1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 18 الى 20

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (۱۸) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (۱۹) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (۲۰)


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في الآيات السابقة جملة من أحوال الكفّار الذين اغترّوا بمظاهر الدنيا، و اعتزّوا بما عندهم من الأموال و البنين و العدّة، و اعتبروها مغنية عن أمر اللّه تعالى، فقد أخبرهم عزّ و جلّ أنها لا تغني من اللّه شيئا، و أن ما ركنوا إليه من الدنيا إنما هو زائل لا يبقى، و عند اللّه نعيم باق لا يناله إلا الذين اتّقوا و كان في قلوبهم خوفه تعالى، فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا مخصبا، ففي الآخرة جنّات كاملة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض.
و إذا كان متاعهم في الدنيا نساء و بنين، ففي الآخرة أزواج مطهّرة، و أما غيرها من الخيل المسوّمة و الأنعام و القناطير المقنطرة من أسباب اللذائذ في الدنيا، فهناك ما هو أكبر من كلّ لذّة و شهوة، و هو رضوان اللّه الذي لا يعدله. فلا يبقى للكفّار إلا ما كسبته أيديهم من الشقاء و الحرمان.
ثم ذكر جملة من أحوال المتّقين الذين آمنوا باللّه و أنابوا إليه و عملوا الصالحات و عدّ صفاتهم، و في كلّ صفة منها تتحقّق سمة من سمات الحياة الرفيعة الواقعيّة، الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ، و أن لهم الرضوان و حسن المآب.
ذكر في هذه الآيات وجه الإيمان و أقام الشهادة على أحقيّة ما ذكره في الآيات السابقة، فشهد أولا على نفسه بالوحدانيّة، و من أعظم منه شهيدا؟ و كذلك‏ شهدت الملائكة و أولوا العلم الذين ملأ قلوبهم نور الإيمان به، و بيّن ثانيا قيامه بالعدل، ثم بيّن ثالثا الدستور في حياة الإنسان، و أنه الإسلام الذي هو دين الحقّ و الحقيقة، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو الذين أوتوا الكتاب جميعا إلى هذا الدين الواحد، و يترك الجدل معهم بعد إقامة الحجج القويمة و البراهين الساطعة على الإسلام، و أنذرهم على المخالفة و أوعدهم الحساب و العذاب.
فكانت الآيات المباركة ذا نسق واحد مشتملة على ما تقدّم من البراهين و الشهادة و البيّنة عليها، لتكون ثابتة و قويمة لا يقدر على إنكارها منكر، و إلا استحق العذاب بعد إقامة الحجّة و البرهان.

قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
مادة (شهد): تدلّ على الحضور و المشاهدة بالبصر و البصيرة، و لا حضور أقوى من حضور ما سواه تعالى لديه عزّ و جلّ، فهو حاضر بذاته لذاته، و ما هو عين ذاته من صفاته، التي منها وحدانيّته و معبوديّته المطلقة.
و من أسمائه تعالى (الشهيد)، أي هو الذي لا يغيب عنه شي‏ء، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ [سورة الحج، الآية: 17].
و شهادة الحقّ جلّ جلاله، هو ظهور ذاته بذاته لذاته، و جميع أسماء الجمال و الجلال تنطوي في تلك المرتبة، و هي محيطة بها فوق ما يدرك من معنى الإحاطة، فالهوية المطلقة و المعبوديّة الحقّة منحصرة به جلّت عظمته، و هذا معنى‏ ما في جملة من الدعوات المعتبرة: «يا من هو، يا من ليس هو إلا هو»، و قوله عليه السّلام: «يا من دلّ على ذاته بذاته».
و هذا معنى ما أثبتوه في الفلسفة من أن الممكن من ذاته ليس، و من حيث الإضافة إلى علّته أيس (أي موجود).
و هذا المعنى- أي الجامعيّة لجميع صفات الجلال و الجمال، المسلوب عنه‏ جميع النواقص الواقعيّة و الادراكيّة، من حيث قيوميّته الكبرى و ربوبيّته العظمى- محيط على جميع ما سواه بأنواعه و أفراده و أجزائه، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: ٤٤]، و قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: ٤]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: ۱٦]، و بهذا المعنى الإحاطي هو اللّه الواحد الأحد و المعبود الفرد، فالتوحيد ثابت في مرتبة الذات و الصفات و الفعل، و جملة: (لا اله الّا اللّه)، تدلّ على ذلك.
و بالجملة: أن شهادة اللّه تعالى بوحدانية ذاته المقدّسة:
تارة: تكون تكوينيّة، و هي التي أسّسوها بالبراهين القطعيّة في الفلسفة من انتهاء جميع الممكنات إليه عزّ و جلّ.
و اخرى: قوليّة، و هي التي أثبتتها هذه الآية الشريفة و نظائرها، مثل قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة محمد، الآية: 19]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
و أما شهادة الخلق بالوحدانيّة، فالتكوينيّة ثابتة لهم، أقرّوا بها في اللسان أم لا، لحكاية المجعول عن الجاعل تكوينا، و أما الاختياريّة، فمنهم من آمن، و منهم من لم يؤمن.
و الشهادة يمكن أن تكون ذاتيّة لظهور الذات بالذات في الوحدانيّة، و أنه لا إله غيره، فلا شريك له في الذات، و يمكن أن تكون فعليّة، فلا شريك له في الفعل، فتكون جميع أفعاله آيات دالّة على وحدانيّته، و أن تكون قوليّة كما تشهد بها جميع الكتب السماويّة. و إن كان ظاهر السياق بلحاظ إفهام المخاطبين هو الأخيرة، و إن كان بعضهم له أهلية درك الشهادات الثلاثة.
ثم إن الشاهد- أي الحاضر كما تقدّم- إن اعتبر فيه العلم مطلقا فهو العليم، و إذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، و إذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد. و حيث إن علمه تعالى عين ذاته، فتكون خبرويّته بالأشياء عين ذاته، و شهوده لها كذلك، فيرجع الكلّ إلى علمه الذاتي.
نعم، الشهادة القوليّة فيه تعالى لها خصوصية خاصّة، لا توجد تلك في مطلق العلم و الخبرويّة.
و أما في الممكنات، فيمكن أن ترجع الشهادة إلى القوى الجسمانيّة، أي إلى البصر و السمع و العلم و الخبرة، و إلى بعض القوى النفسانيّة.
قوله تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ.
أي: أن الملائكة و أولي العلم يشهدون بأن لا إله إلّا هو. و يصحّ أن تكون شهادة الملائكة من الشهادة الذاتيّة، لأن ذواتهم كاشفة عن الوحدانيّة المطلقة، فإنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: ۲٦، ۲۷]، و إنهم يسبّحون ربّهم و يهلّلونه.
و المراد بأولي العلم الأنبياء و الرسل و من يتبعهم في العلم و العمل بالمعارف الإلهيّة و الأحكام الشرعيّة، و العرفاء الشامخون، و الفلاسفة المتألّهون، الذين أخبروا بوحدانيّته، و هم يشاهدونها من آياته و شهدوا بها شهادة علميّة و عمليّة.
و إنما خصّ سبحانه و تعالى الملائكة و أولي العلم بالذكر، لقصور أنظار جملة من الأنام عن درك ما وراء ذلك، فألقى الخطاب بحسب دركهم و فهمهم.
قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ.
القسط هو النصيب و العدل، و من أسمائه تعالى: «المقسط»، و في الحديث: «إن اللّه لا ينام و لا ينبغي له أن ينام، يخفض بالقسط و يرفعه»، و هو بمعنى الميزان سمّي به لأنه من العدل أيضا، و معنى الحديث أن اللّه يخفض و يرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه و أرزاقهم النازلة إليهم، و هو تمثيل لما يقدره اللّه تعالى و ينزله، و يطلق على غيره بالقرينة.
و القيام بمعنى المحافظة على الشي‏ء و الملازمة له، و في حديث الدعاء: «لك الحمد أنت قيام السموات و الأرض»، أي القائم بأمور الخلق و مدبّر العالم و حافظه في جميع أحواله.
و الجملة- لها معنى الوصفيّة و الحاليّة- حال من فاعل شهد، الراجع إلى الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة. أي: أن شهادتهم بالحقّ، و هم يحافظون عليها قولا و فعلا.
و العدل فيه عزّ و جلّ ثابت و دال على وحدانيّته، كما أن انحصار الالوهية و الوحدانيّة فيه تبارك و تعالى يثبت عدله و قيامه بالقسط، فهما فيه عزّ و جلّ متلازمان، كما يشهد بذلك جملة من الآيات، منها قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و قوام السموات و الأرض بالعدل أعظم آية لوحدانيّته، و هذا دليل على ما قلناه من تعميم الشهادة إلى الذاتيّة و الفعليّة و القوليّة.
و من ذلك يظهر الوجه في تقديم التوحيد على القيام بالقسط، لأن الأخير ملازم للوحدانيّة المطلقة و محفوف بها حدوثا و بقاء، فالتوحيد و الشرك مختلفان مفهوما و اعتقادا و أثرا في الدنيا و الآخرة، كما هو صريح الأدلّة النقليّة و العقليّة.
و ممّا ذكرنا يعلم أن قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ، راجع إلى جميع الثلاثة، كما هو ثابت في العلوم الأدبية من أن الموصوف يتكرّر مع جميع قيود الصفة، فيصير المعنى في المقام: شهد اللّه بأنه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و الملائكة تشهد كذلك قائما بالقسط، و أولوا العلم أيضا يشهدون بأنه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و قد أشرنا إلى أن التوحيد المطلق للكمال المطلق يستلزم ذلك، و أن القيام بالشي‏ء لا يصدق إلّا بعد الاستيلاء المطلق عليه، بلا تخلل خلاف في البين.
قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
الآية في موضع التعليل لما سبق ذكره، أي: من كان في كمال القدرة و العلم و الحكمة البالغة، يقتضى أن يكون واحدا في ذاته و في معبوديّته و في تشريع القوانين، و أن العدالة تقتضي أن يكون قهّارا عزيزا عليما حكيما، فهو تعالى حقيق بالوحدانيّة، لأنه المتفرّد بالعزّة، و أن ما سواه تحت سلطته و قهّاريته، و هو المتفرّد في حكمته، عالم بأسرار خلقه المطّلع على المصالح، و لا ينتقض حكمه و لا يردّ أمره، و يستفاد من الآية المباركة تمام الثناء و كمال التعظيم له عزّ و جلّ.
قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
الدين هو الطاعة و الانقياد للشريعة، و يطلق على نفس الشريعة أيضا، كما يطلق على الملّة و الجزاء، و هو من إطلاق اللازم على الملزوم، الذي هو من المحسّنات البلاغيّة، و يستفاد الفرق من الاعتبار و القرائن، و في الحديث: «ان اللّه ليدين للجماء من ذات القرن»، أي يقتصّ و يجزي.
و من أسمائه تعالى: (الديّان)، و هو فعال، يعني: قهر خلقه على الطاعة، يقال: «دنتهم فدانوا»، أي قهرتهم فأطاعوا، و منه قولهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا سيد الناس و ديّان العرب»، و في الحديث: «كان عليّ ديّان هذه الامة».
و مادة «سلم» من المواد المحبوبة الممدوحة في أية هيئة استعملت، و تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب و الآفات الظاهريّة و الباطنيّة، و يقال للجنة: «دار السلام»، لأنها دار الإسلام عن العيوب و الآفات، و من أسمائه سبحانه و تعالى: «السلام»، لأنه لا يتّصف بما يتّصف به الخلق من العيب و الفناء أو الحوادث.
و تأتي بمعنى الانقياد و الطاعة و العبوديّة التي تكون حقيقتها الخضوع و الانقياد للمعبود، فتكون كلّ عبوديّة و طاعة للّه عزّ و جلّ إسلاما، و كلّ إسلام له عزّ و جلّ عبوديّة له، سواء كانت في القول و اللسان، أم في القلب، أم في العمل، أم في الجميع، و في الحديث: «ما من آدمي إلّا و معه شيطان، قيل: و معك؟ قال: نعم، و لكن اللّه أعانني عليه فأسلم»، أي: انقاد لي و خضع و قد كفّ عني، و يمكن أن يكون المراد بإسلام الشيطان في الحديث الشريف تسليمه من كلّ جهة للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، لفرض انقطاعه صلّى اللّه عليه و آله من كلّ جهة إلى اللّه تبارك و تعالى، و استيلاء عقله المقدّس على جميع ما سوى اللّه تبارك و تعالى، لأنه العقل الكلّي، و هو أوّل ما خلقه اللّه تبارك و تعالى.
و قد اختصّ لفظ (الإسلام) بالغلبة في رسالة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و شريعته التي تناسب جميع ما ذكر في معنى الإسلام، لا سيما بعد قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم‏ من سلم المسلمون من يده و لسانه»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «من غش مسلما فليس بمسلم»، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من بات شبعانا و جاره جائع فليس بمسلم»، فيكون من استعمال العام في الخاص، و هو كثير في اللغة و العرف.
و المعنى: أن كلّ دين سماوي تكون فيه العبوديّة للّه تعالى يكون إسلاما له عزّ و جلّ، و هو واحد لا اختلاف فيه، و أن حقيقة الطاعة للّه عزّ و جلّ و الانقياد له تعالى، و هي روح جميع الأديان الإلهيّة و الشرائع السماويّة التي نزلت على الأنبياء، فيكون الإسلام الحقيقي هو الإذعان و الانقياد المساوق للإيمان بالقلب و العمل بالجوارح و الأركان، فيكون العمل بالدين إبقاء للدين و إعلاء لكلمة التوحيد، و جهادا مع الملحدين.
و الآية الشريفة ترشد إلى قضية عقليّة حقيقيّة، و هي بيان حقيقة الدين التي هي الفطرة السليمة المقرّرة في شرع السماء، و أن الدين هو الدستور الإلهي و الشريعة المتكفّلة لتصحيح نظام الدنيا و الآخرة، و أن العمل به يجلب السعادة للإنسان في الدارين، لأنه نزل من مشرّع و جاعل حكيم في أفعاله، عليم بجميع خصوصيات عباده، مهيمن على دينه و تشريعه، و هو منحصر في اللّه تعالى، فلا بد أن يكون الدين واحدا من حين وجود الإنسان على هذه البسيطة إلى انقراضه عنها، و هذا هو مقتضى العدل و العلم و الحكمة، فلا موضوع للتعدّد في سلسلة العلل و المقتضيات، كما لا تعدّد في مرحلة الجزاء و الحساب.
و الاختلاف في الأديان الإلهيّة إنما هو في بعض التشريعات التي يرجع سببها إلى الاختلاف في مقتضيات الظروف و استعداد الأمم، و يدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النحل، الآية: 123]، و قوله تعالى: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، هذا إذا عمّمنا الدين ليشمل مجموع الاعتقاد و العمل- كما هو الصحيح- و إن جعلناه‏ عبارة عن خصوص الاعتقاد و التوحيد في مقابل الشرك، فالأمر أوضح.
و يستفاد من سياق الآية المباركة الحصر، فتدلّ على أن كلّ دين من اللّه واحد لا اختلاف فيه، و أنه حق و أن غيره باطل، و أن فيه الاختلاف- كما تقدم- و هو يشمل جميع الشرائع و الأديان أصلا و عكسا، و قد دلّت على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً [سورة الحج، الآية: 78].
و الآية الشريفة دستور إلهي، تدلّ على تصحيح الاعتقاد و العمل حسب ما يرتضيه اللّه تعالى، كما تدلّ بالملازمة على نفي الشرك بجميع أنواعه، و أن غير الإسلام و الطاعة له عزّ و جلّ باطل غير مرضي له تعالى و لا أثر له، و هو لا ينفع الناس في دنياهم و آخرتهم.
ثم إن هذه الآية الشريفة كالتوطئة لما سيأتي من الآيات اللاحقة، التي يذكر فيها المعاندون و المشركون و الكافرون، فإن كلّ أمر يكون مخالفا لما شهد به الحقّ بالحقّ و الملائكة و أولوا العلم، يكون باطلا، سواء كان في نظام التكوين أم التشريع، و يكون مغالطة و لجاجا و زخرفا.
قوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.
بغيا: منصوب إما على أنه مفعول لأجله، أو على الحال من الذين، و المراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود و النصارى، أي: و ما كان اختلاف أهل الكتاب في دينهم الحقّ- الذي بيّنه اللّه تعالى لهم على لسان أنبيائه و رسله- إلى مذاهب و أهواء- مع أن دين اللّه واحد لا اختلاف فيه- إلّا بعد علمهم بحقيقة الدين و الحقّ المبين من بعد ما رأوا الآيات الواضحة و الدلائل الجليّة.
و هذا الاختلاف لم يكن عن عذر، بل كان عن بغي و ظلم بينهم، فتمرّدوا على الحقّ و حرّفوا الكتاب و أوّلوه، فكان أن بغى المنحرفون على المؤمنين الموحدين و تجاوز الرؤساء الحدود و نصروا مذهبا على مذهب، و ضلّلوا من‏ خالفهم، فأوقعوا الفتنة، فكفروا بآيات اللّه و أنكروا رسالة الرسل.
و يحدّثنا التأريخ ما وقع من الاختلاف الكبير في اليهود و النصارى بعد ما علموا الحقّ و آمنوا به، ممّا حمل الكثير من اليهود على إنكار التوحيد و تقبّلهم الشرك و الوثنيّة، و حرّفوا التوراة، كما ذهب النصارى إلى التثليث و تأليه المسيح و إنكار الشريعة.
و في الآية الشريفة توبيخ شديد لأهل الكتاب و تهديد لهم بما وقع بينهم من البغي الموجب للانتقام، كما أن الآية المباركة تخبر عن بعض الحقائق التأريخيّة التي وقعت بين أهل الكتاب، و قد وردت جملة منها في آيات اخرى من القرآن الكريم، كعبادة العجل، و قتل الأنبياء، و تأليه المسيح أو جعله ابنا له تعالى، و غير ذلك.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
المراد من آيات اللّه الدلائل الواضحة الجليّة، سواء كانت في الكتاب التشريعي النازل على الأنبياء و الرسل أم المعجزات الباهرات الدالّة على توحيد اللّه تعالى و صدق نبوّات الأنبياء و الأحكام الإلهيّة التي نزلت لتهذيب الإنسان و استكماله، فإن كفرها و جحودها يستلزم إنكار أصل الدين، و من جحد تلك الآيات البيّنات الدالّة على توحيد اللّه و وحدة الدين و أحكامه التكليفيّة الشرعيّة، فإن اللّه محاسبهم و معاقبهم، و اللّه سريع الحساب في الدنيا باستيلاء الأعداء عليهم و تفريق كلمتهم، أو في الآخرة بأشدّ العذاب.
قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ.
الضمير في حاجّوك راجع إلى ما تقدّم ذكره، و هم الذين أوتوا الكتاب.
و محاجّتهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنهم كانوا يدّعون أن الاختلاف معه لم يكن جدلا و بغيا، بل كان عن استدلال و اجتهاد و طلبا للواقع، و ما يدّعيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله أيضا من الاجتهاد، فلا ملزم لقبوله، و قد كان الجواب عنهم بما يقطع المخاصمة و المجادلة بالتسليم للّه تعالى من دون الإعراض عنهم.
و تدلّ الآية الشريفة على أن الاستدلالات مطلقا عقيمة، لا أثر لها ما لم تنته‏ إلى الضروريات، التي هي مبدأ كلّ النظريات، و هي ستة: الأوّليّات، و المشاهدات- سواء كانت حسيّات أم وجدانيّات- و الفطريات و التجربيات، و المتواترات، و الحدسيات، و قال بعض الأكابر:
ان ضرورياتنا ست و ذي مرجع كلّ النظريات خذي‏

و مع عدم تحقّق تلك تكون من المغالطة المذمومة، التي لا يكون للعقل إليها سبيل، و محاجّة أهل الكتاب مع الرسول، بل محاجّة الأمم مع أنبيائهم تكون من هذا القبيل، فهي تنبئ عن الانحراف و عدم الاستقامة، و في مثل ذلك لا بد لأنبياء اللّه يستقيم البرهان و لا الواجدان مع اعترافهم بالواقع، بل يكون من اللجاجة التي هي مذمومة، و في الحديث: «اللجاجة تمل الرأي»، أي تذهب به و تزيله.
و تدلّ الآية الشريفة على أدب المحاجّة، حيث لم يقل سبحانه و تعالى: «فان حاجوك فأعرض عنهم»، لأن الدعوة عظيمة و لا يليق بها الإعراض أصلا، فلا بد من التثبّت حتى تحصل النتيجة، و هي إعلان التوحيد الذي هو أساس التربية الإنسانيّة الكاملة، فهي محور نظام الدنيا و الآخرة.
كما أنها تدلّ على أن التوحيد و التسليم للّه تعالى لا يمكن إبطاله، و لا يمكن نقضه بالمجادلة و المحاجّة، و لذا أمر سبحانه و تعالى نبيّه و المؤمنين بالتسليم، فإن الحافظ هو اللّه تعالى القدير القهّار.
و من ذلك يظهر وجه الارتباط مع الآية السابقة، فإنه بعد أن بيّن سبحانه أن الدين واحد، و هو التسليم للّه عزّ و جلّ الذي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، و أن جميع الكتب الإلهيّة ترشد إليه، فلا وجه للمحاجّة فيه و لا حجّة في ما وراء ذلك.
و إنما خصّ سبحانه و تعالى الوجه من بين سائر الأعضاء بالذكر، لأنّ التسليم بالوجه يقتضي الإقبال على اللّه تعالى و الخضوع لديه و الإخلاص له، و أن إسلام الوجه يستلزم إسلام سائر الأعضاء. و يمكن أن يراد بالوجه الذات و الحقيقة من حيث صدور الأفعال الاختياريّة، فيشمل القلب و جميع الجوارح.
كما أنه تعالى شرك من اتبعه بالإيمان تشريفا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إعظاما لإيمانهم‏ و تنويها لمقام التبعيّة، أي: و من اتبعني في الإسلام و الإخلاص للّه تعالى و الإقبال عليه.
قوله تعالى: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ.
الأمي من لا يقرأ و لا يكتب، فهو على ما ولدته أمه من الجهل، و المراد من الأميين هم مشركو العرب، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قد سمّوا بذلك في مقابل أهل الكتاب، كما أن أهل الكتاب كانوا يسمّونهم بذلك، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران، الآية: ۷٥]، و وجه الجمع بين أهل الكتاب و المشركين إما لأجل كون الدين مشتركا بينهم و الجميع مطالبون بالإيمان به، أو لأجل أن الأميين كانوا معترفين باللّه و إلهيته، أو لأجل أن دين أهل الكتاب في عصر النزول كان لا يخلو عن الشرك، ممّا أوجب اشتراكهم مع المشركين.
و الاستفهام في الآية المباركة للتقرير، و فيه الأمر بالإسلام.
و المعنى: قل يا رسول اللّه لليهود و النصارى و مشركي العرب: أسلموا و ادخلوا في سلم اللّه تعالى، و لا تحاربوه بعد ما جاءكم من البيّنات. و في الآية الشريفة توبيخ لهم على العناد و اللجاج، و الكف عن الإلحاح في المحاجّة مع منكر الضرورة، كما عرفت.
قوله تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا.
أي: فإن دخلوا في السلم و آمنوا بالإسلام فقد خرجوا من الضلال و دخلوا في هداية اللّه تعالى، و هذا هو الفوز العظيم.
قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ.
أي: و إن أعرضوا عن الإسلام و حادّوا اللّه و رسوله، فإنما عليك التبليغ للدين الحقّ و الدعوة إلى اللّه تعالى، و قد حصل منه البلاغ و أدّاه بأحسن وجه.
و الآية الشريفة تدلّ على أن الرسول مبلغ للدعوة الإلهيّة، و ليس له من الأمر في الإيمان و الكفر شي‏ء، بل الحكم في ذلك منحصر في اللّه تعالى، قال‏ عزّ و جلّ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ [سورة آل عمران، الآية: 128].
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
أي: أن اللّه يعلم ما في الضمائر و مكنونات الصدور، فهو عالم بمن هو قابل الهداية و التوفيق، و من هو غير قابل لذلك، فيحكم بما تقتضيه حالهم، و في ذلك دلالة على إيكال الأمر إليه عزّ و جلّ، فيكون تأكيدا لما سبق.
و لعلّ ختم الكلام بهذه الجملة للإرشاد إلى أن المقام ليس مقام التخويف و التوعيد، بل مقام الجلب و التأليف و لو بالتأكيد، و يدلّ على ذلك إتيان لفظ (العباد) الذي يشعر بالرأفة بهم، فإن عنوان العبوديّة يقتضي كونهم مربوبين له جلّت عظمته.

المشهور بين الأدباء أنه إذا ورد قيد في الكلام و كانت قبله امور تصلح لرجوع القيد إلى كلّ واحد منها، فالقيد للجميع إلّا إذا دلّت قرينة على الخلاف، سواء كانت داخليّة أم خارجيّة أو مقاليّة، لفرض صحّة انحلال القيد في الواقع بعدد تلك الأمور، و هذا من احدى محسّنات الكلام و من الأمور البلاغيّة، ففي الآية الشريفة أن قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ له معنى الوصفيّة و الحاليّة من اسم الجلالة في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أو من الضمير «هو» في: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فيرجع إلى المشهود به في شهادة الملائكة و أولي العلم. و يصحّ أن يتعلّق بوجوده الانبساطي إلى الجميع، و لا محذور فيه، و له نظائر كثيرة في اللغة الفصحى.
و تقدّم وجه نصب (بغيا) في قوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.
و الموصول في قوله تعالى: وَ مَنِ اتَّبَعَنِ معطوف على الضمير المرفوع المتّصل في: أَسْلَمْتُ، من غير احتياج إلى التأكيد، لوجود الفصل بينهما. و يجوز أن يكون مبتدأ و الخبر محذوف تقديره: «و من اتبعن أسلم وجهه اللّه».
و إنما جاء قوله تعالى: «فَقَدِ اهْتَدَوْا» على الماضي مبالغة في الإخبار لوقوع الهدى لهم و حصوله.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول: أن في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، اتحاد الشاهد و المشهود به و الشهادة، و في ذلك ظهرت الوحدة في الكثرة، و الكثرة في الوحدة، و لا حدّ لمثل هذه الشهادة في العظمة و البهاء و الجلالة، تخرّ لها الكائنات خضّعا سجّدا، و لا يمكن للعقل أن يدركها و يحدّها بحدّ، و ليس له إلّا الاعتراف بالخضوع و التسليم، و فيها من الجذبة الروحانيّة و ابتهاج الذات ما لا يخفى، و هي أعظم آية تدلّ على التوحيد، و بها صارت هذه السورة الحدّ الفاصل بين التوحيد و الشرك، و قد اختصّت هذه الآية بمزية لا توجد في غيرها. و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.
الثاني: يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أن الشهادة إنما تكون بالقول و بالفعل و بالذات في التوحيد ثابت في مرحلة الذات و الصفات و الأفعال، فإن أفعاله المقدّسة تدلّ على أنه لا إله إلّا هو، كما تقدّم.
و من ذلك يظهر بطلان القول أن الشهادة في المقام إنما تحمل على المعنى الاستعاري، و هو أن وحدة الحاجة في جميع خلقه و جمال النظام يدلّان على وحدة الصانع، فتكون هذه الوحدة بمنزلة نطقه و إخباره تعالى. و استند في ذلك على أن حمل الشهادة على الشهادة القوليّة يستلزم الدور، لأن إثبات التوحيد بهذه الشهادة يقتضي أن يكون أمره مستندا إلى النقل دون العقل، و هو يتوقّف على صحّة و حي القرآن وحيا إلهيا، و هو متوقّف على التوحيد، و هو دور.
وجه البطلان أن وحدته تبارك و تعالى ثبتت بالأدلّة العقليّة و البراهين القطعيّة، لا بمجرّد القرآن. فنقول: وحدته تعالى ثبتت بجميع الكتب الإلهيّة، مع أن النقل إرشاد محض إلى حكم العقل في جميع المعارف الإلهيّة، و النقل لا يفيد حكما مستقلا في نفسه و إنما يقرّر حكم العقل.
و إذا ثبتت صحّة الشهادة من اللّه تعالى، لأنّه لا يتصوّر في حقّه الكذب و الزور، بل هو منزّه عن كلّ باطل و نقص، فتكون شهادته حقّا بحقّ و أن إخباره عن الملائكة و أولي العلم حقّ و تثبت شهادتهم.
و يظهر من سياق الآية الشريفة أن التوحيد و هو المقصد الأسنى، و له من‏ الأهمية العظمى، و هو حصن اللّه الأكبر، فمن دخله كان آمنا، على ما تواتر
عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، حيث قال: قال تعالى: «كلمة لا إله إلّا اللّه حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي».
و مقتضى الجمع بينه و بين القيام بالقسط، أن الإيمان بالتوحيد لا بد أن يكون مع الإيمان بالعدل، و الإيمان بأحدهما دون الآخر يكون إيمانا ناقصا، فالآية تدلّ على أن العدل من اصول الدين، فهي تؤيّد مذهب العدليّة، القائلين بأن العدل أصل من اصول الدين.
الثالث: يستفاد من إخباره تعالى عن الملائكة و أولي العلم أن هؤلاء يشهدون بالتوحيد لعلمهم بعدم شريك له تعالى، فلو كان له شريك لعلمه هؤلاء، إذ الملائكة هم وسائط الفيض، و لهم الأمر في الخلق و التدبير، و أن أولي العلم بما أنهم يشاهدون الآيات و يستفيدون منها، يعلمون بأنه تعالى واحد ليس له شريك.
الرابع: إطلاق قوله تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يشمل الجميع كجبرائيل و إسرافيل و عزرائيل الذين هم سادات الملائكة و مدبر و التكوين بأمر من ربّ العالمين، كما يشمل الكروبيين و حملة العرش الذين يكون علمهم بالوحدانيّة من الإفاضة الغيبيّة إليهم، و من تجلى الوحدة المطلقة لديهم.
الخامس: تدلّ الآية الشريفة على فضل العلم و أهله، و أنهم أمناء اللّه تعالى في خلقه، إذ جعل شهادتهم قرين شهادته و يا لها من عظمة و بهاء و كبرياء.
السادس: تكرار قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يدلّ على أن الأوّل لأجل توحيد الذات، و الثاني لأجل بيان توحيده في الأفعال و قيامه بالعدل في مخلوقاته، و هو توطئة لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، من أن الدين واحد لا اختلاف فيه.
السابع: يدلّ قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ على بطلان الجبر و التفويض، لكونهما خلاف القيام بالقسط الذي هو الأمر بين الأمرين، كما أنه يدلّ على عدم جواز الظلم بالنسبة إليه تبارك و تعالى، كما هو مذهب العدليّة.
و إنما عبّر بالقسط لأنه العدل الظاهر الذي لا يمكن جهله، بخلاف العدل فإنه‏ قد يخفى، و لذا سمّي الميزان قسطا، لأنه يظهر العدل في الوزن.
فالقسط النصيب، فإذا أعطى كان إنصافا و عدلا، و إذا منع كان جورا كما في قوله تعالى: وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [سورة الجن، الآية: ۱٥].
الثامن: يظهر من سياق الآية الشريفة أن منشأ القيام بالقسط هو الشهادة بالوحدانيّة، و لا بد أن تكون كذلك، لأن في الوحدانيّة الحقّة تنطوي جميع المعارف الحقّة.
التاسع: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ على أنه لا بد للإنسان من منهج في حياته، و هو الذي يتكفّل جميع جهاته التكوينيّة و التشريعيّة و لا يمكن التخطّي و الإعراض عنه، و أنه لا بد من الخضوع و الانقياد للّه تعالى الذي هو رأس كلّ كمال.
كما أنه يدلّ على أن أساس النظام هو الدين، و أن الانقياد بدونه فاسد و مخل بالنظام، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات الدالّة على أن لا بد للإنسان من منهج يقوّمه و دستور ينظم به شؤون حياته، و هذا هو مقتضى الفطرة أيضا، و لذا كانت القضايا الواردة في هذه الآية من القضايا الفطريّة الحقيقيّة.
العاشر: يستفاد من الآية الشريفة أن المشركين في الذات كالثنويّين، أو في المعبود كالوثنيّين أو في العبادة كالمرائين، لا حظّ لهم من هذه الآية الكريمة.
الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: بَغْياً بَيْنَهُمْ على أن الإنسان لا بد له من الإذعان بما تبيّن له من المعارف الإلهيّة، و العمل بها و الوقوف عند ما لا يعلمه، وقوف تسليم، و أن خلاف ذلك يكون من البغي، كما يستفاد أن كلّ خلاف و اختلاف إنما يكون لطلب الاستيلاء و الظلم على كتاب اللّه و المعارف الحقّة.
الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ على النهي عن اللجاج و المراء مع منكر الضرورة، و أنه لا ثمرة فيه إلّا الجدال و الخصام، كما أنه يدلّ على أن الرسول ليس له في أمر الهداية و الضلالة شي‏ء، بل هو مبلّغ كما ذكرنا.

فضل الآية:
قد عرفت أن قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، يشتمل على أعظم شهادة تدلّ على وحدانيّته و كماله في خلقه و أفعاله، و لعظم ما تضمّنته الآية الشريفة صارت من أعاظم الآيات، و قد ورد في فضلها بعض الروايات.
روى يعقوب بن شعيب عن الصادق عليه السّلام: «لما أمر اللّه هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلّقن بالعرش، و قلن: يا رب أين تهبطنا إلى أهل الخطايا و الذنوب؟! فأوحى اللّه تعالى اهبطن … و هي ام الكتاب، و شهد اللّه أنه لا إله إلا هو و الملائكة، و أولوا العلم، و آية الكرسي، و آية الملك.
أقول: تقدّم ذكرها في آية الكرسي، و رواها الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري، مرفوعا باختلاف يسير.
و روى ابن عدي و الطبراني و الخطيب و ابن النجار، عن غالب بن قطان، عن الأعمش، عن أبي وائل بن عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يجاء بصاحب هذه الآية يوم القيامة فيقول اللّه تعالى: عبدي عهد إلي عهدا و أنا أحقّ من وفّى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنّة».
و في المجمع: عن الزبير بن العوام: «قلت: لأدنونّ هذه العشية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- و هي عشية عرفة- حتّى اسمع ما يقوله، فحبست ناقتي بين ناقة رسول اللّه و ناقة رجل كان إلى جنبه، فسمعته يقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ- الآية- فما زال يردّدها حتى رفع».
تفسير الآيات:
في تفسير العياشي: عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ‏ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، قال أبو جعفر عليه السّلام: «شهد اللّه أنه لا إله إلّا هو، فإن اللّه تبارك و تعالى يشهد بها لنفسه، و هو كما قال. فأما قوله: و الملائكة، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم لربّهم و صدقوا و شهدوا كما شهد لنفسه، و أما قوله تعالى: وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، فإن أولي العلم الأنبياء و الأوصياء، و هم قيام بالقسط، و القسط هو العدل».
أقول: أما جهة إكرام الملائكة، لأنه تعالى ذكرهم بعد نفسه الأقدس، و أما التسليم لربّهم، فلا ريب في أن المجرّدات مطلقا خاضعة خضوعا تكوينيّا للّه جلّ جلاله، لذاته و لجميع صفاته، خصوصا لوحدانيّته تعالى، و قد تقدّم أنّه جلّت عظمته يتجلّى لهم بوحدانيّته، فتكون شهادة الملائكة بالتوحيد بتجلّيه تبارك و تعالى لهم بتلك الصفة، و لو لوحظ مراعاة الاصطلاح تكون شهادتهم من عين اليقين، فضلا عن حقّ اليقين.
و أما قوله عليه السّلام: «و هم قيام بالقسط»، فهو من ذكر المصدر من باب المبالغة في التعبير، و الاختصاص للقيام بالقسط بخصوص أولي العلم، بل يشمل الملائكة أيضا، و قد أثبتوا في العلوم الأدبيّة أن الوصف لا مفهوم له. و أنّ ذكر الأنبياء و الأوصياء من باب ذكر أهم المصاديق البشريّة.
في تفسير العياشي- أيضا-: عن محمد بن مسلم، قال: «سألته عن قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، فقال: الدين فيه الإيمان».
أقول: لا ريب أن للإسلام مراتب كثيرة، قال سبحانه و تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: ۱٤]، و معلوم أن مجرّد الذكر اللفظي لكلمة التوحيد مع عدم الاعتقاد القلبي به، و عدم العمل بمقتضياته، يصحّ سلب الإيمان و الإسلام و التوحيد عنه، كما هو ظاهر كثير من السنّة المباركة.
نعم، لذلك أثر خاص و هو حفظ الدماء و العرض و المال صونا للجامعة الإسلامية.
عن ابن شهر آشوب، عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال عليه السّلام: «التسليم لعلي ابن أبي طالب بالولاية».
أقول: هذا من باب بيان أحد المصاديق، و المراد العمل بما أتى به عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ في تفسير القمّي عن علي عليه السّلام: «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي و لا ينسبها أحد بعدي، الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل، و المؤمن من أخذ دينه عن ربّه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره، يا أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر و ان الحسنة في غيره لا تقبل».
أقول: أما قوله عليه السّلام: «لأنسبن الإسلام»، يعني أبيّن نسبة الإسلام، و أنه منسوب إلى اللّه تبارك و تعالى بمبدئه و منتهاه، و لا يمكن أن ينسب الإسلام بغير هذا أحد من الناس.
و أما قوله عليه السّلام: «الإسلام هو التسليم»، هذا من باب بيان معناه الاشتقاقي، و في ذلك تنطوي امور كثيرة، أي: التسليم باللسان و الجنان و العمل بالأركان.
و أما قوله عليه السّلام: «و التسليم هو اليقين»، هذا من باب تفسير الملزوم و إرادة اللازم، لأنه لو لم يتيقّن الشخص بشي‏ء لا يسلم نفسه إليه.
و أما قوله عليه السّلام: «و اليقين هو التصديق»، هذا من باب ذكر أحد المتساويين بالآخر، توضيحا للمقصود، لأن كلّ تصديق بقضية يوجب اليقين بمفادها، و كلّ يقين في قضية يستلزم التصديق بها، كما هو معلوم.
و أما قوله عليه السّلام: «و التصديق هو الإقرار»، هذا مثل سابقه يكون من باب تفسير أحد المتساويين بالآخر، توضيحا و تأكيدا.
و أما قوله عليه السّلام: «و الإقرار هو الأداء»، المراد بالأداء الالتزام القلبي بالعمل بما أقرّ به، بحيث يترتّب عليه العمل، فيكون تمام قوله عليه السّلام شرحا لحقيقة الإسلام بمراتبها القوليّة و الاعتقاديّة و العمليّة.
و أما قوله عليه السّلام: «و المؤمن من أخذ دينه عن ربّه»، فهو كالنتيجة للبيان السابق، لأن ما كان من اللّه سبحانه و تعالى مبدءا و مسيرا و ينتهي إليه، لا بد لأن يؤخذ منه فقط، لأن غيره لا يمكنه ذلك عقلا.
و أما قوله عليه السّلام: «إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره»، فهو قضية عقليّة دليلها يستفاد من نفس تصوّرها، لأنه لو لم يكن العمل و القول مطابقين للمعتقد، فلا أثر لهما أبدا، فكلّ من نظر إلى عمله و سرّته حسنته و ساءته سيئته، فهو مؤمن كما تطابق عليه الكتاب و السنّة.
و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره، لأن منشأ الكفر- مطلقا- لا بد أن يرجع إلى إنكار التوحيد و جحده.
و أما قوله عليه السّلام: «يا أيها الناس دينكم دينكم»، يعني: الزموا دينكم ثم التزموا به. و هذه الجملة يؤتى بها في مقام التأكيد و التثبيت و التقريب.
و أما قوله عليه السّلام: «إن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره … إلى آخر الرواية»، لأن شرط قبول الحسنة الدين و التقوى، و المفروض عدم تحقّقهما في الكافر.
في أسباب النزول للواحدي: «لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فأبصروا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرفاه بالصفة و النعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: و أنت أحمد، قال: نعم، قالا: إنا نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك و صدقناك، فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه، فأنزل اللّه تعالى على نبيّه: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ»، فأسلم الرجلان و صدقا برسول اللّه».
أقول: هذا من أحد أسباب نزول الآية الشريفة، و يمكن أن يكون لها أسباب اخرى.

من صفات اللّه تعالى القائم بالقسط، و هي عين ذاته المقدّسة التي لا حدّ لجلالها و كمالها، و أنها تدلّ على كماله تعالى في أفعاله، و تستلزم كثيرا من الصفات العليا، كالرأفة و الرحمة و العدل. و القسط- كما مر-: هو العدل مع زيادة فيه، و هي أن القسط يستعمل في موارد العدل الظاهر و الحقّ المعروف، فهو أبلغ من العدل، كما أن الجور أبلغ في العدوان من الظلم، فيكون للقسط خصوصية لم تكن في العدل- كما تقدّم- و إن كانا يتقاربان في المعنى، كما فسّروه به في كثير من الموارد، و لكن القسط يستعمل في مورد لا يستعمل العدل فيه، كما أن الأوّل يعدّى ب «إلى» و لا يعدّى العدل به، قال تعالى: أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة، الآية: 8]، و ممّا يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا [سورة الحجرات، الآية: 9]، و لا يصحّ أن يكون أحدهما عين الآخر، إذ التأسيس خير من التأكيد.
و في حديث المهدي عليه السّلام المروي من الفريقين: «يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت ظلما و جورا».
فيكون القسط أنسب بالشهادة في المقام من العدل.
و القائم بالشي‏ء هو المتصدّر و المراعي له و محقّقه و مجريه. أي المجري، و أقومها و أنفعها للنظام التكويني و التشريعي و الجزائي، و بها يتحقّق الترابط بين الربّ و عبيده، و بين أفراد العباد بعضهم مع بعض، و به يقع التآلف، و التحابب بينهم، كما أن به يضمن المظلوم حقّه و يجازى الظالم لظلمه، و به ينتظم النظام، و لأجل ذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرّر هذه الآية في أفضل الأوقات و في أفضل الأماكن، فقد ورد أن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله كان يردّدها في عشية عرفة كما مرّ.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"