1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات ۱4 الى ۱۷

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (۱٤) قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (۱٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (۱٦) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (۱۷) 


الآيات الشريفة تبيّن حقيقة الدنيا و الآخرة، و أن الاولى محفوفة بحبّ الشهوات و ما يوجب الضلال و الخروج عن الصراط المستقيم، و أن رغائب النفوس و دوافع الغريزة هي التي تشغل الناس عن التبصّر و الاعتبار و التوجّه إليه سبحانه و تعالى، و تحجبهم عن منابع النور و الحكمة، كما تحرمهم عن نعيم الآخرة.
و قد عدّ سبحانه و تعالى في الآية الاولى اصول الشهوات المنسوبة إلى نفس الإنسان و أنها التي توجب الزيغ و الضلال، و أن قلوب الناس ملئت حبّها و جعلت مشغوفة بها، و هي الستة- النساء، و البنون، و الأموال، و الخيل، و الأرض المخصبة، و الأنعام- التي تتدخل في سلوك الإنسان في الدنيا و تعيّن مستقبله في العقبي، فهي قضايا حقيقيّة تصدقها العقول، فتكون الآية الشريفة بمنزلة الشرح لحقيقة حال من يعتقد أن الاستغناء إنما يكون بالتلذّذ بالنساء و الأولاد و الأموال و ما وهبه اللّه تعالى، فأعرضوا عنه عزّ و جلّ، لأنهما كهم في المشتهيات و حبّ الدنيا، و بيّن عزّ و جلّ أن ما في الدنيا من جميع المشتهيات هي متاع زائل لا قرار له.
و في الآية التالية ذكر سبحانه و تعالى نعم الآخرة و لذائذها، و هي جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهّرة، و أهمّها رضوان من اللّه، و قد بيّن عزّ و جلّ ما يوجب الاستمتاع به و الدخول في رضوانه جلّ شأنه و الوسيلة لكسب السعادة في العقبى، كما بيّن الطريق الذي لا بد من سلوكه ليوصلنا إليه عزّ و جلّ، و هو الإيمان به تعالى و اللجوء إليه و الصبر و الإنفاق و التوبة و الإنابة، ثم الصدق في جميع ذلك و الخضوع لديه عزّ و جلّ.

قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ.

مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى، قال تعالى: وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سورة فصلت، الآية: 12]، و قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ [سورة يونس، الآية: ۲٤]، و قال تعالى: فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [سورة القصص، الآية: 79]، و في حديث الاستسقاء: «اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها»، أي نباتها الذي يزيّنها.

و الزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات و الأعصار و الأمصار، و أنها من الجماليّات التي يكون حسنها ممدوح و جذاب للنفوس، بل إن بعض مراتبها ممّا يدرك بالحسّ، و لا يمكن وصفها باللفظ، و الزينة الحقيقيّة هي ما لا يشين الإنسان في شي‏ء من أحواله، لا في الدنيا و لا في الآخرة، و غيرها ممّا يوجب الشين في حالة دون اخرى، فهي زينة بالوجه و الاعتبار، و ليست هي حقيقيّة على الإطلاق.

و الزينة على أقسام ثلاثة: زينة نفسانيّة، كالعلم و الاعتقادات الحسنة و الكمالات النفسانية المقرّرة في الشريعة، و زينة بدنيّة جسمانيّة، كالشمائل الظاهريّة الحسنة، قال علي عليه السّلام: «زينة المرء حسن أدبه، و جمال الرجال في عقولهم، و عقول النساء في جمالهن»، و زينة خارجيّة كالمال و البنين و الاعتبار. و قد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم.

فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ‏ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 7]، و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [سورة الأعراف، الآية: 32].

و اخرى: إلى الشيطان، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: ٤۳].

و ثالثة: لم يسم فاعلها- كما في المقام- و الوجه في ذلك أن اللّه تعالى خلق الدنيا و ما عليها وسيلة إلى نيل الكمال و الوصول إلى غاية حميدة، و هي الدار الآخرة، فكانت الدنيا متاعا و دار مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن، ليتزوّد منها إلى سفر آخر طويل، فكلّما كان الزاد أحسن و أبقى، كان العيش في الآخرة أهنأ و أحسن، و قد خلق اللّه تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان، و تكون وسيلة للتزوّد منها و يتوسّل بها إلى الدخول في رضوان اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 7، 8] و إلى ذلك يشير كلّ ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالى.

و أما إذا جعل الإنسان الدنيا و ما عليها من الزينة محط نظره، و اعتبرها أمرا مستقلا و جعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة و ذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى، و أحبّها حتّى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال و الأولاد تغني عنهم، فزيّنت لهم أعمالهم، فكانت الدنيا وبالا عليهم، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان، و إن كانت الدنيا مخلوقة للّه تعالى، و قد أذن للإنسان أن يتمتّع بها، ليتمّ النظام، و لكن لم يزين الدنيا لتلهّي الإنسان بها و يعرض عن ذكره عزّ و جلّ، فإن اللّه تعالى أعزّ و أمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة، فالتعبير بالمجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدّم كما سيأتي.

و تقدّم معنى الحبّ في آية ۱٦٥ من سورة البقرة.

و مادة (شهوة) تأتي بمعنى نزوع النفس إلى ما تريده. و هي إما صادقة، أي‏ ما يقوم بها البدن و لا تتم الحياة البشرية إلا بها، و تكون من أتمّ ما بني عليه النظام الأحسن، بحيث لو اختلّت لبطل النظام و تعطلت امور الأنام، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. و إما كاذبة، و هي الشهوة المذمومة، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني، و إنها مستقذرة حذّرت الأديان الإلهيّة منها، و جعلتها محور الانحرافات و الأخلاق الذميمة، سواء كانت خفيّة، أي الصفات الذميمة و الأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها و يصرّ عليها، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان أخوف ما أخاف عليكم الرياء و الشهوة الخفيّة»، أم كانت ظاهريّة، و هي ما كانت ظاهرة من العمل.

و الشهوات: جمع شهوة، و هي توقان النفس للملائم أو الملذ لها، و هي من أهمّ القوى التي خلقها اللّه تعالى في الحيوان، و لو لولاها لما قام له أصل و لا بنيان.

و سياق الآية المباركة يدلّ على أن فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس، لأنّ حبّ الشهوات مذموم، و يشتدّ الذم كلّما اشتدّ الحبّ، و يخف كلّما خف حتّى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان و الحيوان، فتزول المذمّة رأسا، بل يكون ممدوحا و يكون خلافه نقصا و مذموما، و على ذلك يحمل‏ ما ورد عن سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء، و قرّة عيني الصلاة»، و سيأتي وجه آخر لحمل كلامه.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان طبيعة الإنسان و ما يتدخّل في سلوكه، فإذا وفّق بين الحبّ و الطبيعة، بحيث يتحكّم العقل بالتوفيق بينهما، كانت النتيجة فاضلة و الأثر عظيما، و يكون حبّا ممدوحا، و هو الذي يشاؤه اللّه و يريده و يرتضيه، و لا ريب في أنه ممدوح عقلا أيضا، فيكون تزيين اللّه تعالى هو إذنه و بيان حدوده، فقد زين حبّ المذكورات في الآية الشريفة المتقدّمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة لتنظيم النظام و بقاء النوع و حسن الاجتماع، و أما إذا ألهى القلب عن التوجّه إلى اللّه تعالى و أوجب الغفلة عنه عزّ و جلّ، فهو من تزيين الشيطان و وساوسه، و هو مذموم عقلا أيضا.

قوله تعالى: مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ.

ذكر سبحانه و تعالى أمورا ستة من المشتهيات، و هي الأمور التي تتدخّل في شؤون الإنسان و سلوكه و تحدّد مصيره.

و (من) بيانيّة، و البنين جمع ابن، و هو الذكر من الأولاد، و لكن في المقام يشمل الذكور و الإناث، بقرينة قوله تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن، الآية: ۱٥]، و قوله تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى‏ [سورة سبأ، الآية: 37]، و قوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الممتحنة، الآية: 3]، و إنما أتى عزّ و جلّ بصيغة الذكور إما تغليبا، أو يكون كناية عن حبّهم المذموم الذي كان دائرا بينهم.

و إنما زين حبّ البنين مع كونه من حبّ النساء أيضا، لأن البنين هم الغاية القصوى من حبّ النساء، و هم النتيجة لذلك الحبّ.

و القناطير: جمع القنطار، و هو المال الكثير، و في بعض الأخبار ملأ مسك ذهبا، و قيل: ملأ جلد ثور ذهبا، و قيل غير ذلك، و هو اسم لمعيار خاص أيضا، و سمّي المال بالقنطار، لأن صاحبه يعبر بواسطته الحياة الدنيا، و يختلف ذلك اختلافا كثيرا بحسب الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة و غيرها، كالغنى الذي لا يمكن تحديده بحدّ خاص، و من حدّدهما إنما يحدّدهما بحسب الجهات الخارجيّة، لا بحسب ذاتهما.

و المقنطرة اسم مفعول جي‏ء به للتثبيت و التوكيد، كما هو عادة العرب في توصيف الشي‏ء بما يشتق منه للمبالغة و تثبيت معناه له. و هذا التعبير مشعر بالكثرة و الاقتناء.

و تعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف، فإن بعضا منه يتعلّق حبّه بالنساء، و بعضا آخر يتعلّق بجمع المال و تخزينه، و ثالثا بالأولاد البنين منهم بالخصوص، و رابعا بالأنعام و الحرث. و ربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك‏ المشتهيات، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة، فضلا عن الأشخاص.

فالآية المباركة تبيّن طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقيّة، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات، فقد يتعلّق حبّ الإنسان بالجاه و المقام و نحو ذلك، و إن كانت المشتهيات الاخرى- التي لم تذكر في الآية الشريفة- أقلّ تأثيرا ممّا ذكر فيها، فهي امور وهمية تتعلّق بها الرغبة و مقصودة ثانوية، فيكون الحصر إضافيا، فلا منافاة بين هذه الآية الشريفة و بين قوله تعالى: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [سورة الكهف، الآية: ٤٦]، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق به.

و تعلّق حبّ الإنسان بهذه الثلاثة واضح، لأن بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا، بل النظام الفردي و الاقتصادي فيها، و بها تتحقّق أغلب رغباته، و بقدر اشتداد هذه المشتهيات و ضعفها يتحدّد سلوك الإنسان و يتعيّن خلقه في الدنيا و مصيره في الآخرة، فإن بالنساء تتحقّق المعاشرة الزوجية إليهن و تسكن النفوس، و هن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسئوليات كثيرة في الكفاح و العيش، فالمرأة و الرجل متشابكان في عموم المنافع و انتظام النظام، و لأجل ذلك أسّس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، و قد حدّد الشرع المقدّس هذه الشهوة بحدود خاصّة تحدّد مسئولية كلّ واحد منهما في هذه الحياة و تنظم شؤونهما، و التعدّي عنها يوجب الفساد و الدمار.

و إنما لم يذكر عزّ و جلّ حبّ النساء للرجال- مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلا منهما، كما أن بقية الشهوات عامة لهما- إما لأن من أدب القرآن الكريم و السنّة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن، أو لأجل أن كثيرا من الأمور التي تتعلّق بهذه الشهوة إنما يتعلّق بالرجال و تقلّ في جانب النساء، فإن الأشد و لعا بحبّ النساء و اتخاذهن صواحب في اللذائذ و نحو ذلك هم الرجال، كما أنهن أشد تأثيرا على الرجال، إذا اشتد الغرام و التعشّق بهن.

قوله تعالى: وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ.

المسومة: إما بمعنى الراعية من سامت الإبل سوما إذا ذهبت لترعى، أو بمعنى المعلّمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة، و منه‏ قوله صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر: «سوموا فإن الملائكة قد سومت»، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا، و هي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء و غيرهم للافتخار و التباهي، مضافا إلى كونها ممّا يبذل بإزائها المال الكثير.

و الأنعام و هي الإبل و البقر و الغنم، و إنها أموال أهل القرى و البادية، و منها يكون معاشهم و ثروتهم.

و الحرث اسم لكلّ ما يحرث، أي المغروس و المزروع، فيشمل نفس الزرع و تربيته، فيكون فيه معنى الكسب. و الحاجة إليه أشدّ من غيره، و حبّه لا يكون ضارا بأمور الآخرة، و لذلك أخّره عن الأنواع السابقة، و بذلك تتمّ جميع ما يزين أصناف الناس، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الافتنان بكلّ صنف، فالذهب و الفضة لأهل التجارة و الخيل للملوك و أهل الجاه و المقام، و الأنعام لأهل البادية، و الحرث لأهل القرى و الأرياف، فتصلح الآية الشريفة لكلّ عصر و مصر من دون اختصاصها بصنف خاص و مورد كذلك.

قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا.

المتاع اسم لكلّ ما يتمتّع به، و يعبّر عنه لكلّ ما هو في معرض الزوال و الاندثار، و التعبير به للتزهيد في الدنيا و الترغيب للآخرة، التي هي دار البقاء و الحيوان، أي: ما ذكر من المشتهيات هي امور يتمتّع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزوّد منها برهة من الزمن، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة.

قوله تعالى: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

المآب: المرجع، و حسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه و لا عناء و المنزّه عن كلّ نقص و عيب، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل و المطلق في العقبى.

و في الآية المباركة كمال الترغيب إلى الاخرة، و تحقير الدنيا و التقليل من شأنها.

قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ.

تفصيل لما أجمل سابقا، و بيان لقوله تعالى: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، فقد أمر سبحانه و تعالى نبيّه ببشارة المتّقين، بأن لهم عند اللّه تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة، التي لا تبقى و لا تدوم، و هو الخير للإنسان، فلا خير في ما سواه، و هو و إن كان مشابها لما في هذه الدنيا و مجانسا للشهوات الإنسانية، و لكنها أجل النعم و أعظمها، و هو خال عن النقص و بري‏ء عن القبح و الشرور، و قد ذكر سبحانه ذلك في كلام بليغ تتوجّه إليه النفوس و تهتزّ من فرح اللقاء الأرواح و القلوب. و فيه جذبة ربوبيّة من الملكوت الأعلى للمتّقين المسجونين في سجن الدنيا، و قد وعدهم الجنّة و مطهرات الأزواج و الرضوان.

و من إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته و من جميع شؤونه و جهاته.

و إنما أتى سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام، لتوجيه النفوس إلى الجواب و تشويقهم إلى العمل، و هو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس و يستفزّها على إصغاء الجواب.

قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ.

جملة (للذين اتقوا) خبر مقدّم، و جملة: (جنات تجري) مبتدأ مؤخّر. و التقوى هي إتيان الواجبات الشرعية و اجتناب المحرمات الإلهيّة، و هي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم، كما أنها الورع الذي حثّت عليه السنّة المقدّسة بألسنة شتّى، فقد ورد: «أن من اجتنب محارم اللّه فهو من أورع الناس»،

و هي أساس الكمالات و قرّة عين الأنبياء و المرسلين، و هي السبب المتّصل بين أهل الأرض و السماء، و بها ينتظم نظام الدنيا و العقبى.

و لفظ الجنّات يدلّ على كثرة الأشجار و استتار الأرض بها و تعدّدها و جريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تماميّة بهجة الجنّات و ازدياد رونقها، و كون الجنّات كذلك من أجلى مظاهر الفرح و الانبساط، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة، و لذا عقّبها بقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها، لتماميّة النعمة، بخلاف نعيم الدنيا.

و لجريان الأنهار أنواع كثيرة: منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار، و منها ما إذا كان المنبع من تحتها، و منها ما إذا كان نزول الماء من الفوق في الأنهار ثم الجريان منها صاعدا (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلّاقة إلى غير ذلك، و بالجملة أن هذه الجنّات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.

و الأزواج المطهّرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل و مبرّأة من كلّ عيب و ذم و نقصان، خلقا و خلقا بما يلائم طبع الإنسان، فهي في غاية الملاحة و البشاشة و السرور، و في ذلك تمام النعمة.

و قد خصّ اللّه تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانيّة، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانيّة، و الوقاع من أشدّ اللذائذ عند الإنسان.

قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ.

الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران، و هو ملائمة الشي‏ء لنفس صاحبه و سرورها به.

و قد تكرّرت مادة (رضى) في القرآن الكريم بهيئات شتّى تبلغ سبعين موردا، و قد ينسب الرضا إلى اللّه عزّ و جلّ و يراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حدّ من النعم المعنويّة، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد و طاعتهم له عزّ و جلّ، أو صفاتهم و أحوالهم، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلّق بهم، قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الفتح، الآية: 18]، و قال تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [سورة الزمر، الآية: 7].

و قد ينسب إلى العبد، و هو آخر مقامات العبوديّة الخالصة الذي هو التخلّق‏ بأخلاق اللّه تعالى، و التفاني في حبّه، و لذلك درجات كثيرة، منها رضاء العبد عن اللّه تعالى لجزائه الحسنى و حكمه، قال تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة، الآية: 100].

و رضوان اللّه تعالى هي الغاية القصوى لكلّ ذي لب، و هي أعلى مراتب اللذائذ الروحانيّة، و ذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا، بل هو الغاية منها، فلا بد من السعي إلى رضوان اللّه تعالى الذي هو من أعظم اللذائذ عند المتّقين و ذوي الألباب، فهو الخير الذي لا يتصوّر أعظم منه، لا ما يتصوّره الإنسان من الخير في المال و القناطير، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى، و لذلك اعتنى عزّ و جلّ به و أفرده بالذكر في مقابل الجنّات و الأزواج المطهّرة في هذه الآية و في سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ، قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2]، و قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20].

و قد جمع سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة، و هي الجنّات و الأزواج المطهّرة، و اللذّة المعنويّة الروحانيّة، و هي: الرضوان الذي لا يحدّه حدّ و لا يشوبه نقص.

و يستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتّقين في الآخرة، و أن لأهلها مراتب و طبقات، فمنهم من لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانيّة، كالجنّات و الأزواج المطهّرة، و منهم من عظمت منزلته و ارتقى إدراكه و علا قربه، فلا يليق به إلا رضوان اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.

أي: و اللّه خبير بعباده عليم بأفعالهم و ما تطويه ضمائرهم، فلا تخفى عليه خفاياهم و أمورهم، فيجازي كلّ فرد بما يكسبه و ما يليق بأفعاله.

و يستفاد من الآية الشريفة أن امتياز كلّ فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه و سلوكه في حياته الدنيويّة و الاخرويّة تحت إرادة اللّه تعالى و حكمته البالغة، و هو عالم بمصالحهم و جزائهم لا تخفى عليه أمورهم، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره.

قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ.

بيان لصفات المتّقين المدلول عليهم بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، و هي من الصفات الحميدة، و فيه إشارة إلى بعض صفات المحبّين المخلصين، و بعض مقامات العارفين، كلّ ذلك في خطاب بليغ إلى أعزّ حبيبه و أطهر قلب من الشرك و أنواع العيب، و فيه تظهر المعبوديّة المحضة للمعبود الحقيقي، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين و العابدين.

و القول: مطلق ما يشعر بالحكاية عمّا في الضمير، بخلاف الكلام فإنه أعمّ من القول، فكلّ كلام قول و لا عكس، و المراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم، و سياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه.

و مادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ و الدنس، يقال: «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه». و هي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جدا، و قد أضافها اللّه تعالى إلى نفسه الأقدس في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فهو الغفّار و الغفور، و أن منه المغفرة، قال عزّ و جلّ: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ [سورة الرعد، الآية: ٦]، و قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [سورة طه، الآية: 82]، و قال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [سورة آل عمران، الآية: ۳٥]، و قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة يوسف، الآية: 98].

و مادة (ذنب) تأتي بمعنى التبعة، أي القبح الذي يتبع صاحبه، و الفرق بينه و بين الجرم بالاعتبار، لأنه بمعنى القطع، أي يقطع ارتباط صاحبه باللّه تعالى، فكلّ مجرم مذنب و كذا العكس.

و الآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان باللّه تعالى و لذا فرع غفران الذنوب على الإيمان، يعني: أننا و فينا بما عهد إلينا و هو الإيمان، فانجز اللهم بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك و خلاصنا من عذابك. و عهد اللّه تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحا و ضمنا، منها قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 31]، و قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية: ٥۳]، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة الصف، الآية: 9- 12].

و معنى الآية الشريفة: الذين يؤمنون و يعترفون بحقيقة العبوديّة للّه تعالى و الإيمان به عزّ و جلّ، و يجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب و نجاتهم من عذاب النار، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

و الآية المباركة ليست في مقام المنّة عليه عزّ و جلّ، بل له تعالى المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان.

و إنما خصّوا اسم الربّ في دعائهم لما فيه من إظهار العبوديّة و الاسترحام.

و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة و الصغيرة، و قد قرّر عزّ و جلّ إيمانهم مع ذلك، فتكون الآية الشريفة حجّة على من قال بأن ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان.

نعم، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه، كما هو المستفاد من‏ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يزني الزاني و هو مؤمن»، فله وجه، لكنّه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة و الإجمال.

و الوقاية من عذاب النار و النجاة منها أعمّ من المغفرة و الدخول في الجنّة، و إنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنّة و مقدّمة له.

قوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.

الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي و الملازم لامتثال الأوامر، و الصادق المخبر بالشي‏ء على ما هو عليه، و القانت المطيع، و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، و قد فسّر بكلّ واحد منهما أيضا، و لكن إذا استعمل في الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه المخلصين يراد به هما معا، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [سورة النحل، الآية: 120]، و الإنفاق هو بذل ما هو راجح بذله، فيشمل المال و الجاه و العلم و قضاء حوائج الناس، و الأسحار جمع سحر، و هذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنى الخفاء و الإخفاء. و في المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر، و هو اسم لذلك الوقت، و هو أفضل الأوقات و أشرفها و أحسنها للعبادة، و أطيبها لحضور القلب و الإقبال على الدعاء و المناجاة مع الربّ، و أبعدها عن مداخلة الرياء، و كلّما قيل في مدحه و فضله فهو قليل، فكم للّه تعالى فيه من نفحة عطرة منّ بها على من يشاء و جائزة موفرة يخصّ بها من أخلص في الدعاء، و كم من عبادة فيها هبّت عليها نسمات القبول، و دعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول، فهو وقت العلماء العاملين و العرفاء المتعبّدين، و هو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب، بلا تخلل مغاير أو رقيب، فالسعيد من أدرك هذا الوقت الشريف و استفاد من رحمة الربّ اللطيف.

و هذا الوقت من آخره معلوم، و هو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار، و أما من أوّله، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل، و عن آخرين أنه الثلث الأخير منه، و عن آخر أنه الثمن، و الكلّ صحيح بحسب مراتب الفضل، و قد تعرّضنا لبعض‏ الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام‏] فراجع.

و الآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتّقون، و هي أمهات الصفات الحسنة و الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات و يتحلّى بمحاسن الأخلاق، و بدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى، و لذا قدّمه سبحانه في الكلام. و إطلاقه يشمل الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و الصبر عند المصيبة، و هو و الصدق من أعلى مقامات السالكين إلى اللّه تعالى و أفضل درجات أهل الحقّ و اليقين، خصوصا إن عمّمنا الصدق ليشمل صدق اللسان و الحركات و خطرات الجنان و تطابق الظاهر مع الباطن، فحينئذ لا يتصوّر للعبوديّة مقام فوق ذلك إن طابق كلّ ذلك مع الشرع المبين و اقترن مع الخضوع و التذلّل للّه تعالى.

و هذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، و لا يشذ منها كلّ متّق، و هي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة و تبلغها إلى أوج السعادة و أقصى الدرجات.

و بالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات و الخصال الكريمة التي تعلق بالنفس و تبعدها عن رذائل الأخلاق.

و بالصدق يتحلّى بالصفات التي تتعلّق بالظاهر.

و هاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان و تصلحان سريرته و علانيّته.

و القنوت للّه تعالى يجعل الإنسان خاضعا ذليلا بين يدي عظمته، مطيعا لإرادته عزّ و جلّ، و هذه الخصلة تصلح ما بينه و بين اللّه تعالى.

و الإنفاق يبعده عن رذيلة الشح و يجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان، فيتحسّس بالمسؤولية، فهذه الخصلة تصلح بينه و بين الناس.

و أما القيام بالسحر، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلبا منه العون في جميع أموره و الاستعاذة من الشيطان و النفس الأمّارة.

و الاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل و الصلاة فيه و طلب الرحمة و المغفرة، كما فسّرته السنّة المقدّسة بذلك، و ما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة:

الأول: هذه الآية الشريفة و قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ [سورة الذاريات، الآية: 17- 19].

الثاني: قوله تعالى: تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة، الآية: 17، 18].

الثالث: قوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء، الآية: 79]، و التهجّد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن و الدعاء و الصلاة و نحوها من العبادات، و يستفاد من الجميع مطلوبيّة أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف، و لها مراتب كثيرة، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل، و هي أفضلها و أشرفها، و منها أن يكون في ضمن الدعاء و المناجاة و لو كانا في غير الصلاة، و منها نفس كلمة: «استغفر اللّه ربي و أتوب إليه»، و مقتضى الإطلاق مطلوبيّة الجميع مع اختلاف المراتب.

و الاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار، فيكون سببا لمحو الذنب السابق، و مقتضيا لترك الذنب اللاحق، فتستعدّ نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال و الاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل و لا تزال.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل: يدلّ قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ، على أن جميع ما يلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى و ما يؤثّر في سلوكه في دار الدنيا إنما هي هذه المذكورات في الآية الشريفة، و هي ردّ على من ذهب إلى أن عواطف الإنسان و أحاسيسه إنما توجّهها الشهوة الجنسيّة فقط، فهي التي تحدّد سلوكه في حاضره و مستقبله و توجب الكابة و الأمراض النفسيّة أو الجسميّة إن كبتها الفرد، و لذلك دعى إلى الإباحة الجنسيّة، و سيأتي في البحث العلمي تتميم الكلام.
الثاني: يستفاد من سياق الآية المباركة أن الفاعل لتزيين المذكورات فيها إنما هو الشيطان الذي يزين أعمال الإنسان، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة القرآنية، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [سورة العنكبوت، الآية: 38]، و قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: ٤۳]، فيكون حبّ هذه الأشياء صارفا عن محبّة اللّه تعالى ما لم يجعلها الإنسان في طريق السعادة و الفوز بالفلاح، و لا ينافي ذلك أن يكون أصل هذه الأشياء و طبايعها من صنع اللّه تعالى الخالق الحكيم القيوم على خلقه المدبر لهم تدبير علم و حكمة، فإن من سنّته عزّ و جلّ أنه خلق الإنسان حرّا مختارا في أعماله، و أودع في خلقه بديع صنعه و أرسل الرسل لهداية الناس و أنزل معهم الكتاب و الحكمة لسعادتهم، و قد خلق إبليس الذي يوسوس للإنسان و يصرفه عن طريق الخير و السعادة على نحو الاقتضاء، كما لم يمنع الإنسان من اتباعه، كلّ ذلك لئلا يثبت الجبر فيبطل الثواب و العقاب، و لإتمام الحجّة و الامتحان و تمييز المؤمن عن غيره، و إثبات التكليف و التشريع و تثبيت قانون الجزاء.
الثالث: أن التزيين على حبّ الشهوات دون نفسها، للدلالة على أن تلك الأمور بنفسها لم تكن مذمومة، فإن الشهوات الإنسانية لها دخل في الحياة و بها يتمّ النظام، و لكن إن تعلّق الحبّ بها بحيث يكون صدّا عن اللّه تعالى، فيرجع تزيين حبّها للناس إلى جعل هذه الأمور في أعينهم بحيث يكون شغلهم الشاغل، و التولية فيها سببا للإعراض عن اللّه تعالى، بأن يجعلوها أهدافا لهم فقط لا وسيلة فيكون هذا الحبّ مذموما و تزداد المذمّة كلّما اشتدّ الحبّ، و تخف كلّ ما خف و ضعف حتى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة الإنسانيّة و وسيلة تنظيم الحياة لكسب مرضاة اللّه تعالى، فتزول المذمّة رأسا، و يكون خلافه نقصا و مذموما، و يستفاد ما ذكرناه من جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة الأعراف، الآية: 32]، و قوله تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [سورة القصص، الآية: 77]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و على ذلك يحمل ما ورد عن المعصومين عليهم السّلام في مدح بعض المشتهيات، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب، و النساء، و قرّة عيني الصلاة».
الرابع: قد ورد في الآية الشريفة أقسام الشهوات التي تختلف رغبات الناس فيها- كما مرّ- فهم على أصناف بالنسبة إلى حبّها، فمنهم من يتعلّق حبّه بالنساء ولاهم إلا التعشّق بهن و صرف همه في المؤانسة بهن و مصاحبتهن، و إن استلزم المحرّمات و وجوه الفساد، و منهم من يحبّ التكاثر و التقوي بالأولاد، و هذا لا يكون إلا بالبنين دون البنات، و لهذا خصّ ذكرهم دونهن، و منهم من هو مغرم بالمال و جمعه، و هذا يتحقّق بالذهب و الفضة اللذين بهما يتقوّم سائر الأشياء، و يكون حبّه لغيرهما بالتبع، و منهم من يحبّ الحرث و الزرع أو اتخاذ الأنعام، و منهم من يحبّ الفروسيّة فيتخذ الخيل المسوّمة.
و ربما يتحقّق في شخص واحد قسم واحد من هذه الشهوات، و ربما يجتمع أكثر من واحد، و قلّما يجتمع جميعها في شخص واحد، فالآية الشريفة مع أنها في مقام بيان تعداد المشتهيات و تكثّرها، تكون في مقام بيان أصناف الناس و اختلافهم في حبّ هذه المشتهيات بالملازمة.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، على أن ما في الآخرة مشابه لما في الدنيا، و أن الإنسان يلتذّ بنعيم الآخرة كما يلتذّ بنعيم الدنيا من المأكل و المشرب و المناكح و غير ذلك، و أن الفرق هو أن نعيم الآخرة لا يشوبه نقص و أنه يختصّ بالمؤمن، بخلاف نعيم الدنيا، و ذلك لأن وجود الإنسان في الآخرة عين وجوده في الدنيا، فهو بنفسه متقوّم بالاستفادة من اللذائذ دنيويّة كانت أو اخرويّة، و لكلّ منهما أسباب خاصة تختلف باختلاف العوالم، و هو لا يوجب الاختلاف بحيث يعرض عن نعيم الآخرة و تكون باطلة و عبثا بالنسبة إليه، و يدلّ على ما قلناه جميع الكتب السماويّة، خصوصا القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، و يؤكّد ذلك في قوله تعالى في آخر هذه الآية: وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.
السادس: يدلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، على نوعين من الجزاء:
أحدهما: جسماني، و هو الجنّات التي تجري فيها الأنهار و الأزواج الطاهرة.
و الثاني: العقلي الروحاني الذي هو من أعظم اللذّات، و هو رضوان من اللّه تعالى الذي لا يتصوّر فوقه لذّة.
السابع: يدلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي على مراتب الجنّة، و اختلاف درجات أهل الجنّة، و أنهم على مراتب و درجات.
الثامن: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أن هذه الشهوات هي امور دنيئة بالنسبة إلى ما عند اللّه عزّ و جلّ من الرضوان و الجنان، و أن هذه الشهوات هي امور زائلة وقتيّة ليست مبنيّة على الحقيقة و الواقع، و إنما خلقها اللّه تعالى لإقامة هذه الحياة الفانية الزائلة و تكوين الاجتماع الإنساني، و بدونها يعرض الاختلال بل الفناء عليه.
التاسع: إنما قدّم سبحانه و تعالى النساء على جميع الشهوات، لأنهنّ حرث بني آدم، و أن شهوة النساء هي أكثر الشهوات إعمالا عند الناس، و هي من أعظم اللذائذ الجسميّة عند الإنسان، بل هي الركن الأساس في الحياة، و لذا ورد في الحديث: «أن من تزوّج فقد أحرز نصف دينه أو ثلث دينه».
و لكن ليست هي الركيزة الوحيدة في الإنسان، كما يدّعيه بعض علماء النفس.
العاشر: إتيان لفظ «الجنات» في قوله تعالى: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، يدلّ على تعدّدها لكلّ واحد من المتّقين، مجهّزة بكلّ ما يتصوّر فيه من الفرح و الانبساط و السرور و الراحة، كما و كيفا، و ذلك لأجل تعدّد موجبات استحقاق الجنان في هذه الدنيا، كما هو واضح.
الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ، على أن رضوان اللّه تعالى هو من مشتهيات الإنسان في الدارين، لأنه إنما يطلب مشتهيات الحياة الدنيا لأجل رضاء النفس بها و راحتها، فهو من مشتهياته إما بحدّ ذاته، أو بالملازمة، و لذا جعله تعالى في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية الشريفة، و في مقابل الفضل و المغفرة و الرحمة في آيات اخرى، قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2].
و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20]، و قال تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ [سورة براءة، الآية: 21].
و إنما أطلق سبحانه الرضوان في المقام للدلالة على شموله للنفس، و الصفة، و الفعل و جميع الخصوصيات.
الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ‏ اتَّقَوْا. أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة، و هي الإيمان باللّه، و إظهار العبوديّة له عزّ و جلّ، و الاسترحام منه تعالى في طلب العفو و الغفران، و الصبر على الطاعة و عن المعصية و في الخطوب، و الصدق في القول و الفعل، و الخضوع له عزّ و جلّ، و الإنفاق في سبيله تعالى، و قيام الليل و التهجّد فيه بالاستغفار.
الثالث عشر: إنما قرن سبحانه الاستغفار بالإنفاق في الآية الكريمة، للدلالة على أن شحّ النفس من أقوى موجبات الحرمان عن قربه عزّ و جلّ.
الرابع عشر: إنما أجمل تبارك و تعالى الاستغفار و الدعاء في السحر للإشارة إلى كثرة أهمية هذا الوقت، و لا بد أن لا يفوت فضله على الإنسان بالدعاء و طلب الغفران.

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام: «ما تلذّذ الناس في الدنيا و الآخرة بلذّة أكثر لهم من لذّة النساء، و هو قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ. ثم قال: و إن أهل الجنّة ما يتلذّذون بشي‏ء من الجنّة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب».
أقول: رواه العياشي في تفسيره أيضا.
و الوجه أنه تعالى لم يخلق ألذ من النساء في الجنّة، لأنهنّ من منشآت اللّه تعالى مباشرة، كما قال عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً [سورة الواقعة، الآية: ۳٥- 37]، فإنهنّ الجزء الأعظم من النظام الأتمّ كما تقدّم، و لأنها المؤانسة بما خلق من رحمته جلّت عظمته، هذا بحسب اللذائذ الجسمانيّة. و أما غيرها، فله شأن آخر سيأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.
و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «القناطير جلود الثيران مملوءة ذهبا».
أقول: رواه في المجمع عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أيضا، و هو من إحدى معاني القناطير المقنطرة، و تقدّم تفسيرها بالمال الكثير الجامع لجميع ذلك.
و في تفسير القمّي- أيضا-: قال عليه السّلام: «الخيل المسوّمة الراعية و الأنعام، و الحرث يعني الزرع».
أقول: تقدّم ما يرتبط بذلك في التفسير.
و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، عن الصادق عليه السّلام: «لا يحضن و لا يحدثن».
أقول: هذا من مصاديق الطهارة، و إلا فهنّ طاهرات من كلّ خبث و دنس و رذيلة.
و في الفقيه و الخصال عن الصادق عليه السّلام: «من قال في وتره إذا أوتر: استغفر اللّه و أتوب إليه سبعين مرّة و هو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي سنة، كتبه اللّه تعالى عنده من المستغفرين بالأسحار و وجبت له المغفرة من اللّه تعالى».
و في المجمع: عن الصادق عليه السّلام قال: «من استغفر سبعين مرّة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية».
أقول: الروايات في فضل الاستغفار- خصوصا في الليل- كثيرة جدا تعرّضنا لبعضها سابقا، و يمكن أن يستفاد وجوب المغفرة من استجابة اللّه تعالى دعاء المؤمنين في هذه الآية الشريفة: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا.

لا ريب في أن كمال العلّة الفاعليّة من كلّ جهة يقتضي كمال العلّة الغائيّة كذلك، لأن الغاية علّة فاعليّة بوجودها العلمي، و علّة غائيّة بوجودها الخارجي، هذا في غير المبدأ تبارك و تعالى.
و أما في المبدأ عزّ و جلّ، فهو بذاته جاعل و خالق لما سواه، و هو تعالى بذاته و صفته و فعله حسن، و بهذا الحسن الذاتي و الصفتي و الفعلي غاية و مرجع لما سواه، فيكون عنده حسن المآب لا محالة، و إذا كان في البين نقص و فساد و خسّة فإنما هو من مقتضيات اختيار الإنسان، لا أن تكون بالنسبة إلى المبدأ و المآب، فما ورد في قوله تعالى: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، إنما هو قضية عقليّة برهانيّة قرّرها اللّه تعالى في كتابه الكريم، و ليس المراد من لفظ «عنده» الحدّ الخاص من الزمان أو المكان، بل المراد إحاطته عزّ و جلّ بما سواه إحاطة قيوميّة و ربوبيّته العظمى حدوثا و بقاء، و تبديلا إلى كلّ ما يشاء، و إفناء متى أراد، فهو الحي القيوم مبدءا و مآبا، و هو الحيّ القيوم في ما بينهما، و كلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما سواه بمعنى واحد.
ثم إن اللذّة إما روحانيّة معنويّة، أو جسمانيّة ظاهريّة، و الأخيرة متقوّمة بالقوى الجسمانيّة، بل عن جمع من محقّقي الفلاسفة إنكار أصل اللذائذ الجسمانيّة، و أنها ليست إلا من دفع الآلام فقط، و أثبتوا ذلك مفصّلا.
و أما الاولى فهي من أعلى مدارج كمال الإنسان و صعوده و ارتقائه إلى عوالم لا نهاية لعظمتها، و هي شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، و لا ينالها أحد إلا بالتفاني في مرضاته حتّى يصل إلى درجة البقاء فيه عزّ و جلّ، و لعلّ أحد معاني رضوان اللّه تعالى يرجع إلى ذلك، و ما ورد في بعض الروايات المتقدّمة من أن النساء أشهى اللذائذ إنما هي باعتبار اللذائذ الجسمانيّة، بل يمكن أن ترجع تلك اللذّة في الجنّة إلى اللذّة الروحانيّة، باعتبار كون النساء فيها من صنع اللّه تعالى مباشرة، قال تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً [سورة الواقعة، الآية: ۳٥- 37]، و أما اللذائذ المعنويّة فهي أكبر و أعظم و ألذّ بالنسبة إلى بعض الناس.
و هل تكون الشهوات من مختصات هذا العامل بأصولها و فروعها و نتائجها المترتبة عليها، أو تعمّ الدار الآخرة أيضا لكن بوجه أحسن و أليق يتناسب مع ما في ذلك العالم، بحيث يكون نسبة ما في هذا العالم إلى ذلك العالم نسبة المعنى إلى اللفظ أو نسبة الحقيقة إلى المجاز؟
و الذي تدلّ عليه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة هو التعميم، قال تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 71]، و قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [سورة البقرة، الآية: 25]، و الآية التي تقدّم تفسيرها تدلّ على ذلك أيضا، فأصل الحقيقة واحدة و إنما الاختلاف في الجهات الخارجيّة، فجميع الشهوات النفسانيّة موجودة في الدار الآخرة على النحو الأتم الأكمل، قال تعالى: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ [سورة الرعد، الآية: ۲٦]، فإن الإنسان فيها هو الإنسان في الدنيا، و إنما يتمتّع في الآخرة بما أعدّه في الدار الدنيا من الحسنات و السيئات، و بالملذات التي كان يريدها في الدنيا و تحصل سعادته في الآخرة، و الحرمان منها شقاء و ضيق.
و إنما ذكر تعالى جملة منها في الدنيا إنما هو لمتاعها و قيام نظام هذا العالم بها، لا أن تكون مختصّة بها دون غيرها إلا على مفهوم اللقب الذي لا يكون حجّة، كما ثبت في العلوم الأدبيّة.
و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، وجود ذلك كلّه فيها على النحو الأتم و الأكمل، فإن مآب كلّ شي‏ء فيه حسن، إذ السير هو سير استكمالي و توجّه إلى الكمال، و هذا هو مقتضى إطلاق الآيات التي وردت فيها ملذّات الآخرة و مشتهياتها من دون تعليق لها بوجه من الوجوه، بخلاف الآيات التي اشتملت على ملذّات الدنيا، فإن فيها تعليقا بوجه من الوجوه، و إن كانت ملذّات الدنيا يشترك فيها المؤمن و الكافر، بخلاف ملذّات الآخرة فإنها مختصّة بالمؤمن.

شهود حقائق الموجودات على ما هي عليها في الواقع بجواهرها و أعراضها و لوازمها و ملزوماتها الأزليّة و الأبديّة حدوثا و بقاء، بل و قبل الحدوث يصحّ أن يعبّر عنه بالغيب الذاتي، و لا حدّ لهذا الشهود من كلّ جهة، و لو عبّر عن ذلك بابتهاج الذات بالذات يصحّ أيضا، و هو مختصّ بالواحد الأحد الصمد، و لا يدانيه‏ ملك مقرّب و لا نبيّ. و قد يفاض منه شعاع على الغير، و هو تابع لقدر الإفاضة كمّا و كيفا. كما أنه لا يختصّ بعالم دون عالم، فإن الإشعاع أزلي و أبدي و النفوس المستعدّة تستفيض من ذلك الإشعاع بقدر القابلية، و يصحّ أن يكون رضوان اللّه تعالى إشارة إلى ذلك الإشعاع، و لعلّ اللّه تعالى يوفّقنا لتفصيل المقام في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.
و من ذلك يعلم أنه لو جعل العبد غاية عباداته الوصول إلى رضوان اللّه تعالى، كانت من أكمل الغايات و أحسنها.
و حبّ الشهوات هو من أغلظ الحجب الظلمانيّة بين العقل و ادراك الحقائق النوريّة و المعارف الربوبيّة، بل هو نار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة، لأن منشأ الحبّ هو القلب، فإذا كان متعلّقا بالأهواء الباطلة و الشهوات، يصير القلب كخرقة بالية منغمرة في دار الغرور، محجوب عن منبع الجلال و النور، فإنها لا تعمي الأبصار، و لكن تعمي القلوب التي في الصدور، فيضلّ عن الصراط المستقيم، و لا غاية بعد ذلك إلا سواء الجحيم. فلا غاية لإعمال الشهوات المذمومة إلا العار و النار، فإن حقيقة الإنسان الكاملة- التي هي كالصورة لجميع العوالم الإمكانيّة- لم تعرف بعد و لن تعرف، و إن بذل العلماء المحقّقون من الفلاسفة الإلهيين و غيرهم جهودهم، و صرف العرفاء الشامخون طاقتهم فيه، لأنها أعظم سرّ اللّه تعالى في الخليقة، و هي من أجلّ مخلوقاته في جميع العوالم الربوبيّة، و لا بد في عرفانها من العكوف على بابه و التماس ذلك من وجهه و كتابه، و مثل هذه الآيات المادحة لمقام التقوى و الشارحة لها، تشير إلى لمعة من لمعات ذلك النور الحقيقي، فكما أن للتقوى و العبوديّة للّه عزّ و جلّ مراتب، كذلك للإنسانيّة الكاملة، بل مراتبها تدور مدار العبوديّة الخاصّة، و كلّ ما قالوه العرفاء من وحدة الوجود و الموجود و أمثال ذلك في تعبيراتهم، إن رجع إلى ذلك فلا باس به، و في غير ذلك يرد علمه إليهم.
و كلّ الذي شاهدته فعل واحد بمفرده لكن بحجب الأكنة
إذا ما أزال الستر لم تر غيره و لم يبق بالأشكال إشكال ريبة

و حقّقت عند الكشف أن بنوره اهتديت إلى أفعاله بالدجنة
و تظهر للعشاق في كلّ مظهر من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى و اخرى بثينة و آونة تدعى بعزّة عزت‏
تجليت فيهم ظاهرا و احتجبت باطنا بهم فأعجب لكشف بسترة

و المتحصّل من الآيات القرآنيّة و السنّة المقدّسة أن الإنسان الكامل، كما أنه مخلوق للّه تعالى، كذلك مورد تربيته حدوثا و بقاء إلى أن يرد دار الخلود، و أن إرادة الإنسان الكامل متفانية في مرضاته، فيصحّ أن يقال إن الإنسان الكامل مورد مشيئته و إرادته، و يشهد لذلك قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى‏ [سورة طه، الآية: ٤٦]، و في الأحاديث القدسية: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة»، و في بعض الأحاديث: «يشكو للّه تعالى عن عبده المؤمن يوم القيامة فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبدي إني مرضت فلم لم تعدني، يقول العبد: يا رب كيف أعودك و أنت ربّ العالمين؟ يقول اللّه تعالى: مرض عبدي المؤمن فلو عدته لو جدتني عنده»، و الأحاديث في سياق ذلك كثيرة، فما عبّر به بعض الأعاظم من الفلاسفة من الوحدة تعبير حسن إن أراد به ما يستفاد من سياق القرآن و السنّة، و عبارة اخرى عمّا شرحه أمير المؤمنين عليه السّلام عن بينونة الصفة، لا بينونة العزلة، فقال عليه السّلام في بعض خطبه الشريفة: «بائن مع خلقه بينونة صفة، لا بينونة عزلة»، و هو على إجماله يناسب جميع الأقوال التي قيلت في بيان وحدة الوجود. و لعلّ اللّه تعالى يوفّقنا لتحقيق القول بأكثر من ذلك في مستقبل المقال.

قد جمع سبحانه و تعالى اصول الشهوات التي يقوم بها نظام الدنيا في الآية المباركة المتقدّمة، و هي شهوات الجنس و المال و الزينة و التفاخر و الرياسة، و جمعها بوجه آخر في آية اخرى، فقال عزّ و جلّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ [سورة الحديد، الآية: 20]، و الإنسان قرين هذه الشهوات و الغرائز، و قد يجتمع بعضها في سائر الحيوانات، إلا أن الفرق بين الإنسان و غيره، أن اللّه تعالى خلق الإنسان حيوانا عاقلا درّاكا مريدا، و هذه من مختصّاته و لا توجد في غيره إلا على درجات ضعيفة، فهو الذي يقدر على جمع القوى المتخالفة المتواجدة فيه، و يجعلها تحت زمام العقل و الإرادة المنبعثة من التعقّل و التفهّم و الدرك الصحيح، و لأجل ذلك صار الإنسان محور التكاليف الشرعيّة و منشأ لإرسال الرسل و إنزال الكتب الإلهيّة، و كلّ ما كانت القوة العاقلة هي الحاكمة في أفعال الإنسان و إحساساته و شؤونه، كلّ ما كان أقرب إلى الكمال و أبعد عن الرذائل و الفساد، و أما إذا تغلّبت عليه إحدى القوى العاملة فيه، كان أقرب إلى الفساد و أبعد عن الصلاح، و للتكاليف الإلهيّة شأن كبير في تهذيب النفس و تأمير القوّة العاقلة على جميع الشهوات و استيلائها على غيرها، و لذا كان لهذه القوّة شأن كبير في سلوك الإنسان و تهذيبه و إصلاحه، سواء السلوك الفردي أم السلوك الجماعي، و لكن ليست لسائر القوى المتواجدة في الإنسان السيطرة على سلوكه لوحدها، و إن كان لها الأثر الكبير إن لم يقم الفرد في تهذيبها و إصلاحها بما يراه اللّه تعالى.
و هذه الآية الشريفة ردّ على من زعم من أصحاب المدارس في علم النفس أن للجنس الأثر الكبير في سلوك الإنسان فردا أو جماعة، و أن كبت تلك الشهوة توجب الأمراض النفسيّة و الحرمان عن الملذّات، و دعا إلى الإباحيّة في الجنس للتخلّص من هذه الأمراض، و أعلن الحرب على التقاليد و الأعراف المتوارثة و الأحكام الشرعيّة التي تقيّد الجنس و تهذّبه، و ذهب إلى أن جميعها تورث العقد النفسيّة التي يصعب معالجتها و برؤها، إلى غير ذلك ممّا ينكره العقل و التجربة.
و قد أثبت علماء النفس بطلان كثير ممّا ذهب إليه، فالجنس كسائر الغرائز الموجودة في الإنسان إن لم تستعمل على الوجه الصحيح توجب الحرمان و الكبت و سائر الأمراض الخلقيّة و النفسيّة، و هذا هو الذي دعا إليه الإسلام.
و الآية الشريفة من تلك الآيات الدالّة على ما ذكرناه، فهي تقرّر أمرا عقليّا، و هو أن حبّ الشهوات و الاهتمام بتزيينها، يوجب بعد الإنسان عن الكمال المعدّ له في الدنيا و الآخرة، و هذا ما نراه في المدنية الحاضرة التي بلغت شأوا بعيدا في الملذّات، و لكنها عادت إلى الجاهلية الاولى، و هي و إن كادت تصل إلى أوج الكمال المادي و تهيئة وسائل الراحة و العيش الهني‏ء، إلا أنها أبعد دورا من أدوار حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة من الكمال المعنوي و الاطمئنان النفسي و راحة الضمير.
فالآية الشريفة لا تعدّ نفس هذه الشهوات من موجبات انحطاط الإنسان، بل أن حبّها و تزيينها و إهمال الجانب العقلي و تعاطي هذه الشهوات و كثرة إعمالها يوجب الحرمان و الانحطاط، فهي صريحة في المطلوب، و بعد ذلك لا ينبغي للفرد المسلم التغافل و التغاضي عن الإسلام و تلك القوانين التي نزلت لسعادة الإنسان و الحياة في الدنيا حياة هنيئة آمنة سعيدة، و الاستعداد لما بعد هذه الحياة لنيل رضوان اللّه تعالى و البقاء فيه.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"