1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات ۷٥ الى ۷۸

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (۷٥) بَلى‏ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى‏ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (۷٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)


بعد أن بين سبحانه و تعالى بعض احوال اهل الكتاب بما يثبت غرورهم و تكبرهم على الحق، و أظهر أخلاقهم الفاسدة و شرح معايبهم ذكر هنا مظهرا من مظاهر غرورهم و هو نقض العهد و خيانة الامانة فان بعض اهل الكتاب أباحوا لأنفسهم استحلال أموال المسلمين اغترارا منهم بالعصبية الحمقاء، و قالوا بأن اللّه تعالى خصهم بالكرامة و حباهم بالنعمة حيث جعل فيهم النبوة و الملك، و أن غيرهم لا حظ لهم منها و نسبوهم الى الأمية، و كان من آثار هذا الاعتقاد الفاسد أنهم استحلوا نقض العهد مع غيرهم، و أباحوا لأنفسهم سلب حقوق الناس، و نهب أموالهم، و الخيانة معهم، و أرادوا من ذلك حصر المؤمنين و الضغط عليهم بالحرب الاقتصادية عليهم و لكنهم احتفظوا لأنفسهم هذه الحقوق، و حظروا نقض العهود في ما بينهم، و قد أوعدهم سبحانه و تعالى سوء الخاتمة، و أشد العذاب و الحرمان عن رحمته عز و جل جزاء كذبهم و افترائهم على اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ.
تأمنه من الايتمان. و القنطار هو المال الكثير المعبر عنه في الروايات‏
بمل‏ء مسك ثور، و الكثرة من الأمور النسبية تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، و لعل اختلاف العلماء في معناه ناشئ من ذلك، و تقدم بعض الكلام فيه في قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» آل عمران- ۱٤.
و الدينار لفظ أعجمي، و يلؤه بدل عن نون، و أصله دنّار، فأبدل أول النونين ياء لوقوعه بعد كسرة، و جمعه دنانير، و هو مثقال شرعي من الذهب المسكوك و يساوي 25 و 4 غرام من الذهب وزنا في هذه الأعصار. و المراد من القنطار و الدينار في المقام المعنى الكنائي و هو المال الكثير، و القليل.
و المعنى إن من أهل الكتاب من لا يخون في الأمانة و لو كانت كثيرة و منهم من يخونها و إن كانت قليلة.
و الآية تبين العادة التي جرت عليها الطائفتان من أهل الكتاب فلا تختص بمورد خاص و أفراد معينين.
و الترديد باعتبار اختلاف أهل الكتاب في حفظ الامانة و رعاية العهد، و انهم على طرفي نقيض، فان بعض أهل الكتاب يحفظ الأمانات و يراعى العهود مطلقا بلا فرق بين أن تكون الامانة من أهل ملتهم، أو تكون من غيرهم، و سواء كانت حقيرة أو خطيرة، و منهم على نقيض ذلك لا يحفظ العهد، و لا يؤدي الامانة إن أؤتمن عليها مطلقا.
و انما قطع سبحانه هذه الآية عن الآيات السابقة، و وضع الظاهر موضع المضمر و قال تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» دون «و منهم» لبيان أن هذه الطائفة التي تحفظ الأمانات غير الطائفة السابقة التي تخادع المؤمنين و تكيدهم بقولها «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ‏ النَّهارِ» و أن الطائفة الخائنة هي تلك الطائفة المغرورة، و هي اليهود- على ما عرفت سابقا- التي تزعم أن اللّه تعالى فضلهم على سائر خلقه، و أن لا سبيل عليها من غيرها من سائر الملل و النحل، فيجوز لليهودي أكل أموال المسلمين، و نقض كل عهد إلهي و إنساني معه، بل لا حقوق و لا حرمة له، و نسبوا ذلك الى كتبهم المقدسة، و هذا هو التحريف الذي عرفت به اليهود، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم بذلك، و انما أمرهم أحبارهم و رهبانهم بها بعد ترويج النزعة العصبية بين اليهود، و المغالاة في أنهم شعب اللّه المختار، فاستولى عليهم روح البغي و الفساد غرورا.
قوله تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً.
استثناء من عموم الأوقات أو الأحوال. و دمت بضم الدال من دام يدوم، كقام يقوم. و قرئ بكسر الدال من دام يدام، كخاف يخاف. و يراد من هذه الجملة المعنى المجازي و هو الكناية عن شدة الإلحاح في التقاضي و الوفاء، فان قيام المطالب على رأس المديون، و ملازمته له فيه المبالغة في الاقتضاء و المطالبة.
و المعنى انه لا يؤدي الأمانة التي ائتمنته إياها إلا إذا ألجئته إلى ذلك بالمطالبة و الاقتضاء.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.
الأميّ من لا يقرأ و لا يكتب. قيل: المراد من الأميين في المقام العرب باعتبار أن الغالب منهم لا يقرءون و لا يكتبون. و قيل: يحتمل أن يكون المراد منهم أتباع الرسول النبي الأمي (صلى اللّه عليه و آله) و قيل: المراد منهم من عدا بني إسرائيل، فإنهم ينسونهم إلى الأمة أو الأمم.
و كيف كان فان هذه التسمية التي وردت في القرآن أصلها ما ورد في كتب اليهود من تسمية غير بني إسرائيل بالأممي، و هي من الألقاب التي أرادوا بها تحقير غيرهم، و الحط من كرامتهم باعتبار انهم بمنزلة البهائم غير مؤهلين للمخاطبة و انهم لا حرمة لهم يباح سرقة أموالهم، و الخديعة معهم، و الكذب عليهم، و هتك اعراضهم، و هدر كرامتهم و حرمانهم من جميع الاحكام الاجتماعية و العقلية. و قد أعرض سبحانه و تعالى عن ما ورد في كتبهم إبطالا له، و أوجز سبحانه جميع تلك الجرائم و الموبقات في كلمة واحدة، و هي «ليس علينا في الأميين سبيل».
و اسم الإشارة (ذلك) يرجع الى ما هو المدلول عليه في الآية السابقة و هو عدم أداء الامانة و الخيانة فيها. و هذه هي حال الطائفة التي ذكرها عز و جل في قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ». فيكون ذكر الطائفة الأخرى الحافظة للعهود، و المؤدية للأمانات لبيان اغترار الطائفة الأولى، و بعدهم عن الحقيقة و هم يعلمون أن اللّه تعالى لا يأمر بالفحشاء و المنكر، و لا يرضى بأفعالهم القبيحة.
و ضمير الجمع في (بأنهم قالوا) راجع إلى أفراد هذه الطائفة الخؤونة، و كذلك الضمائر في الآية الكريمة اللاحقة.
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
دليل على انهم كانوا ينسبون أقوالهم و أفعالهم الى اللّه تعالى، و قد ذكرنا آنفا أنهم كانوا يدعون أن ذلك في كتابهم، و يجعلونها من شريعة السماء. و قد أبطل سبحانه دعواهم، و أثبت أن الكذب من عادتهم. و هم يعلمون أن ذلك تشريع باطل، و افتراء على اللّه عز و جل، و هو لا يأمر بالفحشاء و المنكر، بل إن كتبهم المقدسة تأمرهم بالصدق في أقوالهم و أفعالهم، و تنهاهم عن الخيانة، و الغدر و الكذب، مضافا إلى أن جميع ذلك من الاحكام العقلية التي استقل العقل بحسنها، و يلزمهم الشرع بإتيانها.
قوله تعالى: بَلى‏ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى‏.
ردّ على مزاعمهم، و تكذيب لدعواهم، و اثبات لما أراده اللّه تعالى من خلقه، و هو الحق. و أوفى من الإيفاء و هو العطاء و البذل تاما من غير زيادة و لا نقيصة. و وفاء العهد هو حفظه، و مراعاته و العمل به. و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، فقد ورد فيه: و في، و أوف، و أوفوا، و الموفون.
و العهد عبارة عن الالتزام بشي‏ء فيجب الوفاء به عقلا و شرعا، بلا فرق فيه بين عهود اللّه تعالى مع خلقه، أو عهود بعضهم مع بعض، كما لا فرق بين العهود الخاصة بين بني إسرائيل، و العهود العامة بين جميع الناس. و المراد بالعهود في المقام ما عاهده اللّه تعالى على عباده بواسطة أنبيائه من الإيمان به، و عبادته، و التصديق برسله و العمل بما أنزله عز و جل من مكارم الأخلاق و غيرها.
و على هذا لا فرق بين رجوع الضمير في (عهده) إلى (من) المتقدمة، أو اللّه في قوله تعالى: «وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ».
إذ العهود الواقعة بين الناس من عهد اللّه تعالى، يجب الوفاء بها شرعا و يحرم نقضها، و الغدر بها.
و المراد من (اتقى) ملازمة تلك العهود و مراعاتها عملا و إظهارها خارجا، و ترك الخيانة فيها و الغدر بها.
و المعنى: إنكم- يا أهل الكتاب- أخطأتم في دعواكم بل السبيل ثابت عليكم في جميع ما نفيتم عنه السبيل، و أن من أوفى بعهده، و أتقى اللّه تعالى في دينه، و لم يغدر و لم يخن في عهوده و لم يخالفه، فان اللّه يحب المتقين.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
قضية عقلية مشتملة على المعلول و علته، و هي تبين أن من اوفى بعهد اللّه تعالى، و اتقاه عز و جل بالطاعة و الانقياد له، و عدم مخالفته في أمر من الأمور يكون من المتقين، و اللّه يحب المتقين.
و محبة اللّه تعالى هي غاية الكمالات الانسانية، بل لا يتصور فوقها كمال، و هي السعادة القصوى التي تعمر بها الدنيا، و تصلح الآخرة و هي الكرامة الربانية التي لا يمكن أن ينالها إلا من جاهد فيه حق جهاده و قد قرر سبحانه إنها تحصل بالوفاء بعهده تعالى، و التقوى في الدين التي هي الحصن الذي يمنع التعرض لسخطه تعالى و غضبه، و الوقوع في محارمه و مخالفته. و لا يمكن أن يحظي بمحبته كل مدع و محتال.
و انما ذكر سبحانه المتقين لبيان أن العلة للمحبة هي التقوى. كما أن فيه التعرض لأهل الكتاب بأنهم ليسوا على التقوى.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.
بعد ما ذكر سبحانه أن محبة اللّه تعالى تختص بمن أوفى بعهده مع اللّه تعالى، و اتقاه في دينه. بيّن تعالى في هذه الآية أهل الغدر و الخيانة، و أنهم لا كرامة لهم حتى يستحقوا محبة اللّه، و ذكر جزاءهم و العلة في استحقاقهم له، و هم الذين حرّموا أنفسهم من المحبة الإلهية جزاء لأفعالهم القبيحة، و هي الغدر و نقض عهد اللّه عز و جل، و ترك التقوى.
و المراد بالثمن القليل متاع الدنيا، فان الدنيا و ما فيها بالنسبة إلى محبة اللّه و كرامته و الايمان به قليل، كقلة ما هو فان بالنسبة إلى ما هو أبدي دائم، و إن كان زمان الفاني طويلا جدا.
و الاشتراء هو البيع، و يراد به مطلق المبادلة، أي يبدل الايمان به عز و جل و الوفاء بعهده، و الجزاء الأوفى الذي أعدّه اللّه تعالى لمن وفى و اتقى بالثمن القليل و هو متاع الدنيا.
قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
الخلاق النصيب و الحظ. و أولئك إشارة الى الطائفة الخؤونة بالعهد الناقضة للميثاق. و إنما أشار إليهم بالبعيد إيماء لبعدها عن قربه عز و جل بسبب نكث عهد اللّه و استبداله بالأغراض الموهومة، بخلاف الطائفة الاخرى التي آثرت طاعة اللّه عز و جل فوفت بعهده تعالى فإنهم مقربون بحبه تعالى لهم، لأنهم تقربوا اليه عز و جل بالتقوى و الوفاء بالعهد و المراد بالآخرة الدار الآخرة و يوم المعاد، اكتفاء بذكر الوصف عن الموصوف.
اي لا نصيب لهم من نعيمها، لأنهم آثروا نعيم الدنيا القليل الزائل على الآخرة و نعيمها الدائم الباقي.
قوله تعالى: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ.
استهانة بهم، لتوغلهم في سخطه تعالى و غضبه عز و جل.
قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
نظر عطف و رحمة في يوم القيامة.
و هذان الأمران كناية عن الإعراض عنهم و الغضب عليهم و البعد عنهم، لعدم حب اللّه تعالى لهم الذي كرّم به عباده الموفين بعهده المتقين في دينه.
و في تخصيص هذين الأمرين لبيان منتهى الغضب، و عدم الاعتناء في يوم يشتد احتياج الإنسان إلى تكليم اللّه و نظره اليه، لعظم محنته و بانتفائهما لا يبقى له أمل و رجاء في رفع الشدائد و الأهوال.
قوله تعالى: وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
التزكية التنمية و التطهير و التخليص عن كل ما يشينه. اي و لا يدخلهم في عداد الأولياء ليرفع عنهم أوزارهم بالمغفرة و العفو. و لهم عذاب مولم. و ظاهر السياق أن التزكية و العذاب لا يختصان بالآخرة بل يعمان الدنيا أيضا.
قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ.
مادة (لوي) تدل على الفتل، و الطي، و الإخفاء. و الجامع في ذلك كله الميل، قال تعالى: «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» المنافقون- ٥.
أي أمالوا رؤوسهم و المراد ب (لي ألسنتهم) صرف الكلام عن معناه إما بالتحريف، أو بالقرائة بلحن خاص. و قد بين سبحانه و تعالى ذلك في موضع آخر قال عز و جل: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ» النساء- ٤٦. و يستفاد من هذه الآية أن المراد من الفريق في المقام هم اليهود خاصة.
قوله تعالى: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ.
الحسبان هو الظن أي أن اللّي كان لأجل الإيهام عليكم- أيّها المؤمنون- بأن الكلام يشابه كلام اللّه تعالى و ما هو من كلام اللّه.
و انما كرر سبحانه الكتاب لدفع اللبس، فان الأول يراد به الكتاب المحرف، و الثاني كتاب اللّه المنزل، و كذلك الثالث، و انما وضع الظاهر موضع المضمر فيه لبيان أن كتاب اللّه أرفع منزلة من أن يشتمل على المفتريات و الأباطيل، و أعظم شأنا من أن يندرس بالتحريف.
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
بيان لشدة غوايتهم، و انغمارهم في الغرور. أي لا يكتفون بالتعريض و الإيهام فقط، بل يصرحون بأن ما حرفوه هو من عند اللّه نازل منه عز و جل.
قوله تعالى: وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
تكذيب لدعواهم، و نفي لكون ما لووا ألسنتهم فيه نازلا من عنده عز و جل.
و انما كرر لفظ الجلالة لبيان عظيم الجرأة على اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال.
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
تأكيد لكذبهم و افترائهم على اللّه. و زيادة في التشنيع عليهم، و لبيان أن تحريفهم للكتاب كان عن عمد و إصرار منهم، و لنفي جميع انواع التحريف و اقسامه تعريضا و تلويحا و تصريحا، و فيه الإشارة إلى أن الكذب من دأبهم و عادتهم.

تدل الآيات الشريفة على أمور:
الأول:
يدل قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ‏
بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ …» على وجود الاختلاف في طوائف اهل الكتاب في الوفاء بالعهد و حفظ الأمانة و أدائها. و السبب في ذلك ما ذكره عز و جل في ذيل الآية الشريفة: «بَلى‏ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى‏»، فان الوفاء بعهد اللّه و التقوى في دينه يقتضي الامانة في اموال الناس و نبذ الخيانة فيها، و تختلف درجات الإيمان حسب تفاوت درجات الوفاء بالعهد و التقوى.
فيستفاد من هذه الآيات الشريفة أن أداء الامانة، و الوفاء بالعهد إنما يكونان من أجزاء الإيمان و لا يتحقق إلا بهما.
و من ذلك يظهر أن ما ورد في هذه الآيات لا يختص باهل الكتاب بل ينطبق على المسلمين إذا نقضوا العهد و خانوا الامانة و يترتب على ذلك جميع الآثار الدنيوية و الاخروية ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضى (بالكسر)، و هذا حكم عقلي غير قابل للتخلف و الاختلاف و قد وردت أحاديث كثيرة عن المعصومين (عليهم السلام) تدل على ما ذكرناه.
الثاني:
يستفاد من قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» انحصار جرائم اليهود و الموبقات التي ارتكبوها في حق أنفسهم و بالنسبة إلى غيرهم في الغرور الذي هو أم المفاسد و الخبائث الخلقية و الدينية، و يتشعب منه التكبر على سائر الخلق و الظلم بالنسبة إلى العباد، و تحقير الضعيف، و عدم الاعتناء بالفقير، و الكذب على اللّه و على الناس إلى غير ذلك من المفاسد، و قد كذّبهم اللّه تعالى و شنع عليهم، و أوعدهم العذاب الشديد.
الثالث:
إنما ضرب سبحانه و تعالى المثل بالقنطار و الدينار لكثرة اهتمام الناس بالأموال، و لمعلومية الامانة و الخيانة فيها عندهم، و هما مثالان للقلة و الكثرة، و انما بدأ بالطائفة الأولى الأمينة لشرف الأمانة و عظم أمرها.
الرابع:
يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» على أن التقوى في كل دين هي الأساس في الالتزام باحكام اللّه تعالى و العمل بدينه، و هي السبب لتقرب العبد إلى اللّه عز و جل، و الدخول في محبته. كما انها الدرع الحصين الذي يمنع الإنسان عن الوقوع في مخالفة اللّه سبحانه و الدخول في غضبه، و البعد عنه.
الخامس:
يدل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» على أن كل ما يكون بإزاء الايمان، و يعوض عنه و بعهد اللّه يكون قليلا، كائنا ما كان في الرفعة، و العظمة، و الكثرة بل و لو كانت الدنيا و ما فيها، لشرف الايمان و عهد اللّه و عظم الجزاء الذي أعدّه اللّه تعالى لهما.
السادس:
يستفاد من تكرار الوعيد و اختلاف أنواعه عظم الذنب و بشاعة الجريمة، فان شدة العذاب تدل على عظم موجبه. و هو يدل على التشديد في الوفاء بالعهد و أداء الامانة، و هو كذلك فان بهما ينتظم النظام الاعتقادي و الاجتماعي للإنسان و بذهابهما يفسد النظام و تكثر الجرائم و تسود الخديعة و الابتزاز، و يذهب المعروف بل يصير منكرا، فلا يبقى خلق كريم و لا معيار اخلاقي لتمييز مكارم الأخلاق عن سفاسفها.
و يمكن أن يكون تعدد الوعيد لأجل تعدد موجباته التي فصلها عز و جل في الآيات السابقة من حبهم لإضلال المؤمنين، و كفرهم بآيات اللّه، و تلبيس الحق بالباطل، و كتمان الحق و من خديعتهم بالمؤمنين، و خيانتهم في الأمانات، فتكون هذه الآية الشريفة كالنتيجة لتلك الآيات السابقة.

في تفسير القمي في قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» قال: فان اليهود قالوا يحلّ لنا أن نأخذ مال الأميين. و الأمييون الذين ليس معهم كتاب.
أقول: لا بأس بتفسير الأميين بذلك، فانه تفسير لبعض مصاديق الأميين، و قد تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الكلمة، فراجع.
و في مجمع البيان في قوله تعالى أيضا عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: «كذب أعداء اللّه ما من شي‏ء كان في الجاهلية ألا و هو تحت قدمي إلا الأمانة، فإنها مؤداة الى البر و الفاجر».
أقول: هذا الحصر إضافي، و إلا فان جملة مما كان في الجاهلية قررتها الشريعة المقدسة، كما هو المعروف. و الحديث في مقام نفي مقالة اليهود و دعاويهم الباطلة لا في مقام الحصر الحقيقي.
و في الكافي في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ- الآية-» عن الباقر (عليه السلام) قال: «أنزل في العهد: إن الذين يشترون بعهد اللّه و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم اللّه و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم. و الخلاق النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شي‏ء يدخل الجنة».
أقول: ما ورد في الحديث دليل عقلي على عدم دخولهم الجنة».
و يؤيده قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة، فمن لم يزرع شيئا لم يحصد غدا».
و في توحيد الصدوق عن أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) في‏ قوله تعالى: «وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ». يعني لا يصيبهم بخير.
و في أمالي الشيخ باسناده عن عدي بن عدي عن أبيه. قال: اختصم امرؤ القيس و رجل من حضر موت إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في أرض. فقال: ألك بينة؟ قال. لا، قال: فبيمينه، قال: إذن و اللّه يذهب بأرضي. قال (صلى اللّه عليه و آله) إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر اللّه اليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب أليم. قال: ففزع الرجل و ردّها اليه».
و في اسباب النزول للواحدي، و الدر المنثور في الآية الشريفة.
قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «من حلف على يمين و هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه و هو غضبان، فقال للأشعث بن قيس: فىّ و اللّه نزلت كان بيني و بين رجل من اليهود ارض فجحدني، فقدمته الى النبي (صلى اللّه عليه و آله). فقال:
ألك بينة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: أ تحلف؟ فقلت: يا رسول اللّه إذن يحلف فيذهب بمالي. فانزل اللّه عز و جل: إن الذين يشترون بعهد اللّه و أيمانهم ثمنا قليلا- الآية-».
أقول: يمكن أن يكون مورد النزول واحدا و هو اليمين الكاذبة و ما ذكر في شأن النزول المتعارضة يكون من باب التطبيق، و حينئذ يكون كل من اشترى بعهد من عهود اللّه تعالى أي عهد كان، فقد اشترى بعهد اللّه ثمنا قليلا، و قد ذكرنا أن جميع احكام اللّه تعالى عهوده بالنسبة إلى عباده.

الآيات الشريفة التي وردت في أحوال أهل الكتاب- ذات المقاطع الثلاثة- هي من أدق ما ورد في القرآن الكريم في وصف أهل الكتاب في الحال و المآل، فقد استوفت جميع الجوانب الظاهرة و الخفية التي لم يطلع عليها أحد إلا اللّه تعالى، و تبين ما تطويه ضمائرهم، و ما يختلج في نفوسهم بالنسبة إلى الرسول و المؤمنين و أصل الإيمان، و لا أظن أحدا يمكنه- مهما بلغ به الأمر- أن يصف عدوا بمثل ما وصف به القرآن الكريم أهل الكتاب، فقد ذكر اللّه تعالى في هذه الآيات جميع الوسائل و السبل التي تشبث بها أهل الكتاب في الهدم و التخريب و التشويه، و هي من ملاحم القرآن الكريم التي ظهرت آثارها من حين نزوله و بلغت أعلى مراتبها في هذه الأعصار. و هي تدل على أمور لا بد من ملاحظتها و البحث حولها، و هي:
الاول: أن أهل الكتاب من أعداء الإسلام و المسلمين، بل من ألد أعدائهم.
الثاني: انهم يضمرون في نفوسهم الكيد بالمسلمين و خديعتهم، و لا يدعون فرصة يمكن أن يستفيدوا منها في تحقيق نواياهم.
الثالث: أنهم يخادعون المؤمنين و يشنون الحرب النفسية عليهم، و هي من أهم السبل في زعزعة الإيمان، و قد عرفنا القرآن الكريم بهذه الخديعة قبل استعمالها في عصرنا الحاضر بأشد أنواعها و وسائلها و حذر المسلمين من آثارها.
الرابع: الحرب الاقتصادية بالاستيلاء على اموال المسلمين و وسائل‏ عيشهم، و جميع ما يمكن أن يتمتعوا بها في حياتهم.
الخامس: إثارة الفتن و تشويه سمعة الرسالة و المؤمنين، و هما الحرب الدعائية التي بلغت أوجها في العصر الحاضر، و بيّن سبحانه و تعالى مخاطر هذه الطريقة، و طرق التحذر منها.
السادس: و هو من أهم الأمور التي أكد عليه سبحانه و تعالى في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، و حذّر المؤمنين منه، و بين كذب أهل الكتاب و أوعد عليه أشد العذاب، لعلمه عز و جل بشدة تأثير هذا الأمر في الناس، و هو هدم الدين بالدين، أو التستر به في تحقيق جرائمهم و نواياهم الفاسدة، و هو من أشد الوسائل التي تمسك بها أهل الكتاب لإظهار الفتن، و قتل النفوس أو سلب الأموال، و هتك الاعراض و لا يمكن معرفة هذه الطريقة إلا بالرجوع إلى تعاليم القرآن الكريم، لشدة تأثيرها، و دقتها و عدم إمكان التمييز بينها و بين الطريق المستقيم.
و لا بد للمسلمين من الالتفات إلى جميع ما ذكرناه و التحذر من أهل الكتاب. و الرجوع إلى تعاليم الإسلام في التصدي لخدعهم و مقابلتهم فإنها السبيل الوحيد في رد مكائدهم، و يرشد إلى ذلك قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن الكريم- الحديث-». و يبين طريق التخلص من هذه الفتن.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"