1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 96 الى 97

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (۹٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) 


بعد ما ذكر سبحانه ان البر لا ينال إلا بالإنفاق في سبيل اللّه عز و جل و ان البر يشمل جميع ما ينفقه في سبيله تبارك و تعالى- عملا كان أو مالا أو جاها أو المعارف الحقة الإلهية، و بين سبحانه بعض مفتريات اليهود و ادعاؤهم الكذب على اللّه عز و جل في نسبة الاحكام اليه تعالى. و كان الواجب عليهم نيل البر بإتيان الوظائف التي قررها اللّه تعالى في التوراة التي أنزلها على موسى (عليه السلام) و اتباع ملة ابراهيم (عليه السلام) حنيفا.
و في هذه الآيات الشريفة يقرر تعالى مظهرا آخر من مظاهر البر و هو تعظيم بيت اللّه الحرام الذي هو أول بيت تحقق فيه الهدى و دين الحق و تضمن شعار الوحدة لجميع الأديان السماوية في عبادة الواحد الأحد، و الذي فيه آيات بينات تدل على منزلته العظيمة في الملة الحنيفية التي أمرنا باتباعها. و ان اليهود و غيرهم من اهل الكتاب إن كانوا حريصين حقا على ديانة اوائلهم و مناسكهم و آثارهم فلا بد لهم من تعظيم هذا البيت المبارك الذي فيه للناس هدى و للخائف أمن و ان محمدا يدعوهم إلى البيت الذي دعى ابراهيم اليه.
و قد امر اللّه تعالى الناس بالحج اليه إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة و ان من اعرض عن ذلك كان من الكافرين لنعمة عظيمة و أنكر حكما الهيا.
و في الآية الشريفة التعريض باهل الكتاب و لا سيما اليهود الذين طعنوا في نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) عند ما امر المسلمين بالتوجه إلى الكعبة و اعترضوا على هذا الحكم بأن بيت المقدس أعلا شأنا و أعظم منزلة من الكعبة و انه قبلة الأنبياء و منهم ابراهيم (عليه السلام) الذي يدعى الرسول انه على ملته، فان استقبال الكعبة أعراض عن ملته و نسخ لها و هو محال عند اليهود، فرد عز و جل عليهم و أنكر هذه الشبهة بإثبات المنزلة العظيمة و الشأن الكبير لبيت اللّه الحرام و السبق الزماني له على بيت المقدس، و جعل الآية على ذلك انه مبارك و ان فيه مقام ابراهيم (عليه السلام) بخلاف بيت المقدس الذي لم‏ يحدث إلا بعد ابراهيم (عليه السلام).

قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ.
الأوّل من الأول و سمي أولا لرجوع غيره اليه و هو كثير الاستعمال في الكتاب و السنة. و الأولية من الأمور الاضافية تستعمل بالنسبة إلى الزمان و المكان و الشرف و الرتبة و الوضع و غير ذلك و قد اجتمعت جميعها في البيت الحرام فانه أول مكان خلقه اللّه تعالى ثم مدّ منه بقية الأرض كما دل عليه النقل الصحيح، و أول من حيث الزمان إذ لا بيت عبادة قبله و أول من حيث الشرف و العبادة لأنه كان معبدا للملائكة.
و البيت معروف و تقدم اشتقاق الكلمة في قوله تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة- ۱۲٥و قد أضاف عز و جل البيت تارة إلى نفسه، فقال: «وَ عَهِدْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» البقرة- ۱۲٥و قال تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ابراهيم- 37. و اخرى: للناس كما في المقام. و ثالثة أطلقه قال: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» قريش- 3 و قال تعالى: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» البقرة- 127 و المراد به الكعبة المقدسة لقوله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» المائدة- 97 و بقرينة قوله تعالى: بعد ذلك «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» و هي الموضع الذي يزدحم‏ الناس فيه و هو الكعبة التي يزدحم الناس عندها لأداء العبادة من الصلاة و الطواف.
و الوضع هو الجعل و الإثبات و هو عام أيضا يشمل جميع انواع الجعل و الإثبات.
و «لِلنَّاسِ» متعلق ب «وُضِعَ» و اللام فيه للغاية.
و المعنى: ان أول بيت جعله اللّه تعالى مشعرا لعبادة الواحد الأحد و شعارا لدين الحق، و قبلة للناس، وفد وصفه اللّه تعالى بأوصاف متعددة تدل على سمو منزلته و عظمته و رفعته.
قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ.
مادة (بكك) تدل على التزاحم و دق العنق، و منها «تبارك القوم إذا ازدحموا» و لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع. و هي ارض البيت التي يزدحم الناس فيها لأداء الطواف و الصلاة و نحوهما و تذل فيها الجبابرة بالخضوع لرب العالمين.
و قد اختلف المفسرون في المراد منهما فقيل انها اسم للمسجد، و قيل انها المطاف، و قيل: انها مكة أبدلت الباء ميما لتقربهما، و قيل انها الحرم. و يمكن تصحيح الجميع بالإضافة التشريفية لان موضع البيت بكة معلوم من الآية الشريفة بلا ريب و تشمل مكة و الحرم و المطاف تشريفا.
قوله تعالى: مُبارَكاً.
حال من الضمير. مادة (برك) تدل على الثبوت و الاستقرار و في حديث الصلاة على النبي (صلى اللّه عليه و آله): «و بارك على محمد و آل محمد كما باركت على ابراهيم و آل ابراهيم» اي اثبت له و أدم‏ ما أعطيته من التشريف و الكرامة و هو من برك البعير إذا ناخ في موضع فلزمه. و برك الرجل إذا ثبت على حاله، و البركة هي ثبوت الخير و استقراره و زيادته. و منه أيضا «تبارك اللّه» اي ثبت فلم يزل و لا يزال كما يقال «بركاء الحرب» اي ثبوتها و دوامها. و البرك هو الصدر لثبوت المحفوظات فيه و في حديث علي (عليه السلام): «القت السحاب برك بوانيها» اي صدر البنية.
و المباركة المفاعلة من البركة بالتحريك و هي الخير الثابت بالنمو و الزيادة و هي عامة تشمل البركات الدنيوية و الاخروية و قد ذكر سبحانه و تعالى كلا القسمين في آيات اخرى قال تعالى: «يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» القصص- 57 مع انه بني في واد غير ذي زرع لا ثروة فيه و لا تجارة و لا صناعة و لا زراعة، و مع ذلك عاشت فيه أقوام في سعة من العيش و تمتع من النعم و توفر فيهم الهمم العالية إلى عمرانه و اجتمعت الدواعي إلى احترامه و توقيره و إكرامه مع ما هم عليه من الاقتتال و سوء الحال. و من جهة اخرى جعله اللّه تعالى: «هدى للعالمين» يقصده المتعبدون لأداء وظيفة العبودية و يتوجه اليه المسلمون في كل وقت.
و بالجملة: فان بركة هذا البيت أظهر من ان يخفى، و يعتبر من معجزاته انه مسكن ابراهيم الخليل و مأوى الأنبياء و المرسلين في أخص عباداتهم و مهوى قلوب المؤمنين. و قد ذكر سبحانه إجمال تلك البركات في قوله حكاية عن ابراهيم (عليه السلام)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ابراهيم- 37.
قوله تعالى: وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ.
عطف على مباركا و هذه فضيلة اخرى تدل على عظمة البيت و رفعته و له من المقامات المعنوية التي لم تكن لغيره من بيوت اللّه تعالى، و انما خصه اللّه تعالى بالذكر لأهميته مع انه يمكن شمول البركات المعنوية لها.
و هدى بمعنى هاد و انما اطلق عليه هدى لمزيد هداه و جهات الهداية فيه كثيرة فمن جهة التوصل بالقرب إلى ساحة الرحمن و الزلفى لديه لكونه مقصدا للناسكين و موئلا للعابدين و الطائفين و الراكعين لأنه جامع الناس تحت كلمة التوحيد و يحفظهم من التفرقة و الاختلاف لأنه بيت رب العالمين و هو يشعر إلى رب البيت فهو يقتضي الوحدة من جميع الجهات ففي العبادة تجتمع وحدة المعبود و العبادة و العبودية وجهة العبادة فتكون جميع الإفراد فيه كنفس واحدة في عبادتهم و عبوديتهم وجهة عبادتهم فإذا اجتمعت مع ذلك وحدة القلوب كانت الآثار عظيمة و الفوائد كثيرة.
يضاف إلى ذلك ان مكة مولد رسول الانسانية و مهبط الوحي المبين و مشرق القرآن الكريم و مبدإ الدعوة إلى دين الحق فهو هدى بجميع مراتب الهداية الدنيوية و الاخروية لجميع العالمين لا لطائفة خاصة و عالم خاص و كل واحد منهم يستفيض منه بحسب استعداداته الخاصة على نحو الاقتضاء لا العلية كما في سائر موارد الهداية قال تعالى في شأن القرآن الكريم: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» البقرة- 2 و قال تعالى في شأن الرسول العظيم: «ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» الإسراء- ۹٤ فالهداية عناية خاصة
هي أخص من البركة، فان المشاعر العظام بذاتها هدى للناس إذ لا معنى للمشعرية للّه تعالى إلا الهداية المحضة.
قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ.
بينات جمع بينة و هي الواضحة اي الدلائل الواضحات و ترتب الآيات البينات على كونه مباركا و هدى للعالمين من قبيل ترتب الدال على المدلول فإنهما لا يعرفان إلا بجعل العلامات الواضحات الكاشفات عنهما و نظير هذا ورد في شأن القرآن الكريم أيضا قال تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَ الْفُرْقانِ» البقرة- ۱۸٥.
قوله تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ.
بعد ان ذكر سبحانه و تعالى فضائل البيت الشريف من كونه أول بيت وضع للناس، و كونه مباركا، و كونه هدى للناس يبين سبحانه آياته و هي: مقام ابراهيم، و أمن داخله، و الحج اليه، فتكون هذه الثلاثة بيانا للآيات البينات و شرحا لها.
و الآيات و ان وصفت بالبينات الا ان الوصف لا يرفع إبهامها من كل جهة و لذلك وصفها بما يرفع الإبهام في المقام و قد ذكر سبحانه و تعالى ثلاث آيات من بين الآيات الكثيرة التي تميز بها البيت كالحجر الأسود، و الحطيم، و المستجار و غيرها.
و انما خص هذه الثلاثة لحكم خاصة و هي تدل على منزلة البيت السامية في الشرف و كرامته عند اللّه عز و جل. و ما ذكرناه اولى من القول بان مقام ابراهيم و بقية الثلاثة بدل تفصيلي من الآيات البينات، أو القول بانه عطف بيان من الآيات فان جميع ذلك لا تخلو عن الأشكال‏ و مخالفة للقواعد المرعية في العلوم الادبية و يأتي في البحث الادبي ما يرتبط بالمقام.
و مقام ابراهيم هي الصخرة الصماء التي كان يضعها ابراهيم (عليه السلام) تحت قدميه حين بنائه للبيت الشريف، و قد اثرت فيها قدماه الشريفتان و بقي اثرهما و سيبقى ما بقي البيت الشريف.
و قد كان لهذا المقام اثر جلي يدل على عظمة البيت و عهدا أبديا على خلوص باني البيت الشريف و وسيلة لتعظيمه و توقيره جزاء خدمته للناس، و لذا أمرنا سبحانه و تعالى باتخاذه مصلّى حيث قال عز و جل: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة- ۱۲٥ عرفانا لجميله علينا.
و انما خص سبحانه و تعالى هذه الآية بالذكر لان ابراهيم (عليه السلام) موضع احترام جميع الأديان الإلهية و تقدير جميع الأمم، و هو أول مشرع الهي و مقنن الدستور الانساني و ان الأديان بعده انما هي على ملته و دينه و هو أبو الأنبياء العظام و هو الباني للبيت الشريف و ان مقامه محفوظ على مرّ الزمان فليس في البين آية أبين و اجلى من هذه الآية الدالة على عظمة هذا البيت الذي وضع للعبادة عند الملل الثلاثة و تحريض لهم فلا بد لاتباع سائر الأديان الإلهية من توقير البيت و تعظيمه و الاهتمام بندائه حين امر الناس بالحج اليه و التوجه اليه و الا كانوا خارجين عن دينه معرضين عن شريعته و ملته، فهذه الآية الشريفة حجة على المعاندين للإسلام و المخالفين للتوجه إلى البيت الشريف و ليس لهم اي عذر في الإعراض عن أوامره، و لعل السر في بقاء أثر قدميه الشريفتين في الصخرة الصماء هو الاقتداء به و ان يخطو الناس خطاه و العمل بإخلاص ليبقى اثره عند اللّه تعالى و في هذا العالم.
و الآية الشريفة لا غموض فيها في ان المراد منها هي تلك الصخرة المعروفة عن القديم و قد ورد ذكرها في الاشعار القديمة كقول أبي طالب في لاميته: و موطأ ابراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل‏ و لم يشك احد في ذلك الا ما ذكره بعض المفسرين من ان المراد من المقام المكان الذي اتخذه ابراهيم (عليه السلام) للعبادة و اما الأثر فقد كانت العرب تعتقد انه موضع قدمي ابراهيم و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة- ۱۲٥ ما يتعلق بالمقام.
قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
الضمير المنصوب راجع إلى البلد أو الحرم على سبيل الاستخدام بقرينة قوله تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» ابراهيم- ۳٥ و قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً» العنكبوت- ٦۷ و قوله تعالى: «نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً» القصص- ٥۷، و الجملة عطف على سابقتها كما عرفت.
و أمن من يدخله آية اخرى دالة على شرف البيت و كان معروفا في الجاهلية و قبل البعثة فقد كانت الأقوام حول البيت الشريف على ما هم عليه من الفوضى و الوحشية و التهور في الاقتتال و العدوان و العصبية و غلظة في الأخلاق لا يمنعهم عن ذلك رادع من شريعة أو عقل، و مع ذلك كله فقد كانوا يحترمون البيت و يعظمونه و يخضعون لأمر اتفقوا عليه و هو أمن من دخل الحرم و يشير إلى ما ذكرنا قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» العنكبوت- 97 فالحكمة من يراد هذه الآية الشريفة في المقام هي تحريض المشركين إلى الدخول في الإسلام و الايمان بخاتم النبيين و العمل بشريعته.
كما ان الآية الاولى كانت لأجل تحريض اليهود و النصارى إلى الدخول في الإسلام و نبذ العناد و اللجاج.
و هذه الآية و هي: أمن من دخل الحرم لم تكن من قسر الطبيعة و انما كان يجعل الهي فان العناية الإلهية شملت هذا البيت استجابة لدعاء ابراهيم الخليل باني البيت في قوله: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» ابراهيم- ۳٥ و قوله في موضع آخر: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» البقرة- ۱۲٦ فكان ذلك تشريعا الهيا، و الهم الناس باحترام البلد الحرام إكراما للبيت الشريف، و ساقهم إلى قبول هذا التشريع.
و من ذلك يعلم انه لا وجه للنزاع في ان هذا التشريع إلهي أو اخبار عن خاصة تكوينية، أو هل هو تشريع عام أو خاص فان كل ذلك تطويل بلا طائل تحته بل هو تشريع الهي لم ينسخ يكشف عن حكمة وضعية و ليس إخبارا عن خاصة تكوينية.
كما ان الحكم يختص بالإنسان و تدل عليه كلمة (من) الموصولة الظاهرة في العقلاء لسياق الآية الشريفة و بقرينة الآيتين الاخريتين و هما مقام ابراهيم و الحج اليه فإنهما يختصان بالإنسان. و يمكن جعل هذا النزاع لفظيا لان العظمة تكوينية و تشريعية انشائية و اخبارية فلا موضوع للنزاع، و لكن شموله لمطلق الحيوان لا يستبعده العقل، فان عناياته تعالى كثيرة و عامة و قد نقل في أمن الحيوانات في الحرم حكايات كثيرة، و قد ورد في السنة الشريفة عدم جواز الاعتداء على الحيوان و عدم جواز قطع نباتات الحرم.
قوله تعالى: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.
جملة ابتدائية معطوفة على ما تقدم، و لا يضر الاختلاف في الخبرية و الإنشائية، و اللام في (للّه) للإلزام و الإيجاب و (على) لتأكيد الوجوب كما هو معروف في مثل هذه الهيئة يقال: له عليّ كذا. و قد وكد سبحانه و تعالى الوجوب في الحج بما لم يؤكده في غيره من الواجبات.
و مادة (حجج) تدل على القصد و لكن استعمل في الحج إلى بيت اللّه الحرام لأداء النسك، و الاسم (الحج) بالكسر، و الحجة مرة واحدة. و الالف و اللام في البيت للعهد اي بيت اللّه الحرام لأداء نسك الحج المعروفة.
قوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
بدل من الناس و سبيلا تمييز عن قوله استطاع. و استطاع فعل من الاستطاعة و هي استدعاء طواعية الفعل و تأتيه اي: أوجب اللّه على المستطيع من الناس حج البيت و من تقييد الأمر بالاستطاعة يعرف انها غير الاستطاعة العقلية التي هي شرط في كل تكليف.
و يستفاد منه و من اطلاق الآية الشريفة و عدم تقييدها بشي‏ء ان المراد بها الاستطاعة العرفية و هي تختلف باختلاف الأشخاص.
و قد اختلف العلماء في الاستطاعة المحصلة للوجوب، فقيل انها الاستطاعة البدنية اي القدرة على المشي و الكسب و لو كان في الطريق و قيل انها الاستطاعة المالية.
و الحق انها تشمل جميع أقسام القدرة في المال و البدن و تخلية السرب و قد وردت روايات متعددة عن الائمة الهداة (عليهم السلام) في تفسير الاستطاعة بجميع ذلك و ياتي في البحث الروائي نقل بعضها ثم ان الآيات الكريمة الواردة في البيت على طوائف:
الاولى: قوله تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» الحج- ۲٦.
الثانية: قوله تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» البقرة- ۱۲٥.
الثالثة: قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» الحج- 27.
الرابعة: قوله تعالى في المقام: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» و مقتضى المتفاهم العرفي ان كل آية راجعة إلى جانب من جوانب البيت الشريف، فالآية الاولى راجعة إلى تعيين مكان البيت و هندسة البناء و الحكمة في جعل المبني مرجعا للطائفين و العاكفين. و الآية الثانية راجعة إلى مقام الباني و فعليه البناء و شأنه و الحكم المترتبة عليه و يدل عليه قوله تعالى: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» البقرة- 127. و الآية الثالثة راجعة إلى الدعوة إلى حج البيت المعين. و الآية الرابعة بيان لإنشاء الدعوة إلى البيت و فتح باب ضيافة اللّه تعالى هذا بحسب الواقع و الترتيب في الجعل. و اما بحسب النزول الزماني فيصح التقديم و التأخير رعاية للنظم الطبيعي، و ربما يكون الوحي إلى ابراهيم الخليل (عليه السلام) في زمان واحد و ان كان النظم بينهما طبيعيا.
و قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» جملة خبرية مستعملة في الإنشاء و هي ابلغ في الوجوب كما أثبتناه في علم الأصول. و يمكن ان تكون الجملة إخبارا محضا عن قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» الحج- 27 و كيف كان فالنتيجة واحدة على اي تقدير، لان الأذان من اللّه تعالى و ان صدر عن خليله (عليه السلام) فيكون المشرّع واحدا الا ان مبدأ التشريع من زمان ابراهيم بل في بعض الاخبار من حين آدم (عليه السلام) و المظاهر مختلفة و أتمها تشريع خاتم الأنبياء فان الحج بلغ فيه غاية الكمال كما في سائر تشريعاته المقدسة.
قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
تأكيد لوجوب الحج و توبيخ لتاركه اي: ان تارك الحج كافر و لا يضر اللّه شيئا فان اللّه غني عن العالمين و كفى مذمة لتاركه بان جعل تعالى مقره مقر الكافرين و هي النار. و انما أقام عز و جل الكفر مقام ترك الحج تغليظا عليه و لبيان شدة العصيان و ان فعل تارك الحج كفعل الكافرين فيكون الكفر كفرا بالفروع. ثم أعقبه عز و جل بانه غني عن العالمين لبيان كمال السخط على تاركه و الخذلان له فيكون من وضع العلة موضع المعلول.
و انما ذكر عز و جل استغناؤه عن العالمين دون تارك الحج بالخصوص للدلالة على الاستغناء الكامل و لبيان عظم السخط فانه تعالى لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين و لا تنقصه معصية العاصين.
و ذكر بعض المفسرين ان الكفر هنا يرجع إلى جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه ابراهيم للعبادة بعد أن قامت الادلة على ذلك و عدم الإذعان لما فرضه اللّه من الحج. و لكن الظاهر ما ذكرناه و تدل عليه جملة من الاخبار الصحيحة و يأتي في البحث الروائي نقل بعضها، و يمكن إرجاع ما ذكره إلى ما ذكرناه.

قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» اسم إن جملة «أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» و الخبر «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» و اللام في «لَلَّذِي» مزحلقة و انما اخبر عن النكرة بالمعرفة لتخصيص الأولى و «مُبارَكاً» حال من الضمير المستتر في الظرف. و قيل: انه حال من الضمير في «وُضِعَ».
و قوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» مرفوع إما على الاستئناف جي‏ء به بيانا و تفسيرا للهدى، أو حال اخرى و لا بأس بحذف حرف العطف في الجملة الاسمية الحالية.
و «مَقامُ إِبْراهِيمَ» إما مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ اي منها مقام ابراهيم.
و الجملة إما بدل البعض من الكل أو عطف بيان، و أشكل على الأخير بانه لا يجوز التخالف في عطف البيان في التنكير و التعريف.
كما ان عطف «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» يستلزم التقدير. يضاف إلى ذلك انه إذا عطفت جملة «لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ» على الجملة السابقة يستلزم تأويلها إلى المفرد أو التقدير، و كل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام.
و الحق هو القول بأن جميع ذلك بيان للآيات البينات و به يرتفع الإبهام و الإجمال من الآيات و انما ذكر عز و جل كل واحدة من هذه‏ الثلاث لغرض خاض.
و اختلاف الثلاث في الخبرية و الإنشائية لا يضر بعد كون مجموعها بيانا و لا نحتاج إلى التقدير و التأويل، كما عرفت. و هذا الأسلوب من الاساليب الفصيحة و من بديع الكلام يؤتى به في ما إذا كانت الأغراض متفاوتة من الجمل الواردة في الكلام. و قد ورد مثل ذلك كثيرا في القرآن الكريم قال تعالى: «وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى‏ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ص- ٤٤و هناك وجوه اخرى في اعراب الجمل الثلاث مذكورة في الكتب المفصلة.
و جملة «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» مشتملة على المبتدأ و هو حج البيت و الخبر و هو «لِلَّهِ» و «عَلَى النَّاسِ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالا من المستتر، و العامل فيه الاستقرار و قيل: إن «عَلَى النَّاسِ» خبر و «لِلَّهِ» متعلق بما تعلق به الاول.
و «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» بدل من الناس و الضمير محذوف تقديره (منهم). و قيل: انه خبر لمبتدأ محذوف اي (هم من استطاع).

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:
يدل قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» على‏ عظمة البيت و شرفه و مكانته العظمى عند اللّه تعالى فقد جعل له الأولية في كل شي‏ء كما هو ظاهر الإطلاق، فهو أول في الشرف لأنه بيت اللّه و واضعه هو اللّه جلت عظمته و لا شرف أعلى و أجل من ذلك.
و هو أول في الزمان لأنه أول بيت بني لعبادة الواحد الأحد و لم يكن قبله بيت آخر بهذا الشكل و المضمون و هو أول في المكان فان موضعه أول قطعة خلقت من الأرض كما نطقت به جملة من الاخبار و هو أول في اجتماع جملة كثيرة من الآيات العظيمة فيها و قد ذكر سبحانه و تعالى بعضا منها في الآيات التالية و مواضع اخرى في القرآن الكريم و وردت جملة اخرى في السنة المقدسة منها الحطيم، و الركن اليماني، و الحجر الأسود، و المستجار فان جميع ذلك أبواب رحمة اللّه تعالى على عباده، فهو بيت مبارك من جميع الجهات.
الثاني:
يستفاد من قوله تعالى: «وُضِعَ لِلنَّاسِ» ان وضع هذا البيت قد سبق كل وضع من قبل الناس فلا يحق لاحد مزاحمته بوجه من الوجوه و لذا يؤمن الجاني الداخل إلى الحرم دون الجاني في نفس الحرم فان امنه قد حدث من وضع اللّه تعالى إياه لجميع الناس سواء. كما أن موضعه قد سبق تحديده من اللّه تعالى فلا يعارضه بناء آخر و لا يزاحمه حق ذي حق.
الثالث:
انما عبر سبحانه و تعالى «لِلنَّاسِ» لبيان انه لا يختص بطائفة خاصة أو قوم معين فان الناس سواء في شرعه و قد جعله تعالى موضع رفادته لجميع افراد الإنسان يأمن فيه الخائف و يستجير به الملهوف لا يجوز لاحد منع آخر من الاستفاضة من فيضه إلا إذا ورد من قبل الشرع المبين تحديده كما بالنسبة إلى الكافر و المشرك فإنها ممنوعان من الدخول في الحرم الالهي.
و من مفهومه يستفاد أن لغير الإنسان بيتا آخر أيضا و قد ورد في أحاديث كثيرة ان اللّه تعالى وضع البيت المعمور للملائكة في السماء بحذاء البيت في الأرض.
الرابع:
قد أكد سبحانه أمر الحج في قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» بوجوه من الدلالة من توكيد الوجوب بصيغة الخبر و ابرازه في الجملة الاسمية و إيراده على وجه يفيد انه حق للّه تعالى في رقاب الناس لا يسعهم ان يخالفوه و يتركوه و في التعميم أولا ثم التخصيص بالابدال فان فيه التفصيل بعد الإجمال و الإفصاح بعد الإبهام كما ان فيه تنبيه المراد و تكريره و تسمية ترك الحج كفرا تغليظا عليه، ثم ذكر الاستغناء على تقدير عدم الفعل و هو دليل المقت و السخط و تعميم الاستغناء عن العالمين لما فيه من المبالغة في النكال و الترغيم و إيراد المطلب ببرهان قويم.
الخامس:
انما عمم عز و جل الحج في هذه الآية و قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» الحج- 200 لان الدعوة إلى بيت الرب الكريم الغني المطلق لا بد ان تكون عامة من كل جهة فعن أبي جعفر (عليه السلام): «ما يقف احد على تلك الجبال من بر و لا فاجر إلا استجاب له في آخرته و دنياه و اما الفاجر فيستجاب له في دنياه» و يفتح من هذا الحديث أبواب من المعارف لعلنا نتعرض لبعضها في الآيات المناسبة ان شاء اللّه تعالى.
السادس:
يستفاد من مجموع الآيات الشريفة امور تعتبر من مكارم الأخلاق التي لا بد للإنسان التحلي بها.
منها: ان البناء لا بد ان يقتصر على الحد المطلوب فلا يبالغ فيه‏ من كل جهة كما يستفاد من ظاهر قوله تعالى: «إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» البقرة- 127 و تدل عليه جملة من الاخبار ان ما زاد على الحاجة فهو وبال على صاحبه.
و منها: حسن الرفادة و الاستضافة و عدم منع صاحب الدار ذوي الحاجات الشرعية من الدخول في داره و مراعات الشرائط المعتبرة كما يستفاد من الآيتين «وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» البقرة- 127 و قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» الحج- 28.
و منها: المبالغة في زيادة الالفة و الايتلاف بين افراد العائلة و زيارة الاخوان في البيوت كما يستفاد من الآيات الواردة في سورة الحج.
و منها: ايتمار الوارد بأوامر رب الدار و الانتهاء عن نواهيه كما يأتي في سورة الحج و يظهر من بعض الاخبار.
و منها: ان تكون الدعوة و فتح الضيافة عامتين من دون اختصاص بقوم دون قوم كما يستفاد من قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا» الحج- 27.
و منها: ان الدعوة لا بد ان تكون من صاحب البيت أو باذن منه كما يأتي في سورة الحج إلى غير ذلك من الأمور العقلية التي شرحها الكتاب و السنة.
السابع:
يستفاد من الآيات الشريفة اهمية الحج و عظم امره كما عرفت و هو كذلك فانه قد يتحد العامل و العمل فيه كما في حج اولياء اللّه لكثرة تفانيهم في مرضات اللّه تعالى و انقيادهم له من كل جهة فيكون بنفسه حجا اكبر يطوف حول البيت الشريف و يكون هو الحشر الأكبر يظهر في الحشر الأصغر و مثل هذا الحج يتباهى به اللّه جلت عظمته و الملائكة و المشاعر العظام. و كشف السر عن هذا المقام لا يمكن‏ ان يكون بالمقال و الكلام لما فيه تجلى اللّه تعالى.
و قد اهتم عز و جل بحرمه الأقدس بما لم يهتم به في سائر تشريعاته المقدسة، فانه ما من قلامة ظفر في هذا المكان المقدس إلا و فيها ملك متخاضع لذي الجلال، و مبهوت عن شروق مشارق ذلك الجمال، و ما من موضع شبر إلا و هو اثر قدم نبي نادى بالتلبية، و ما من موضع رجل إلا و قد دفن ولي من اولياء اللّه العظام و يكفينا ان مكة مقدم خليل الرحمن و مولد حبيب اللّه فهنيئا لمن توجه إلى تلك المحال المقدسة مصدر الخير و البركة و معلم الهدى و النور للناس أجمعين.

كل تكليف سواء أ كان خالقيا أم خلقيا لا بد و ان يتعلق بالمقدور و إلا كان تكليفا بالمحال و هو قبيح عقلا و يمتنع بالنسبة إلى اللّه تعالى و قد استدل الفلاسفة و المتكلمون على ذلك بأمور كثيرة، و يكفي في ذلك الآيات الكثيرة الدالة على ذلك قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» البقرة- ۲۸٦و غيرها من الآيات الشريفة المرشدة إلى حكم العقل.
و نسب إلى بعض الاشاعرة جواز التكليف بالممتنع الذاتي، بل وقوعه و لكن ذلك مردود عقلا و نقلا كما فصل ذلك في محله و لعلنا نتعرض له في بعض الآيات المناسبة له ان شاء اللّه تعالى.
ثم إن القدرة المعتبرة في التكاليف على أقسام ثلاثة: الاول القدرة العقلية- اي الإمكان الذاتي- في مقابل الامتناع العقلي.
الثاني: القدرة التعبدية الشرعية.
الثالث: القدرة العرفية كما في جميع الأمور الاختيارية الصادرة عن الناس. و لا وجه للأول و إلا لاختل النظام و لزم العسر و الحرج في امتثال الاحكام كما لا وجه للثاني لعدم الإشارة إليها في الكتاب و السنة و ما ذكر في الاحكام من الشروط و الاجزاء أو الأوصاف يرجع إلى الثالث بل لا معنى عندنا للتعبد في الاحكام الشرعية مطلقا فضلا عن موضوعاتها لان كل ذلك يرجع إلى مقررات الفطرة و انما أشار إليها الشارع الأقدس و كشف عنها كما تقدم منا مكررا في هذا التفسير و بيناه في علم الأصول. فيتعين الأخير كما هو المستفاد من الكتاب و السنة الشريفة قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» البقرة- ۲۸٦ و قال تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» البقرة- ۱۸٥ و قال تعالى: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» الحج- 87 و من السنة قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) المتواتر بين الفريقين: «بعثت على الشريعة السهلة السمحاء». و قوله تعالى: «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ» في الآية التي تقدم تفسيرها يبين ذلك كما هو معلوم.
و من ذلك يعرف ان ما فصله جمع بين الفقهاء في المقام لا بد أن يرجع إلى ما قلناه و إلا فهو من التطويل بغير طائل.

الكعبة المباركة من حيث مقام معنويتها ازلية و أبدية لأنها وجهة التوحيد و فناء المعبود الوحيد و فيها تفاني باني البيت ابراهيم الخليل الجليل بل و تفاني جميع الأنبياء من صفيهم إلى حبيبهم، فإنهم بالطواف حول البيت الشريف يظهرون تفديتهم للعزيز المهيمن القهار، و يطرحون جميع جهات انانيتهم من الحجب و الأستار و يبرزون مقهوريتهم من جميع الجهات لرب البيت العتيق و ينسون أنفسهم و قد أتوا من فج عميق.
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا و لعل من أحد اسرار طواف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) حول البيت الشريف و هو على البعير ان هذا المقام مقام علوّ العبودية التي يفيضها اللطيف الخبير فأظهر (صلى اللّه عليه و آله) العلو الجسماني رمزا إلى العلو المعنوي الروحاني فليس المقام مقاما لعروض الدهشة على الطائف من حضرت الكبرياء و الجلال كما عن بعض العرفاء بل مقام ذل العبودية التي تشير إلى عز الربوبية و اسرار المقام كثيرة لا يحصيها القول و لا رعاف القلم.
ثم إن الحج كسائر العبادات منه ما هو ظاهري مسقط للتكليف كحج عامة الناس، و منه واقعي يوجب نيل أقصى الكمالات و الفوز بأعلى المقامات في ما إذا أراد بإحرامه ترك جميع ما يلهيه عن ربه و رأى في طوافه التفدية الحقيقية في مرضات ربه، و من سعيه الدنو إلى ساحة قربه، و أراد من رمي الجمرات طرح جميع ما لا يرتضيه الرب و من الذبح إهلاك القوى الشهوانية و افناؤها، و من صلاته في مقام ابراهيم (عليه السلام) الفوز بمقام ابراهيم الخليل و هو مقام الخلة.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إن اللّه اختار من كل شي‏ء شيئا و اختار من الأرض موضع الكعبة».
أقول: الروايات في ذلك كثيرة و معنى إختياره عز و جل كثرة عنايته به و يصح ان يكون هذا جهة من جهات اولية البيت.
و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «لما أراد اللّه تعالى ان يخلق الأرض امر الرياح فضربن وجه (متن) الماء حتى صار موجا ثم أزيد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحا الأرض من تحته و هو قول اللّه عز و جل «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً». و زاد في الفقيه: «فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها».
أقول: قد شرح ذلك علي (عليه السلام) في خطبته التي أنشأها في خلق السموات و الأرض، و الاخبار في دحو الأرض من تحت البيت كثيرة و ليس في القرآن الكريم ما ينافي ذلك بل يمكن ان يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» الأولية من هذه الجهة اي أول بقعة من بقاع الأرض و دحيت بقية الأرض من تحتها.
و اما كيفية الدحو و انبساط الأرض ثم الرد إلى البيت كما في بعض الروايات فيمكن ان يكون من جهة كروية الأرض و التفصيل يطلب من محله.
كما ان ذلك لا ينافي ما نسب إلى بعض القدماء من ان الأرض‏ عنصر بسيط كسائر العناصر البسيطة فلأن قولهم هذا انما كان في البساطة العقلية لا البساطة الخارجية و لو بعد زمان على اصل الخلقة. مع ان العلماء قد اثبتوا بطلان القول بالبساطة في العناصر الاربعة و حللوا كل واحد منها إلى عناصر كثيرة ربما تبلغ إلى أربعين عنصرا منتزعه من عنصر واحد. و قد ذكر سيد مشايخنا العالم العامل الزاهد العابد سيد الحكماء المتألهين السيد حسين البادكوبي (قدس سره) في مجلس بحثه الشريف ان المراد بالبساطة في قولهم، هي البساطة الفرضية العلمية الاعتبارية لا البساطة الحقيقية الواقعية و كان يستدل على ذلك بأمور كثيرة و شواهد من كلماتهم، فلا نزاع حينئذ بين ما ذكروه و ما أثبته العلم الحديث.
و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن البيت كان يحج اليه قبل ان يبعث النبي؟ قال: نعم لا يعلمون ان الناس قد كانوا يحجون و نخبركم ان آدم و نوحا و سليمان (عليهم السلام) قد حجوا البيت بالجن و الانس و الطير و لقد حجه موسى (عليه السلام) على جمل احمر يقول: لبيك لبيك، كما قال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً».
أقول: ما ورد في الحديث هو مقتضى الأولية في البيت الشريف.
و عن ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» فقال له رجل: «أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة و أول من بناه ابراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش».
أقول: قد ورد مضمون ذلك في روايات و المراد منه هو اولية البيت للناس الذي تضمن البركة و الهدي و نحوهما. و اما الأولية بالنسبة إلى اصل العبادة فيظهر من بعض الاخبار ان مسجد الكوفة كان مصلى آدم (عليه السلام) و غيره من الأنبياء العظام و السائل انما سأل عن تقدم البيت الحرام على جميع البيوت المسكونة و الامام نفى ذلك.
و في الدر المنثور اخرج ابن المنذر، و ابن أبى حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبى طالب (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» قال: «كانت البيوت قبله و لكنه كان أول بيت وضع لعبادة اللّه».
و في العلل عن الصادق (عليه السلام) قال: «انما سميت مكة بكة لان الناس يتباكون فيها» اي يزدحمون.
و فيه أيضا عنه (عليه السلام) قال: «موضع البيت بكة و القرية مكة».
و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): (لم سميت الكعبة ببكة قال (عليه السلام) لبكاء الناس حولها و فيها».
أقول: لان البيت في قديم الأيام لم يكن محجوبا عن الدخول فيه و انما كان في محل الباب الستار فقط و كانوا يدخلون فيه و يبكون.
و فيه أيضا عن أبى جعفر الباقر (عليه السلام): «انما سميت بكة لأنها تبك بها الرجال و النساء و المرأة تصلي بين يديك، و عن يمينك و عن شمالك و معك و لا بأس بذلك انما يكره ذلك في سائر البلدان».
أقول: هذه استفادة لطيفة من لفظ بكة.
و في الخصال عن الصادق (عليه السلام): «اسماء مكة خمسة: أم القرى، و مكة، و بكة، و البساسة إذا ظلموا بها بستهم اي أخرجتهم و أهلكتهم، و أم رحم كانوا إذا الزموها رحموا».
أقول و في بعض الأحاديث «من اسماء مكة الباسة» و البس و الحطم سميت بها لأنها تحطم من اخطأ فيها، و عن بعض أن من أسمائها «الناسة» لجدبها و يبسها أو بمعنى الطرد عنها.
و في تفسير العياشي عن عبد الصمد بن سعد قال: «طلب أبو جعفر المنصور ان يشتري من اهل مكة بيوتهم ان يزيد في المسجد فأبوا فارغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فاتى أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم و أفنيتهم أن نزيد في المسجد، و قد منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لم يغمك ذلك؟!! و حجتك عليهم فيه ظاهرة فقال و بم احتج عليهم؟ فقال بكتاب اللّه فقال في اي موضع؟ فقال قول اللّه تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» لما قد أخبرك اللّه ان أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فان كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم و ان كان البيت قديما قبلهم فله فناؤه فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت».
أقول: و قريب منه رواية اخرى أيضا إلا ان فيها «لما بنى المهدي» و الظاهر ان أبا جعفر المنصور هو البادي في البناء و أتمه المهدي فلا منافاة و كيف كان ما ذكره الامام (عليه السلام) هو استدلال عقلي صحيح.
و في الكافي و تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» قال (عليه السلام): «مقام ابراهيم حين قام عليه فأثرت فيه قدماه و الحجر الأسود و منزل إسماعيل».
أقول: الآيات كثيرة و انما ذكر (عليه السلام) بعضها.
و في الكافي عن ابن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» البيت عني أم الحرم؟ قال (ع): من دخل الحرم من الناس مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه، و من دخله من الوحوش و الطير كان آمنا ان يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم».
أقول: أمن الوحوش و الطير انما يكون من فروع أمن الآدميين و سيأتي في البحث الفقهي ما يتعلق بذلك.
و في الكافي و العياشي عن عبد الخالق الصيقل قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» قال: لقد سألتني عن شي‏ء ما سألني عنه احد إلا ما شاء اللّه ثم قال: إن من أم هذا البيت و هو يعلم انه البيت الذي امر اللّه تعالى به و عرفنا اهل البيت حق معرفتنا كان آمنا في الدنيا و الآخرة».
أقول: الأمن و الاستيمان يكون محدودا بحدود و مشروطا بشروط و إلا فان البيت ليس أمن على كل احد حتى من يحادد اللّه تعالى و من شروطه هو معرفة اهل البيت و عقد القلب على ما هو الحق الواقع و نظير ذلك ما رواه الفريقان متواترا عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) ان اللّه قال: «كلمة لا إله إلا اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي» فلا ريب في ان الأمن من عذابه تبارك و تعالى مشروط بشروط كثيرة.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» قال: «يعني به الحج و العمرة جميعا لأنهما مفروضان».
أقول: ان اعمال الحج مركب من هذين و هذا واضح في حج التمتع و اما في غيره فليست العمرة واجبة إلا في بعض صور حج الإفراد و ما إذا أوجب على نفسه بنذر و نحوه و اما احتمال وجوب العمرة نفسها لمن استطاع دون الحج فلا دليل عليه.
و في الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: «ان اللّه عز و جل فرض الحج على اهل الجدة في كل عام، و ذلك قول اللّه عز و جل: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» قلت فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال (عليه السلام): «و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر».
أقول: المراد من اهل الجدة أهل القدرة و قوله (عليه السلام) «في كل عام» متعلق بالجدة لا بقوله «فرض» اي كل من استطاع في كل عام يجب عليه الحج و حينئذ فان حج يسقط عنه الفرض و إلا فهو باق عليه.
و المراد بقوله (عليه السلام): «ليس هذا هكذا» انكار اصل الفرض و الوجوب فيكون كفرا جهتيا حاصلا من انكار حكم إلهي و واجب ضروري و لا ينافي هذا ما يأتي من تفسير الكفر بالترك لأنه لا بد من حمله على الترك التسويفي.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) أيضا في قوله تعالى: «وَ مَنْ كَفَرَ» قال (عليه السلام): «ترك».
أقول تقدم ما يتعلق به في الحديث السابق.
و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: «من كان صحيحا في بدنه مخلا في سربه، له زاد و راحلة فهو ممن يستطيع الحج، أو قال: ممن كان له مال فقال له حفص فإذا كان صحيحا في بدنه فخلى سربه له زاد و راحلة فلم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال (ع): نعم».
أقول: قد ورد في مضمون ذلك أحاديث كثيرة و هي تبين الاستطاعة العرفية كما قلنا في المال و البدن و السرب اي الطريق فلا اختصاص للاستطاعة بأحدها كما عن بعض.
و اما سؤال حفص الكناسي انما هو بالنسبة إلى استقرار الحج بعد تحقق الاستطاعة و المسامحة في إتيان الحج و قد حكم بأن المسامحة لا تسقط التكليف بعد ثبوته و قد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الحج من (مهذب الاحكام).
ثم انه قد ذكرنا جملة مما يتعلق بالبيت الشريف و بعض احكام الحج في آيات 196- 201 من سورة البقرة فراجع.
و في الفقيه في وصية النبي (صلى اللّه عليه و آله) لعلي (عليه السلام) «يا علي تارك الحج و هو مستطيع كافر قال اللّه تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «يا علي من سوّف الحج حتى يموت بعثه اللّه يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا».
أقول: ذيل الحديث يبين صدره و المراد من كونه يهوديا أو نصرانيا ان تركه يكون كذلك كما ان اليهود و النصارى يتركونه كما يتركونه سائر الاحكام الإلهية.

استدل الفقهاء بقوله تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» على عدم‏ إقامة الحد في الحرم على من التجاء اليه و قد تظافرت الاخبار بذلك فعن الصادق (عليه السلام) في معتبرة الحلبي قال: «سألته عن قول اللّه تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال: إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر إلى الحرم لم ينبغ لاحد ان يأخذه من الحرم، و لكن يمنع من السوق و لا يبايع، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يكلم فإذا فعل ذلك يوشك ان يخرج فيؤخذ و إذا جني في الحرم جناية أقيم عليه الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة».
و في صحيح معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: «قلت له رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم؟ فقال (عليه السلام) لا يقتل، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يبايع، و لا يأوى حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد. قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ فقال (عليه السلام) يقام عليه الحد صاغرا انه لم ير للحرم حرمة و قد قال اللّه تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ» يقول هذا في الحرم، فقال: لا عدوان إلا على الظالمين».
أقول: و هناك روايات تدل على ذلك و الحكم متفق عليه عند الامامية. و قد أقيمت عليه شواهد كثيرة في جميع الأعصار، و هذا من خصائص الحرم الالهي، و قيل بإلحاق الحرم النبوي بالحرم الالهي و لكن الحكم لم يثبت عند الجميع فلا ترفع اليد عن الأصول المعتبرة النافية للتكليف بل عن الإطلاقات و العمومات.
و اما كونه أمنا بالنسبة إلى حيوان الحرم و نباته فقد وردت روايات تدل على انه يحرم إيذائهن و تهييجهن، و قلع النبات لا سيما على المحرم و المسألة مذكورة في باب تروك الإحرام من أبواب الحج و تقدم ما يدل‏ على ذلك في البحث الروائي.
و قد تظافرت الاخبار أيضا في انه أمن من العذاب يوم القيامة منها ما عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «من مات في احد الحرمين بعثه اللّه من الآمنين» و لا بد من تقييده بما إذا دفن فيه مع وجود سائر الشرائط.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"