قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ.
مادة (حسس) تدلّ على الإدراك بالمشاعر الحسيّة، كالعين و الاذن و الأنف و اللسان و اليد- و يقابله الدرك العقلي، أي ما يدركه الفكر، قال تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [سورة مريم، الآية: 98]، و قال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [سورة الأنبياء، الآية: 12]، و قال تعالى: حكاية عن يعقوب يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ [سورة يوسف، الآية: 87]، أي اطلبوه عن طريق الحسّ، و في الحديث: «ان الشيطان حساس لحاس»، أي شديد الحس و الإدراك، و في الحديث أنه صلّى اللّه عليه و آله: «كان في مسجد الخيف فسمع حسّ حية»، أي حركتها و صوت مشيها.
و إنما عبّر سبحانه و تعالى ب (أحس) مع أن الكفر من الأمور المعنويّة، لبيان أن كفرهم بلغ مبلغا حتّى تعلّقت به الحواس الظاهرة، فيكون استعارة بليغة، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 12].
و المعنى: فلما عرف عيسى من بني إسرائيل الكفر و علم منهم العناد و اللجاج، و أنهم قصدوا إيذاءه مع وضوح تلك الآيات الباهرات التي عرفوها منه، دعا الأنصار لتثبيت شرع اللّه تعالى و التمسّك بدينه.
و في الآية الشريفة التسلية لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله حين ما رأى من قومه العناء و اللجاج.
كما يستفاد منها أن الآيات الكونيّة و المعجزات الباهرات لا تلجئ أحدا على الإيمان و لا تكون ملزمة له، كما هو صريح بعض الآيات الشريفة مثل قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: ٥٦]، و ذلك صدر منهم من العناد و اللجاج ما جعل الأنبياء في العناء و المشقّة من أقوامهم.
قوله تعالى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
الأنصار جمع نصير، فعيل بمعنى فاعل، لأن كلّ واحد من المتناصرين ناصر و منصور، و هو بمعنى العون، و نصرة اللّه للعبد ظاهرة، و أما نصرة العبد للّه هي نصرته لعبادته و القيام بحفظ حدوده و رعاية عهوده و امتثال أوامره و اجتناب مناهيه.
و إنما أضاف إلى الأنصار نفسه لبيان أن نصرته نصرة اللّه تعالى. و قيّد الأنصار بكونهم إلى اللّه، للتحريض و التشويق إلى لقاء اللّه تعالى، و نظير ذلك كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة النساء، الآية: ۱۳٦]، و قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [سورة البقرة، الآية: ۲٤٥]، و قد ذكر سبحانه و تعالى في موضع آخر بما يرفع الإجمال عن هذا الموضع، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ، كما قال عيسى بن مريم للحواريين مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [سورة الصف، الآية: ۱٤].
و الاستفهام في هذه الآية الشريفة لاختبار القوم و معرفة المؤمن منهم عن غيره، و بيان أهمية النصرة للّه تعالى.
قوله تعالى: قالَ الْحَوارِيُّونَ.
الحواريون جمع حواري، و أصل المادة تدلّ على البياض و التخلّص من كلّ عيب، و لذلك سمّيت نساء أهل الجنّة بحور العين لشدّة بياضهن و سواد عيونهن، و في الحديث: «أن في الجنّة لمجتمعا للحور العين».
و إنما سمّى ناصر الأنبياء حواري، باعتبار خلوصه في نفسه عن العيب و الذنب و إخلاصه لغيره، فيكون ناصرا و خاصّة له.
و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا بالنسبة إلى أصحاب المسيح عليه السّلام، و هم رسله الّذين أخلصوا في أنفسهم و نقّوها من كلّ عيب و كانوا مخلصين له، و هم الّذين كان عيسى عليه السّلام يرسلهم إلى بني إسرائيل للوعظ و الإرشاد.
و قد اختلفوا في عددهم، و المشهور أنهم كانوا اثنى عشر رسولا، و ذكرهم إنجيل متى في الاصحاح العاشر 2- 4، و قيل إنّ عددهم سبعون، و هم الّذين اختارهم عيسى و أرسلهم إلى الأقوام ليعلموهم المسيحيّة، و لا فائدة في معرفة العدد بعد وضوح أصل المعنى و أن المناط هو تحقّق الإخلاص و الخلوص.
و المستفاد من الآية الشريفة- كما عرفت- أن الحواري أخصّ من مطلق الصاحب.
و الآية المباركة ترشد إلى أمر اجتماعي، و هو أن كلّ مرشد في الاجتماع لا بد و أن يهيء لنفسه مركزا يكون مصدرا لإرشاده و يعتمد عليه في ما يستجدّ من الحوادث و يستمد منه القوة حين ما يتطلب ذلك، و إلا كان عمله هدرا و أتعابه سدى. و هذا من أهم الأمور التي أشير إليها في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم و السنّة المقدّسة، قال تعالى حكاية عن لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود، الآية: 80]، و في ابتداء الدعوة في الإسلام اختار الرسول صلّى اللّه عليه و آله رجالا جعلهم مصدر الدعوة، و ذلك في بيعة العقبة و بيعة الشجرة، كما نتابع الكلام إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ.
أي: استجابوا إلى دعوة المسيح، و هم الّذين اختارهم عيسى و جعلهم من حواريه، و قالوا: نحن متبعوك و ناصروك في الدعوة إلى دين اللّه و الجهاد في سبيله، و يفسّر معنى النصرة في اللّه ما بعد هذه الآية.
و في قوله تعالى: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ، الطباق الشديد، أي: نحن ناصروك لأنه نصرة اللّه تعالى.
قوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
تبيّن هذه الجملة معنى نصرة اللّه، إذ الإيمان الحقيقي نصرة اللّه تعالى، و نصرته جلّ جلاله ترجع إلى كمال النفس الإنسانيّة، و تهذيبها بالأخلاق الفاضلة و الجهاد مع أعداء اللّه تعالى.
و قوله جلّ شأنه: وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، تسليم لهم لنبيّهم تسليما حقيقيّا.
و هيئة التسليم تدلّ على الخضوع للّه تعالى و إطاعته في جميع تشريعاته، و الإيمان من إحدى طرق التسليم، و لها مراتب متفاوتة.
و سياق الآية الشريفة يدلّ على كمال إيمانهم، و تمكّنه في قلوبهم، حتى ظهر التسليم و الخضوع على جوارحهم عن جوانحهم و طلبوا من عيسى الشهادة بذلك.
و في الآية المباركة الدلالة على أن الإيمان باللّه تعالى لو لم يكن مقرونا بشهادة المتبوع لا أثر له أبدا. و تقدّم الكلام في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: ۱٤۳].
و يستفاد من الآية الشريفة أن إيمان الحواريين كان راسخا في قلوبهم، و إنما طلب عيسى عليه السّلام منهم النصرة للّه تعالى إتماما للحجّة على غيرهم ممّن أحسّ منهم الكفر، و إعلانا لشأنهم و إظهارا لدرجاتهم الكاملة في الإيمان، فيكون قولهم (آمنا باللّه) تأكيدا لما آمنوا به أولا، و تثبيتا لشهادة عيسى على ذلك، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في موضع آخر: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، و الوحي- بأي معنى أخذ- كاشف عن كمال إيمانهم و جلالة قدرهم، و لكن استفادة كونهم أنبياء اللّه من الوحي إليهم مشكل، لأنه أعمّ من ذلك، إذ قد يستعمل الوحي في مجرّد الإلقاء في القلب من اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص، الآية: 7].
قوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ.
تضرّع منهم إلى اللّه تعالى و الدعاء على الإيمان، فيكون مثل قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [سورة آل عمران، الآية: 8].
و الجملة مقول قول الحواريين، و إنما حذف القول مبالغة في التضرّع، و للدلالة على التشرّف بالدعاء، و لبيان نفس الحكاية، و هو من أحسن الأساليب البلاغيّة و هو في القرآن الكريم كثير جدا، و يستفاد أن الداعي قد أهمل نفسه أمام المدعو و لا يرى لها شأنا، و إنما همّه التضرّع و عرض الحال.
و إنما ذكر المتابعة للرسول بعد الإيمان باللّه تعالى، لبيان أن الإيمان به جلّت عظمته يستلزم العمل بما جاء به الرسول، و أن أحدهما بدون الآخر لا أثر له.
قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
أي: و ثبّتنا مع الشاهدين، و المراد منه المعنى العام للشهود في كلّ عالم من العوالم، ففي عالم الدنيا شهود الواقع و الحقّ على ما هو عليه، المشتمل على تبليغ الحقّ أيضا، الذي هو من أعلى درجات الإيمان، بل لا درجة فوقه، كما في قوله تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة، الآية: 83].
و بالنسبة إلى أعمال الجوارح شهود مطابقتها مع الواقع، و بالنسبة إلى عالم البرزخ و الآخرة شهود عين تلك الحقائق بصور مناسبة لتلك العوالم، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: ۱٤۳]، بعض الكلام فراجع.
قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ.
التفات إلى بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر، و مادة (مكر) تدلّ على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصده، فإذا كان بحيلة فهو خديعة و شرّ، و إن كان بغيرها كان محمودا، و لذا يتقسّم المكر إلى قسمين، حسن و سيء، قال تعالى: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [سورة فاطر، الآية: ٤۳]، و قال تعالى: أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ [سورة النحل الآية: ٤٥].
و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مكرّرة تبلغ أكثر من أربعين موردا نسبت:
تارة: إلى الإنسان بلا واسطة، قال تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [سورة النحل، الآية: ۲٦]، و قال تعالى: وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [سورة الأنفال، الآية: 30]، و أشدّ ما وصف اللّه تعالى به مكر الإنسان قوله عزّ من قائل: وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [سورة إبراهيم، الآية: ٤٦].
و اخرى: بواسطة، قال تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ [سورة سبأ، الآية: 33]، و المراد به الظلم و الشرّ الواقعان في الليل و النهار من الإنسان.
و ثالثة: نسبت إلى اللّه جلّ شأنه مزاوجة و مشاكلة في اللفظ، كما في هذه الآية الشريفة، و في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [سورة النمل، الآية: ٥۰]، و بدون مزاوجة، قال تعالى: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 99].
و قد اختلف المفسّرون و العلماء في نسبة المكر إلى اللّه تعالى، فقيل إنه لا يجوز نسبته إليه عزّ و جلّ لأنه منزّه عن المكر و الخديعة، فلا يطلق عليه تعالى إلا عن طريق المشاكلة، و قالوا إنّ كلّ مورد ورد فيه المكر منسوبا إليه عزّ و جلّ يحمل على الاستعارة، و هي تسمية جزاء المكر مكرا مقابلة كما هو المعروف عند العرب، مثل قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [سورة البقرة، الآية: 194]، و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: ٤۰]، و غيرهما من الآيات الشريفة، و هذا القول منهم مبني على استعمال المكر في المعنى السيء فقط، و هو المساوق للخديعة و الشرّ، فيكون قبيحا و اللّه تعالى منزّه عنه، و لكن استعمال القرآن الكريم يأبى ذلك كما عرفت، مضافا إلى أنه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المجازي معا، و هو غير صحيح.
و قيل: إنه يجوز إطلاق المكر عليه تعالى كما اطلق على غيره من أفراد الإنسان من دون مشاكلة أو الخروج عن المعنى الحقيقي، و أصحاب هذا القول اختلفوا في توجيه المكر بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و جميع ما قيل في ذلك لم يقم عليه دليل يصحّ الاعتماد عليه.
و الصحيح أن يقال: إنّ المكر في الأصل يطلق على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصوده خفية و سرّا، و بهذا المعنى يصحّ إطلاقه عليه عزّ و جلّ بلا محذور فيه من عقل أو نقل، لفرض أن جميع أسرار إرادته المقدّسة مخفيّة عن من سواه، و هو عبارة اخرى عن التدبير الأتم بما تقتضيه الحكمة المتعالية بأعمال خفية لا يعلمها الإنسان، فيجازي الظالمين على ظلمهم و الماكرين بمكرهم، و يحسن إلى المحسنين بما يوافق اللطف، و يؤيّد هذا المعنى ما ورد في بعض الدعوات المأثورة: «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك و لا تمكر بي في حيلتك»، و في الحديث: «اللهم امكر لي و لا تمكر بي»، و معنى الحديث: ألحق مكرك بأعدائي لا بي، فإن مكره جلّ شأنه إيقاع بلائه بأعدائه دون أحبّائه و أوليائه.
و المراد بمكر بني إسرائيل في المقام اعمالهم جهات النفاق مع عيسى عليه السّلام، كما حكى اللّه تعالى عنهم مع أنبياء اللّه تعالى في آيات اخرى، مثل تحريف الكلم عن مواضعه و إيذاء الأنبياء و قتلهم و تشريدهم.
كما أن المراد بمكر اللّه تعالى جزاؤهم بما خفي عن ادراكهم و لم تصل إليه عقولهم، بأن شبه المسيح عليهم و ردّ كيدهم على أنفسهم مع اعتقادهم بأنهم قتلوه، فإنه لو رفعه اللّه تعالى علنا و بمرأى منهم لاستحكمت شبهة الغلو و الالوهية فيه، و لو رفعه خفية لطال التشاجر و النزاع و المحنة على المؤمنين و كثر فيهم القتل و هتك الإعراض، طلبا منهم لإظهاره و تسليمه، فكان ذلك التشبيه لطفا خفيّا و مكرا منه عزّ و جلّ وفق الحكمة.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
أي: و اللّه يفعل أفعالا خفيّة بما تقتضيه الحكمة المتعالية مع غفلة أهل المكر عن ذلك، و كون مكره تبارك و تعالى خيرا محضا، إذ لوحظ بالنسبة إلى النظام الكلّي، و يكون المكر بعباده في نصرة الحقّ و أهله و إبطال الباطل و إزهاقه.
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ.
بيان لمكره عزّ و جلّ و إعمال سرّه الخفي على الناس، و العامل في (إذ) قوله (و مكر اللّه).
و مادة (و ف ي) تدلّ على أخذ الشيء وافيا تماما في الجملة، و هذا المعنى هو الشائع في جميع استعمالاتها العرفيّة و القرآنيّة، و في حديث المعراج: «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت»، أي نمت و طالت أو كملت كالأوّل، و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «انكم وفيتم سبعين امة أنتم خيرها»، أي تمت العدّة بكم سبعين.
و أما الوفاة بمعنى الموت، فهو أحد موارد استعمالات هذه المادة، و ليس من المعنى الحقيقي لها.
نعم، شاع استعمالها في الموت، و لعلّه لأجل أن الإنسان يأخذ من الحياة نصيبه التام بحسب استعداده، فاللّه يميته بعد ذلك و ينقله إلى عالم آخر.
و يدلّ على ما ذكرنا جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [سورة الأنعام، الآية: ٦۰]، و المراد به التوفّي بأخذهم النوم و غلبته عليهم، و قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى [سورة الزمر، الآية: ٤۲]، و لا يستقيم معنى الآية الشريفة لو كان معنى التوفّي هو الموت، أي اللّه يميت الأنفس حين موتها و التي لم تمت يميتها في منامها.
و من هذه الآيات و ما تقدّم من نظائرها يستفاد أن التوفّي أعمّ من الموت، بل لم يستعمل التوفّي في الموت إلا بعناية خاصة، و لذا لو لم تكن هذه العناية استعمل الموت بدله، و هي أن الوفاة إنما تستعمل في مورد يكون فيه أخذ الشيء محفوظا من دون نقص، كما في وفاء الدين و نحوه، فيقال: «وافيته في الميعاد»، و بهذه العناية تستعمل في الموت و النوم، حيث تحفظ فيهما نفس الإنسان و لا تنعدم فيهما و لا يبطل شأنهما، فاللّه تعالى يأخذ الأنفس و يحفظها حتى زمان عودها إلى الأجساد، لكن يختلف عالم النوم و عالم الموت.
و قد عبّر سبحانه و تعالى بالموت في عيسى في مورد آخر، حيث لم تكن هذه العناية، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: ۱٥۹].
و بالجملة: التعمّق في موارد استعمال هذه المادة في الألسنة و اعتبارها مرادفة له، بحيث يتبادر منه هذا المعنى كلّ ما اطلق، و لكنه مع ذلك لا يوجب صرف اللفظ عن المعنى الموضوع له، و يقتضى أن الجامع القريب هو ما ذكرناه.
فيكون معنى الآية الشريفة هو أخذ عيسى عليه السّلام من عالم الأرض و من بين الناس و حفظه عن مكر اليهود من دون أن ينالوا منه شيئا، حتى زمان عوده إلى الأرض، و يدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر ردّا على اليهود: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: ۱٥۷- ۱٥٦].
و هذه الآية الشريفة صريحة في ردّ مزاعم اليهود في قتله و ابطال دعوى النصارى في موت المسيح بالصلب و رفعه إلى السماء بعد قتله على ما ذكروه في الأناجيل.
مضافا إلى أن قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: ۱٥۹]، ظاهر في أنه لم يمت و أن موته سيقع بعد ذلك، و بانضمام هذه القرائن لا يبقى مجال للقول بأن المراد بالتوفّي هو الموت، هذا و لجمهور المفسّرين وجوه في تفسير الآية الشريفة.
منها: ما نسب إلى ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، أي مميتك.
و لكن النسبة إليه مشكوكة، كما نسب إليه جملة من مسائل نافع بن الأزرق، و على فرض صدق النسبة لا دليل على حجّيته إلا إذا نسبه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوجه معتبر.
و منها: ما نسب إلى الربيع بن أنس أنه قال: «وفاة نوم لا وفاة موت»، و استشهد لذلك بجملة من الآيات الشريفة.
و لكنه مردود بما عرفت سابقا، كما أنه اجتهاد بلا دليل عليه.
و منها: ما عن قتادة: هذا من المقدّم و المؤخّر، أي: رافعك إلي و متوفيك. و هو خلاف الظاهر، بل مخالف لصريح الآيات الاخرى.
و منها: أن المراد هو الإماتة العادية المعروفة، و أن الرفع بعدها للروح، كما قال تعالى في شأن إدريس: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: ٥۷].
و لكنه بعيد عن سياق الآيات، مع مخالفته لصريح الآيات الاخرى و النصوص الدالّة على حياته الجسمانيّة، و سيأتي الكلام في رفعه إلى السماء.
و منها: ما عن بعض المفسّرين أنه عليه السّلام نجا من اليهود و مات حتف أنفه و دفن في الأرض ثم رفعت روحه، و استدلّوا بظاهر لفظ الوفاة في المقام، و في سورة المائدة، الآية: 117، و قوله تعالى حكاية عنه: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. و كذا قوله تعالى حاكيا عنه: وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 33]، الدال على أن عيسى ككلّ البشر يولد و يموت و يبعث.
و فيه: أن أصل الكبرى مسلّمة، فإنه عليه السّلام كسائر الأنبياء له موت بلا إشكال، و أما أن المراد بالتوفّي في المقام هو الموت الشائع، فهو أوّل الدعوى يحتاج إلى دليل، و الآية المباركة لا تدلّ على ذلك، بل هي ناظرة إلى أصل الكبرى، و يدلّ عليه أيضا ما يأتي من: قوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ.
عطف على خبر إن، و الرفع: ضد الوضع، و هو يستعمل في ما يشتمل على العلو، سواء كان علوا معنويّا، كشرف المنزلة و الفضيلة و غيرهما مثل قوله تعالى: وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [سورة الزخرف، الآية: 32]، و قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [سورة المجادلة، الآية: 11]، قال الشاعر:
تلك الأماني يتركن الفتى ملكا على الأنام و لم ترفع له رأسا
يعني: أن الآمال توهم الفتى أنه قد صار ملكا، و لكن لا تعطيه كرامة و شرفا في الواقع.
أو محسوسا ظاهريا كما في الأجسام الخارجيّة، إذ أعليت عن مقرّها، مثل قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة، الآية: ٦۳]، و قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ [سورة البقرة، الآية: 127]، و في حديث الاعتكاف: «كان إذا دخل العشر الآخر ايقظ أهله و رفع المئزر»، و لعلّه كناية عن الاجتهاد و الجد في العبادة بارتقاء النفس.
و هو من الأمور النسبيّة تختلف باختلاف المتعلّق، قال تعالى حكاية عن يوسف: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [سورة يوسف، الآية: 100]، و قال تعالى: وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ [سورة الرحمن، الآية: 7].
و من أسمائه تعالى: «الرافع»، و هو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد و أولياءه بالتقرّب إليه. و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ بعض الكلام.
و الجملة قرينة اخرى لبيان معنى التوفّي في الجملة السابقة. أي: أخذك من بين اليهود و أحفظك من مكرهم بالرفع إليّ.
و إنما قيد الرفع بقوله: (الي) مع أنه تعالى لا يحويه مكان و لا يخلو عنه مكان، تفخيما لغاية الرفع من الأرض التي طالما أفسدها الكافرون و الفساق، فرفعه تعالى إلى موضع خاص محض لتسبيح اللّه تعالى و تقديسه، و لا توجب هذه الكلمة (إليّ) صرف الرفع إلى الرفع المعنوي، باعتبار أنه لا يتصوّر القرب و البعد المكاني إليه عزّ و جلّ، فيكون نظير قوله تعالى: في شأن إدريس: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: ٥۷]، لأن ظاهر الخطاب و تكريم الرفع إلى عيسى عليه السّلام بكاف الخطاب ظاهر في رفع الموجود في الخارج و هو الجسم مع الروح، لا أحدهما فقط.
إن قلت: إنّ الشأن في الإنسان هو الروح فقط و الجسم تابع لها، فيصحّ توجيه الخطاب إلى الروح فقط.
قلت: نعم هو صحيح في الجملة، و لكن سياق الكلام يأبى عن ذلك، لأن رفع الروح إلى السماء إنما هو شأن كلّ نبي، بل ولي و أهل التقوى، فلا تبقى خصوصية في تخصيص عيسى بذلك، و لا بد أن يكون في البين جهة معينة، و هي رفع روحه مع جسمانيّته الظاهرة، و بذلك امتاز عيسى عليه السّلام عن إدريس الذي كان الرفع فيه معنويّا روحانيّا، بقرينة قوله تعالى: مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: ٥۷]، أي مكانة و منزلة ممتازة عن غيره، فيكون الخطاب في المقام بالنسبة إلى عيسى كقوله تعالى بالنسبة إلى موسى عليه السّلام: وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه، الآية: ٤۱]، حيث إنّ ظاهر حرف الخطاب إنما يكون مع الإنسان الخارجي روحا و جسما، مع أنه لو جعلنا الإنسان البرزخي كالإنسان في الدنيا مركبا من الجسم و الروح كما أثبتناه في محلّه من أن الموجودات البرزخيّة و الاخرويّة عين ما في العالم، فالأمر أوضح.
إن قلت: بناء على ذلك فلا فرق بين عيسى عليه السّلام و غيره في أن للجميع وجودا برزخيّا أيضا.
يقال: الفرق حينئذ أنهم ماتوا فصار وجودهم وجودا برزخيّا، و عيسى عليه السّلام لم يمت بل صار بوجوده العنصري الدنيوي وجودا برزخيّا، فيكون عيسى عليه السّلام من قبيل الكلّي المنحصر في الفرد، كما هو شأن الموجودات الفلكيّة.
قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
الطهارة معروفة، و هي تستعمل في الطهارة الظاهريّة من الأرجاس، و المعنويّة من الذنوب و الأحداث. و في معنى آخر ألطف من ذلك كلّه و هو: التخلّص ممّا هو من غير سنخه و صنفه.
و الجملة معطوفة على خبر (إن)، و هي قرينة اخرى على أن المراد بالرفع هو الجسماني و الروحي معا، و المراد منها الطهارة المعنويّة من رجس الكافرين و كفرهم و ابتعاده عن مخالطتهم و مكائدهم، و عن مجتمع استولت عليه كلّ رذيلة و كفر و جحود، و تنزيهه عن شبههم، فيكون بمنزلة ابتعاد الطير عن السباع بل أشدّ.
و يستفاد من قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا سبب تطهيره، و هو الكفر و مجالسة الكفّار.
قوله تعالى: وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وعد حسن و بشرى لعيسى عليه السّلام و متبعيه. و المراد من الّذين اتبعوك هم الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام و اهتدوا بهديه، و اتبعوه في جميع ما أنزل اللّه تعالى عليه، فنالوا رضى اللّه تعالى و حبّه عزّ و جلّ، و وعدهم الخير و التفوّق على الّذين كفروا و أعرضوا عن نبوّته.
و من سياق المقابلة بين الطائفتين يستفاد أن الطائفة الاولى هي المؤمنة الهادية المطيعة لربّها، التي اتصفت بمقام الرضا و المحبّة للّه تعالى، و هم مختصّون بمن تابع عيسى عليه السّلام و استقام على الهدى دون كلّ من نسب نفسه إلى النصرانيّة، كيف و قد اعتقدوا بالكفر و ما يخالف العبوديّة و أنكروا ما جاء به عيسى عليه السّلام، على ما حكى عنهم عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فيشمل النصارى المؤمنة قبل ظهور الإسلام و المسلمين بعد ظهوره، المؤمنين بعيسى عليه السّلام المبشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.
و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على تفوّقهم و تلبّسهم بالنسبة إلى الكافرين بعيسى عليه السّلام، و هم اليهود في الظاهر و الباطن و في الحجّة و البرهان و العدد، و لم يقيّد سبحانه التفوّق بوقت خاص، بل يستفاد من الآية الشريفة أنه بشارة و وعد أبدي لهم، فقد تحقّق هذا الوعد برهة من الزمن حين ما رفع عيسى عليه السّلام من بين المؤمنين به مع شدّة مجاهدة الكفّار و اليهود على محو دينه و إزالة طريقته و قتل المؤمنين به، فقد أظهر اللّه تعالى الحقّ و انتشر دينه و كثر اتباعه إلى أن خرجوا عن الصراط المستقيم و استولى عليهم الظلم و الفساد، و سيتحقق وعد اللّه أيضا إذا رجعوا إلى الملّة المستقيمة و الدين القويم، و هو ما أخبرنا عزّ و جلّ بظهور عيسى عليه السّلام في آخر الزمان، و يدلّ عليه قوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
و قيل: إنّ المراد بالفوقيّة الفوقيّة في الاحتجاج و البرهان، و في جهة المقبوليّة لحجج المتبعين له، و استماع الناس لها و كونهم أطوع لها.
و فيه: أن ذلك احتمال حسن ثبوتا، كما هو كذلك في شريعة لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة، و لكن ظاهر الآية الشريفة التأبيد و الدوام بالنسبة إلى الفوقيّة، لا بالنسبة إلى الاحتجاج الذي هو له حدّ معين إلى ظهور الإسلام.
و قال بعض المفسّرين: إنّ ظاهر قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إخبار عن المستقبل و وعد صرف عمّا يقع بعيسى و متبعيه من اللّه تعالى.
و فيه: أنه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي وردت في شأن عيسى عليه السّلام في المواضع المختلفة من القرآن الكريم، بل أن ظاهر قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، تحقّق التوفّي بالنسبة إليه، و لا معنى لإخباره عزّ و جلّ بأنه سيتوفاه بعد إماتته، مع أن ذلك كلّه خلاف السنّة الشريفة التي وردت في شرح حالات عيسى عليه السّلام، و هي بمجموعها ممّا لا يسع لأحد إنكارها.
نعم، ما ورد عن النصارى في حالات عيسى عليه السّلام قابل لكلّ احتمال، و جملة منها باطلة لا يمكن قبولها بوجه.
قوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
التفات عن الغيبة إلى الخطاب، ليشمل عيسى عليه السّلام و الّذين اتبعوه، و الّذين كفروا به، فإن الجميع مصيرهم إلى اللّه تعالى و يحشرون إليه في يوم القيامة، فيقضي بينهم بالحقّ في ما اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام و دينه و شريعته، و ما اختلف فيه متّبعوه و الّذين كفروا به.
و في الخطاب الدلالة على شدّة الاعتناء بإيصال الثواب و العقاب لمستحقيهما.
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً.
تفريع على ما تقدّم و تفصيل بعد إجمال، لبيان جزاء المبطل و كيفيّته، و هو الحكم الإلهي الذي يقضي به على الّذين كفروا، و هم اليهود الّذين خالفوا عيسى عليه السّلام و حاربوه.
قوله تعالى: فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
ذكر سبحانه و تعالى في الدنيا، لبيان تفوق الّذين اتبعوا عيسى عليه السّلام على اليهود الّذين كفروا به، فقد شدّد اللّه العذاب عليهم في الدنيا أن جعلهم مغلوبين مخذولين، ابتلاهم اللّه تعالى بأنواع البلايا من القتل و التشريد و الذلّة. و في الآخرة بأشدّ العذاب، و ما لهم في ذلك من ناصرين و أعوان يدفعون بهم عذاب اللّه.
و إنما أتى سبحانه بالجمع (من ناصرين) لبيان أن كلّ واحد منهم ليس له ناصر.
و في نفي الناصرين عنهم دلالة على أن ذلك قضاء حتم لا يقبل الشفاعة.
قوله تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ.
بيان لحال المؤمنين و وعد حسن بالجزاء الأوفى لهم، و فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، تلطفا بهم و تحنّنا عليهم، و لزيادة ثقة المؤمنين بالجزاء.
و إنما عدل سبحانه عن التعبير ب «الّذين اتبعوك» بهذا الخطاب، لبيان حقيقة الاتباع، و هي الإيمان و العمل الصالح، و أن مجرّد الاتباع من دون أن يستتبع ذلك بعمل صالح لا أثر له، و لا يستلزم استحقاق هذا الجزاء الحسن، و قد أكّد ذلك سبحانه و تعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية: ٦۲]، و توفية الجزاء، أي إعطاء الثواب وافيا من غير نقص كما تقدّم، و مقتضى المقابلة بين الجملتين أن يكون الجزاء في الدارين الدنيا و الآخرة، ففي الدنيا الفوقيّة و الذكر الحسن و الغلبة و النصرة، و في الآخرة الجنّة و حسن المآب.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة، و هو أن مجرّد الاتباع لبعض الأفراد لا يوجب اللحوق بالمؤمنين ما لم يستتبع الإيمان بالعمل الصالح، فإنه ظالم و اللّه لا يحبّ الظالمين، فهذه الآية المباركة تشير إلى الطائفة الثالثة، و هي المتبعون في اللسان و من انتسب إلى عيسى عليه السّلام بالقول فقط، من دون أن يتلبّس بحقيقة الإيمان، و لعلّه لذلك لم يختم سبحانه و تعالى الآية الشريفة بما يدلّ على الرحمة و الرأفة و المغفرة، كما هو عادته تعالى في سائر الموارد.
قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
إشارة إلى قصص عيسى عليه السّلام التي ذكرها اللّه تعالى من حين ولادته إلى رفعه إلى السماء. و المراد بالذكر الحكيم هو القرآن الكريم الذي أحكمت آياته بخلوصها من الباطل، و المتّقن نظمه و المشتمل على الحكمة، يهدي المؤمنين إلى الصراط المستقيم و الدين القويم، المبيّن للمغيبات.
و إنما أتى بما يدلّ على البعد للإشارة إلى عظيم منزله المشار إليه و كرامته و شرفه، و بهذه الآية الشريفة يختتم سبحانه و تعالى قصص عيسى عليه السّلام و أخباره من حين ولادته إلى وفاته و رفعه في المقام، و لكنه تعالى لم يفرغ منها، و هذا ممّا تدلّ عليه هيئة المضارع في «نتلوه»، الدالّة على استمرار الوحي.
و الآية المباركة تدلّ على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدق دعواه و بطلان ما سواها.
قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
إجمال بعد تفصيل و إيجاز بعد إطناب لتأكيد الحجّة، و هذا من الأساليب المستحسنة المتّبعة في مقام الاحتجاج و الاستدلال.
و الآية الشريفة في مقام الردّ على شبهة طائفتين:
الاولى: اليهود الذين استبعدوا خلق الإنسان من غير أب، فاتهموا مريم العذراء.
و الثانية: النصارى الذين ضلّوا في عيسى عليه السّلام، فزعموا أنه ابن اللّه تعالى، فكان الجواب قاطعا، حيث إن كلتا الطائفتين تعترفان بآدم و أنه خلق من غير أب و لا ام، فما يقول فيه اليهود و النصارى يقال في عيسى عليه السّلام، فاكتفى سبحانه و تعالى بالتشبيه بخلق آدم عليه السّلام حيث اقتضى الحال أن يوجز البيان.
و الآية الشريفة على إيجازها اشتملت على حجّتين:
الاولى: أن عيسى و آدم عليهما السّلام مخلوقان مسبوقان بالعدم، و قد خلقهما اللّه تعالى حسب حكمته و علمه، و فقد الأب فيهما لا يصير خلقهما ممتنعا، و لا يوجب ادعاء التهمة في عيسى.
الثانية: أن عيسى عليه السّلام كآدم في خلقه بالأمر التكويني، فلو اقتضى خلق عيسى من غير أب دعوى الالوهيّة فيه، لاقتضى خلق آدم تلك أيضا، مع أنه لم يدع أحد الالوهيّة و لعلّه أنه أولى بذلك، إذ لم يخلق من أب و أم، و أنه مسجود الملائكة، بخلاف عيسى الذي خلق من ام و من نفخ جبرائيل، فاجتمعت في مريم العذراء الحالة الانعقاديّة و المنعقديّة، فهو أبعد من دعوى الالوهية بمراتب عن آدم عليه السّلام.
ثم إنّ الآية الشريفة تثبت حقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أن مجاري الأمور تحت قدرة اللّه تعالى و إرادته المقدّسة، و أنه إذا أراد شيئا يتحقّق و لا يقف دونها شيء، و إن كان خلاف العادة في عالم الأسباب و المسبّبات.
و يستفاد من قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ، ترتب الكون على الأمر من دون أن يتخلّف عن ذلك بلا احتياج إلى سبب معين.
و لكن الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء التدريج، إذ أن جميع الموجودات مخلوقة بإرادته التكوينيّة، سواء كانت من التدريجيّات أم لم تكن، و التدرّج إنما يلاحظ بالنسبة إلى الأسباب، و أما إذا لوحظ بالقياس إلى أمر اللّه فلا تدريج و لا مهلة.
و إنما عبّر سبحانه و تعالى بالفعل المضارع: (كن فيكون)، مع أن الأمر كان في الماضي لتصوير ذلك الأمر تصوير مشاهدة و تجسيم في أذهان المخاطبين، كأنه واقع الآن، و لأن المضارع أظهر في التحقّق و الثبوت.
و قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يدلّ على وجه الشبه بين عيسى و آدم عليهما السّلام في أنهما خلقا على خلاف العادة، و يحتمل أن يكون المراد به أن آدم عليه السّلام في الخلق أغرب و أعظم، و مع ذلك لم يدع أحد الالوهيّة فيه، يكون أقطع للخصم و أحسم للشبهة.
قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة من قصص عيسى عليه السّلام في أنها الحقّ و ليست قابلة للافتراء و التشكيك، كما تدلّ الآية المباركة على أن الحقّ منحصر به تبارك و تعالى، و ما سوى ذلك من الباطل.
و في الآية الشريفة إيماء إلى أن جميع ما اوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الحقّ، و هو على الحقّ أيضا كما تقدّم مكررا.
و إنما ذكر سبحانه و تعالى: مِنْ رَبِّكَ، للدلالة على أن الحقّ منه دون غيره، و إليه ينتهي كلّ شيء، لفرض أنه المبدأ و المعاد.
و قوله تعالى: فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يدلّ على أن ما ذكره اليهود و النصارى في شأن عيسى عليه السّلام مفتعل و امتراء، و فيه تشجيع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المحاجّة معهم و إبطال دعاويهم.
و الآية المباركة تشتمل على أبدع الأسلوب و البيان في مقام الاحتجاج و المخاصمة، كما في قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [سورة هود، الآية: 109].
و إنما نسب الامتراء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنه لا يحتمل فيه ذلك أبدا:
أوّلا: لصحة مخاطبة أحد و إرادة غيره على نحو: (إياك عني و اسمعي يا جارة)، و هو شائع في المحاورات الفصيحة.
و ثانيا: لإثبات دعواه و نفي دعاوي اليهود و النصارى، و عدم صحّة انتسابها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.