من هنا كانت أسماء اللّه تعالى توقيفيّة، لا بدّ من ورود الإذن في إطلاق اسم عليه جلّ شأنه.
قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.
احتجاج عليهم إلزاما و تبكيتا. و الخطاب لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه واسطة الفيض، و تتضمّن هذه الحجّة أمورا أحدها النقض عليهم، و الثاني الردّ عليهم بما هم معترفون به، و الثالث البرهان على بطلان دعواهم بالمرّة، تأكيدا و إرشادا لهم بالابتعاد عن تلك المقالة و ما يماثلها في الفساد.
أما الأمر الأوّل، فإنّ مقالتهم تلك تقتضي عدم تعذيبهم بذنوبهم و أمنهم من كلّ عذاب دنيويّ أو اخرويّ، مع أنّه عزّ و جلّ يجازيهم على أعمالهم و يعذّبهم بذنوبهم و يؤاخذهم على خطاياهم و ما اقترفوه من المعاصي و الآثام، و منها هذه المقالة التي تقوّلوا بها على اللّه تعالى بغير حجّة و لا برهان؛ فهم كسائر أفراد البشر، فإذا كنتم أبناء اللّه تعالى و أحباءه فلا بدّ أن لا يعذّبكم، فإنّ الأب لا ينكل بابنه و المحبّ لا يعذّب حبيبه، فلستم إذا أبناءه و لا أحباءه.
و إطلاق الآية المباركة يشمل العذاب الدنيويّ و الاخرويّ، و قد حكي عزّ و جلّ في القرآن الكريم كلا النوعين من العذاب الواقع عليهم، لا سيما اليهود الذين قصّ القرآن المجيد الشي‏ء الكثير من أحوالهم.
و عذابهم هذا يختلف عن البلايا و المحن، التي تقع على المؤمنين و أولياء اللّه تعالى، فإنّها ليست مؤاخذة على ذنب عملوه، و لا عذاب بسبب معصية اقترفوها، و لا هي ناجمة عن سخط إلهي نكالا و وبالا عليهم، بل هي لزيادة القرب و الدرجات و نيل الكمالات أو للتربية و تهذيب النفس و السريرة، فهي بالأحرى نعمة و كرامة على المؤمنين و عذاب و وبال على الكافرين المعاندين، و في الأثر المعروف: «البلاء للولاء»، و في الحديث: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء عليهم السّلام، ثمّ الأمثل فالأمثل»، و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ البلايا و المحن و المصائب الدائرة في هذا العالم إنّما يشترك فيها المؤمن الصالح و الفاجر الصالح على حدّ سواء، و هي من سنّة اللّه تعالى على خلقه، و إنّما تختلف من حيث الأثر و العنوان و الغرض، فإنّها للمؤمنين كرامة و منحة ربانيّة حاصلة من محبّة إلهيّة لهم، و عذاب و نكال لغيرهم، كما أثبتنا ذلك غير مرّة، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: ۱٤۰- ۱٤۰]، فإنّه عزّ و جلّ جمع بين النوعين من البلاء الواقع على الطائفتين، و بيّن تعالى أنّه يختلف من حيث الأثر و العنوان و الغرض.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ.
بيان للأمر الثاني من الأمور التي احتجّ اللّه تعالى بها عليهم، و هو الردّ عليهم بما هم معترفون به، فإنّهم لا ينكرون أنّهم من أفراد البشر من جنس ما خلقه اللّه تعالى من غير مزيّة لهم على غيرهم، و يتضمّن هذا الدليل نفي البنوّة عنهم مطلقا، فإنّ البشر لا يصلح لأنّ يكون ابنا للّه جلّت عظمته، لإمكان صدور القبيح و الزلّات و الهفوات منه، و أنّه يؤخذ بما يصدر منه، و الابن مسانخ لأبيه، فإذا ادّعوا بنوّتهم له تعالى، فلا بدّ أن لا يصدر منهم ذلك و لا يؤاخذوا بما يصدر منهم.
قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.
تتمّة للدليل السابق، و يمكن أن يكون نتيجة الأدلّة التي تناقض دعواهم، أي: أنّه إذا أقرّوا بأنّهم بشر من جملة ما خلقه اللّه تعالى، داخلون تحت سلطانه يتحكّم فيهم إرادته و مشيئته، فلا يحابي أحدا من مخلوقاته، و هو تعالى الحكم العدل يجازي عباده على أعمالهم، فيغفر لمن يشاء منهم، و يعذّب من يعلم بأنّه يستحقّ العذاب، ماض حكمه، فلا يمنع من مشيئته مانع أو يتحكّم في إرادته شي‏ء.
قوله تعالى: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما.
بيان للأمر الثالث الذي احتجّ عزّ و جلّ به عليهم، و يتضمّن هذا الدليل البرهان على نفي البنوّة عنه مطلقا، فهو الخالق للسموات و الأرض و ما بينهما من المخلوقات، فالجميع مملوك له عزّ و جلّ، و مربوب له مقهور تحت إرادته، فلا ينتمي شي‏ء منها إليه تعالى إلّا بالمعبوديّة و المملوكيّة، يتصرف فيها بما شاء إيجادا و إعداما، إحياء و إماتة، إثابة و تعذيبا. و هو الغني عن خلقه، فلا يحتاج إليهم، بل هم محتاجون إليه، فلا يمكن أن يتصور له بنون.
و هذه الآية الشريفة تماثل الآية التي ذكرت آنفا، إلّا أنّها ختم تلك بقوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، لأنّها في مقام نفي الغرابة في الخلق و امتياز بعضهم على بعض، فأثبت القدرة التامّة لنفسه على خلقه، فلا امتياز له عليهم من هذه الجهة، و أما آية المقام فإنّها في مقام بيان الجزاء على الأعمال، فختمها بقوله تعالى: وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، فإنّه سيجازيهم على أفعالهم و أقوالهم.
قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
فإنّه سيحاسبهم على أفعالهم و أقوالهم، فيثيب المحسن على إحسانه و يعاقب المسي‏ء على إساءته، و لا يصرفه صارف عن ذلك الجزاء.
و في الآية المباركة إشعار بأنّه سيعذّب أصحاب تلك الدعاوي الباطلة، على كفرهم و غرورهم و تقوّلهم على اللّه تعالى بغير حقّ.
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ.
خطاب لهم بالرجوع عن غيّهم و الدخول في دين الحقّ، بعد ما دحض‏ شبهاتهم التي غرّتهم في دينهم، و الخطاب يتضمّن اللطف في الدعوة، و هو تأكيد للخطاب السابق في الدعوة إلى الإيمان، إلّا أنّهما يفترقان في أنّ الأوّل دعوة إلى الرسول الذي أيّده اللّه تعالى بكتاب يهدي بإذنه عزّ و جلّ إلى ما فيه الخير و السعادة، و هذا الخطاب يتضمّن مضافا إلى الدعوة إلى ما ورد في الخطاب السابق، أنّه يقطع جميع الأعذار عنهم، فيكون سياقه إتمام الحجّة عليهم، مع أنّه لا يخلق هذا الخطاب عن لطف، فإنّه عزّ و جلّ بعد ما أقام الحجّة عليهم بدحض دعاويهم الباطلة، حسن منه أن يذكّرهم بحجّته عليهم يوم القيامة إذا أصروا على غرورهم و لجاجهم و ضلالهم.
و حذف المتعلّق في قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ، تفخيما للأمر و تعميما له، ليشمل كلّ ما هم محتاجون إليه في سبيل سعادتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و ما يوجب صلاح أنفسهم و إصلاح أمورهم الفرديّة و الاجتماعيّة، الماديّة و المعنويّة. و يدخل فيه بيان ما كانوا يخفون من الكتاب، و ما يدلّ على أنّه حجة اللّه تعالى عليهم، و ما بيّنه عزّ و جلّ في دفع شبههم و دعاويهم، فيكون من أقوى الأدلة على أنّه رسول اللّه تعالى نزل عليه الوحي المبين.
قوله تعالى: عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ.
مادة (فتر) تدلّ على السكون و زوال الحدّة من الشي‏ء، قال الراغب:
«الفتور: سكون بعد حدّة، و لين بعد شدّة، و ضعف بعد قوّة»، فتختصّ هذه المادة بالسكون الخاصّ، لا كلّ سكون، و في حديث ابن مسعود لما مرض بكى فقال:«إنّما أبكي لأنّه أصابني على حال فترة و لم يصبني في حال اجتهاد»، أي: في حال سكون و تقليل من العبادات و المجاهدات.
و المعنى: على سكون خال عن ظهور رسول من رسل اللّه تعالى، و على انقطاع من الوحي، فكانت الحاجة ماسّة إلى بيان الشرائع و الأحكام بعد ما كتموها.
و تدلّ الآية الشريفة على كتمانهم للحقّ، و تحريفه عن كتبهم، و شدّة الحاجة إلى البيان، و ترشد إلى هذا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله هو الرسول الذي بشّرت به الكتب الإلهيّة السابقة، إذ لم يكن رسول آخر غيره في هذا المقطع الخاصّ من الزمان، الذي اختلف في مدته. و المشهور أنّها خمسمائة سنة أو أكثر بقليل، فجاء رسولنا يبيّن لكم جميع ما تحتاجونه في حياتكم، ليقطع معذرتكم و يفند حجّتكم في يوم القيامة، فكانت هذه الفترة من موارد الامتحان و الابتلاء.
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ.
بيان للعلّة التي أوجبت مجي‏ء الرسول، و تقدّم الكلام في إعراب مثل هذه الجملة في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [سورة النساء، الآية: ۱۷٦]، و قلنا: إنّ التقدير: كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا.
و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على قطع معذرتهم، من توهّم اندثار الشريعة و انطماس آثارها و انقطاع أخبارها، فلا شريعة و لا بشير و لا نذير يهديهم إلى مواطن الوعد و الوعيد.
و هذه الآية المباركة تشير إلى ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء، الآية:٤۱]، من أنّ الأمم يوم القيامة تجحد تأدية رسالات رسلهم، و تقول: ما جاءنا من بشير و لا نذير، و يكون الرسل و الأنبياء عليهم حجّة و تقول: بلى قد جاءكم بشير و نذير.
قوله تعالى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ.
ردع لمعذرتهم و قطع لها، فقد جاءكم بشير و نذير يبيّن لكم امور دينكم.
و الآية الشريفة تدلّ على عدم انقطاع الوحي بالمرّة، و في الحديث عن علي عليه السّلام: «لا تخلو الأرض عن قائم للّه بحجّة، إما ظاهر مشهور، و إما خائف مغمور».
من هنا ذهب علماؤنا (قدس اللّه أسرارهم) إلى أنّ في زمان الفترة بين‏ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين عيسى عليه السّلام أنبياء و أئمة مستورين خائفين، منهم خالد بن سنان العبسي و غيره، فيكون المراد من الفترة هو أن لا يكون نبيّ و لا وصيّ نبيّ ظاهر مشهور.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.
تعليل لجميع ما سبق، فإنّه قادر على إرسال الرسل و إنزال الشرائع تترى من دون انقطاع، فلم تكن فترة حقيقيّة، و لكنه عزّ و جلّ جعل تلك الفترة خالية عن الرسل الظاهرين المشهورين لحكم كثيرة، فهو القادر على كلّ شي‏ء، فلا يعجزه نصرة نبيّه الكريم و إعلاء كلمته.
و الآية المباركة ردّ على اليهود الذي يزعمون أن لا شريعة بعد شريعة التوراة، زعما منهم بامتناع النسخ و البداء عليه عزّ و جلّ، فإنّ ذلك ينافي عموم قدرته، فهو القادر على كلّ شي‏ء و لا يعجزه أمر.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل‏:
تدلّ مجموع الآيات الشريفة على حقيقة أعمال الرسل و بعض خصوصياتهم، فقد ذكر عزّ و جلّ أنّ الأنبياء و الرسل إنّما بعثوا لهداية الناس إلى الكمالات، و إخراجهم من الظلمات إلى النور، و هدايتهم إلى الصراط المستقيم، الذي يوردهم إلى السعادة و الفوز بالفلاح و الدخول في الجنّة.
و بيّنت الآيات الشريفة أنّ الأنبياء عليهم السّلام هم من أفراد البشر لا يختلفون عنهم، فليسوا خارجين عن هذه الحقيقة، و لم تكن لهم مزيّة عن بقية أفراد الناس إلّا بما ميّزهم اللّه تعالى بالفيض القدسيّ و الوحي الإلهيّ، و صفاء السريرة، و تميّزوا بالتقوى و العمل الصالح، و قد شدّد النكير على من يخرجهم عن هذه الحقيقة و يدخلهم في مصاف الإله أو الملائكة.
الثاني‏:
يدلّ قوله تعالى: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، على أنّ أهل الكتاب قد أخفوا كثيرا من الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و كان لإخفائهم لها أساليب متعدّدة و مظاهر مختلفة، و قد حكى القرآن الكريم العديد منها في مواضع متعدّدة، و هو يدلّ على تحريفهم لكتبهم المقدّسة و بعدهم عن الحقّ و انطماس نور الفطرة فيهم.
الثالث‏:
يدلّ قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ، على أنّ غرض الكتاب الإلهيّ و القرآن العظيم هو بعث نور الفطرة في النفوس و إزاحة ما يوجب انطماسه و اضمحلاله، و بيان ما أفسده الزائفون المضلّون.
و تعدّ هذه الآية الشريفة من معاجز القرآن الكريم، فإنّه لو لا هذا النور المبين‏ لضلّ الإنسان في ظلمات الجهل و الكفر، و لا نطمس نور الفطرة بالشبهات و الأكاذيب، و لما عرف الناس ما يحتاجون إليه لهدايتهم.
و الآية المباركة تخبر عن حقيقة ما طرأ على التوراة و الإنجيل من الضياع و الفساد، و ما فعله رؤساء اليهود و النصارى في دينهم و ما عبثوا به في كتبهم المقدّسة.
الرابع‏:
يدلّ قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ، على أنّ هذا الجائي قائم بهذا النور بنحو من أنحاء القيام المعروفة، فإنّه نور من اللّه العظيم، موضح لغوامض الكتاب المبين، و مبيّن للمعارف الربوبيّة.
الخامس‏:
يستفاد من قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ، اشتراط فعليّة الهداية الإلهيّة باتباع رضوانه، فتدور الهداية إلى السلام و السعادة مدار اتباع رضوان اللّه تعالى، و تختصّ الهداية في المقام بأن تورد من اهتدى سبل السلام جميعها أو بعضها، حسب لياقة الشخص و مقدار استعداده.
و الظاهر من الآية الكريمة أنّ اتباع الرضوان هو ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة و قرّرته الشرائع الإلهيّة، و لا ريب أنّ اتباع الرضوان لا يتحقّق إلّا بالعمل بما تأمر به الفطرة و الشريعة، و الانتهاء بنواهيها و اجتناب سبيل الظلم الذي نفى عزّ و جلّ منه الهداية عن الظالمين، قال تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* [سورة الجمعة، الآية: ٥]، فالآية الشريفة تعدّ الفرد المؤمن إلى هداية عظمى، و هي الهداية إلى الصراط المستقيم، المهيمنة على جميع سبل الهداية، و هي الغاية القصوى من إنزال الشرائع الإلهيّة.
كما يستفاد من الآية المباركة أنّ الميزة الأساسيّة لهذه الهداية الخاصّة، هي كونها تورد المهتدي إلى تلك السبل التي تدعو إلى السلام و الخضوع للّه تعالى و الاستسلام له، و بهذه الميزة يمكن تمييز هذه السبل عن سبل الشيطان، التي تدعو إلى العصيان و الخروج عن الطاعة و تورد سالكها إلى الشقاء و الحرمان.
و يمكن عدّ هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن حقيقة السبيلين سبيل اللّه و سبيل الشيطان.
السادس‏:
يستفاد من قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، أنّ الخروج من الظلمات إلى النور الذي هو من آثار الكتاب المبين لا بدّ أن يكون بإذنه عزّ و جلّ و مورد مشيئته و علمه، لما له من الأهميّة العظمى في تهذيب النفوس و رفع الشبهات و الشكوك و تنوير القلوب، كما عرفت في التفسير، و بهذا القيد يمكن إبطال دعوى المدّعين الزائفين الذين يدّعون الكمال و إخراج الناس من الظلمات، فقد يكون الأمر بالعكس و هو لا يعلم بذلك، فلا بدّ من التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور من صاحب الشرع فقط، و يؤيّد ذلك ما يأتي من الآيات المباركة، حيث ذكرت جملة من دعاوي أهل الكتاب و عقائدهم و هم يعتقدون صحّتها و أنّها تهدي من يعتقد بها إلى الصراط و تخرجه من الظلمات، و قد عدّها عزّ و جلّ من الظلمات و أنّها من سبل الشيطان.
و من جميع ذلك تعرف أهميّة هذا القيد (بإذنه) في المقام لسدّ جميع الذرائع الفاسدة و الدعاوي الباطلة، و التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور ممّن يعلم جميع الخصوصيات و بيده الكمال و السعادة.
السابع‏:
يستفاد من ذكر امّ المسيح في الآيات الشريفة، التنصيص على أنّ المسيح مخلوق حادث، و أن له امّا، فكيف يكون إلها؟! كما أنّ الآيات الشريفة تحدّد حقيقة الإله في القرآن الكريم و سائر الكتب الإلهيّة، و هي أنّه لا يتعلّق بشأن من شؤون الإله و لا بشي‏ء من مخلوقاته قدرة غيره، فضلا عن أن يعجزه شي‏ء منها إذا تعلّقت إرادته بهلاكها، و إلّا فلا يكون إلها، و لا ريب في عدم انطباق هذا الحدّ على المسيح بن مريم عليه السلّام، فإنّ عجزه بيّن كما هو معلوم، فلا يستحقّ الألوهيّة.
و المستفاد من سياق قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ‏ يُهْلِكَ، أنّ الإهلاك و الإماتة و الإعدام لم يكن عن سخط و غضب، بل لإظهار القدرة التامّة، و للإعلام بأنّ المسيح الذي نسبت إليه الألوهيّة إنّما هو داخل تحت قهره و ملكوته سبحانه و تعالى، فالآية المباركة تشتمل على نفي الألوهيّة عن غيره تعالى و اختصاصها لنفسه عزّ و جلّ.
الثامن‏:
يدلّ قوله تعالى: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما، على انحصار الألوهيّة فيه جلّت عظمته، لأنّ كلّ شي‏ء مملوك له تعالى، و منه المسيح، و المملوكيّة تنافي البنوّة، كما يدلّ على نفي الشريك في ألوهيته ببيان نفوذ مشيئته و شمول قدرته، لأنّه اللّه الجامع لجميع صفات الكمال، و لعلّه لذلك كرّر لفظ الجلالة في هذه الآية الكريمة مرّات.
التاسع‏:
يدلّ قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ، على أنّ الناس من هذه الحيثية و هي كونهم بشرا خلقهم اللّه تعالى، كسائر خلقه على حدّ سواء، لا مزيّة لأحدهم على الآخر، فهم مخلوقون مربوبون، لا يمكن لأحد منهم الاستغناء عن خالقه و مربوبه، و القرب و البعد عن رحمته، إنّما يحصلان من ناحية العبد المخلوق، فمن آمن و عمل صالحا فسوف يغفر اللّه تعالى له، فيستحق المعافاة، و من كفر فسيعذّبه اللّه، و هذا ينافي ما ادّعاه أهل الكتاب من أنّهم أبناء اللّه و أحباؤه، كما عرفت في التفسير.
العاشر:
إنّما ذكر سبحانه و تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ دون ما يرادفه من الألفاظ كالإنسان، لأنّ البشر متمحّض في المادة و تحمّل المكاره دون الإنسان و غيره، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سورة ص، الآية: 71]، فعبّر عن الخلق من المادة (طين) بالبشر، و كذا قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [سورة الفرقان، الآية: ٥٤]، فتدلّ الآية الشريفة على بطلان زعمهم من أنّهم أبناء اللّه.
الحادي عشر:
يستفاد من قوله تعالى: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما، وحدانيّة اللّه تعالى و انحصار الألوهيّة فيه و نفي الشريك، و نفوذ مشيئته و إرادته، و أنّه لا يعجزه شي‏ء من ما ملكه، فإنّه مقهور تحت إرادته و سلطانه و عاجز عن معارضته.
و تعدّ هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة على إثبات تلك الأمور، و لعلّه لذلك كرّره عزّ و جلّ في المقام للتأكيد، و للإعلام ببطلان دعاوى الزائفين الضالّين، فإنّ اللّه جلّ شأنه هو المستجمع لجميع صفات الكمال، و ليس غيره كذلك.

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، قال: «يبيّن لكم النبيّ ما أخفيتموه ممّا في التوراة من أخباره، و يدع كثيرا لا يبيّنه».
أقول: لعلّ عدم بيانه صلّى اللّه عليه و آله لما في التوراة لمصالح كثيرة رحمة منه صلّى اللّه عليه و آله عليهم، لأنّه نبيّ الرحمة و رسول الرأفة، أو كان ذلك من المعارف التي وردت في القرآن نظيرها، أو الأحكام التي لا تختلف مع ما ورد في الشريعة الإسلاميّة. أو كان ذلك التأخير حتّى تستكمل عقولهم بالبراهين الربّانيّة، إلى غير ذلك ممّا يمكن إن يقال في المقام.
و في الدّر المنثور عن ابن عباس قال: «من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ، قال: فكان الرجم ممّا أخفوا».
أقول: قد تقدّم أنّ الإيمان بالقرآن وحدة متكاملة و إنكار أحد أحكامه يوجب الكفر بجميعه، و أنّ المراد بالكفر الوارد في الحديث هو الإنكار له المستلزم للكفر، و أنّ الرجم كغيره من الأحكام، ورد في التوراة المصونة من يد التحريف، كتمته اليهود و بيّن ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله.
و في الدّر المنثور في قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، بإسناده عن أنس قال: «مرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه و صبي في الطريق، فلما رأت امّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى و تقول: ابني ابني … فأخذته، فقال القوم: يا رسول اللّه ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا و اللّه، و لا يلقي حبيب حبيبه في النار».
أقول: لا شكّ أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه حتّى بعذاب الفراق و حرّ ناره، و لو عذّبه كذلك في عالم الشهادة و صبر، يكون ذلك لرفع مقامه و علو درجته و لتقرّبه إليه جلّ شأنه، و أنّ عدم عذابه في الآخرة لا ينافي ابتلائه في الدنيا لرقيه إلى سمو مراتب الحبّ له، رزقنا اللّه تعالى رشحة من رشحات فيض حبّه، و جعلها مستقرّة في قلوبنا.
و في الكافي بإسناده عن أبي الربيع قال: «حججنا مع أبي جعفر عليه السّلام في السنة التي حجّ فيها هشام بن عبد الملك، و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب، فنظر إلى أبي جعفر في ركن البيت و قد اجتمع عليه الناس، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس؟! فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة، هذا محمد بن علي عليه السّلام، فقال: اشهد لآتينه و لأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ. قال: فاذهب فاسأله لعلّك تخجله، فجاء نافع حتّى اتكئ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر عليه السّلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، قال: فرفع أبو جعفر عليه السّلام رأسه فقال: سل عمّا بدا لك، فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمّد من سنة؟ فقال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا، قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما قولك فستمائة سنة».
أقول: تقدّم في التفسير أنّ الفاصل الزماني بين الرسولين لم يكن فيه نبيّ معلن و حجّة ظاهريّة، و إلّا فالحجّة الواقعيّة- سواء كانت نبيّا أو وصيّا- غير معلنة لا تنقطع في سلسلة الزمان كما ثبت ذلك في علم الكلام.
و أما الاختلاف في الفترة بين الرسولين فكثر، فذهبت الإماميّة إلى أنّها خمسمائة سنة كما في الرواية، و ذهب قتادة و غيره إلى أنّها ستمائة سنة أو ما شاء اللّه من ذلك، و عليه الجمهور، و ذهب الضحاك إلى أنّها أربعمائة سنة و بضعا و ثلاثين، و ذهب ابن جريح إلى أنّ الفترة كانت خمسمائة سنة، و قال الكلبي: خمسمائة و أربعون.
و يمكن الجمع بين الأقوال بأنّها على سبيل الاستنتاج من سلسلة الزمان، و أنّه على نحو التقريب لا التحديد الواقعي، و مثل هذا الاختلاف و إن كان كثيرا، إلّا أنّه لا يضرّ بشي‏ء، و لا يترتب عليه أي حكم، و اللّه العالم.
و عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اليهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه و حذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، و سعد بن عبادة، و عقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة و وهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، و ما أنزل اللّه من كتاب من بعد موسى و لا أرسل بشيرا و لا نذيرا بعده، فأنزل اللّه تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ- الآية».
أقول: الرواية تدلّ على عناد اليهود و انحرافهم عن الفطرة المستقيمة و إنكارهم للحقّ الواضح، و يظهر منها مصلحة الفترة، أي: حتّى يعترفوا بالحقّ و يقرّوا به فيها، و قد كشف القرآن الكريم عن نواياهم الفاسدة بعد ذلك، و اللّه العالم بالحقائق.
و عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، قال: «أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابن ابيّ و بجرى بن عمر و و شاس بن عدي، فكلّمهم و كلّموه، و دعاهم إلى‏ اللّه و حذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن و اللّه أبناء اللّه و أحباؤه، كقول النصارى، فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية».
أقول: الرواية من باب التطبيق، لأنّها تشمل كلّ من ادّعى المنزلة عند اللّه تعالى، و لم يقنت له جلّ شأنه، و تعدّى حدوده تعالى و أحكامه، فهو يعذّبه سواء كان من اليهود أو النصارى أو المجوس، فالمدار على التقرّب على الإيمان و العمل الصالح، كما أنّ المناط في العذاب على الكفر و العمل السي‏ء.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ، قال: «يعني بالنور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السّلام».
أقول: لأنّ بهم أخرجنا اللّه تعالى من ظلمات الجهل و الكفر إلى نور العلم و المعرفة، و أنّ الأئمة المعصومين كالعلل المبقية للعلّة الأصليّة، كما تقدّم مكرّرا.

ورد لفظ النور في الكتب السماويّة كثيرا، لا سيما في القرآن الكريم باختلاف متعلّقه و إضافته، فتارة: أضيف إلى نفسه الأقدس، قال جلّ شأنه: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [سورة النور، الآية: ۳٥]، و قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور، الآية: ٤۰]، و في الدعاء المأثور: «أنت نور السموات و الأرض».
و اخرى: أضيف إلى خلقه، مثل قوله تعالى محكيا عن أحوال المؤمنين في يوم الحساب: نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [سورة التحريم، الآية: 8].
و قال تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة، الآية: 17].
و ثالثة: إلى الكتب النازلة من عنده عزّ و جلّ على رسله الكرام، كما قال جلّ‏ شأنه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: ٤٤]، و قال تعالى: وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: ٤٦]، و قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [سورة التغابن، الآية: 8]، و هو القرآن الكريم.
و رابعة: أضيف إلى الرسل و الأنبياء، قال تعالى في وصف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً* وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب، الآية: ٤٥- ٤٦]، بل اطلق على خلفائه المعصومين عليهم السّلام، كما في الروايات.
و خامسة: أضيف إلى الدين النازل من السماء، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [سورة الأحزاب، الآية: ٤۳]، و الجامع بين هذه الأقسام هو الحقّ، فيدور مداره.
و سادسة: اختصّ النور بغير هذا العالم، أي: عالم البرزخ و القيامة، قال تعالى: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة الزمر، الآية: ٦۹]، و قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ [سورة التحريم، الآية: 8].
و يمكن أن يقال: إنّ جميع تلك الأقسام يرجع إليه سبحانه و تعالى، لما اختصّ به من إشراق الجلال و سبحات العظم التي تضمحلّ دونها كلّ شي‏ء، و إنّ سائر الأنوار بارقة و رشحة من ذلك النور العظيم- كما في بعض الدعوات المأثورة- و لولاه لكانت الظلمة فاشية و مستقرّة. نعم للإضافة أثرها الخاصّ يحصل من الاستعداد و الأهليّة أو القابلية، و إنّ الاختلاف فيه حصل منها و بها.
حقيقة النور:
تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ كثيرا من حقائق الأشياء- خصوصا المعنويات التي هي بعبدة كلّ البعد عن عالم المادة- مستورة عنّا و محجوبة عن ادراكاتنا، إلّا ما أصابتها عقولنا في عالم الإمكان بقدرها، و أنّ ذلك لا يظهر الحقيقة و لا يبيّن الواقع، بل هو كشف عن بعض الآثار الدالّة على الوجود، و عن بعض الفلاسفة أنّ التعاريف للحقائق كلّها ليست إلّا لبيان بعض الآثار، لا من باب الكشف للحقيقة، لأنّه على وجه التحديد غير ممكن، للاختلاف في الأنواع، و للسير الاستكمالي فيها و تفاوت الاستعدادات، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكروها، و لذلك قالوا: «العلم بحقائق الأشياء صعب المنال جدا، و يظهر ذلك أكثر وضوحا في مثل الروح، و العلم، و الوحي، و الموت، و الحياة، و الوجود، و غيرها.
و من ذلك: النور، فقد عرّفوا حقيقته بتعاريف متعدّدة، لعلّ أسلمها: «أنّه كيفيّة خاصّة ظاهرة بنفسها»، و أنّه «خلاف الظلمة»، و المناقشة فيه واضحة، لأنّه لم يعرف حقيقته و واقعه. و عن ثالث: «هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره»، و هذا يرجع إلى الأوّل. و عن رابع: أنّ حقيقته الوجود، و التغائر بينهما لفظي. و فيه: أنّ الوجود أعمّ بالكتاب و السنّة و العقل كما هو واضح. و عن خامس: أنّه الصراط المستقيم الموصل للحقيقة. و فيه: على فرض التنازل أنّه تعريف بأحد المصاديق.
و عن سادس: أنّه القوّة، أو الحلاوة في الباطن، أو الوصول إلى الحقّ، و المناقشة فيه واضحة جدا، و أنّ ما ذكر من المصطلحات الصوفيّة التي هي بعيدة عن الماء المعين و منهج الشرع المبين و الصراط المستقيم.
فالصحيح ما تقدّم من أنّ النيل إلى الواقع و الحقيقة غير ميسور، و أنّ هذه التعاريف كلّها تقريبيّة، قد يقنع الذهن بها و إن لم تقتنع النفس، و عدم النيل إلى الحقيقة لا يضرّ بالسير و السلوك بعد الدرك أنّه من جند القلب، و به تكشف المبهمات و ترفع الظلمات و يتميّز الحقّ من الباطل، فيحقّ الحقّ و يبطل الباطل، فينتصر القلب بإقباله على الحقّ بالنور المشرق عليه، و تنهزم الظلمات و توابعها، إذ لا بقاء للظلمة مع إشراق النور و وضوحه.
اختلاف النور:
النور كالوجود ينقسم إلى حقيقة و مجاز، فالنور الحقيقي هو نور المبدأ جلّ شأنه، كما هو الوجود الحقيقيّ، و سائر الأنوار إشراق منه، و هذا معنى ما ورد في الدعاء المأثور: «أنت نور الأنوار»، أو «أنت ربّ الأنوار». و إنّ اختلافه في عالم الشهادة و الإمكان حسب سعة إشراقه و انتشاره أو تحديده، بل يختلف بمدى أثره و بارقته على القلب و حسب مناشئه و مصادره.
و لا يمكن تحديد هذا الاختلاف، لتفاوت النفوس، و اختلاف الأسباب و الآثار، و التقرّب إليه مرتبة و درجة، و دنوا و بعدا، إلّا أنّ الجامع الذي ممّا لا ريب فيه هو الكشف للنور، كما أنّ للبصيرة الحكم، و للقلب الإقبال و الأدبار، و لكن جميعها تختلف باختلاف المراتب و الدرجات.
أما النور الحقيقيّ الذي لا يتصوّر فيه التشكيك، فهو النور المختصّ بالمبدأ جلّ ثناه، الذي تجلّى به، و سمّى نفسه به، فقال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، فإنّه اللامحدود من جميع الجهات- جلالا و جمالا، و إشراقا و ملكوتا- فلا يتصوّر نور دونه، و الأنوار كلّها فائضة من بحر جبروته، كما ورد في الدعاء المأثور: «يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا مدبر النور، يا مقدّر النور، يا نور كلّ نور، يا نورا بعد كلّ نور، يا نورا فوق كلّ نور، يا نورا ليس كمثله نور»، فالكائنات كلّها رشحة من رشحات نوره، و فيض من بحار أنواره، فعليه لا يعقل أن يكون الكون ظلمة- كما عن بعض أهل العرفان- لإضافته إليه و خلقه بالإرادة التكوينيّة، إلّا أن يراد من الظلمة في حقّ أهل الحجاب، لا لأهل الحقّ و العرفان.
و بتعبير أوضح: أنّ ذاته تعالى حقيقة النور الذي لا يوصف و لا يمكن تحديده إلّا بسلب النقائص عنه، مستور عنّا كنهه، جامع للكمالات و إليه تنتهي الكمالات، و منه أفاضت الأنوار.
و ممّا ذكرنا تسقط دعوى بعض أهل العلم من أنّ النور جسم و عرض، و الباري جلّ شأنه منزّه عنهما، فلا بدّ من التأويل في الآية الشريفة، فإنّ ذلك النور ليس كسائر الأنوار كما عرفت، فلا حاجة إلى التأويل.
على أنّ مقام المظهريّة، و التجلّي، و الإشراق غير مقام الذات، و في بعض روايات نفي الرؤية: «كيف أراه و حجابه النور»، أي: أفاض من نور ذاته نور حجابه، فهو تعالى محجوب، و في الدعاء المأثور: «اللهم ربّ النور العظيم»، أو قوله عليه السّلام مخاطبا له جلّت عظمته: «أنت نور النور».
و الحاصل: أنّ تجلّيه تعالى بالنور، ليس من قبيل النور المتّصف بالكيف و العرض في عالم الإمكان المحدود بالمعقول، و إن كانت السموات و الأرضين كلّها أنوارا أشرقت من نوره العظيم بعد ما كانتا معدومتين، فلا داعي لالتماس المجاز في الآية المباركة: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، أي: المنوّر لهما، و إن كان ذلك صحيحا في حدّ نفسه، كما لا معنى للمبالغة فيها أصلا كما عن بعض، و البحث نفيس جدا نتعرّض له في الآية الشريفة المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.
و قد تقتبس النفوس المستعدة أنوارها من الصحف المطهّرة النازلة من السماء على قلب الرسل و الأنبياء عليهم السّلام، فتهتدي إلى الكمال اللائق، و تصل إلى المقام الراقي.
كما أنّ النور يشرق من وجود الرسل و الأنبياء عليهم السّلام على القلوب القابلة أو اللائقه للسير و السلوك لعرفان الحقّ و التوجّه للخالق، و كذا من الأولياء بل العلماء العاملين بعلمهم المتّقين، الذين وصفهم علي عليه السّلام في خطبة همام.
و قد يشرق النور من جميع الممكنات التي وجدت بالإرادة التكوينيّة، الدالّة على خالقها و بارئها و جاعلها على النفوس القابلة للوصول إلى معرفة موجدها و مدبرها.
و هذه الأنوار كلّها قابلة للشدّة و الضعف، و لها مراتب، و في كلّ مرتبة درجات، و في كلّ درجة منازل، و في كلّ منزلة مراحل، و تفصيل ذلك خارج عن موضوع الكتاب.
آثار النور:
الأنوار الإلهيّة تؤثّر في القلوب و توجب سعادة النفس و رقيها، و تخلّف حقائق هي السبل للفوز بالكمالات، فبالنور يميّز الإنسان الحسن من القبح، و بعد ذلك البصيرة تذعن أو تحكم على الحسن بحسنه و عن القبيح بقبحه، ثمّ القلب يقبل على ما ثبت حسنه و يدبر عن ما ثبت قبحه، فتحصل السعادة بعرفان الحقّ، فهذه الحقائق تستند إلى النور، و هو السبب لها، و لذا اشتهر عندهم «الأنوار مطايا إلى العلّام»، لأنّها تشرق على النفوس المستعدة، فتوصلها إلى وادي المعرفة و تربطها مع خالقها.
و لا فرق في تلك الأنوار الفائضة منه جلّ شأنه أن تشرق من الرسل، و الكتب، أو الأكوان، كلّ لها أثرها الخاصّ على النفس، إن لم تكن على القلوب أكنة.
أقسام النور:
الأنوار المحسوسة بعين البصر المنتشرة من الأجسام النيرة، كالقمرين و النجوم و الأرض و غيرها أنوار خارجيّة لها أثرها الخاصّ في عالم الإمكان، و لسنا في مقام بيانها لأنّها مدركة لكلّ أحد حتّى البهائم، فلا خصوصية لها سوى الآثار، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً [سورة يونس، الآية: ٥]، و الضوء أخصّ من النور، و في الدعاء المأثور: «يا خازن الليل في الهواء، و خازن النور في السماء».
و أما الأنوار المعنوية التي تدركها البصيرة، فهي على قسمين: دنيويّة، و اخرويّة، و الأول كنور العقل و العلم، و نور الإيمان. و إنّ الحياة في هذا العالم متقوّم بهذه الأنوار، و لو لا ها لم تسعد حياة، و هو المراد من الآية الشريفة: وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام، الآية: 122]، و في الحديث: «العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء».
و من الأنوار المعنويّة التي تدركها البصيرة، النور الذي يشرق من الكتب السماويّة، لاستضاءة السبل و إيصال السالك إلى منزل القرب إليه تعالى، و كذا الأنبياء و الأولياء كما مرّ.
و هناك أنوار اخرى ذكرها علماء العرفان، و هي:
الأوّل: نور الطالبين، و من شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة و يظهر نور اليقظة، و الروايات الدالّة على ذلك كثيرة، و في الدعاء المأثور: «وهب لي نورا ترفع به ظلمة الجهل عني، و اطلب به رضاك».
الثاني: نور السائرين، و من شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار و يظهر به بهجة المعارف و الأسرار، و في كثير من الدعوات السؤال منه جلّ شأنه بإفاضته علينا، و يعبّر عنه بنور الإقبال، و لعلّه المراد من الحديث الوارد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر و انفسح، قيل: يا رسول اللّه هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل نزوله».
الثالث: نور الوصال أو التوجّه، و به يحصل الشهود و يشهد القلب مولاه.
و هناك تقسيم آخر، و هو قريب ممّا ذكرنا، نور الإسلام، و نور الإيمان، و نور الإحسان، فبالأوّل الانقياد و الإذعان، و بالثاني يكشف ظلمات الشرك الخفي و يظهر بهجة الإخلاص و الصدق و الوفاء، و بالثالث تنكشف ظلمة الآنية و يظهر نور وجود المبدأ كما هو، و لهذه الأنوار مراتب و درجات.
و عن بعض العرفاء المحققين: أنّه بنور الإسلام الواقعيّ يتحقّق الفناء في الأفعال، و بنور الإيمان يتحقّق الفناء في الصفات، و بنور الإحسان يحصل التمكين في الفناء في الذات.
و استغنى بعض منهم عن النور الثالث بذكر الثاني، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الفناء في الصفات قريب من الفناء في الذات، و أنّ الصفات لا تفارق الموصوف، فمن يرى سمعه باللّه تعالى و بصره باللّه سبحانه- كما في بعض الروايات- يرمى وجوده‏ باللّه جلّت عظمته، فمهما تحقّق أحدهما تحقّق الآخر، و لكن لا على نحو الوجود و الموجود حتّى يستلزم المحاذير، بل على نحو المظهريّة و الفناء فيه جلّ شأنه، و لذيل الكلام بحث نفيس طويل ننتظر الفرصة للتعرّض له إن شاء الربّ جلّت عظمته و أراد.
و أمّا الثاني: فهو يختصّ بالمؤمنين و الأولياء و الصالحين، قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا [سورة التحريم، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [سورة الزمر، الآية: ٦۹]، أي: بوجود الأنبياء و الأولياء و المؤمنين العالمين في أرض الحساب.
و هناك تقسيم آخر لنوره جلّ شأنه و هو نور الأعظم، و نور العظيم، و نور العظمة، كما ورد في الدعوات المأثورة، و يحمل ذلك على مراتب تجلياته أو يحمل على ادراكاتنا لتلك الأنوار و اللّه العالم.
إشراق الأنوار:
كما أن للأنوار المحسوسة شروقا و غروبا تدلّ على وجودها و آثارها الخاصّة، كذلك للأنوار المعنويّة، فإنّ لها إشراقها على القلوب و النفوس، و لا بدّ فيها من إزالة الحجب المانعة من الإشراق، و هي تعلّق القلب بالمادة و الماديات و توطين حبّ الدنيا فيه، و قد يغرب النور عنه و تخمد الفطرة، كما عن عليّ عليه السّلام: «انّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان»، و أنّ القلوب تقبل على ما يوجب التصفية و تدبر عمّا يمنعه من التخلية و التحلية، إلّا إذا وصلت إلى مرحلة لا تؤثّر فيها الأنوار مطلقا، و أظلمت من جميع الجهات، و حسب التعبير القرآني: القساوة، أو أشدّ من الحجارة، أو ران على قلوبهم، فحينئذ يتمثّل الإنسان في الشرّ و يصير مصداقا للشرور (نستجير باللّه تعالى)، و مع ذلك كلّه فهو قابل للرجوع إلى الفطرة و الاستعانة بها لإزالة الخبائث عنه و رفع الحجب، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
لوازم النور:
الأصل في النور الخير، و الفرح، و السرور، و الطاعة للّه جلّت عظمته كما أنّ الظلمة، يتعقّبها الحجاب، و الشرّ، و الجهل، و القسوة و الضيق و الشدّة و البعد عن اللّه تعالى، فالخير للنور، من قبيل لوازم الماهية في الأشياء، لا يمكن التفكيك بينهما أصلا، مثل الزوجيّة للأربعة، و في المقام لازم الحقيقة، و الظلمة تتعقّبها الصفات السيئة المضادّة للنور و صفاته.
و مرادنا بالأصل ذلك، لا الأصل المصطلح في علم الأصول و سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك في الآيات المناسبة، كما يأتي أقسام الخير و الفرح و السرور أيضا.
منازل النور و درجاته‏:
تقدّم أنّ النور الحقيقي الذي لا يمكن تحديده منحصر به تعالى، و أنّ ما سواه على منازل و درجات حسب الإشراق منه جلّ شأنه، فأوّل نور أنزله تعالى عن ذاته الأقدس و أظهره بنور قدرته من العدم، كان نور نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، ففي الحديث: «أوّل ما خلق اللّه نوري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «كنت نورا بين يدي ربّي قبل خلق آدم عليه السّلام بأربعة عشر ألف عام، و كان يسبح ذلك النور و تسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق اللّه آدم أودع ذلك النور في صلبه»، و في الحديث عن ابن عباس عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لما خلق اللّه آدم عليه السّلام أهبطني في صلبه إلى الأرض و جعلني في صلب نوح في السفينة و قذفني في صلب إبراهيم ثمّ لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام الطاهرة حتّى أخرجني بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قط».
و أما أنوار الأئمة المعصومين عليهم السّلام، فهي أشرقت من نوره عزّ و جلّ، و كانت في العرش كما في بعض الروايات، ثمّ هبطت إلى عالم الشهادة و بعد ذلك ظهرت‏ الموجودات بوجود نوره جلّت عظمته على حسب الترتيب؛ المجرّدات العلويات ثمّ السفليات، و كلّما كانت أقرب إلى العلويات و المجرّدات كانت أشرف منزلة، و هكذا بالنسبة إلى المؤمنين حسب درجات إيمانهم، و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا من اللّه و المؤمنون مني».
و على ضوء ما ذكرنا ظهر مراد ما هو المشهور بينهم من أنّه تعالى أوّل ما خلق العقل الأوّل ثمّ بقية العقول العشرة، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك مفصّلا.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"