1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات ٦4 الى ٦۸

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦۷) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦۸) 


بعد ما بين سبحانه و تعالى الحق في عيسى بن مريم و انه عبد اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل و ان مولده- على غرابته و تفرده- امر عادي‏
بالنسبة إلى قدرة الخالق و مشيئته. و نفى عنه الألوهية و اقام الحجة تلو الحجة على جميع ذلك و أمرهم بالإيمان و الاعراض عن كل ما يخالف ذلك، فانتهى بامره تعالى لنبيه بطلب المباهلة مع المنكرين الجاحدين.
أمر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة نبيه إلى دعوة اخرى لأهل الكتاب عامة لا سيما النصارى منهم و هي الدعوة إلى التوحيد و تأمرهم بالاتحاد و نبذ النفاق و التعرض لرد المسلمين عن هذه العقيدة و الكلمة الفاصلة الحقة.
و دعاهم إلى الحق الذي يجب اتباعه بمقتضى الفطرة و هو الذي اجتمع عليه جميع الكتب السماوية و الرسالات الإلهية و هو عبادة الإله الواحد و نبذ الشرك و الاعراض عن الاحتجاج العقيم المفضي إلى الاختلاف و التفرقة، فالنداء يقرب النفوس المستعدة إلى أقصى الكمالات الانسانية و يهديها إلى الألطاف الربوبية.
ثم بين تعالى كلمة الفصل في ابراهيم الذي يعتقد به جميع الأديان السماوية و اعترفت الأمم بالولاية له على دينها و الامام المفترض طاعته و قد بين القرآن الكريم ان اقرب الناس اليه هو الرسول الكريم و من يتبعه في العلم و العمل و ان جميعهم تحت ولايته عز و جل و رعايته.

قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ.
الخطاب صدر عن حقيقة العقل المجرد و قرره وحي السماء من ذروة العرش الأمجد إلى الرسول الكريم خاتم الأنبياء لأنه واسطة الفيض و انه جامع الشمل، و مجمع كل فضل و فضيلة، و الأحرى لغيره اتباعه في ما يدعو اليه.
و تعال اسم فعل و معناه هلمّ، كما مر في الآيات السابقة.
و الكلمة في المقام كناية عن الاجتماع و الاتحاد في العمل بمقتضى مدلول الكلمة و معناها و الإذعان بها و نظير ذلك شايع في الألسنة يقال:
اتفقت كلمة القوم على كذا. اي: اتحدوا و اجتمعوا على امر.
و سواء: يأتي إما مصدرا بمعنى متساوية أو بمعنى الوصف اي العدل و التساوي. و النظام الأحسن في الدارين يتقوم بالسواء و الاستواء في الحق و بالحق، و بهما تفتح أبواب البركات بأنواع الخيرات، و يتجلى حينئذ حقيقة الوحدانية المطلقة في العابد و المعبود فلا معبود غير اللّه و لا اله سواه و تضمحل الكثرة و الكلمات و يبقى النور الواحد المطلق في جميع الأقوال و الأفعال و المعتقدات و المراد من الكلمة هنا الكلمة المساوية بيننا و بينكم في الاعتقاد و العمل.
و كيف كان فاما ان يكون المراد من الكلمة هي كلمة التوحيد التي اتفقت الكتب الإلهية القرآن و الإنجيل و التوراة على الدعوة إليها فيكون قوله تعالى: «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً- الآية-» تفسيرا لهذه الكلمة المتفق عليها بما يزيل كل غموض و إبهام، و يكون لازمه هو الاعراض عما في أيديهم من الشرك و التثليث و الاتحاد و الحلول و جميع ما لعبت به أهواءهم من التفسير غير المرضى للكلمة.
و اما ان يكون المراد بها معنى الكلمة و الاعتقاد الحق و العمل بمعناها فيكون توصيفها بالسواء من باب الوصف بحال المتعلق لان الدعوة انما تكون إلى معنى الكلمة لأنفسها، و يدل عليه قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» فان الإسلام هو التوحيد العملي و ترك عبادة غير اللّه تعالى عملا.
و لكن الذي يهون الخطب ان القرآن لا يدعو إلى التوحيد القولي و الاعتقاد وحده من دون ان يتم ذلك بالعمل، كما انه لم يأمر به‏ إلا باعتبار كونه طريقا إلى العمل و موجبا إلى الخضوع و التسليم لأمر اللّه تعالى، قال عز و جل: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» آل عمران- 19، و قد ذكرنا في تفسير هذه الآية الشريفة ان الدين الذي يكون منهاجا للإنسان في الحياة الدنيا هو التسليم للّه و الخضوع له و العمل الصالح، و حينئذ لا فرق بين إرجاع السواء إلى نفس الكلمة فتكون توصيفا لنفسها أو ارجاعه إلى معنى الكلمة فيكون التوصيف توصيفا بحال المتعلق.
و على أي تقدير ففي الآية المباركة روعة الأسلوب و تتضمن من النكات البلاغية و لطائف العنايات ما لا يخفى.
و الآية تدعو الضمير الانساني و تخاطبه بخطاب رقيق لطيف و تدعوه إلى الرجوع إلى الفطرة و العمل بمقتضاها و نبذ الفرقة و الاختلاف، و تطلب منه ان لا يصده عن هذا الهدف السامي اختلاف الأهواء و تشعب الفرق.
قوله تعالى: بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ.
اي: نكون نحن و أنتم متساويين في الكلمة و حيث ان التساوي من الأمور الاضافية المتقومة بين الطرفين عبر سبحانه و تعالى بقوله: «بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ» لنبذ التفرقة و الاختلاف.
قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ.
بيان للكلمة السواء التي هي الحد الفاصل لكل ما يقال في معنى الكلمة التي تلاعبت به أهواء المضلين و زيغ المفسدين المبطلين. و هو الذي اتفقت عليه جميع الكتب الإلهية.
و الجملة تدعو إلى نبذ عبادة غير اللّه تعالى و أن لا يخضع العبد لغيره‏ عز و جل و يلازمه انحصار العبادة فيه عز و جل. كما أنها تشتمل على الحكم و علته فإنها تقرران الا له الذي تنحصر العبادة فيه لا بد ان يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال و منشأ لكل كمال في غيره، و هو ينحصر في اللّه تعالى فالواجب عبادته و الخضوع لديه و تسليم الأمر اليه لا الخضوع إلى غيره الذي هو قرين الحاجة و الفقر بذاته. و هذا هو الأمر الفطري الذي يدعو اليه الأنبياء و جميع المرسلين، و قد أكد ذلك القرآن في عدة آيات، و قد ذكرنا ما يتعلق به في تفسير قوله تعالى: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» البقرة- 213.
فالآية الشريفة مضافا إلى انها تدل على حصر الألوهية فيه عز و جل تشير إلى ما تقدم من الأمر الفطري الذي كان هو غرض الأنبياء في بعثهم و لذلك كانت عقيدة التوحيد تحريرا للبشرية كلها، و قد اتفق عليها هدف الأنبياء كلهم.
قوله تعالى: وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً.
النكرة في سياق النفي تدل على العموم اي نبذ كل انواع الشرك في الألوهية، و العبودية، و الخلق، و الفعل، بل كل ما ينسب اليه في الألوهية فتدل على نفي التثليث، و الاتحاد، و الحلول فلا يقال لشي‏ء مطلقا انه إله.
و الجملة تفيد التأكيد لما تضمنته الآية السابقة، و نفى الشرك‏ الحاصل من الاعتقاد بغير اللّه تعالى، لان الجملة الاولى تفيد نفي الشرك في العبادة و هذا غير كاف في قطع الشرك الحاصل من اعتقاد النبوة و الايمان بالرسل و النبيين و توهم الحلول و التثليث و نحو ذلك.
كما انها تدل على الخلوص في العبادة و الاعتقاد، فان الاعتقاد بعبادة اللّه تعالى لا يصير العبادة خالصة ما لم يطرح كل رأي و اعتقاد فيه شائبة الشرك و يؤكد ذلك النهي عن اتخاذ الأرباب من دون اللّه كما في الآية التالية.
قوله تعالى: وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الأرباب جمع الرب، و من دون اللّه اي من غير اللّه.
و الآية المباركة في مقام بيان السبب في النهي عن اتخاذ الشريك للّه تعالى. و هي تفيد التوحيد الفعلي، لان اللّه تعالى هو الرب يفعل ما يشاء بحكمته و يحكم ما يريد بعدله لا مبدل لحكمه، و ان العالم و جميع ما فيه مخلوق له عز و جل و مربوب له لا يمكن ان يخضع إلا لواحد له من الكمال و الجلال ما لا يوجد لغيره. فالربوبية من خصائص الألوهية و الشرك لا يجامعها بوجه من الوجوه.
فالآية الشريفة تنفي إطاعة الإنسان لمثله في التشريع و التصرفات من دون معارضة فان ذلك من اتخاذ الرب من دون اللّه لا يقدم عليه من يعترف بالربوبية للّه تعالى و يسلّم امره اليه عز و جل. و هي عامة تشمل أنحاء الاتخاذ. كما تشمل البعض جميع أنواعه و اقسامه بأي عنوان كان من الاعتبارات الموهومة في الربوبية أو الإطاعة في الاحكام و التشريع و التصرف في الأبدان من دون معارضة و انعكاس و يشير إلى بعض ذلك قوله تعالى في موضع آخر «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» التوبة- 21 و هو يختص بالاطاعة في معصية اللّه تعالى و تشريع الاحكام و التسلط على الأبدان و الأموال و الاعراض.
و في التعبير بالبعض إشارة إلى انهم من افراد البشر و من جنسنا و ان الفقر و الحاجة يلازمانه فلا ينبغي إطاعتهم من دون اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، و من هو مربوب في ذاته كيف يكون ربا لمثله و الخطاب عقلي قرره اللّه تعالى.
كما ان في قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إعلاما بان كل ما يتوهمه الإنسان في ذلك هو في مرتبة نازلة و موهومة لا حقيقة لها و لا يمكن ان تجتمع مع الاعتراف بالربوبية للّه تعالى.
و من ذلك يعرف ان الخطاب يصلح ان يكون لليهود و النصارى و المشركين و ان كان للنصارى الحظ الأوفر من هذه الموهومات و الكل منهي عنه.
و الآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الاجتماعية و هي ان افراد الإنسان أبعاض متساوية في جميع شؤون الحياة و انهم في الغرائز الانسانية و الطبيعة النوعية على حد سواء و ان كل ما يوجب الخروج عن هذه الحقيقة باطل في نظر الإسلام الا ما فضل اللّه تعالى به بعضهم على بعض و في غير ذلك منهي عنه لأنه تغيير لناموس الفطرة و هدم لكيان الانسانية و ضياع للهدف السامي الذي خلق لأجله الإنسان و هو التعاون في سبيل نيل الكمال و التزود من الفضائل و الأخلاق الحسنة، و ان الشعور بالتساوي يستدعي الحياة الهنيئة و الترابط الوثيق بين افراد المجتمع و التعاون الأكيد بينهم و به تنحل كثير من المشكلات و تزول الصعاب و هذا ما تؤكده آيات كثيرة في القرآن الكريم.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
اي فان اعرضوا عن الحق و ما تدعو اليه الفطرة المستقيمة في التوحيد و ما اتفقت عليه الكتب و الرسل فقد لزمتهم الحجة و الحق أوضح من ان تقام عليه الحجة و انما كان اعراضهم عنادا و لجاجا «وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا» النمل- ۱٤ و لذا امر سبحانه و تعالى نبيه و المؤمنين بإظهار ايمانهم و انهم على الدين الحق المرضي عند اللّه تعالى و هو الإسلام الذي هو ملازم للتوحيد في العبادة و الفعل.
و الشهادة منهم بأنهم مسلمون انما تكون في قولهم و عملهم في التوحيد فتكون تثبيتا لمقامهم و اعترافا منهم بالحق.
و في الآية الشريفة تعريض لهم بأنهم على غير الحق و ان المسلمين لا يبالون بأباطيل غيرهم مهما كلفهم الأمر.
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ.
خطاب لليهود و النصارى معا. و الجملة مقول القول في الآية السابقة، و هذه الآيات التي تليها مسوقة لبيان الدين الحق و الدعوة إلى الإسلام الذي له جذور من حين ابراهيم الخليل (عليه السلام).
و المحاجة في ابراهيم من اهل الكتاب هي ادعاء اهل كل دين انه كان منهم و على دينهم و تعصب كل طائفة على ذلك فزعمت اليهود انه كان يهوديا و النصارى انه كان نصرانيا و قد وقع بسبب ذلك النزاع بينهم و أكذبهم اللّه تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى: «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ» البقرة- ۱٤۰.
قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ.
احتجاج على اهل الكتاب بأن التوراة و الإنجيل نزلتا بعد ابراهيم فلا ريب ان اليهودية و النصرانية انما حدثتا بعد نزولهما. و في إتيان نزول التوراة و الإنجيل في الاحتجاج لبيان انه لو كان ابراهيم (عليه السلام) من احدى الطائفتين لكان كتاب كل طائفة يشير إلى ذلك و هذا لم يتحقق فلا يمكن ان يكون ابراهيم منهم.
قوله تعالى: أَ فَلا تَعْقِلُونَ.
اي: أ فلا تعقلون دحوض دعواكم و بطلانها و ان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر، و التعبير بذلك انما هو لبيان ان الأمر يكفي فيه ادنى تنبيه.
و في الآية الشريفة تجهيل لهم و اعلام لهم بان الحق في ابراهيم (عليه السلام) و انه كان على الدين الحنيف مسلما للّه عز و جل كما نبه عليه عز و جل في الآيات اللاحقة.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.
تثبيت لتكذيبهم و اظهار لجهلهم، و انما أتى سبحانه باسم الإشارة إما للتحقير و التنقيص، أو لبيان ان الخطاب و التوبيخ انما يكون إليكم و في انفسكم دون اسلافكم، أو لأن المحاجة كانت بينهم و في أنفسهم لا بينهم و بين المسلمين و إلا كان المسلمون طرفا في المحاجة الباطلة.
و المعنى: انكم حاججتم و تنازعتم في امور معلومة البطلان لديكم بالوجدان: منها: ما حكاه عز و جل آنفا عنهم و هو محاجتهم في كون ابراهيم (عليه السلام) يهوديا أو نصرانيا مع علمهم بانه على الدين الحق و ان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر بل هو منبعث عن الاول و قد غالوا
في هذه الأمور و تشبثوا بحجج هي اوهن من بيت العنكبوت:
و منها: انهم كانوا يتنازعون في عيسى (عليه السلام) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثه أو نبوته أو انه اللّه أو ابنه أو ثالث ثلاثة، و كانت اليهود تحاج النصارى فيه فتبطل نبوته و ألوهيته و الجميع يعلمون بانه مخلوق من مريم و رسول أرسله اللّه تعالى إلى بني إسرائيل.
قوله تعالى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.
الاستفهام توبيخي يعني: فلم تتنازعون و تحاجون في امور لا تعلمون بها و تغالطون فيها و الواجب عليكم اتباع الوحي المبين و متابعة سيد المرسلين.
و قد اختلف المفسرون في تعيين الذي لهم به علم و جمهورهم انه امر ابراهيم المتنازع في كونه يهوديا أو نصرانيا إلا ان ذلك أمر واضح لا يجهله احد منهم و يعلمون ان ابراهيم (عليه السلام) كان متقدما عليهم و لا يمكن ان يكون تابعا للمتأخر كما ذكرنا و لذا عقب سبحانه و تعالى بعد تكذيبهم في ذلك بقوله «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» الدال على تقبيحهم في هذا الإمر المعلوم.
و ذكر بعض المفسرين ان المراد من عدم علمهم بأمر ابراهيم هو عدم علمهم بأن دين اللّه واحد و هو الإسلام و ان اليهودية و النصرانية و الإسلام شعب من ذلك الدين الحق و انها تتدرج في سلم الكمال، و اليهود و النصارى جهلت ان ابراهيم هو المؤسس لهذا الدين الحق، و الأصل لا ينسب إلى فرعه بل الأمر بالعكس.
و فيه: ان ما ذكره يرجع إلى ما تقدم الذي عرفت المناقشة فيه، مع ان كون ابراهيم (عليه السلام) هو المؤسس للدين امر مسلّم‏ عند الجميع، بل هو معروف عند الأديان الثلاثة، إلا ان النزاع يرجع إلى ان اليهود تدعى ان الدين الحق هو اليهودية فقط و ان ابراهيم يهودي، و النصارى تدعي ان الدين الحق هو النصرانية و ان ابراهيم هو الذي أسسها. فالنزاع بينهم في تعيين الدين الذي أسسه ابراهيم لا في كونه المؤسس للدين الحق و انه لا يجهله احد منهم.
و الحق ان يقال: ان ما كان يجهله اليهود و النصارى هو ادعاء اليهود الألوهية في بعض أنبيائهم كما زعموا في عزير ابن اللّه و ادعاء النصارى في عيسى ابن اللّه أو هو الإله أو التثليث، و قد جهلوا جميعا ان المخلوق المربوب لا يمكن ان يكون إلها و ان اللّه تعالى هو الا له الواحد الأحد.
مع ان الآية الشريفة تدل على امر أبعد من ذلك و هو ان التشبث بأمور معلومة لا تجعل المستحيلات أمورا ممكنة بالمغالطة فجميع ما زعموه مغالطة بين الحق الواقعي و الوهم الاعتقادي و هم بمعزل عن الواقع مع تشبثهم بهذه الأوهام.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
تأكيد لنفي العلم عنهم اي: و اللّه يعلم الحق و اهله و ما أنتم عليه من تلبيس الحق بالباطل و مغالطتكم فيه و أنتم لا تعلمون شيئا و لستم بأهل لان يعلمكم اللّه تعالى شيئا لجحودكم و ضلالكم.
و الآية الشريفة دليل على ان كل علم ما لم ينته إلى العلوم التي اودعها اللّه تعالى في الفطرة أو ما أوحاه إلى أنبيائه لم يكن منتجا بل لا يكون إلا من المغالطات و الأوهام كما أثبته أكابر الفلاسفة.
قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا.
بيان للبرهان المقرر سابقا في شأن ابراهيم (عليه السلام) و ان التوراة و الإنجيل نزلتا بعده و تنزيه من اللّه تعالى له من كل افتراء عليه فلم يكن يهوديا و لا نصرانيا كما كان يدعيه كل فرقة منهما لأنه لا يقول بأمر يمس بجلال اللّه تعالى و عظمته و لا يحد قدرته عز و جل و لا ينسب اليه ما لا يليق به كما تقوله اليهود و لا يقول بالتثليث و الوهية البشر كما عليه النصارى المبتعدين عن التوحيد الخالص الذي هو دين ابراهيم (عليه السلام) فالامر هنا امر عقائد لا امر نسب وصلة.
قوله تعالى: وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
مادة حنف تدل على الميل إلى الحق و حيث ان الحق فيه تعالى فيكون الميل إلى التوحيد حينئذ و يلازمه نفي كل خلاف الحق و التوحيد من الشرك و الضلال فكانت عقيدة ابراهيم (عليه السلام) مائلة عن الشرك و متمحضة في التوحيد الخالص الذي ينفي كل شرك و ضلال كما عليه محمد (صلى اللّه عليه و آله).
و يقابلها مادة (جنف) الدالة على الميل إلى الباطل. و قد كان عرب الجاهلية يدعون أنفسهم بالحنفاء لأنهم تبعوا ابراهيم في بعض شرايعه كالختان و الحج. و كان اهل الكتاب يسمونهم بالحنفية الوثنية.
و المراد بالإسلام في المقام هو التسليم للّه تعالى و الانقياد لطاعته و الخضوع لربوبيته و ليس المراد من الإسلام الدين الذي جاء به محمد ابن عبد اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانه حادث بعد ابراهيم بعدة قرون و تابع له لقوله تعالى: «وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» النساء- ۱۲٥ و قد تقدم في قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» آل عمران‏ – 19 بعض الكلام.
و قد وصف اللّه سبحانه و تعالى ابراهيم (عليه السلام) بأوصاف ثلاثة كل واحد منها يدل على بطلان ما تدعيه اليهود و النصارى و الوثنية المشركة، ففي توصيفه بكونه حنيفا لأجل كونه تاركا لكل العقائد الزائفة و مائلا إلى التوحيد الحق كما تقدم، و في توصيفه بكونه مسلما لبيان انه منقاد للحق و داخل في طاعة اللّه تعالى مخلص له خاضع لوجهه الكريم، و في توصيفه بكونه لم يكن من المشركين للاعلام بانه لم يكن من عبدة الأصنام و لا من الحنفية الوثنية كما كانت عليه عرب الجاهلية، و فيه التعريض بأنهم مشركون فتكون الجملة تأكيدا لما تضمنه الكلام السابق، كما ان فيه التنبيه على أن الحنفية المصطلحة بين عبدة الأوثان لم تكن مرادة بل المراد هي الحنفية الحقة التي جاء بها ابراهيم.
و يستفاد من الآية الشريفة ان ابراهيم (عليه السلام) الذي اتفق على إجلاله و إكرامه جميع الأديان انما هو المرضي للّه تعالى و المستسلم لأمره لم يكن على ملة احد منهم، و بهذا الاعتبار صار موضع احترام و إجلال جميع الأديان بل يعتبر أصلها و مؤسسها.
قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ.
اولى افعل التفضيل من وليه يليه وليا و هو بمعنى اقرب. اي: اقرب الناس إلى ابراهيم في الدخول في ولايته من كان متبعا له، فإذا كانت نسبة بين احد و بين هذا النبي العظيم المبجل فإنما هي نسبة المتابعة له في حق و موافقته في الدين الذي جاء به، و من استحق هذه الأولوية من المتقدمين من أجاب دعوته و اهتدى بهديه و اتبعه على‏ الحنيفية و اسلافه من الأنبياء السابقين و الموحدين الصالحين.
و في الآية المباركة التعريض لأهل الكتاب بأنهم لم يتبعوه فليسوا اولى بإبراهيم (عليه السلام) فكيف يكون منهم.
قوله تعالى: وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا.
اي: و من المتأخرين هذا النبي و المؤمنين به فان دينه على الحق، و انه من أكبر الداعين إلى الحنيفية التي دعى إليها ابراهيم (عليه السلام) بل ان دينهما واحد.
و في إفراد النبي و المؤمنين به عن الذين اتبعوه تجليل لهذا النبي العظيم و صون له من ان يطلق عليه الاتباع. هذا إذا جعلنا قوله تعالى:
«وَ هذَا النَّبِيُّ» جملة معطوفة على الضمير المفعول.
و قيل: الجملة معطوفة على الموصول قبله فيكون من عطف الخاص على العام.
و قيل: انه معطوف على ابراهيم فتكون الجملة مجرورة. و المعنى ان اولى الناس بإبراهيم و هذا النبي للذين اتبعوه. و اعترض عليه أنه ينبغي أن يثنى ضمير (اتبعوه). و لكن أجيب بانه نظير قوله تعالى: «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» التوبة- ٦۲.
و الحق أن الاعتراض ساقط، لأن الضمير المنصوب في قوله تعالى: «اتَّبَعُوهُ» يرجع إلى خصوص ابراهيم (عليه السلام). و كون نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) مقصودا أيضا في واقع المراد، لا يوجب تثنية الضمير في ظاهر اللفظ، مضافا إلى انه يلزم الفصل بين العامل و المعمول بأجنبي. فالصحيح ما ذكرناه، و هو الموافق لأدب القرآن في خاتم الأنبياء و المرسلين مثل قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» الانعام- 90 و لم يقل عز و جل فبهم اقتده.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
اي: من دخل في ولاية ابراهيم (عليه السلام) دخل في ولاية اللّه تعالى و اللّه ولي المؤمنين ينصرهم بالحسنى و يصلح شؤونهم دون غيرهم من الكافرين المشركين.
و فيه إيماء إلى أن اهل الكتاب خارجون عن ولايته سبحانه و تعالى و ان ادعوا الايمان باللّه جلت عظمته.

كلمة سواء في قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ» تأتي مصدرا، و تأتي بمعنى الوصف اي متساوي الطرفين و العدل، و تقرأ ممدودة إذا فتح السين و مقصورة إذا كسر السين أو ضم. و هي نعت للكلمة مستوية أو متساوية، فتكون مجرورة و يمكن أن تكون منصوبة على المصدر.
و لم في قوله تعالى: «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ» أصله (لما) حذفت الالف فرقا بين الاستفهام و الخبر.
و ها في قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» حرف تنبيه، أطرد دخوله على المبتدأ إذا كان خبره اسم الإشارة و «أَنْتُمْ هؤُلاءِ» قيل: مبتدأ و خبر على أن يكون هؤلاء بمعنى الذين و ما بعده صلة له و قيل: أنتم مبتدأ و هؤلاء منادى حذف منه حرف النداء و جملة «حاججتم» خبر.

تدل الآيات الشريفة على أمور:
الاول:
يدل قوله تعالى: «كَلِمَةٍ سَواءٍ» على ان الكلمة من اساسيات كتب اهل الكتاب و اوليات العقل و انها من البديهيات، فتدل بالملازمة على انها من الأمور التي يجب العمل بها عقلا و شرعا.
الثاني:
ان قوله تعالى: «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» بيان للكلمة السواء- كما عرفت- و يبين علة الحكم بالرجوع إلى الكلمة السواء و هي كون اللّه معبودا واحدا لا شريك له في ذلك فلا بد من الاجتماع على عبادته و أن لا يتخذ دونه معبود آخر و لا يجوز لاحد ان يخضع إلا لواحد له من الكمال و العظمة و الكبرياء ما لا يوجد في غيره، و ان وحدة النظام في العالم تقتضي ان يكون المعبود واحدا كما ان خالقه واحد.
الثالث:
يدل قوله تعالى: «وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً» على نفي الولاية لاحد على احد إلا ما يمنحها اللّه تعالى لعبد من عباده و ان افراد الإنسان أبعاض من حقيقة واحدة.
كما ان الآية الشريفة تدل على نفي ربوبية غير اللّه تعالى، و أن لا رب سواه، و أن الربوبية الحقيقية من خصائص الألوهية.
الرابع:
يستفاد من قوله تعالى: «فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن الاحتجاج المنتج لا بد أن يكون عن علم صحيح مطابق للواقع.
الخامس:
يدل قوله تعالى: «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» على ان الأوهام الباطلة و المغالطات توجب عزل الفكر عن الواقع و بعد الإنسان عن الحق.
السادس:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ان المناط في كل دين و ملة هو الخضوع و الطاعة للّه تعالى و نبذ الشرك بكل انحائه و بهذا الاعتبار لم يكن ابراهيم يهوديا و لا نصرانيا لكونهما مشتملين على الشرك.
السابع:
إنما قال سبحانه و تعالى: «وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ». و لم يقل: (و اللّه وليهم) إيماء إلى ان الإيمان هو العلة في ولايته تعالى لعباده المؤمنين، للقاعدة المعروفة بين الأدباء: ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية.
الثامن:
يستفاد من قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» الفرق و الاختلاف بين الواقع و الاعتقاد و أنهما أمران قد يتطابقان و قد يختلفان، و من ذلك جاء الاختلاف و التنازع في العلوم و المعارف الانسانية، و أساس المغالطات على هذا الاختلاف، و هو يدور مدار قلة التأمل و التفكر و كثرتهما. و لذا ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة الترغيب الكبير إلى التفكر و التعقل، و لعل من اسرار ذلك رفع التنازع و الاختلاف بين الناس و لو وفق فرد لتمييز الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع عن غيره لارتفع النزاع و قلّ التشاجر و التناحر بين الأنام، لكن الخلاف و الاختلاف غريزة لا يمكن رفعها، و لا دفعها.

روى محمد بن الحسن الشيباني عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء- الآية- قال (عليه السلام): «إن الكلمة السواء هاهنا هي شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و أن عيسى عبد اللّه و انه مخلوق كآدم».
أقول: يستفاد من الحديث أن الكلمة السواء هي الدعوة إلى التوحيد، و نبذ الشرك، فتكون الدعوة عامة بالنسبة إلى اهل الكتاب و غيرهم، و في كل وقت.
و في الدر المنثور في قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ- الآية- أخرج ابن جرير عن السدّي: دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) وفد نجران، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ- الآية-.
و في صحيح البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث- يذكر فيه كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى هرقل عظيم الروم، قال أبو سفيان: ثم دعا- يعني هرقل- بكتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقرأه فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فاني أدعوك بدعابة الإسلام أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك‏ مرتين، فان توليت فان عليك إثم الإريسيين، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا اللّه …. و اشهدوا بأنا مسلمون- الحديث- ..
و رواه مسلم في صحيحه أيضا، و رواه السيوطي في الدر المنثور عن النسائي، و عبد الرزاق، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
و في بعض الروايات أن كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى مقوقس عظيم القبط يشتمل أيضا على قوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ». و في الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن كتاب رسول اللّه إلى الكفار تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم- الآية-.
أقول: البحث في هذه الأحاديث من جهتين:- الأولى: أن كتب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) المشتملة على قوله تعالى: «تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ» إلى من ذكر في الروايات كعظماء الروم، و القبط، و فارس ليس من جهة الاختصاص بهم، بل هي دعوة التوحيد و نبذ الشرك، فيشمل كل من لم يكن على التوحيد حتى المشركين. كما أنها بحسب معنى الدعوة إلى التوحيد لا تختص بزمان دون زمان فان الدعوة عامة و ابدية.
الجهة الثانية: اتفق أرباب التواريخ أن إرسال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الرسل و الكتب إلى الملوك و الرؤساء كان في السنة السادسة من الهجرة، و يلزم ذلك أن هذه الآية الشريفة- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ- نزلت في تلك السنة أو قريبا منها، لأن الكتب كانت مشتملة على هذه الآية الشريفة.
و لكن اختلف أهل التاريخ في وفد نصارى نجران، فمنهم من قال‏ أنهم وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في السنه العاشرة من الهجرة، و منهم من قال: بأنهم وفدوا سنة تسع من الهجرة، و يلزم من ذلك الاختلاف في وقت نزول الآية الشريفة.
و يمكن القول بأن الإعتبار يشهد بأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قد كتب إلى نصارى نجران أيضا في السنة التي كتب إلى الملوك و الرؤساء، لأنهم كانوا اقرب اليه من غيرهم. فيكون ما ذكره المفسرون في شأن نزول هذه الآية الشريفة من باب الجريان و التطبيق و يمكن أن تكون الوفود متعددة فتارة وفدوا في سنة ست، و أخرى في سنة تسع أو عشر من الهجرة.
بقي شي‏ء و هو أن البيهقي نقل في الدلائل: أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم اللّه إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول اللّه إلى أسقف نجران إن إسلمتم فاني احمد إليكم اللّه إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب أما بعد فاني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام- الحديث-.
و أشكل عليه أولا: بأن الكتاب لم يتصدر ببسم اللّه الرحمن الرحيم بخلاف سائر كتبه (صلى اللّه عليه و آله).
و يمكن الجواب عنه: بأنه ربما يكون الكتاب إلى نجران متعددا أو انما فعل ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأجل التودد و المجاراة معهم.
و ثانيا: أن سورة النمل مكية نزلت قبل هجرة النبي، و كيف يجتمع مع قصة نجران.
و فيه: بأن النزول له مراتب و المراد به في المقام قبل ظهورها بين الناس و انتشاره. أو كان الكتاب إليهم قبل هجرته (صلى اللّه عليه و آله) لقرب دار نجران منه.
و ثالثا: انه يشتمل على أمور لا يمكن توجيهها، كحديث الجزية و الإيذان بالحرب و غير ذلك. و فيه: أن ذلك كان في مرحلة الإنشاء بداعي الترهيب دون الفعلية.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا- الآية قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يهوديا يصلي إلى المغرب، و لا نصرانيا يصلي إلى المشرق، لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (صلى اللّه عليه و آله).
أقول: المراد من قوله (عليه السلام): لا يصلي إلى المغرب.
و لا يصلي إلى المشرق. هو لزومه حد الوسط و عدم الانحراف عنه و يلزم ذلك انحراف الطائفتين عن الحق.
و أما قوله (عليه السلام): كان ابراهيم على دين محمد. أي ما يتخذه محمدا (صلى اللّه عليه و آله) دينا لأمته، و هو عبارة أخرى عن الدين الذي أوحاه اللّه تعالى إلى ابراهيم، و أمر تعالى محمدا أن يتبعه، فيصح أن يقال أن ابراهيم على دين محمد (صلى اللّه عليه و آله) حيث انه شارح لملة ابراهيم، كما يصح أن يقال: أن محمدا على دين ابراهيم، أي أن اصول دين محمد متخذة من ملة ابراهيم.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «خالصا مخلصا ليس فيه شي‏ء من عبادة الأوثان».
أقول: هذا هو معنى الوسط الذي قلناه و انه لم يكن منحرفا عنه و لو بشي‏ء يسير، و أن دين غيره لا يخلو عن الشرك. و في المحاسن عن عبد اللّه بن سليمان الصيرفي في قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ‏ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ- الآية- قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أنتم و اللّه على دين ابراهيم و منهاجه، و أنتم أولى الناس به».
أقول: وردت في مضمون ذلك عدة روايات. و المراد بكونهم على دين ابراهيم لأنهم يبينون حقيقة دين ابراهيم علما و عملا، فلا محالة يكون أولى الناس به من يكون تابعا لمن يشرح ملة ابراهيم قولا و عملا.
و في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «هم الأئمة و من اتبعهم».
أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.
و في المجمع في قوله تعالى أيضا: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به، ثم تلا هذه الآية.
و قال: إن وليّ محمد من أطاع اللّه و إن بعدت لحمته، و إن عدو محمد من عصى اللّه و إن قربت لحمته». و روى الزمخشري في ربيع الأبرار عن علي (عليه السلام) قريبا منه.
أقول: الروايات بهذا المضمون كثيرة جدا، و هي موافقة للقواعد العقلية التي تحكم بأن المتابعة إنما تتحقق في العمل بما يبينه المتبوع لا بمجرد القول فقط، و هذا الحديث يكون شارحا لجملة من الأخبار الواردة في المقام.

روى أهل السير و التواريخ حديث هجرة أصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى الحبشة و ما لقوه من المتاعب و المصائب و ما جرى بينهم و بين النجاشي، و هذه الهجرة كانت أول احتكاك بين المسلمين و بين غيرهم، و قد أظهرت ثبات المسلمين، و سمو أخلاقهم، و علو حجتهم، و ستبقى هذه الهجرة الميمونة رمزا للفداء و التضحية، و لا بد للمسلمين أن يجعلوا هذه الهجرة محط انظارهم و يستفيدوا منها في تنظيم مجتمعهم و الاحتكاك مع غيرهم، و نحن ننقل هذه القصة لما تتضمن من الفوائد الجليلة و لتكون نورا يهتدي به المسلمون في جهادهم و كفاحهم و بلائهم.
و ليست هي من سبب النزول في هذه الآيات المباركة المتقدمة و إن ذكرها المفسرون في المقام.
فقد روى الواقدي في أسباب النزول، و الخازن في تفسيره و غيرهما عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، و رواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب، قال: لما هاجر جعفر بن أبى طالب و أناس من اصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى أرض الحبشة و استقرت بهم الدار و هاجر النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة، و كان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة، و قالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من اصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا و أهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، و لينتدب‏ اليه رجلان من ذوي رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص، و عمارة بن أبى معيط و معهم الهدايا: الإدم و غيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له و سلّما عليه، و قالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون، و لأصحابك محبّون، و أنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب، خرج يزعم أنه رسول اللّه، و لم يتابعه أحد منّا إلا السفهاء، و إنا كنا قد ضيّقنا عليهم الأمر، و الجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع و العطش، فلما اشتدّ عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك و ملكك و رعيتك فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكم، قال: و آية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، و لا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك و سنتك.
قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب اللّه تعالى، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر، فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان اللّه و ذمته فنظر عمرو إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب اللّه و ما أجابهم به الملك؟ فاسائهما ذلك.
ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي و تحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟
قالوا: نسجد للّه الذي خلقك و ملّكك، و انما كانت تلك التحية لنا و نحن نعبد الأوثان، فبعث اللّه فينا نبيا صادقا، فأمرنا بالتحية التي رضيها اللّه و هي السلام، تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق، و أنه في التوراة و الإنجيل، قال: أيكم الهاتف: يستأذن‏ عليك حزب اللّه؟ قال جعفر: أنا، قال: انك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب، و لا يصلح عندك كثرة الكلام، و لا الظلم، و إنما أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما، و لينصت الآخر فتسمع محاورتنا، فقال عمر و لجعفر: تكلّم.
فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين، أ عبيد نحن أم احرار فان كنا عبيدا قد أبقنا من اربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي: أ عبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام، فقال النجاشي: نجوا من العبودية، فقال جعفر: سلهما، هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو: لا و لا قطرة، قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤها، فقال عمرو: لا و لا قيراط، فقال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال: كنا و إياهم على دين واحد، على دين آبائنا فتركوا ذلك، و اتبعوا غيره، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه، و الدين الذي اتبعوه؟ فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر باللّه و نعبد الحجارة، و أما الذي تحولنا اليه فهو دين اللّه الإسلام جاءنا به من عند اللّه رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.
ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب، و اجتمع اليه كل قسيس و راهب، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشي: أنشدكم باللّه الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى و بين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا: اللهم نعم قد بشرنا. فقال: من آمن به فقد آمن بي، و من كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول‏ لكم هذا الرجل؟ و ما يأمركم به؟ و ما ينهاكم عنه: فقال يقرأ علينا كتاب اللّه و يأمرنا بالمعروف، و ينهانا عن المنكر، و يأمرنا بحسن الجوار، و صلة الرحم، و بر اليتيم، يأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا شريك له فقال له: اقرأ علىّ مما يقرأ عليكم، فقرأ عليه سورة العنكبوت، و الروم، ففاضت عينا النجاشي و أصحابه من الدمع، و قالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى و أمه، فقال النجاشي فما تقولون في عيسى و أمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم و عيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، و قال: و اللّه ما زاد المسيح على ما تقولون هذا.
ثم اقبل على جعفر و أصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، يقول: آمنون من سبكم و آذاكم غرم. ثم قال: ابشروا، و لا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. فقال: عمرو: يا نجاشي و من حزب ابراهيم؟ قال. هؤلاء الرهط، و صاحبهم الذي جاءوا من عنده، و من اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون و ادعوا دين ابراهيم.
ثم رد النجاشي على عمرو و صاحبه المال الذي حملوه، و قال: إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها، فان اللّه ملكني و لم يأخذ مني رشوة قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار، و أنزل اللّه عز و جل في ذلك على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في خصومتهم في ابراهيم و هو في المدينة: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و اللّه ولي المؤمنين.
هذا هو حديث الهجرة الذي رواه الفريقان بطرق مختلفة، و لا بد من التأمل فيه و الاستفادة منه في تكوين المجتمع الاسلامي، و فيه الدروس القيمة في كفاح المسلمين و بلائهم‏.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"