1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 79 الى 80

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)


الآيات تتعرض لحال أهل الكتاب بالنسبة إلى الأنبياء و افترائهم عليهم كما افتروا على اللّه تعالى على ما حكى عز و جل عنهم في ما سلف من الآيات، و قد نسبوا الألوهية إلى الأنبياء و اتخذوهم أربابا من دون اللّه، و فيها نزّه عز و جل ساحة الأنبياء مما قد نسب إليهم و أثبت أنهم عباد مربوبون، و لم يدع أحد منهم الربوبية لنفسه، و أقام الحجة على ذلك، و ذكر أن كل عبد آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة لا يمكن أن يتعدى طور العبودية، و لم يخرج عن زي الرقية للّه تعالى فكيف يدعي الربوبية و يأمر الناس بالعبودية له، و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة المتعرضة لأحوال أهل الكتاب و افتراؤهم على اللّه تعالى و الأنبياء، و هي بمجموعها في مقام الاحتجاج و الردّ عليهم و إبطال دعاويهم، و لا تخلو هذه الآيات عن التعرض لحال النصارى في ما يدعونه في المسيح و تثبت براءته منه.

قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ.
البشر لفظ يرادف الإنسان، يطلق على الواحد و الجمع، ذكرا و أنثى، لأنه بمنزلة المصدر. و انما سمي بشرا لظهور بشرته و عدم سترها بشي‏ء، و اللام في (لبشر) للحق، و يدل عليه قوله تعالى حكاية عن عيسى: «وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» المائدة- ۱۱٦. و المراد به نفي الحقية التكوينية، أي لا حق تكوينا.
و ذكر هذا اللفظ و تعليق الحكم عليه لبيان الدليل و السبب أي أن البشرية تنافي الألوهية و انها غير ممكنة ذاتا الا بمجرد الادعاء الباطل.
و على هذا تكون جملة (ما كان لبشر) لنفي الشأن الذي هو أبلغ من نفي الوقوع. أي ليس من شأن بشر ذلك و لا حق له في أن يدعي الربوبية، بل يمتنع تحقق ذلك، لأنه من الجمع بين المتناقضين، و إن تحققت الدعاوي من مثل فرعون و نمرود، لكنها خارج عن موضوع الآية رأسا لأنهما بمعزل عن الكتاب و الحكم و النبوة.
و المراد من الكتاب ما هو المشتمل على المعارف الربوبية، و الاحكام الإلهية و مكارم الأخلاق. كما أن المراد من الحكم هو الولاية على فصل القضاء بين الناس بأمر إلهي. و المراد من النبوة تلك الصفة الخاصة التي يمنحها اللّه تعالى من يشاء من عباده.
و تصور هذه الموضوعات الثلاثة بنفسها يغني عن الاستدلال على امتناع دعوى الألوهية، فالآية الشريفة من القضايا التي قياساتها معها.
و إنما جمع سبحانه بين هذه الأمور الثلاثة، لبيان أن هذه الصفات موجبة للدعوة للّه، و الإرشاد اليه. و لأجل الأعلام بأن الذي يؤتى هذه الأمور قد تربى بتربية إلهية لا تصدر منه هذه الدعوة الباطلة، و لا يملك ذلك لعلمه ببطلانها، لأن الأنبياء هم أرفع شأنا و أجلّ قدرا من أن يدعي أحد منهم هذه الدعوة.
قوله تعالى: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ.
العباد جمع عبد، و يختص استعماله بما إذا نسب الى اللّه تعالى، يقال: عباد اللّه. و لعله لأن العباد من العبادة دون العبيد الذي هو من العبودية التي لا تمتنع أن تكون لغير اللّه تعالى، يقال: عبيد فلان. و لا يقال: عباده.
و التقييد بقوله «مِنْ دُونِ اللَّهِ» لبيان أن هذا القول جحد للألوهية و انكار لمقام الربوبية، و تغيير للعبودية الحقة المنحصرة في اللّه تعالى و للاعلام بأن الشرك في الألوهية إنكار لأصلها، لأن اللّه تعالى لا يرضى من عباده إلا الخلوص و الإخلاص في عبادته، قال تعالى: «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» البينة- ٥.
و المعنى: لا يحق لبشر قد أنعم اللّه عليه بالكتاب و الحكم و النبوة و تربى بالتربية الإلهية أن يدعو الناس- الذين بعث إليهم- إلى عبادة نفسه، و يدعي الألوهية لها، فان ذلك مستحيل لم يقع أبدا، فان من كان كذلك لا يخرج عن زي العبودية للّه تعالى، و أنه عز و جل لم يمنح الكتاب و الحكم و النبوة لمن يدّعى لنفسه الألوهية.
قوله تعالى: وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ.
الرباني المنسوب إلى الرب، زيد الألف و النون للمبالغة في التفخيم و التعظيم، كما يقال: رقباني لعظيم الرقبة، و لحياني لعظيم اللحية.
و المراد به التوغل و التحنّك في عبادة اللّه تعالى بحيث تعلق قلبه به عز و جل و لا يخطر بباله غيره، و قد ظهرت آثار العبودية على جميع أقواله و أفعاله و أحواله و معارفه لأجل انتسابه إلى رب العالمين، و وضع نفسه تحت إرادته و مشيته.
و الجملة استدراك عن ما ذكر سابقا، و إثبات لما نفي آنفا. اي أن البشر المنوه به آنفا يقول للمبعوث إليهم كونوا ربانيين متلبسين بالإيمان باللّه مشتغلين بعبادته و مختصين به في جميع شؤونكم، و يقتضى ذلك الاعراض عن غيره عز و جل.
قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ.
الباء للسببية، متعلق ب (كونوا). و الدراسة التكرار في القراءة درس الكتاب أي كرر قراءته، و داوم على حفظه.
و إنما كرر عز و جل (بما كنتم) لبيان أن كل واحد من التعليم و الدراسة له الاستقلال في الأثر و هو التلبس بالربانية. كما انه يستفاد من إتيان الفعل في (تعلمون و تدرسون) مضارعا للدلالة على الاستمرار عليها و المثابرة في ذلك دون مجرد التلبس.
أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على الاستمرار بتعلّمكم الكتاب و تعليمكم له، و دراستكم لما ورد فيه من المعارف الحقة و الاحكام‏ الإلهية، فان ذلك يقتضي أن تكونوا على ايمان كامل و معرفة حقه و التخلق بمكارم الأخلاق، و التلبس بالأعمال الصالحة التي تسوقكم إلى اللّه تعالى، فتكونوا أتقياء صلحاء علماء ربانيين.
قوله تعالى: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً.
الأرباب جمع الرب. و الآية عطف على قوله تعالى: «يَقُولَ لِلنَّاسِ» المنفي بمفاد «ما كانَ»، فيكون (لا) لتأكيد النفي اهتماما بالأمر و استعظاما للشأن.
و في الآية التعريض لطائفتين، الطائفة التي تتخذ الملائكة أربابا، كبعض الصائبة الذين يعبدون الملائكة، و ينسبون ذلك إلى دين اللّه و أما العرب فقد كانت تعتقد ان الملائكة بنات اللّه، و هم و إن لم يسندوا دعواهم إلى دين من الأديان إلا انهم كانوا يدّعون انهم على دين ابراهيم (عليه السلام).
و الطائفة الثانية هي التي اتخذت الأنبياء أربابا، و هي اليهود التي ادعت أن عزيرا ابن اللّه على ما حكي عنها عز و جل في القرآن الكريم و من النصارى أيضا من تعظيم عيسى (عليه السلام)، و يعتبرونه ابن اللّه تعالى.
و الآية تنفي هذه النسبة و تبطل ما يدعونه فان الأنبياء لا يأمرون باتخاذ الملائكة و الأنبياء أربابا، و ما كان لبشر آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة و أرسله لدعوة الناس إلى اللّه الواحد الأحد و نبذ الشرك و الأنداد و بعثه لإرشادهم إلى الكمالات و مكارم الأخلاق يأمرهم بالشرك و الكفر و أعظم أنحاء الفساد فان هذا غير ممكن، و هو كفر باللّه العظيم.
و تختلف هذه الآية عن سابقتها، في أن السابقة تنفي دعوى البشر الألوهية و المعبودية لنفسه، لأنه فرض محال مشتمل على التناقض، كما عرفت، و هنا نفي لأمر خاص، و هو اتخاذ الأرباب بعد فرض كون المخاطب مؤمنا باللّه تعالى، فيكون الأمر أمرا بالخروج عن الإيمان الى الكفر، فتختلف الآيتان موردا و حكما، و ذلك يوجب الاختلاف في المخاطبين أيضا.
قوله تعالى: أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
الاستفهام للإنكار. و الخطاب عام لكل من آمن باللّه تعالى و انقاد له عز و جل، و استسلم لأمره، و اعترف بدعوة الأنبياء، فيشمل أهل الكتاب، و كل من يدعي الانتساب إلى دين سماوي: و المراد بالإسلام هو دين التوحيد، و الطاعة و الانقياد للّه عز و جل نظير قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» آل عمران- 19.
و المعنى كيف يأمر الأنبياء باتخاذ الملائكة و النبيين أربابا مع انكم تعتقدون باللّه الواحد الأحد و تعبدونه، فان ذلك كفر و ضلال، و هم لا يأمرون بالكفر. و الآية تنفي كل أنحاء الشرك في العبادة.
و ذكر جملة من المفسرين أن الخطاب للمسلمين الذين اعترفوا بنبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، فإنهم المسلمون. فيكون أمرا بالكفر بعد الإسلام و أيدوا ذلك بما ورد من انهم قالوا له (صلى اللّه عليه و آله): أفلا نسجد لك؟ فنزلت هذه الآية.
و فيه: إن الإسلام في التنزيل غير ما هو المصطلح بعد النزول.
فان المراد به الإذعان بالتوحيد و الانقياد بالطاعة الذي هو دين الفطرة التي دعى الأنبياء إليها، و قد تقدم الكلام فيه مفصلا. فراجع آية 19 من هذه السورة.

المعروف بين المفسرين أن الظرف (لبشر) في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ» خبر مقدم، و جملة (أن يؤتيه اللّه) اسم كان مؤخر. و لكن يمكن أن يجعل (كان) تامة فلا تحتاج إلى الخبر أي لا تحقق لمثل ذلك و يمتنع، فتدل الآية على نفي الوقوع بالفحوى. و تكون جملة «أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ» لبيان الموضوع، يعني أن هذا الموضوع يمتنع تحقق دعوى الألوهية فيه. فالآية تؤكد عدم تحقق مثل ذلك بلفظ كان في المقام، و لا محذور في أن تكون الجملة بحسب الظاهر مفيدة لشي‏ء، و هي في الواقع تفيد شيئا أدق من ذلك.
و انما عطف عز و جل الجملة ب (ثم) في قوله تعالى: «ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي» لتعظيم الأمر، أي أن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أبدا و إن كان بعد زمان و في مهلة.
و (لي) ظرف متعلق بمحذوف تقديره كائنا، أي عبادا كائنين لي.
و قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ظرف متعلق ب (عبادا) لأن فيه معنى الفعل، و يحتمل أن يكون صفة ثانية.
و (ما) في قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ» مصدرية، و إنما جعل الخبر مضارعا في الموردين لبيان الاستمرار على التعليم و الدراسة و المثابرة عليهما.

تدل الآيات الشريفة على أمور:
الأول:
يشتمل قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» على براهين ثلاثة تدل على امتناع دعوى الألوهية من البشر و بطلانها.
أولها: إن البشر بما له من الأطوار المختلفة، فطورا هو جنين و آخر يكون طفلا؛ ثم صغيرا، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا إلى غير ذلك من الأطوار. ثم في جميع أحواله و أطواره قرين الفقر و الاحتياج، كما انه يتدرج في الكمال فينشأ و هو جاهل ثم يتدرج في المعرفة، و يطرأ عليه من التبدلات كالصحة و المرض، و الفقر و الغنى و العلم و الجهل، و الألم و الجوع و نحو ذلك، و جميع ذلك ينافي كونه إلها واجب الوجود يمتنع ان يطرأ عليه الاختلاف و التبدلات و يستفاد ذلك من كلمة البشر.
ثانيها: إن البشر الذي آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة، و تربي بالتربية الإلهية لا يحق له أن يدعي الألوهية و يدعو الناس إلى عبادته، و إن اتفق لبعض الناس أن يدعي هذه الدعوى لكنه ناقص لم يتصف بما ورد في الآية الشريفة فانه لا يعقل أن يدعي هذا البشر الموصوف بما ورد في الآية بتلك الدعوى، لأنه خلف و يناقض الحكمة الإلهية و هو تعالى الحكيم كالعليم لا يؤتي الكتاب و الحكم و النبوة لكل احد فضلا من أن يدعو العباد إلى عبادته.
ثالثها: إن اللّه تعالى أخبر في الآية الشريفة بانه لم يقع مثل ذلك من البشر الموصوف بما في الآية الكريمة، و هو أصدق القائلين.
الثاني:
إنما قدم سبحانه الكتاب على غيره لكثرة أهميته فانه أصل المعارف الإلهية، و الاحكام الربوبية، و مكارم الأخلاق، و أن غيره يرجع اليه، كما أن النبوة تدعو اليه.
و يمكن أن يراد به الأعم مما كتبه اللّه تعالى على عباده من المعارف الحقة، فيشمل السنة المقدسة أيضا.
الثالث:
إنما ذكر سبحانه هذه الأمور الثلاثة لبيان أن من اتصف بها قد فاز بالتربية الإلهية، و نال جميع الكمالات الانسانية و لبيان مراتب الأنبياء، فمنهم من نال جميع هذه الأمور، و منهم من نال بعضها على اختلاف مراتبهم، فيدخل فيهم العلماء العاملون بشريعة خاتم الأنبياء الذين قال فيهم نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل» و الآية بمفهومها تدل على أن كل من لم يتصف بمفاد واحد منها ليس له من البشرية حظ بل يكون أقرب إلى الحيوانات ذوات الاشعار و الأوبار.
الرابع:
إنما عبر سبحانه بقوله: «أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ» لبيان أن هذا الإعطاء قد تمكن في الفرد الممنوح له هذه النعم، و أثرت فيه، فلا يمكن أن يدعي الربوبية و الألوهية، فان التربية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها.
الخامس:
إنما قدم سبحانه التعليم و التعلم لشرفهما و ان بهما يحظي الإنسان المقامات العالية. كما أن الآية الشريفة تشير إلى أن شأن الأنبياء إنما هو الإرشاد و الدعوة إلى الحق.
السادس:
يستفاد من قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ» التعريض بالنصارى من أهل الكتاب باعتبار انهم كانوا يدرسون الكتاب السماوي و يعلمونه‏ و لكنهم حرّفوه و غيّروا ما فيه من الاحكام، و انما كان الواجب عليهم أن يكونوا ربانيين بالتعليم و الدراسة لا يقولون في عيسى بما ينافي عبوديته، و لا يأتون بما يخالف الاحكام الإلهية. و قد حكي اللّه تعالى ذلك عنهم في مواضع متفرقة، و صرحت بها كتبهم المقدسة، راجع أناجيل يوحنا: 33- 36. و متى 22: 41- 46. و مرقس 13 35- 38. و لوقا: 41- 45 و غيرها تجد الشي‏ء الكثير، و في بعض الفقرات: أن عيسى أخبرهم انه ابنه و كلمته. و قد أكذبهم عز و جل و أبطل دعاويهم و انذرهم عليها بأشد العذاب و ذكر أن عيسى و غيره من الأنبياء انما هم كسائر البشر و قد بعثهم عز و جل ليرشدوا الناس إلى الكمال بدعوتهم إلى التوحيد، و يعلمونهم الكتاب و الحكمة ليكونوا ربانيين حكماء صلحاء، ليسعدوا في دنياهم و آخرتهم.
السابع:
يستفاد من قوله تعالى: «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أن الأنبياء الذين أوتوا الكتاب و الحكم و النبوة لا يأمرون بأي نحو من أنحاء الكفر سواء في العبودية، أو في الخلق، أو في الحكم. كما انهم مبرأون عنه.
الثامن:
يدل قوله تعالى: «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» على أن الكفر لا يمكن اجتماعه مع الإسلام اعتقادا و عملا، فانه أعظم رادع عن الكفر.
التاسع:
تدل الآيات الشريفة على ذم العلو و الاستعلاء من أي فرد تحقق، و لكن يمكن أن يقال أن العلو إما أن يكون من الحق و بالحق، و هو الحاصل من الأنبياء، و الأولياء الذين فضلهم اللّه تعالى على غيرهم. و إما أن يكون بالباطل و في غير الحق، كاستعلاء الناس بعضهم على بعض لأغراض وهمية خيالية، و هذا هو المذموم غاية الذم و لا منشأ له إلا الغرور و الغفلة عن اللّه تعالى، و هو يوجب البعد عن‏ الواقع و الابتعاد عن الحق، و له اسباب عديدة و اثار خطيرة، و قد عالج الإسلام هذه الرذيلة، و بين اسبابها و آثارها الخطيرة الفردية و الاجتماعية الدنيوية و الأخروية. و ذكر ما يوجب علاج هذا المرض النفسي، و منه ما ورد في المأثور انه إذا مدح أحد آخر ينبغي للممدوح أن يقول: اللهم اجعلني فوق ما يقولون و اغفر لي ما لا يعلمون. و الجدير بالإنسان أن يعمل الطاعات و يجتنب عن المعاصي و الموبقات ليفوز بثناء اللّه تعالى فانه الغاية القصوى، و السعادة الحقيقة، و مع وجوده يشكر و مع عدمه يستمد العون منه عز و جل.
العاشر:
انما قال تعالى: «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» لبيان أن تعليم الكتاب و تدريسه لا بد أن يكون عن معرفة و كمال حتى يكون قابلا لأن يكون ربانيا، فلا يصلح لكل أحد تعليم الكتاب الكريم و السنة الشريفة و تدريسهما إلا إذا كان جامعا للشرائط منها العمل بما علم، و التخلق بمكارم الأخلاق، و يدل على ذلك جملة من الأحاديث.
و انما عبرّ سبحانه ب (تعلّمون) دون غيره للدلالة على ما ذكرناه، فان التعليم و التدريس لا بد ان يكونان عن تعلم و فهم و اخلاص.

في تفسير القمي في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ- الآية. إن عيسى لم يقل للناس إني خلقتكم‏.
أقول: قد ذكرنا في التفسير أن ذلك ممتنع عن الأنبياء، و في نفس الحديث ما يدل عليه أيضا فان قوله: إني خلقتكم. الاحتجاج على ذلك و يمكن ان يستفاد ذلك من نفس الآية الشريفة لما فيها من التعريض بالنصارى.
و في العيون عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: «لا ترفعوني فوق حقي، فان اللّه تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا، ثم تلا هذه الآية».
أقول: قد ورد في مضمون ذلك روايات كثيرة، و في بعضها قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «هلك فيّ اثنان محب غال، و مبغض قال». و يظهر من جميع ذلك أن ما يفعله بعض الناس في شأن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و الائمة الهداة (عليهم السلام) داخل في مضمون هذه الأحاديث.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً- الآية». قال: كان قوم يعبدون الملائكة، و قوم من النصارى زعموا أن عيسى رب، و أن اليهود قالوا: عزير ابن اللّه فقال اللّه: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً- الآية».
أقول: تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير.
و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي- الآية. نزلت في نصارى نجران حين عبدوا عيسى. و قوله: (لبشر) يعني عيسى. أن يؤتيه اللّه الكتاب، يعني الإنجيل.
أقول: هذا بيان لبعض المصاديق، و إلا فالآية الشريفة عامة تشمل جميع الأنبياء.
و في الدر المنثور عن ابن عباس في نفس الآية الشريفة: أن أبا رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، و النصارى من أهل نجران عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و دعاهم إلى الإسلام قال: أ تريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد يا محمد منا؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، و لا بذلك أمرني، فانزل اللّه من قولهما: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ- الآية.
و في أسباب النزول عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أ فلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لاحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيكم و اعرفوا الحق لأهله، فانزل اللّه هذه الآية.
أقول: أن جميع ذلك من المصاديق و الآية عامة تشمل جميع ما ذكر في اسباب نزول هذه الآية الشريفة.

من المعلوم انه لا كمال أرفع و أجل و أعلى من العبودية للّه تعالى، فهي فوق الرسالة و النبوة، و الولاية، بل بها تنال تلك المقامات الرفيعة، و الدرجات العالية و لا غاية لها إلا جماله و جلاله جلّت عظمته و بما انهما غير متناهيين، فلا يعقل التناهي فيها أيضا، و كيف‏ جوهرة لا يعلم كنهها إلا اللّه سبحانه. و لكن آثارها عظيمة، فهي التي تهي‏ء العبد لنيل الكمالات الواقعية، و السعادة الحقيقة، و العبد يكون مظهرا من مظاهر تجلي اللّه تعالى، و تظهر آثار العبودية على جميع جوارحه، و أفعاله، و أقواله و لحظاته، فلا يخرج لحظة عن طور العبودية و زيّ الرقية، و لا يعقل لمثل هذا العبد أن يدعو إلى غير اللّه تعالى و يتخذ غيره عز و جل ربا، فانه خروج عن الفطرة و استبدال الطيب بالخبيث الذي هو قبيح عقلا.
و الآية الشريفة ترشد الناس إلى نبذ كل أنحاء الأنانية، و تدعو إلى العبودية الحقة، و التوجه إلى اللّه الواحد الأحد، و الاعراض عن كل ما يبعد عن ذكر اللّه عز و جل، و تحرضّهم إلى نيل الكمالات بالتعلم و التعليم و دراسة المعارف الحقة الإلهية، و تبين أن الغرض الأقصى من سعي الإنسان في الدنيا أن يكون ربانيا قد تخلّق بأخلاق اللّه عز و جل و زكيّ نفسه بالتخلية عن الرذائل، و التحلية بالفضائل و مكارم الأخلاق ليستعد بذلك أن يكون معلّما للمعارف الإلهية، و مرشدا إلهيا، و داعيا إلى كتاب اللّه تعالى، و لا ينال هذه الدرجة إلا بتهذيب النفس و تزكيتها، و التخلق بمكارم الأخلاق، و تعلم المعارف الحقة و تعليمها فلا يليق بهذا المنصب كل متطاول ليس له حظ من ذلك، فان الأغيار لا يمكنهم الوصول و التقرب إلى دار الحبيب إلا بعد الجهاد مع النفس و التزين بما يرضي المحبوب. و على مرشدي الامة و طلاب العلم لا سيما علوم الدين أن يزكوا أنفسهم أولا و يتخلقوا بمكارم الأخلاق، و أن يكونوا داعين إلى اللّه تعالى علما و عملا بل يكونوا داعين إلى اللّه بعملهم اكثر من دعوتهم اليه بعلمهم، و لا يخرجوا عن زي العبودية أبدا.

المعبود الحقيقي لا يعقل التعدد فيه بوجه من الوجوه، لأنه عبارة عن الكمال المطلق المسلوب عنه جميع النواقص الواقعية و الإدراكية، و هو الربوبية العظمى بالنسبة إلى جميع الموجودات تدبيرا و علما و حكمة فلا يعقل التعدد في مثل هذه الحقيقة، لأن التعدد فيها نقص، و المفروض انتفاء جميع النواقص عنه. و قد أكد سبحانه و تعالى وحدته مطلقا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ببراهين متعددة، و هو أساس نظام الشرائع السماوية، و جميع ما افتعل في التعدد انما حصل من مغالطات الوهم و الآية الشريفة بأسلوبها الواضح المتين تبين امتناع التعدد في المعبود ببراهين ثلاثة ذكرناها في البحث الدلالي، و المعروف بين الفلاسفة أن بسيط الحقيقة من كل حيثية و جهة لا يعقل الاثنينية و التغاير فيه، لأنه خلف لفرض البساطة، لأن معنى بساطته من كل جهة انه مع الكل، قال تعالى: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الحديد- ٤ و قال تعالى: «نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» ق- ۱٦. فكل فرض اثنينية يكون خلاف للمعية المطلقة، و لا يعني بالمعية الحلول الذي يدعيه النصارى، و لا وحدة الوجود و الموجود التي يذهب إليها بعض المتصوفة، بل المعية القيومية، كما فسرها علي (عليه السلام) بقوله: «خارج عن الأشياء لا بالمغايرة و المزايلة، و داخل في الأشياء لا بالممازجة» فهو الحي القيوم باحاطة قيومية على جميع ما سواه، و في‏.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"