1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 8 الى 9

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (۸) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (۹)


نداء ملكوتي من قلوب الراسخين في العلم، يشمل ذروة العرش الأعلى حتى ذرة ما تحت الثرى، تطرب الممكنات من سماع لفظه، و تزجر العوالم من خطاب وعظه، تتدفق منه الرحمة و النور على جميع الأحياء، بل على من في القبور.
و في لفظ (ربنا) من الاستغاثة و الانقطاع في أن يثبتهم على الحقّ ما ليس في غيره، و غالب دعوات الأنبياء و المنقطعين إليه جلّت عظمته مبدوءة به، لأنه من أنين المربوب الضعيف إلى الربّ الخبير اللطيف، و دعاء المسكين الفقير إلى الغني المطلق الخبير.
و لا بد و أن يكون هذا الدعاء مقول قول الراسخين في العلم، الذين ملئت قلوبهم بالإيمان باللّه جلّ شأنه، و الذين يرون كمال استغنائهم في كمال الفقر إليه تبارك و تعالى، كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله: «اللهم اغنني بالافتقار إليك، و لا تفقرني بالاستغناء عنك».
و في ابتهالهم إلى اللّه تعالى بأن يثبتهم على الحقّ، و أن يفيض عليهم رحمته، لا سيما في يوم الجمع الذي لا ريب فيه دلالة بأن الغاية القصوى ذلك اليوم، و أن العوالم كلّها في طريق السير إلى ذلك الموعد الذي لا يخلفه اللّه تعالى لجمعهم و فصلهم، و لا يمكن أن يتخلّف ذلك الغرض أنه الهدف من السير الاستكمالي للإنسان. و كيف يمكن أن يهمل ذلك مع أن الربوبيّة العظمى تقتضي الوفاء بالوعد، و إلا يلزم الخلف.

قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.
مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة، قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف، الآية: ٥]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ [سورة سبأ، الآية: 12].
و المعنى: ربّنا لا تمل قلوبنا عن الحقّ بعد إذ هديتنا إليه. و هذا الدعاء عام لجميع ما هو حقّ من المعارف و القرآن و الأحكام و المعاد، فيشمل الشريعة الختمية بكلّياتها و جزئياتها و أصولها و فروعها.
و الميل عن الحقّ إما قصدي و عمدي بالاختيار، أو نسياني لا عن اختيار، أو اضطراري و اجباري. و الأوّل فيه الإثم و العقاب، بل قد يوجب الكفر، و الأخيران لا أثر لهما، لحكم العقل بذلك، و لما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «رفع عن امتي الخطأ و النسيان و ما اضطروا إليه».
قوله تعالى: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.
مادة (و ه ب) بمعنى التمليك مجانا و بلا عوض، و كلّ ما أخرج من العدم إلى الوجود من جميع الممكنات هبة منه تبارك و تعالى، إذ لا يعقل الاستيعاض لمن هو مستغن بذاته عن غيره لذاته بالنسبة إلى غيره، ممّا هو محتاج بذاته اليه عزّ و جلّ، و أما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 17]، ففيه عناية و تلطّف في الكلام، لا أن يكون من الاشتراء و القرض الحقيقي، و إلا يلزم على اللّه الاستكمال، و هو قبيح و محال، و الرحمة: بمعنى اللطف و الإحسان.
و المعنى: هب لنا من عندك رحمة. و تشمل جميع النعم الدنيويّة و الاخرويّة التي أهمّها الاستقامة في الدين بالدين، فإنها جامعة للرحمة الدنيويّة و الاخرويّة.
قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما قبلها. و الوهاب من أسماء اللّه الحسنى، تكون المبالغة في نظائره باعتبار المتعلّق لا باعتبار الذات، إذ لا معنى للمبالغة فيما لا منتهى و لا حدّ في أي جهة من جهات كماله و جلاله.
مع أن المبالغة من الجهات الكيفيّة، و هي منفية عنه تعالى بالأدلّة العقليّة و النقلية، قال علي عليه السّلام: «هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له، و أيّن الأين فلا أين له»، و كلّ ما هو في المخلوق لا يوجد في الخالق.
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ.
أي انك باعث الناس و محييهم بعد فنائهم و تفرّقهم ليوم لا شكّ فيه، و في هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة، لأن ذلك قضية عقليّة جامعة حاكية لمصير استكمال الطبيعة و ظهور الأعمال بصورها المناسبة في طريق الاستكمال، و أن البعث واجب عقلي و لازم في الطبيعة، قد قرّرته جميع الكتب السماويّة أيضا. فقولهم: لا ريب فيه، أي لا شكّ فيه حسب الأدلّة العقليّة، و يمتنع عدم تحقّقه و سلب وقوعه، كما أن قولهم: «انك جامع الناس» كاشف عن فطرتهم العقليّة، لا أن يكون أمرا شرعيا لإثبات جمعهم، و إن كانت الآيات المباركة تثبت ذلك أيضا، قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الدخان، الآية: ٤۰].
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
عدول من الضمير إلى الظاهر للتنبيه على استحالة خلف الوعد بالنسبة إليه جلّ شأنه، لكماله تعالى و قدسيته، و أن الميعاد عامّ لا يختصّ بقوم و طائفة، و الآية المباركة بمنزلة التعليل في تحقّق المعاد و عدم الريب فيه.
و المعنى: أنك جامع الناس و باعثهم من قبورهم للجزاء ليوم لا شكّ فيه، كما أخبرت به في كتابك و وعدتنا به و أنك لا تخلف الميعاد.

يستفاد من الآية الشريفة امور:
الأوّل: إنما أضاف الراسخون في العلم الربّ إلى أنفسهم، و سألوا منه عدم الزيغ كما سألوا الرحمة، لأنهم يرون انحصار جميع جهاتهم و نسبهم و إضافاتهم فيه تبارك و تعالى، فهو يربّيهم كيف ما شاء و أراد، فيكون نسبة سلب الازاغة إليه تعالى من جهة التربية المعنويّة التي يربّيهم اللّه تعالى.
و لذا كرّر لفظ (ربّنا)، فيستفاد منه نهاية الانقطاع منهم إليه جلّ شأنه.
الثاني: المراد من الرحمة في قوله تعالى: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، رحمة خاصّة تختصّ بمقامات الراسخين في العلم، و هي تعم إبقاءهم على هذه الحالة، فيكون بمنزلة البيان لقوله تعالى: لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.
و يمكن أن يراد بها الإفاضات و الإلهامات المعنويّة التي تناسب مقام الرسوخ في العلم، و هي غير محدودة بحدّ خاص، فتشمل جميع اللوازم و الملزومات الطولية و العرضية الغيبيّة لكلّ آية، ممّا لا يمكن أن يطلع عليها إلا اللّه جلّ جلاله.
و بالجملة: أهمّ مراتب الرحمة التي لا يعقل مرتبة فوقها هي معرفة المعارف الإلهية بمراتبها المؤهّلة عندهم و العمل بها، و هي منحصرة بالإفاضة منه سبحانه و تعالى على قلوب الراسخين و منهم على غيرهم، فهذا الدعاء و الابتهال من أسمى الدعوات و أكملها إلى أكرم مدعو و أجلّه، و أنه قرين الإجابة و الاستجابة، لأن له دخلا في تكميل نظامي التشريع و التكوين. فهذه الجملة: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، ترجع إلى بيان المبدأ، كما أن ذيل الآية المباركة يرجع إلى بيان المعاد، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها تبيّن المبدأ و المعاد و التلازم بينهما، بأسلوب جذاب دقيق و بيان يأخذ بمجامع القلوب و توجهها نحو الربّ الجليل المحبوب، و نظائر هذه‏ الآية كثيرة، يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.
و يمكن أن يكون هذا الدعاء منهم مع كونه من الرحمة الخاصة بهم دعوة منهم إلى أن يجعل اللّه تبارك و تعالى غيرهم- المستأهلين لهذا المقام- مشمولين لهذا الدعاء.
و هذا هو دأب أولياء اللّه تعالى في دعواتهم، حيث لا يخصّون أنفسهم بدعاء خاص، بل يعمّونه لغيرهم. فيسقط نزاع بعض المفسّرين في أن الدعاء خاص أو عامّ، إذ لا تنافي بين الخصوص و العموم بالنسبة إليهم، بأن يكون الخاص منشأ لحصول العام بالنسبة إلى غيرهم.
الثالث: يستفاد من الآية الشريفة أن عدم زيغ القلب أعمّ من الهبات المعنوية و الإفاضات السماويّة، فيمكن أن يستجاب منهم دعاء عدم زيغ القلب، و تبقى الإفاضات المعنوية (أي الرحمة الخاصة) بعد، و لذا قالوا: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.
و بعبارة اخرى: عدم زيغ القلب أعمّ من هبة الرحمة، التي هي كالأرض التي هي معدّة لكلّ نبات و زرع، فيستمطرون منه تبارك و تعالى و يستوهبون منه أنحاء النباتات المعنوية و الأثمار الحقيقيّة في هذه الأرض، اعني القلب الذي خلا عن جميع الشوائب و الأوهام.
الرابع: يستفاد من تكرار الخطاب في قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، الحصر الحقيقي، لأنهم يرون انحصار جميع الهبات فيه تبارك و تعالى، و هذه إشارة إلى قول: (لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم).
الخامس: يستفاد من هذه الآية الشريفة أن علم الراسخين في العلم يدور مدار علم المبدأ و المعاد، فعندهم المرتبة القصوى من علم المبدأ و المعاد، و فيهما تنطوي سائر العلوم التي تقع في طريق استكمال النفس الإنسانية الكاملة، التي هي أكبر حجّة للّه تعالى في أرضه، و خلقت الدنيا و الآخرة لأجلها، و فيهما تنطوي الفلسفة العلميّة و العمليّة، التي هي أعظم المباني العقليّة و أجلّها، و أكثرها أبوابا و فصولا، بحيث جعل كلّ منها علما مستقلا برأسه.
السادس: يستفاد من مجموع الآية الشريفة الواردة في شأن الراسخين في العلم، أدب الدعاء و الابتهال إليه تبارك و تعالى، فلا بد أن يكون الداعي منقلعا من جميع الجهات الإمكانية، و منقطعا إلى الحقيقة الربوبيّة من كلّ جهة، بحيث يرى نفسه فانيا تحت إرادة القدير المتعال، كما هو شأن الراسخين في العلم، و يمكن أن ينطبق عليهم قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 17- 18]، فإن حقيقة مثل هذه الآية المباركة منطبقة على الراسخين في العلم، و لو حدّ و عرّف الراسخون في العلم بما ورد في مثل هذه الآية الشريفة لكان حدّا حقيقيّا واقعيّا.
السابع: ربما يتوهّم التنافي بين قوله تعالى حاكيا عن الراسخين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، و بين قوله تعالى حاكيا عن آدم و زوجته: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [سورة الأعراف، الآية: 23]، و قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 87- 89].
و الجواب: أن مثل الآيتين الأخيرتين إنما ورد لبيان إظهار ذل العبودية و التذلّل بالحقّ لدى المعبود المطلق، فيكون مثل هذه الآيات و ما فى سياقها من السنّة الشريفة وارد في مقام الإخبار عن الشي‏ء بداعي ذل العبودية المحضة، لا بداعي وقوع المخبر به في الخارج، و هذا كثير شائع في اللغة و العرف، خصوصا عند أهل الذوق و العرفان، فلا محذور في البين عند من كان متوجّها إلى خصوصيات البيان.

في الكافي: عن هشام بن الحكم قال: «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ‏ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها ورداها، أنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ببصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سرّه لعلانيته موافقا، لأن اللّه تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».
أقول: هذه الرواية من أجلّ الروايات الواردة في المعارف الإلهية، فقوله عليه السّلام: «علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها»، لأنهم علموا أن الإنسان مركب من مادة و صورة، و من لوازم المادة و الجسمانية زيغ القلوب، فسألوا ربهم بهذا الدعاء الذي هو أكمل الدعوات بالنسبة إلى الاستكمالات الإنسانية في جميع العوالم التي ترد على الإنسان، فعلمهم هذا من قبيل العلم باللازم بعد علمهم بالملزوم.
و أما قوله عليه السّلام: «إنه لم يخف اللّه من لم يعقل قلبه على معرفة ثابتة ببصرها»، فهو من القضايا الوجدانية التي يكون دليلها معها و يكفي تصوّرها في تصديقها، لأن المخافة من الشي‏ء تتوقّف على تعقّل ذلك الشي‏ء و لو بالجملة، فإن المخافة بلا تعقل تكون عبثا و لهوا، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28].
و أما قوله عليه السّلام: «و يجد حقيقتها في قلبه»، فهو من القضايا الفطرية، لأن الاعتقاد بشي‏ء يستلزم تصوره و تصديقه في الجملة، و إلا فلا موضوع للاعتقاد أصلا.
و أما قوله عليه السّلام: «و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا و سرّه لعلانيته موافقا»، فهو من أتمّ البيان و الحجّة لبيان العقيدة في شي‏ء، لأنه إذا كان الفعل مخالفا للقول و كان بينهما اختلاف و تناف، لا تحصل العقيدة بذلك.
نعم، دعوى الاعتقاد الصوري مع مخالفة الفعل للقول حاصلة، و لكن لا أثر لها، و يدلّ على ذلك ما تقدّم في بعض الروايات‏ عن الصادق عليه السّلام: «من حرم‏ الخشية من اللّه فليس بعالم، و إن شقّ الشعر في المتشابهات، و من لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».
و أما قوله عليه السّلام: «لأنّ اللّه عزّ اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه»، فهو حقّ لا ريب فيه، لأن الظاهر عنوان الباطن و بمنزلة اللفظ للمعنى، و يستكشف المعنى من اللفظ، فإذا كان أصل المعنى باطنا للظاهر فكيف يتحقّق هذا العنوان؟!
و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «أكثروا من أن تقولوا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و لا تأمنوا الزيغ».
أقول: ما ذكره عليه السّلام مطابق للأدلّة العقليّة التي أثبتوها في محلّه، من أن كلّ حادث يحتاج في البقاء إلى العلّة كما يحتاج إليها في أصل الحدوث، فنفس الهداية الحادثة من اللّه تعالى بصرف الوجود لا أثر لها ما لم تكن باقية و منشأ للأعمال الصالحة، و يدلّ على ما قلنا ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الحديث الآتي.
في الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه، عن أم سلمة: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول اللّه، و أن القلوب لتتقلّب؟ قال: نعم، ما خلق اللّه من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع اللّه، فإن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه».
أقول: ليس المراد من الإصبعين ما هو المفهوم منهما ظاهرا، بل المراد منهما قضاؤه و قدره، و ربوبيّته و تربيته، و يكون التعبير بالإصبعين كناية عن سهولة ذلك كلّه عنده تبارك و تعالى.

الممكنات بأسرها- و منها الإنسان الذي هو أجلّها و أشرفها- لا بد لها من ارتباط مع خالقها، كما أن للخالق ارتباطا مع خلقه، و هذا الارتباط على قسمين:
الأول: الارتباط التكويني، و قد أثبت أكابر الفلاسفة في محلّه، أنه أوثق الارتباطات و أجلاها و أتمّها، بل و أشدّها، و من أجل ذلك يقسم الخالق بمخلوقه، كما يقسم الحبيب بمحبوبه، قال تعالى: وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ* وَ طُورِ سِينِينَ* وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين، الآية: 1- ٤]، و قال تعالى: وَ الْفَجْرِ* وَ لَيالٍ عَشْرٍ* وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ* وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [سورة الفجر، الآية: 1- ٤]، و قال تعالى: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها* وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها* وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها* وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها* وَ السَّماءِ وَ ما بَناها* وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها* وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 1- 8]. لأن الفاعل يرى قدرته و ظهوره في فعله، فالفعل من مظاهر بروز الفاعل و تجلّياته و ظهوره، فيسعى كلّ منهما لصاحبه بما يريده تكوينا و يرضاه و ما يشتهيه، و إن شئت سمّيت هذا بتسبيح الممكنات، كما في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: ٤٤]، فلا بأس، و إن شئت سمّيته بالفطرة، كما عن بعض، فلا بأس و إن شئت سمّيته بشروق نور أزلي من الغيب المحجوب على ظلمات الممكنات، فلا بأس. هذا كلّه بناء على ما هو المعروف بين الفلاسفة من القول بتكثّر الوجود و الموجود. و هذا القسم سير تكويني متدرج في قول: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، و قول: (لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم).
الثاني: الارتباط الاختياري الالتفاتي الفعلي، و عليه يدور أساس تكميل الإنسان، و لأجله أنزلت الكتب السماويّة و القرآن المبين، و هو غاية دعوة الأنبياء و جميع المرسلين، و به تقوم درجات الجنان و دركات النيران، و عليه يدور أساس تكميل الإنسان إلى ما لا حدّ لأقصاه و لا يمكن أن يدرك مداه، و به يسير الإنسان في عالمي الأظلة و الأنوار، و يفرح من نسيم يفوح عن ربوع المحبوب و تلاله، و يدرك سرّ الحياة و الجمال و الجلال: تزيد ملاحة و أزيد تيما فحالي فيك تنتقل انتقالا و مثل هذه الآية الكريمة: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، و الآية المباركة: وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 17- 18]. و قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة الحديد، الآية: 12]، و الآيات المباركة الاخرى ترشد إلى هذا القسم من الارتباط، حتّى يتّحد الارتباط التكويني مع الارتباط الاختياري، فتزداد جوهرة النفوس الإنسانية تلألؤا و جمالا، و تعرج إلى معارج لا حدّ لها عظمة و جلالا، قال اللّه جلّت عظمته: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر»، و إن اختلفا يصير الإنسان الذي هو من أسعد المخلوقات و أفضل الممكنات من أخسّها و أسفلها، لأنه قطع ارتباطه مع خالقه و خالف منعمه، و أنزل مقام نفسه حتّى في مرتبة التكوين، قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و قال تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة، الآية: 17]، و قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 7]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و هذا القسم من الارتباط حالي، لا أن يكون مقاليا كما يعرفه أهل العرفان.

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة بحث المعاد، و قد اهتمّ به الأنبياء و المرسلون و جميع الكتب السماويّة و الفلاسفة و المتكلّمون اهتماما بليغا، و أطالوا البحث فيه من كلّ جهة، و في المقام مباحث نستوفي الجوانب الأهم منها.

يجب وجود المعاد عقلا و شرعا، كوجوب وجود المبدأ كذلك، و الفرق بينهما أن وجوب المبدأ ذاتي، و وجوب المعاد بالغير.
و المعاد من العود، و وجوبه في النظام الأحسن الذي يشمل جميع العوالم عقلي، و يمكن تقرير دليله بوجوه:
الأوّل: ما هو الأسد و الأخصر بأن يقال: إن الأرواح و النفوس أبدية، أي خالدة و باقية، فلا حدّ لآخرها باتّفاق الشرائع السماويّة و جميع الفلاسفة- على ما يأتي- و تعطيل هذه الأبدية المطلقة و إهمالها عن كلّ شي‏ء قبيح عقلا، فيستحيل ذلك عليه عزّ و جلّ، بل لا بد من إبراز مقتضيات ذواتها و خصوصياتها المحفوفة بها، و لا يتحقّق ذلك إلا بالمعاد، فيجب المعاد في النظام الأحسن الربوبي، هذا بالنسبة إلى المعاد الروحاني المتّفق عليه بين الجميع.
و أما المعاد الجسماني، فإنه يمكن تقرير وجوبه بأن يقال: إن الأرواح و النفوس في فعلها محتاجة إلى الآلات الجسمانية، أي الجسد (القلب و البصر و السمع و الرجل و غيرها)، و إن كانت في ذاتها مستغنية عنها، فإن الأرواح توجد متّحدة مع الجسم طول الحياة و تنفصل عنه عند الموت، و لا بد من عود جميع آلاتها (أي الجسد) التي كانت تعمل بها بعد الموت، لفرض تقوّم فعلها بها، و أنها كانت مأنوسة بتلك الآلات من كلّ جهة.
و قيام غيرها مقامها باطل، لأنه يستلزم تنعيم ما لم يصدر منه منشأ النعمة، و تعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، و هو قبيح عقلا، فكيف بالنسبة إليه تعالى؟
فيثبت المعاد الجسماني.
إن قيل: لا ريب في تحلّل الأجزاء الجسمانيّة في الدنيا، و في عالمنا هذا، و تبدلّ تلك الأجزاء و وصول بدل ما يتحلّل إليها في كلّ مدة، فالبدن الموجود في سن العشرين مثلا غير ما كان في سن العشرة، فيلزم المحذور، أي تنعيم ما لم يصدر منه‏ منشأ النعمة و تعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، أو ترجيح المرجوح على الراجح، فليكن البدن الموجود في عالم الآخرة كذلك أيضا، أو يكون من غير سبق بدن أصلا.
يقال: التبدّلات الحاصلة على البدن في هذا العالم ليست تبدّلا ماديّا و صوريّا من كلّ جهة، بل المادة الأوليّة محفوظة، و إنما تتبدّل بعض الخصوصيات و بعض الصور، فالمادة التي تقوم بها النعمة و العذاب محفوظة في أصلها، فيرد العذاب و النعمة على ما صدر منه.
الثاني: الملازمة الواقعيّة الحقيقيّة بين المبدأ و المعاد، لأن المعاد مظهر مالكية المبدأ و قهّاريته و سائر صفاته الجمالية و الجلالية، و المبدأ بدون تلك الصفات لغو محض، بل غير ممكن، و كذا العكس فهما متلازمان ثبوتا، و لا يمكن التفكيك بينهما واقعا، خصوصا بالنسبة إليه تبارك و تعالى.
الثالث: الملازمة الثبوتيّة بين التشريع و الجزاء، فإن أحدهما بدون الآخر لغو، و هو محال عليه تعالى.
الرابع: أن إهمال تعذيب المسيئين و جزاء المحسنين قبيح في النظام الأحسن، و هو محال على اللّه جلّت عظمته، و الآخرة ليست إلا دار تعذيب المسيئين و جزاء المحسنين، فلا بد من تحقّقها، و هذا العالم غير قابل لتعذيب المسيئين فيه، لأنّه محدود من كلّ جهة، و أنه ظرف الاستكمال كما يأتي.
و هناك أدلّة اخرى تدلّ على الثبوت نتعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه.

يمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة: فمن العقل ما تقدّم من أدلّة وجوب وجوده، إذ لا يعقل أن يكون شي‏ء واجب الوجود و غير متحقّق في الخارج.
مع أن الممكنات بأسرها خلقت في طريق الاستكمال الدائم- لا الزائل- لفرض أبدية النفس و الروح، كما أثبتها جميع الفلاسفة- الطبيعيّين منهم و الإلهييّن- و لا بد في ذلك الاستكمال من نهاية و حدّ، سواء كان الاستكمال في الخير أم الشر، و أن المعاد مظهر الاستكمال و نهايته، و أن هذا العالم ظرف الاستكمال كما نراه، فالإنسان- الذي هو أشرف الموجودات و خلقت الأشياء لأجله- يكون في مسير الكمال الذي لا بد له من مظهر، و هو المعاد، أي عالم الآخرة، و إلا يلزم الخلف، أي يكون الكمال بلا أثر و نتيجة.
و أما من الكتاب، فآيات كثيرة، منها قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف، الآية: 29]، و قوله تعالى: ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الزمر، الآية: 7]، و قوله تعالى: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة التوبة، الآية: ۱۰٥]، إلى غير ذلك من الآيات، و كذا جميع الكتب السماويّة، فإن أهمّ دعوتها هي الدعوة إلى المبدأ و المعاد.
و أما السنّة، فهي فوق حدّ الإحصاء بألسنة مختلفة شتى.
و أما الإجماع، فإجماع جميع الأنبياء و المرسلين، و جميع أهل الكتاب و المسلمين.

أما الأول، أي عود الأرواح بعد انفصالها عن الأبدان إليها، للجزاء و التعبير بالعود بالنسبة إلى الأرواح من باب الوصف بحال المتعلّق، لفرض أن الأرواح أبدية لا تفنى.
نعم، عند انعدام جميع ما سواه تعالى ينعدم ثم يوجد و لم يسم ذلك بالمعاد.
و لا خلاف فيه من أحد- ثبوتا و اثباتا- في معاد الأرواح، فإنهم أثبتوا أن الأرواح إما شقيّة، أو سعيدة، و مصير الاولى إلى النار، بخلاف مصير الثانية، فإنها إلى الجنّة، و لا يعقل الفناء المحض و الإهمال بالنسبة إلى الأرواح أصلا، كما أثبته‏ الفلاسفة، بل المنساق من الأدلّة السمعية- كتابا و سنة- ذلك.
و يمكن إقامة الدليل العقلي عليه بأن يقال: إن الفناء و الاضمحلال من لوازم الجسم و الماديات، لمكان تحلّل الأجزاء تدريجا، و أما إن كان بسيطا من كلّ جهة- كالأرواح و جميع المجرّدات و الروحانيين من الملائكة- فلا موضوع للفناء و التحلّل فيه، فيبقى بعد الحدوث أبدا.
نعم، الانعدام بمشيئة اللّه تعالى و إرادته شي‏ء آخر لا ربط له بالموت و الفناء، فكلّ موجود إما أزلي و أبدي، و هو منحصر به جلّ شأنه، أو حادث أبدي، و هو المجرّدات و الروحانيون، أو حادث و فان، و هو الأجسام و الماديات.
و أما كون شي‏ء أزليا و فانيا، فهو ممتنع للقاعدة التي تسالم الكلّ عليها من أن: «كلّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه»، فمعاد الأرواح ممّا لا يعتريه الشك أصلا، و من أنكره فقد وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: ۱٤].
و أما المعاد الجسماني الذي هو مورد دعوة الأنبياء و جميع كتب السماء، فقد أثبته جميع كثير من أكابر الفلاسفة و أعاظمهم، حتّى من غير المسلمين.
و إنما أشكل بعض في استحالته من أنه إعادة المعدوم، فإن الجسم لو انعدم فإعادته محال. و هذا الإشكال قديم الجذور، فقد حكاه اللّه تعالى في جملة من الآيات المباركة عنهم، قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [سورة يس، الآية: 78]، و قوله تعالى: وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة الجاثية، الآية: ۲٤]، و غيرهما من الآيات الشريفة.
و لكن أصل الإشكال فاسد، لأنّه مغالطة حصلت من قياس قدرة الخالق على قدرة المخلوق، أي الممكن، فظنوا أن ما لا يمكن بالنسبة إلى قدرة المخلوق هو غير ممكن بالنسبة إلى قدرة الخالق أيضا، و لا ريب في بطلانه، لأن قدرة المخلوق محدودة و قدرة الخالق غير محدودة بوجه من الوجوه، حتّى إنه تعالى خلق الأشياء من العدم، فليكن المعاد بالنسبة إلى الأجساد كذلك أيضا، على فرض تحقّق العدم‏ بالنسبة إليها، مع أنه لا يمكن لفرض بقاء المواد الأوّلية، و إنما تغيّرت الصور و الجهات الخارجيّة، و لذا قال تبارك و تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة الروم، الآية: 27]، فالذي يصوّر مادة المواد و الهيولى الاولى إلى صور شتى بأكمل الصور و أحسنها، يقدر على كلّ ما شاء و أراد، و هو قادر على أن يعيد جميعها.
و ثانيا: أن استحالة إعادة المعدوم لا تختصّ بالمعاد الجسماني، بل تجري في جميع الممكنات حتّى الأرواح، بل مطلق المجرّدات، لانعدامها قبل يوم القيامة، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر، الآية: ۱٦]، مع أن المعاد الروحاني متّفق عليه بين جميع الفلاسفة، بل العقلاء أيضا.
و ثالثا: على فرض التسليم أن المحال إنما هو إعادة المعدوم بجميع خصوصياته الزمانيّة و المكانيّة و سائر الجهات، لا خصوص المادة و الصورة، مع عدم ملزم لإعادة سائر الجهات، و أنهما محفوظان في عالم القضاء و القدر، اللذين هما أوسع العوالم الربوبيّة، بل يمكن أن يكونا محفوظين في الأذهان السافلة أيضا، فلا موضوع للمغالطة أصلا.

أوردت شبهات كثيرة على المعاد، و لكن أهمّها ثلاث:
الاولى: ما اصطلح عليها في كتب الفلاسفة و المتكلّمين بشبهة الآكل و المأكول، و تعرّض لها بعض كتب الفلسفة الحديثة أيضا، و هي قديمة و ترجع جذورها إلى ما قبل الإسلام، كما يستفاد من الآيات المباركة، و حاصل الشبهة أنه إذا تورد على بدن الإنسان صور أشياء مختلفة، كأن صار الإنسان مثلا فريسة لسبع، و صار السبع فريسة لسبع أقوى منه، ثم استحال الجميع إلى التراب، و استحال التراب إلى النبات، و صارت هي مأكول الحيوان أو الإنسان، فكيف يمكن أن يعود بدن الإنسان الذي تواردت عليه صور شتى في المعاد، و هل يعاد بالبدن الأولي و الهيكل الأصلي للإنسان، و المفروض انعدامه بالكلية؟ أو بالصورة العارضة عليه، فيلزم أولا أن لا يعود البدن أو الجسم الموجود في دار الغرور في عالم الحشر و النشر، و هو خلاف ما تقدّم من الأدلّة الدالّة على إثبات المعاد الجسماني.
و ثانيا: يلزم تنعيم من لم يصدر منه فعل الطاعة، و تعذيب من لم يصدر منه منشأ العقاب، و هو باطل بالضرورة، و هذا هو أصل الشبهة.
و لكنها باطلة، لما تقدّم من أن الصور التي تعرض على الشي‏ء و تتغيّر لا تنافي بقاء المواد الأولية لذلك الشي‏ء، فهي باقية و محفوظة و إن تبدّلت الصور العارضة عليها و حصلت التطورات، لكن المادة الأوّلية باقية، نظير المضغة التي تكون في مصير الاستكمال الإنساني، فهي موجودة في الإنسان و إن بلغ من العمر ما بلغ، و لكن تتبدّل عليها الحالات و الصور الكثيرة، و المعاد الجسماني أيضا كذلك، فيكون التعذيب واردا على من صدر منه فعل المعصية، و التنعيم على من صدر منه فعل الطاعة، و هو باق و إن عرضت عليه صور كثيرة.
مع أن العلم الحديث في التجزئة و التحليل تمكّن من تجزئة المواد في الجسم، و امتياز المواد الحيوانية عن النباتية، و هما عن غيرهما، فكيف بقدرته تعالى؟! و لا فرق في ذلك بين أن يكون الآكل هو الحيوان أو يكون إنسان آخر، كما لو أكل إنسان إنسانا آخر، فالجواب في الجميع واحد.
و أصل الشبهة ناشئة من تحديد قدرة الخالق و قياسها على قدرة المخلوق، مع أن قدرة المخلوق أمكنها السيطرة على حفظ المواد الأولية في الجسم و امتيازها عن غيرها، بل و نموها كما عرفت، و هذه الشبهة مقرّرة في القرآن الكريم بنحو الإجمال، قال تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [سورة يس، الآية: 78]، و قال تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [سورة القيامة، الآية: 3، ٤].
الثانية: أن المعاد إنما هو لتعذيب الأشقياء و تنعيم السعداء، و هذه النتيجة يمكن أن تحصل في هذه الدنيا و في هذا العالم، فلا يحتاج إلى التعذيب في عالم الآخرة، فيعذب اللّه تعالى الأشقياء في هذه الدنيا حتّى يرد الجميع إلى عالم الآخرة بلا منشأ للعقاب، فيردون الجنّة بغير حساب، فيكون التعذيب في هذا العالم بمنزلة التوبة الممحاة للذنوب، و هذه الشبهة كثيرة الدوران في الفلسفة الحديثة.
و لكنها باطلة … أولا: لأن اللّه تبارك و تعالى جعل للذنوب في هذه الدنيا ما يوجب محوها و إزالتها، كالحدود و التعزيرات و الدّيات و الكفّارات و التوبة و الاستغفار و التكفير، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [سورة النساء، الآية: 31]، فأي إنسان عمل بذلك، فلا ذنب له فيتحقّق التعذيب في هذا العالم بالحدود و التعزير و الديات و غيرها، فلا موضوع لهذه الشبهة، فإن اللّه تعالى أجلّ من أن يعذب العاصي مرتين.
و ثانيا: أن كثيرا من المعاصي في هذه الدنيا ناشئ من سوء السريرة و فساد الطينة اقتضاء، و هذا العالم بزمانه و زمانياته قاصر عن تعذيب مثل هذه السريرة، لأن هذا العالم متناه، و السريرة فيها اقتضاء عدم التناهي، فلا بد و أن يؤجل إلى عالم الآخرة.
و ثالثا: أن هذا العالم ظرف الاستكمال في جميع الجهات، و التعذيب مناف له، نعم بعض آثار الذنوب تظهر في هذه الدنيا، و أنها من الآثار الوضعية، و لا ربط لها بالتعذيب و المعاد.
الثالثة: المعاد الجسماني مستلزم للتناسخ الباطل- كما سيأتي- فيكون المعاد الجسماني باطلا كذلك، خصوصا بعد اشتمال الأدلّة السمعية على حشر بعض أفراد الإنسان بصورة بعض الحيوانات.
و الجواب عنها: أن المعاد الجسماني ليس من التناسخ في شي‏ء، و بينهما تباين كلّي، لأن التناسخ الباطل عبارة عن انتقال الروح من بدن في هذا العالم إلى بدن‏ غيره، كلّ منهما في عرض الآخر، و أما بقاء الروح إلى عالم آخر طولي و تغيير بدنه حسب المقتضيات و الملكات، فلا ربط له بالتناسخ أصلا، بل يكون المقام نظير ما إذا ابتلى بدن الإنسان بمرض، بحيث زالت محاسنه و ذهبت هيئته و صفاته بالمرّة لأجل الجهات الخارجيّة مع بقاء روحه، فكم من شخص كان في غاية الجمال في شبابه فصار قبيحا في هرمه و شيخوخته، و كم مرغوب إليه في سن فصار مرغوب عنه في سن آخر، و هكذا فالمعاد الجسماني من هذا القبيل. هذا فيما إذا تغيّر البدن في عالم الحشر، و أما إذا لم يتغيّر فلا موضوع للشبهة أصلا.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"