1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات ۹۲ الى ۹٥

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‏ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (۸٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (۹٥)


بعد ان ذكر سبحانه و تعالى جملة من احوال الكافرين، و بيّن الميثاق الذي أخذ منهم و حاجهم في ما ادعوه من الايمان. ثم سرد أقسام الكافرين و بيّن ان قسما منهم تقبل توبتهم إذا كانوا في مقام الإصلاح و أتوا بالعمل الصالح.
يذكر عز و جل في المقام ان الايمان لا بد و ان يقترن بالعمل بالاحكام الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على رسله و ان الميزان الصحيح هو متابعة ملة ابراهيم و نبذ الشرك و الكفر و العناد و ان من أهم مظاهر الايمان و العمل الصالح هو الانفاق في سبيل اللّه تعالى بل ان البر هو الثمرة الظاهرة للايمان فلا بد ان يقترن ذكره لان البر يكشف عن محبة اللّه تعالى و الزهد في حطام الدنيا و الرغبة الى ثوابه عز و جل و رضائه، فمن آثر شهوة المال و جمعه كان ممن آثر حب الدنيا على محبة اللّه تعالى، فالإنفاق في سبيل اللّه تعالى هو الميزان الفارق بين الايمان الحقيقي و الادعائي.
ثم بين بعض مفتريات اليهود على اللّه تعالى و فنّد مزاعمهم و وبّخهم على التعدي في احكام اللّه و الشرك به و أوعدهم العذاب.

قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
النيل هو الإصابة و الوصول و في الحديث: «خرج بلال بفضل وضوء النبي (صلى اللّه عليه و آله) فبين ناضح و نائل» اي مصيب منه و آخذ.
و البر هو كل ما يصح ان يتقرب به الى اللّه تعالى من الخير و الإحسان و الفعل المرضي، و من أسمائه تعالى «البر» بالفتح اي العطوف على عباده ببره و لطفه و تقدم في قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ» البقرة- 177 بعض ما يتعلق باشتقاق هذه الكلمة.
و المشهور ان الخطاب للمؤمنين و لكن يمكن ان يكون الخطاب للجميع لا سيما بعد ورود هذه الآية بعد الآية التي بينت اقسام الكافرين و ما سيذكره عز و جل من بيان خلاف اليهود و افترائهم.
و المراد بنيل البر هو الدخول في زمرة الأبرار و الوصول الى الدرجات العالية و الثواب الجزيل الذي أعده اللّه تعالى لهم، و قد اختلف المفسرون في المراد بالبر الذي يناله المنفق في المقام، فقيل انه الجنة، و قيل انه بر اللّه تعالى و إحسانه، و قيل غير ذلك و لكن كل ذلك يرجع الى ما ذكرناه، و ما ذكروه يكون احد افراده.
و البر كما يشمل الأفعال الخيرة كعبادة اللّه تعالى و الطاعة له عز و جل‏ أيضا ما هو فعل القلب كالايمان باللّه عز و جل و كتبه و رسله، و الاعتقاد الحق، و النية الصادقة، و تهذيب النفس بمكارم الأخلاق و يدل عليه قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» البقرة- 177. فانه تعالى جمع القسمين من البر: الأفعال القلبية و الأفعال الجوارحية.
كما أن الانفاق عام يشمل الانفاق من الأموال و غيرها، و لكنه بقرينة ما يأتي يختص بتلك الأشياء التي يرغب إليها الإنسان و يعتز بها الإفراد و يهواها و يحبها، و هو يعم المستحب و غيره، و لا معنى للنسخ حينئذ، لان وجوب بعض افراد الانفاق لا ينافي استحباب بعضها الآخر.
و انفاق المحبوبات و المشتهيات في سبيل اللّه تعالى من أعظم ما يختبر به الايمان الصحيح عن الايمان الفاسد، لان فيه يظهر الاعتزاز بالإيمان باللّه و محبته عز و جل التي لا بد أن تعلو على محبة الأموال و غيرها التي يعتز بها الإنسان و تشح بها نفسه و يرغب في ادخارها، فهو كاشف عن رضى اللّه تعالى و الرغبة في ثوابه و الايمان الصادق، فيكون الانفاق في حبه برا يرضاه اللّه تعالى بالشروط التي ذكرها عز و جل في آيات الانفاق في سورة البقرة.
و ذكر بعض المفسرين انه يفهم من الحصر المستفاد من النفي و الإثبات- اي: من اثبات البر في الانفاق و نفيه عن غيره، و ان الانفاق غاية لا ينال البر الا بها- أن من أنفق مما يحب كان برا و ان لم‏ يأت بسائر شعب البر من الايمان بجميع أركانه.
و لكنه باطل لان هذه الآية بانضمام سائر الآيات الواردة في الانفاق يستفاد منها ان انفاق المحبوب هو احد اركان الايمان، و قد جمع سبحانه و تعالى الانفاق مع سائر اركان الايمان و شعبه في سورة البقرة آية- 177. و انما جعل الانفاق غاية لنيل البر هنا للاهتمام به لما يترتب عليه عظيم الفائدة، و لما فيه الآثار الكبيرة التربوية و النفسية و الاجتماعية و لان الانفاق من أهم الاساليب في ترويض غريزة النفس في حب الدنيا و ما فيها بحيث يكون فقد المال موجبا لتألمه بخلاف غيره، كما قال علي (عليه السلام): «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على الحرب»، و قد تقدم في آيات الانفاق في سورة البقرة بعض ما يتعلق به.
يضاف الى ذلك ان قوله «مِمَّا تُحِبُّونَ» يدل على ان الشي‏ء الذي يبذل لا بد أن يكون مرضيا للّه تعالى فان الشي‏ء الزهيد الذي لا ترضونه لا يدخل في الانفاق المحبوب، لان القصد هو التقرب الى اللّه تعالى و ابتغاء وجهه الكريم و هو من احد طرقه و بقية الأركان هي من شروطه.
و من جميع ذلك يستفاد ان الالف و اللام في «الْبِرَّ» إما للحقيقة اي حقيقة البر التي بيّنها عز و جل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أو للعهد اي ذلك البر المعهود الذي جعله اللّه تعالى للأبرار و هم المؤمنون الصادقون المتقون.
قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‏ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
ترغيب للإنفاق، و ترهيب عن تركه و تطييب لنفوس المنفقين‏ و إخلاصهم و يجازيهم على ذلك و يضاعف لهم الجزاء، كما وعدهم به فلا يخشى احد بعد ذلك عن الانفاق، و لكن لا بد من الإخلاص فيه ليفوز بالجزاء الأوفى.
و ترشد الآية الشريفة إلى حسن الإخفاء في الانفاق و الحث عليه، فان اللّه تعالى عليم به و ان خفي عن الناس و لم يعلم به سوى المنفق.
قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ.
الطعام ما يطعم و يتغذى به و في الحديث: «ما لنا طعام إلا الأسودان التمر و الماء» و ان كان يطلق عند اهل الحجاز على البر و خاصة و ينصرف عند الإطلاق اليه عندهم، و في حديث أبي سعيد: «كنا نخرج زكاة الفطرة صاعا من طعام أو صاعا من شعير» و يأتي بمعنى المطعوم.
و الحل مصدر بمعنى المفعول كالحَل مقابل العقد و هو ضد الحرام و هما قسمان من اقسام الاحكام الخمسة التكليفية، و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله: «من أكل من حلال القوت صفا قلبه و رق و دمعت عيناه و لم يكن لدعوته حجاب».
و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم و هي كلمة عبرانية مركبة، و معناها المحارب أو المجاهد في اللّه أو جندي اللّه، و قد ذكر المؤرخون من اليهود في وجه تسمية يعقوب بهذا الاسم إنه صارع اللّه أو الملاك عند فنوئيل و هو اسم موضع. و هذا مما يكذبه القرآن الكريم و العقل السليم. و اطلق على الأسباط الاثني عشر عموما، و يعرفون ببني إسرائيل و بعد ذلك صار اسما للمملكة الشمالية التي لم تكن لقبائل يهوذا و بنيامين، و لاوى، و دان، و شمعون شركة فيها. و بعد سبي‏ بابل اتخذ الراجعون من السبي إسرائيل اسما لامتهم مع ان أكثرهم كانوا من مملكة يهوذا. و في القرآن الكريم يطلق على من دان بدين موسى بن عمران.
و المعنى: كل الطعام بجميع أصولها كانت حلالا لبني إسرائيل الا ما استثناه عز و جل من تحريم يعقوب على نفسه بعض المطعومات.
و هذا الحكم ارفاقي امتناني بالنسبة إليهم كجملة كثيرة من الاحكام الامتنانية التي شرعها اللّه جل جلاله عليهم ابتداء و لكنهم ظلموا فحرم عز و جل عليهم بعض الطعام تأديبا لهم و عقوبة لما فعلوه من الجرائم كما حكي عز و جل في موضع آخر فقال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» النساء- ۱٦۰.
و يستفاد من قوله تعالى «عَلى‏ نَفْسِهِ» ان التحريم لم يكن عاما يشمل جميع بني إسرائيل بل كان مختصا به لأجل مصالح خاصة كانت تتعلق به.
و قد اختلف المفسرون في النوع الذي حرمه فنسب الى ابن عباس انه الشحم الباطن و الكليتان و زائدتا الكبد. و عن آخر انه لحوم الانعام و عن ثالث انه حرم لحوم الإبل و ألبانها و نقل الحاكم عن ابن عباس انه (عليه السلام) كان به عرق النساء فنذر ان شفي لم يأكل أحب الطعام اليه و كان تلك أحب الطعام اليه».
و لكن نقل شيخنا البلاغي انه: «لم تذكر التوراة ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا بل انما تذكر ان إسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنوا إسرائيل عرق النساء إلى هذا اليوم فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل كما في الفصل‏ و الآية الشريفة مجملة من هذه الجهة فلم تعين شيئا و لعل الغرض من ذلك اثبات ان التحريم كان لبعض انواع المطعومات لشخص معين لا لجميع الشعب، و ان اللّه تعالى قد أحل لهم جميعها، فما تقوّله اليهود في هذا المجال افتراء على اللّه تعالى.
و قال بعض المفسرين ان المراد من إسرائيل الشعب كله كما هو شايع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب. و يرد عليه: انه استعمال غير معهود في القرآن الكريم بل عند العرب في عصر النزول، و قد ورد لفظ بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين موردا. مع ان ذكر بني إسرائيل أولا شاهد على ان المراد من إسرائيل هو يعقوب (عليه السلام) و لا يتصور وجه لحذف المضاف من الكلمة الثانية في موضع الإبهام و الالتباس، يضاف إلى ذلك رجوع الضمير المفرد في «عَلى‏ نَفْسِهِ» اليه فلو كان بني إسرائيل لكان الضمير ضمير الجمع.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ.
الظاهر انه متعلق ب «حرم» و المعنى: ان اللّه تعالى لم يحرم من الطعام شيئا على بني إسرائيل قبل نزول التوراة الا ما حرم إسرائيل على نفسه.
و ذكر بعض المفسرين انه متعلق ب «كان حلا». و أورد عليه بانه يلزم الفصل باجنبي و هو جملة «إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ» المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد و الإبهام.
و أجيب عنه بانه لا يضر الفصل بالاستثناء، إذ هو فصل جائز لأنه من متممات الكلام.
و كيف كان فالمعنى على كلا التقديرين واضح و هو اثبات الحلية العامة و الحرمة الخاصة قبل نزول التوراة.
و الاحتمالات في الآية الكريمة ثلاثة: الاول: إن تكون الآية الشريفة مقولة قول اليهود، و من مزاعمهم الفاسدة، و يؤيده ذيل الآية المباركة «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» الذي هو في مقام الرد عليهم بالرجوع إلى توراتهم. فيصير معنى الآية:
ان بعض اهل الكتاب قالوا ان جميع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل قبل ان تحرم التوراة بعضا منها و استثنوا من ذلك ما حرمه إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة، فنزلت هي بتحريمه.
و جميع ذلك كذب منهم و افتراء، فان التوراة حرمت الرجس عليهم كما في العدد الثالث من الفصل الرابع من سفر التثنية، و نصت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين على حرمة الحيوانات البرية و المائية و الطيور، فكيف يكون الرجس حلالا عليهم قبل نزول التوراة، كما ان التوراة لم تذكر ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا كما عرفت آنفا فما ذكروه افتراء و كذب.
الثاني: ان تكون الآية جملة خبرية في مقام الإنشاء، و هذا كثير شايع في المحاورة، و اعتمد عليه في علم الأصول، نظير قوله تعالى «قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» البقرة- ۷٤ و غير ذلك. و حينئذ فالآية في مقام الاستفهام الانكاري حذفت منه اداة الاستفهام لدلالة المقام عليه، فيكون قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تفسيرا و اثباتا لمضمونها.
الثالث: ان يكون قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ» حكاية عن قول اليهود الذي أوردته لإلقاء الشبهة على المؤمنين، و نفي كون الإسلام دين الفطرة و على ملة ابراهيم، و هي ان الرسول لو كان صادقا لما اخبر بالنسخ‏ و ان اللّه حرم الطيبات لظلمهم بعد ما كانت حلالا لبني إسرائيل و يكون قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» واردة في دفع الشبهة لإظهار كذبهم و ابطال شبههم، فأمرهم الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بتعليم من اللّه عز و جل بالرجوع إلى التوراة فإنها الفصل في الدعوى ورد مزاعمهم و هي دالة على حلية كل الطعام فان أبيتم الإتيان بالتوراة و تلاوتها فاعلموا انكم المفترون على اللّه كذبا و انكم الظالمون و ان الرسول هو الصادق في دعوته و ان ملته على ملة ابراهيم.
و قد ذكر بعض المفسرين في المقام وجوها لم يقم دليل على صحتها بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة فراجع.
قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
خطاب إلى الرسول الكريم بالمحاجة معهم لإظهار حقيقة مدعاهم و أمرهم بإتيان التوراة و تلاوتها في الموارد التي حاجوا المؤمنين و افتروا على اللّه الكذب فيها ليتبين اي الفريقين على الحق و اي منها كاذب في دعواه.
و في الآية الشريفة دلالة على صحة دعوة نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فانه اخبر عن ان التوراة تدل على كذبهم و هو لم يقرأها، و هذا لا يكون الا من وحي من اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَمَنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
الخطاب توبيخي للفريق الكاذب بعد المحاجة معهم و قد ذمهم عز و جل‏ بافترائهم على اللّه بعد قيام الحجة و الأمر بالكف عن الافتراء على اللّه و إلا كانوا ظالمين لأنفسهم يستحقون العقاب.
و الافتراء هو الكذب المخترع. و أصله القطع، و كأن المفتري يقطع صلة كلامه بالواقع و الحقيقة فيكون كذبا.
قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ.
اي أعلمهم بان اللّه تعالى صادق في جميع ما أخبر به و اني لم أستطع ان أنبئكم بذلك لو لا وحي اللّه تعالى اليّ فإذا عرفتم صدقي في الدعوة و اني على حق فلا بد من متابعة ديني و الاعتراف باني على ملة ابراهيم و في الآية الشريفة تثبت لدعواه و نبوته.
قوله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
تفريع على معرفة الحق و ثبوت صدق الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و انما أمرهم بمتابعة ملة ابراهيم لأنهم كانوا معترفين بملته (عليه السلام) و لبيان ان شريعته على ملة ابراهيم التي هي على دين الفطرة و المبتنية على الإخلاص للّه تعالى و التسليم لوجهه الكريم و نبذ كل أنحاء الشرك، و للإرشاد إلى ان عدم قبول الإسلام يستلزم عدم متابعة ملة ابراهيم كما تزعمون و هذه حجة اخرى على بطلان مزاعمهم و اظهار كذبهم. و إنما وصف ابراهيم بكونه حنيفا و عدم كونه من المشركين لإظهار عظيم منزلته و جلالة قدره، و لبيان ان شريعته كذلك أيضا و فيه التعريض لهم بأنهم على الشرك.

الطعام: مصدر منعوت و كل مصدر منعوت يستوي فيه المذكر و المؤنث و الواحد و الجمع و هو بمنزلة الجنس. و كل في قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ» لتأكيد الاستغراق المفهوم من الجنس المعرف بالألف و اللام (الطعام).
و ذكر شيخنا الأديب النيسابوري الاول (رحمة اللّه تعالى عليه) ان بعض الآيات القرآنية تجي‏ء في النظم و الأسلوب وزان الشعر مع انه ليس ذلك مراد المتكلم. و هو يدل على نهاية الفصاحة و البلاغة و كان يعد جملة كثيرة من الآيات الكريمة منها هذه الآية الشريفة «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» التي هي من البحر السابع و هو بحر الرمل. و منها قوله تعالى: «إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» الأنفال- 38 و هو من بحر الرجز.

يستفاد من الآية الشريفة امور:
الاول:
كلمة البر الواردة في قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ» موضوعة لذات البر و طبيعته بلا اختصاص له بنوع دون آخر فتشمل البر المادي و المعنوي بجميع مراتبهما.
كما ان لفظ الانفاق كذلك فانه يشمل انفاق الماديات و المعارف الحقة و الكمالات الانسانية، و ذلك لان الألفاظ موضوعة في حد ذاتها للمعاني العامة من غير تقييد في حاق الواقع بنوع دون آخر و لا لعالم مخصوص دون سائر العوالم، و انما التقييد و التخصيص يحصل من ناحية الاستعمال بلا التفات إليهما، و قد جعل بعض الأعاظم ذلك من الأصول العقلائية النظامية و أثبتها علماء الأدب و الأصول بأدلة كثيرة فالآية المباركة بعمومها تشمل من حيث المعنى جميع ما يمكن ان يفرض من الكمالات الانسانية الفردية و الاجتماعية و النوعية و الشخصية، و هذه الآية نظير قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» البقرة- 177 في جمعها للكمالات الانسانية و انما الاختلاف بينهما بالإجمال و التفصيل.
الثاني:
لعل وجه ارتباط قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ» بآية البر من حيث المفهوم ببيان لطيف و أسلوب رفيع و هو ان غير الإخلاص و الصدق ليس من البر حتى ينفق اعتقادا كان أو قولا أو عملا فلا بد في جميع ذلك من الإخلاص و الصدق ليكون برا يقبله اللّه تعالى و يثيب عليه بالجزاء الأوفى فما ورد في الآية من الحلية و الحرمة إذا كانتا من افتعال اليهود فلا ربط لها بالبر و هما خارجان عن البر موضوعا، و اما إذا كانتا من شرايع اللّه تعالى فهما عين البر فيشملهما قوله تعالى: «حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».
الثالث:
يستفاد من قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ- الآية» التعريض باليهود في انهم يكذبون و لا يصدقون و انهم لا يعلمون احكام اللّه تعالى و يستهزئون بها مع ان اللّه تعالى في مقام الامتنان عليهم و التسهيل لهم.
الرابع:
يدل قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» على تحريف التوراة و انهم يكذبون في كثير من الأمور التي ينسبونها إليها و ليس المراد بالتوراة في الآية الشريفة هي التوراة المحرفة التي هي بين ايدي اليهود، بل المراد منها التوراة التي نزلت على موسى (عليه السلام) و التي لم تنلها يد التحريف فان اللّه تعالى أمرهم بالرجوع إليها و طرح التوراة المحرفة، فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي تدل على تحريفها و تنهاهم عن الكذب و الافتراء على اللّه تعالى و تأمرهم بالرجوع إلى الحق، و يشهد لذلك الآية التي تدل على انهم يفترون على اللّه الكذب بقرينة قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
الخامس:
يدل قوله تعالى: «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» على انهم هم الظالمون الذين عرفوا بتحريف احكام اللّه تعالى و تبديل آياته عز و جل و ان مقابلهم على الصدق و الحق. كما تدل عليه الآية التالية، فيكون تفريع قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» من قبيل ترتب النتيجة على المقدمات المعلومة.

في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون» قال (عليه السلام): «هكذا فاقرأها».
أقول: هذه قراءة اهل البيت و الفرق بينها و بين قراءة المشهور ان الاولى تبين مصداق المحبوب عند المنفق و الثانية تبين فردا من كل محبوب فيشمل المصداق أيضا.
و في المجمع عن ابن عمر قال: «سئل النبي (صلى اللّه عليه و آله) عن هذه الآية «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» هو ان ينفق العبد المال و هو شحيح يأمل الدنيا و يرجو الغنى و يخاف الفقر».
أقول: وردت روايات كثيرة عن اهل البيت (عليهم السلام) في ذلك، و انما عدد (صلى اللّه عليه و آله) هذه الجهات لان كل واحدة منها من الأمور التي تورث محبة الشي‏ء فإذا اجتمعت و أنفق المال معها كان جزاؤه أعظم و نيله للبر اكثر.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ» قال: «ان يعقوب كان يصيبه عرق النساء فحرم على نفسه لحم الجمل فقال اليهود ان لحم الجمل محرم في التوراة فقال عز و جل لهم «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» انما حرم هذا إسرائيل على نفسه و لم يحرمه على الناس و هذا حكاية عن اليهود و لفظه لفظ الخبر».
أقول: ذكرنا سابقا المحتملات في الآية الشريفة و هذا من أحدها.
و في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «ان إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل و ذلك قبل ان تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه و لم يأكله».
أقول: لا منافات بين وجع الخاصرة الذي ورد في هذا الحديث و عرق النساء الذي ورد في الحديث السابق لإمكان اجتماعهما، و يظهر منه ان التحريم لم يكن تحريما شرعيا بل كان تنزيهيا لأجل ذلك العارض.
و معنى قوله (عليه السلام): «لم يحرمه و لم يأكله» اي لم يحرّمه إسرائيل بعنوان التشريع السماوي و لكنه لم يأكله خيفة من عروض ذلك العارض عليه. و يحتمل ان يرجع الضمير فيهما إلى موسى (عليه السلام) المدلول عليه بقوله تعالى: «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ».
و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» قال أبو روق و الكلبي نزلت حين قال النبي (صلى اللّه عليه و آله): «انا على ملة ابراهيم فقالت اليهود كيف و أنت تأكل لحوم الإبل و ألبانها؟! فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله): كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه فقالت اليهود كل شي‏ء أصبحنا اليوم نحرمه فانه كان محرما على نوح و ابراهيم حتى انتهى إلينا فانزل اللّه عز و جل تكذيبا لهم: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ».
أقول: على فرض اعتبار الرواية فان ما ورد فيها يكون من جملة الاحتمالات التي ذكرناها سابقا و تقدم ان مقالة اليهود كذب و افتراء.

من أفضل البر و أهمه هو الانقياد لأوامر اللّه تعالى و أطاعته في كل ما شاء و أراد، و التفاني في مرضاته عز و جل الذي هو آخر حد الإمكان و أول حد الوجوب، كما ان أعلى المحبوبات عند الناس هو حب الجاه و الشرف و العزة، و لا بد من انفاق هذا المحبوب في ساحته جل جلاله لينال العبد الغاية القصوى من البر بالمعنى المطلق و عليه سيرة اولياء اللّه المخلصين و نسب إلى سيدهم علي (عليه السلام):
«الهي كفى بي عزا ان أكون لك عبدا و كفى بي فخرا ان تكون لي ربا أنت كما أحب فاجعلني كما تحب» حيث لم يجعل لنفسه عزا و لم ينسب إليها فخرا مقابل جلال اللّه تعالى و عظمته، و ما ورد في هذا المعنى من اولياء اللّه اكثر من ان يحصى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"