1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 133 الى 138

وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (۱۳٤) وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (۱۳٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (۱۳٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)


الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي يذكر فيها أهم الخصائل الحميدة الفردية و الاجتماعية، و هي تهدي الإنسان إلى استكمال نفسه و مجتمعه و تعلمه كيفية علاج الرذائل النفسانية فهي تدعوه إلى الخير و الإحسان، و التحلي بمكارم الأخلاق و الانزجار عن الشر و السوء و مساوي الأخلاق.
و هي المسارعة إلى الخير، و الانفاق في سبيل اللّه في السراء و الضراء، و كظم الغيظ، و العفو عن الناس، و التوبة عن المعاصي و الذنوب التي تبعد الإنسان عن خالقه و توقعه في الورطات و المشاكل.
و قد امر عز و جل بنيل الإحسان و كل خير فردي و اجتماعي، و بيّن سبحانه و تعالى ان في التخلق بها و في افشائها يحقق للإنسان الحياة السعيدة و تأمنه من الوقوع في المهالك و توجب له النجاة من الشدائد و بها تثبت الوحدة بين افراد المجتمع و يشد بعضهم بعضا.
فهذه الآيات الشريفة تبين الصراط المستقيم الذي من سلكه لا يضل و لا يشفى، و قد ذكر سبحانه في الآيات السابقة أهم ما يمنع الإنسان من السير على ذلك الصراط المستقيم و ما يعيقه من تكميل نفسه و مجتمعه و هو الربا الذي يعد في نظر الإسلام من أهم الموانع المادية و المعنوية التي تحرم الإنسان عن الحياة السعيدة و تمنع من الانفاق الذي يعد من أهم الأسس في نيل السعادة.
و قد عد عز و جل ان التعدي عما ذكره و الاعراض عما بينه يؤدي إلى الشقاء و الحرمان و امر عز و جل بالاعتبار عما جرى في الأمم السابقة التي أعرضت عما ارتضاه اللّه تعالى لهم.

قوله تعالى: وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
دعوة عامة إلى الغفران، و بشارة عظيمة لجميع اهل الذنوب و العصيان و استضافة من الجواد الغني لجميع الواردين عليه، و ترغيب إلى العباد في إزاحة جميع الاغشية و الظلمات، و دفع انواع الجهالات، و وعد منه عز و جل لمن أطاع اللّه و أطاع الرسول، و قد ذكر جزاء المتقين المطيعين اتباعا للوعيد بالوعد الجميل، و اقترانا للترهيب بالترغيب كما هو سنته عز و جل.
و المسارعة المبادرة و الاشتداد في السرعة، و هي في الخير ممدوحة و في الشر مذمومة، و المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إليها. و انما امر سبحانه و تعالى بالمسارعة إليها باطاعة اللّه تعالى و الرسول للتنبيه على ترك التسويف الذي يفوت به الأجر و الحظ و كثرة المثبطات و وسوسة الشيطان التي توهن العزائم.
و يمكن ان يكون قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» مبينا للمغفرة في هذه الآية الشريفة، كما ان قوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ» مبينا للمسارعة إلى الجنة.
و كيف كان فان اسباب المغفرة و الدخول في الجنة معروفة مذكورة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، كما ان اسباب الدخول في النار كذلك.
قوله تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ.
العرض خلاف الطول و هو اقصر الامتدادين عادة، و يكنى به عن السعة، و استعماله في ذلك شايع يقال بلاد عريضة اي واسعة، و منه قولهم: اعرض في المكارم إذا توسع فيها، و في الحديث عنه (صلى اللّه عليه و آله): «لقد ذهبتم فيها عريضة» اي الأرض الواسعة و قد قال (صلى اللّه عليه و آله) ذلك عند ما هرب جماعة يوم أحد فرارا من الزحف.
كذلك فأين الطول و ما مقداره مع انه لا يجري ذلك إذا فرضنا كروية الجنة.
و يمكن ان لا يكون التعبير كنائيا بل كان على الحقيقة أما بناء على عدم تناهي الابعاد كما عن جمع من الفلاسفة فالامر واضح. و اما بناء على التناهي كما عن بعض فلا ريب في انه على فرض صحته انما هو في الدنيا، و اما في الآخرة فهي غير متناهية من جميع الجهات زمانا و مكانا و سعة و نعمة و غير ذلك.
و قد ذكر المفسرون في معنى العرض في المقام بما لا يرجع إلى محصل و نقل عن أبي مسلم بن بحر أن المراد من العرض في الآية الشريفة هو من عرضك الشي‏ء على البيع و المقايضة اي لو عرضت الجنة بالسموات و الأرض لكانتا ثمنا. و هذا تأويل باطل.
و كيف كان فالآية الشريفة ترمز إلى معنى جميل ترغب المخاطبين إلى المراد بأسلوب لطيف و جار على ما يتصوره الناس من التمثيل بالموجود في الخارج و تبين بلوغ الجنة في السعة بحيث لا يمكن أن يجدها حد وهمي، و هذا مما يوجب اطمينان الإنسان بأن له ما تشتهيه النفس من جميع الجهات ففي بعض الأحاديث القدسية: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر» و هذا هو شأن النعمة التي أعدت من غير المتناهي من كل جهة إلى المنعم عليه المتناهي من كل جهة، و هذه هي الحياة الكاملة الابدية التي لا ينبغي للإنسان إلا السعي في دركها.
قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
الاعداد التهيئة و هو إما علمي أو خارجي، في هذه النشأة أو في‏ نشأة اخرى أو في عالم الملكوت الذي يكون كالصورة و المرآة لهذا العالم بجميع جزئياته و كلياته، و يمكن ان يعبر عنه بعالم المثال الخارجي و هو موجود بوجود روحاني معنوي، و دخله سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) في معراجه و اطلع على خصوصياته فيكون الاعداد مطابقا للوجود العلمي الازلي، و الوجود الخارجي في الدنيا و الوجود الاخروي في ما لا يزال.
و التقوى هي سبب معد للجنة فتكون حقيقة التقوى منزلة من العلم الازلي مثل بالوجود المثالي ثم نزلت إلى هذا العالم و ستعود إلى المحل الذي أعدته لنفسها، كما ان حقيقة العصيان و الطغيان و الكفر كذلك و لكل منها مظاهر خاصة تناسب عالم ظهورها، و يمكن التمثيل له في هذا العالم ايضا فان بعض الاراضي لا قابلية لها إلا لزراعة مثل الزعفران و قطعة اخرى لا تصلح إلا ان تكون سبخة يعلوها الملح. و ذلك كله بنحو الاقتضاء لا العلية التامة و من ذلك يعلم المراد من قولهم (عليهم السلام): «كل ما هناك لا يعلم إلا بما هنا» أو «ان الدنيا مزرعة الآخرة».
و انما أتى عز و جل الفعل مجهولا للاشارة إلى ان لفعل الفاعل دخلا في الاعداد، و أضيفت الجنة إلى المتقين لبيان ان الوصف و هو التقوى علة لهذا الاعداد.
و نظير هذه الآية قوله تعالى: «سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» الحديد- 21. و لعل الاختلاف في التعبير بالمسارعة و المسابقة لأجل ان المسارعة تكليف للجميع من غير اختصاص بفرد و المسابقة تكليف فردي بان يتسابق كل فرد فردا آخر حين المسارعة، فتكون المسابقة أخص من المسارعة، و يكون‏ المراد بالجنة في آية المسابقة جنة خاصة عرضها كعرض السماء و الأرض فان للّه تعالى جنات كثيرة بل غير متناهية.
كما ان المراد بالجنة في آية المسارعة الجنس التي يكون عرضها السموات و الأرض، و يصح ان يراد بالسماء في آية المسابقة الجنس فيتحد مفاد الآيتين حينئذ.
ثم انه تعالى ذكر المتقين في المقام لغرض الأوصاف التي وصفهم بها، و هي أوصاف جامعة لمكارم الأخلاق و هي تفيد المجتمع كما تفيد الأفراد أمروا بالتحلي بها لغاية تهذيبهم و تكميلهم و قد نزلت هذه الآيات بعد غزوة احد، و قد جرى على المسلمين ما جرى، كما صدر منهم ما صدر فاستلزم ذلك تنبيه المؤمنين و تهذيبهم و اعدادهم لما ستجري عليهم من الحوادث و قد وصف عز و جل المتقين بأوصاف خمسة و هي: قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ.
السراء من السرور، و هو الرخاء و الفضل، و الضراء من الضرر و هو الشدة و العسر و الضيق. اي: الذين ينفقون لوجه اللّه تعالى في حالة الرخاء و السرور، و حالة الشدة و الضيق و العسر.
و ظاهر الآية الشريفة ان السراء و الضراء حالتان للمنفق، و يحتمل ان تكونان حالتان للإنفاق في حالة الرخاء و السرور، و حالتي الضيق و الشدة فمن الاول الانفاق في التوسعة على العيال، و من الثاني الانفاق لرفع ما يضطرون اليه.
و انما حذف عز و جل متعلق الانفاق ليشمل القليل و الكثير، و كل ما يصلح للإنفاق، سواء كان مالا أو غيره.
و قد بدأ سبحانه و تعالى من بين الأوصاف بالإنفاق مقابلة للربا الذي نهى عنه عز و جل في الآية السابقة الماحق لكل فضل و فضيلة، و لان الانفاق في الحالتين يكشف عن محبة المنفق للّه تعالى و تقواه لأنه أنفق أحب الأشياء لنفسه. و لان الانفاق انفع للناس من سائر الصفات فان فيه يظهر التعاون بين افراد المجتمع و به ترتفع المشكلات و تنحل المعضلات و يخفف من هموم الفقراء و يبعث في نفوسهم الأمل و يشدهم مع سائر افراد المجتمع.
قوله تعالى: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ.
وصف ثان و مادة (كظم) تدل على الحبس و الإمساك، و منه الحديث «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» اي يحبسه مهما أمكن و يقال كظم البعير اي امسك عن الجرة، و كظم القربة شد رأسها عند الامتلاء. و الغيظ شدة الغضب و فوران الدم للانتقام.
قوله تعالى: وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ.
وصف ثالث و هو من أجل مكارم اخلاق اللّه تعالى فان بعفوه يتم تدبير نظام العالم. و من أسمائه تعالى العفوّ و هو المبالغة في العفو الذي هو التجاوز عن الذنب و ترك العقاب عليه، و أصله المحو و الطمس و العفو عن الناس هو ترك مؤاخذتهم مع القدرة عليها و التجاوز عن عقوبة من استحقها، و هو اقرب للتقوى و في الحديث: «سلوا اللّه العفو و العافية و المعافاة» اما العفو فمحو الذنوب، و العافية ان تسلم من الأسقام و البلايا و هي الصحة، و المعافاة هي صرف أذى الناس عنك و أذاك عنهم و يغنيك عنهم و يغنيهم عنك.
و إنما حذف المتعلق ليشمل كل ما يدخل تحت حقه.
و هذا الوصف يكشف عن كرم المتصف به و حسن سريرته و ضبط نفس الامارة تحت ارادته و حكمته فتكون مرتبة هذا الوصف أعلى من مرتبة كظم الغيظ فان الشخص قد يكظم غيظه و لكن على حقد و ضغينة و العفو دليل على انتفائهما.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وصف رابع و هو الإحسان الذي له المرتبة الأعلى من بين جميع ما سبق بل هو أكرم المكارم و لعله لأجل ذلك لم يعطفه على ما سبق.
و الإحسان: صفة كريمة تتصف بها النفس يكشف بها كظم الغيظ و العفو عن الناس فان هذه نعوت معدة لكسب الإحسان و التحلي به، و الإحسان: هو جعل الأشياء في موضعها و إتيان الأعمال على الوجه اللائق بها، و بالإحسان يتم الانفاق الذي لا بد ان يعري عن جميع ما يشينه و يكمل كظم الغيظ و العفو عن الناس، و لذلك كان للمحسنين اجر عظيم و منزلة كبيرة، قال تعالى: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» العنكبوت- ٦۹ و يكفي في منزلة هذا الوصف ان اللّه يحب المحسنين و يثيبهم على إحسانهم و كفى بذلك فخرا و فوزا.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
وصف خامس، و هو أعظم آية في القرآن الكريم في تهييج رجاء العبد و فيها التنويه بمقام العفو و الإحسان، و تذكر المتقين بعدم اليأس لو صدر منهم ذنب فانه بعد ان ذكر أوصاف المتقين من كظم الغيظ و العفو و الإحسان عقبه سبحانه بأعظم ما منّ به على العباد و هو العفو عن المذنبين و الإحسان بهم تعليما لهم و تنويها لمقامها و اعلاما بأن‏ الإنسان لا يخلو عن الذنب إلا ان يكون معصوما بعصمة اللّه تعالى، فهو محتاج إلى العفو و الإحسان فتكون الجملة معطوفة على المتقين، و أولئك في الآية التالية اشارة إلى الجميع.
و الفاحشة من الفحش و هو مجاوزة الحد في السوء فتكون الفاحشة كل ما اشتد قبحه من الذنوب و المعاصي و شاع استعماله في الزنا باعتبار انه اظهر افراد الفحشاء؛ و كل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال و الأفعال و في الحديث: «ان اللّه لا يحب الفحش و التفاحش».
و المراد بها في الآية الشريفة بقرينة المقابلة للظلم المعصية الفاحشة في قبحها، سواء كانت مقتصرة على النفس كترك الصلاة و نحوه، أو متعدية إلى الغير، كالقتل و الغيبة و نحوهما. و الظلم ما دون ذلك كما يصح أن يكون الفرق بينهما كالفرق بين الكبيرة و الصغيرة.
قوله تعالى: ذَكَرُوا اللَّهَ.
اي تذكروا عظمة اللّه تعالى و آياته الموجبتين للخشية منه و انه مرجعهم في كل خوف و رجاء بعد أن اغفلهم الشيطان و أنساهم ذكر ربهم حين الذنب فيسرعون إلى الاستغفار و طلب المغفرة.
و المراد بذكر اللّه هو الذكر الحقيقي الذي يكون داعيا إلى ترك الذنب و استشعار الخوف و الرجوع اليه تعالى لا مجرد الذكر اللفظي مع البقاء على الذنب فانه حينئذ يكون كالمستهزئ به تعالى.
قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.
اي حين ما ذكروا اللّه و تذكروا جلاله و كبريائه أحبوا التقرب اليه بعد أن انصرف عنهم طائف الشيطان فتابوا اليه طالبين المغفرة منه عز و جل لجميع ذنوبهم.
و الآية الشريفة في مقام التمييز بين من يفعل المعاصي محادة و عنادا و لجاجا فانه بعيد عن الاستغفار و لا يوفق اليه ابدا. و بين من تذكر اللّه تعالى حين المعصية و ارتدع عنها خوفا فتاب اليه تعالى و طلب المغفرة منه فان لهم مقاما معلوما.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ.
بشارة عظيمة، و تطييب للنفوس، و تشويق إلى التوبة و الاستغفار و تنبيه للمذنبين بالالتجاء إلى اللّه تعالى و عدم اليأس منه عز و جل، فانه لا منجى من الذنوب و لا ملجأ في الغفران الا إلى اللّه تعالى، و هذا مما يؤكد الفزع و الرجوع اليه عز و جل.
و الآية المباركة باسلوبها البديع و خطابها البليغ تؤثر في المخاطبين ابلغ التأثير و ينبه الضمير الانساني الذي تأثر بارتكاب الذنوب و المعاصي بالرجوع إلى اللّه و الانابة اليه لازالة ما يوجب ضلاله و اغوائه.
و في هذا الخطاب وجوه من الدلالة على المعنى المراد كإظهار اسم الجلالة، و اسناد المغفرة إلى ذاته المقدسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، و دلالة ذلك على الغفران الواسع و انحصاره فيه عز و جل لأنه المسلط على ذلك كله فان من بيده اصل الخلق و تدبير شؤونهم يكون مسلطا على الغفران بالأولى و ليس لغيره هذا الحق، و هذا ما يدل عليه الحصر المستفاد من النفي و الإثبات. و فيه الإنكار على من يطلب المغفرة من الأوثان أو الإفراد الذين لم يأذن لهم اللّه تعالى بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص.
و يؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الإنشاء دون الاخبار.
و في ذكر الجمع المحلي باللام الدال على العموم إعلان بان اللّه جل‏ شأنه يغفر جميع الذنوب صغائرها و كبائرها فيكون المذنب بعد الاستغفار و التوبة عنده كمن لا ذنب له كما في الحديث.
ثم ان مجي‏ء هذا الخطاب بعد ذكر الفاحشة و ظلم النفس فيه الدلالة على سعة غفران اللّه تعالى و عدم مبالاته فيه فان الذنوب مهما كبرت و جلت و لكن عفوه و غفرانه أجل و أعظم و اكبر.
قوله تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
الإصرار على الشي‏ء المداومة عليه و ملازمته و اكثر ما يستعمل في الشر و الذنوب، و في الحديث: «ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوه و هم يعلمون» و قد تقدم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: «كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» آل عمران- 117.
«وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» حال من فاعل الإصرار و متعلق به.
و المعنى: انهم لم يداوموا على الذي فعلوه من الذنوب و المعاصي و هم عالمون بقبحها و بالنهي عنها و الوعيد عليها.
و انما قيد الإصرار على الفعل بالمعصية لبيان ان مجرد الإصرار على المعصية مع الجهل بها لا يكون إصرارا شرعا، كما يبينه قوله تعالى «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» النساء- 17.
و الآية الشريفة ترشد الناس إلى ترك الإصرار في المعاصي لأنه يوجب عدم المبالاة بحرمات اللّه تعالى و الاستكبار عليه و الاستهانة باحكامه المقدسة و يجعل النفس ميالة إلى الطغيان و الخروج عن الطاعة فتنتفي العبودية و تخرج عن الفطرة المستقيمة فلا ينفع حينئذ ذكر اللّه تعالى الذي كان يمنع عن المعصية و الاقامة على الذنب.
قوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها.
وعد منه عز و جل للمتقين الموصوفين بما تقدم من الأوصاف و بيان للأجر الجزيل و الثواب الكبير المعد لهم و هو المغفرة و الجنات العظيمة التي تجري من تحتها الأنهار زيادة في بهجتها، و لتمامية النعمة انهم خالدون فيها لا يشوبها نقص.
و يمكن أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة هو نفس ما ذكره عز و جل في الآية السابقة من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة و جنة عرضها السموات و الأرض، فتكون تلك الأوصاف من المعدات و الأسباب للمغفرة و الدخول في الجنة و تكون هذه الجنات ضمن تلك الجنة الفسيحة.
و قد أضاف سبحانه و تعالى الجزاء إلى ضمير «هم» تشريفا، و في ذكر الرب المضاف إلى «هم» لبيان العلة في نيلهم لذلك الجزاء العظيم و تربيته تعالى المعنوية لهم.
قوله تعالى: وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.
تأكيد للوعد الجميل و تشويق لهم الى العمل اي: تلك المغفرة و الجنات انما تكون على تلك الأعمال الحسنة التي تعد النفس اعدادا صالحا و تهيئوها لنيل تلك المراتب العالية.
و الخطاب على إيجازه يشمل على وجوه من الدلالات المحسنة الدالة على عظمة الموضوع و الاهتمام به و تهييج الشوق و المسارعة الى نيله.
منها إقامة الأجر مقام الجزاء إعلاما بإنجاز الوعد و تحققه مما يزيد في شوق العامل و تنشيطه للعمل فكان العامل يستحق ذلك.
و منها: ذكر الجمع المحلي باللام و إقامته مقام الضمير تأكيدا، و للدلالة على حصول المطلوب.
و منها إتيان هذه الجملة بعد ذكر الجزاء و تفصيله لبيان الاهتمام بالوعد، و التأكيد على المسارعة لدركه.
قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.
أمر بالاعتبار بما جرى على الأمم الغابرة و النظر في ما بقي من آثارهم زيادة في التحريض على العمل و الاستعداد لنيل الكمال، و تشويقا للجزاء الذي أعده اللّه تعالى للعاملين و تنبيها للمؤمنين على عدم الغفلة و تذكيرا لمن خالف الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و تسلية للمؤمنين، و توبيخا لمن اعرض عن آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدسة و غفل عن الاستكمال و تشنيعا على من أدرج نفسه في عداد المكذبين بعد إتمام الحجة التي يكون منها الرجوع إلى احوال الماضين و السير في الأرض و النظر في ما خلفته تلك الأمم من الآثار فقد خلت عن أصحابها بعد ما كانت قصورا شاهقة أو عروشا جمعت كل اسباب البهجة و السرور و قد ابتهج ساكنوها و عمارها مدة فيها، أو كنوزا امتلأت بكل اسباب العيش الهني‏ء، أو ذخائر عظيمة لم تدخل في الحسبان، و قد جرت عادته عز و جل انه يرجع المخاطبين بعد سرد جملة من الحوادث و بيان الاحكام الفردية و الاجتماعية إلى سنن الأمم الغابرة و الأمر بالاعتبار بها و النظر في آثارهم لمزيد التنبيه، و الاستفادة من تجاربهم و لئلا تتكرر ما جرى عليهم على هذه الأمة و ان يسلكوا الطريق المستقيم الذي سلكه الصالحون منهم و الاعراض عن سبل المكذبين لئلا يدخلوا في زمرتهم فينالوا جزاءهم، و قد جعل القرآن الكريم هذا الأمر من سبل إتمام الحجة على العباد.
و خلت بمعنى مضت، و السنن جمع سنة و هي الطريق المعبدة المسلوكة و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعة عشر موضعا، قال تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» الأنفال- 38، و قال تعالى: «وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» الحجر- 13.
و النظر في سنن الماضين من سبل الرشاد، و فيها وجوه من الحكمة منها الاعتبار بها، و إتمام الحجة على اللاحقين، و تسلية لما يجري عليهم، و الاستفادة من تجاربهم و غير ذلك، و لذا اهتم بها عز و جل فذكرها في مواضع متعددة. و بالجملة: فهو إرشاد إلهي.
و المراد بها في المقام منهاج الماضين و ما جرى عليهم سواء كان سنة المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل اللّه تعالى و العاملين المستعدين للقائه و الدار الآخرة، و ما كابدوا من عتاة زمانهم و جبابرتهم و صعوبة العيش فرضوا بما قسمه اللّه لهم و صبروا و آثروا الآخرة على الحياة الدنيا الفانية، و سنة الكاذبين الكافرين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة و نعيمها لانهماكهم في الضلال و الشهوات مع وضوح الحجة و معرفة البينات، و الأمر بالسير في الأرض لزيادة الاعتبار من آثار الماضين و التبصر منها، و يدخل في السير في الأرض السير في حالات اهل الأرض من خلال التاريخ و الحوادث الواقعة فيهم.
قوله تعالى: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
المراد بالنظر هو التأمل و التبصر بانه كيف كان علاقة المكذبين مع المؤمنين و ما جرى من الصراع بين الحق و الباطل، و ما آل أمر المؤمنين اليه و عاقبة امر المكذبين و ما حل بهم من العذاب و الهلاك‏ بسوء أعمالهم فان النظر في ذلك كله يزيد المعرفة و يوجب التسلية بما يجري على المؤمنين، و يفيد العظة و الاعتبار. و التوبيخ للمكذبين الكافرين.
قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
الإشارة راجعة إلى ما ورد في الآيات السابقة من ذكر غزوة أحد و المضامين العالية التي احتوتها تلك الآيات، و التقسيم باعتبار حالات الناس و مدى تأثرهم بالقرآن الكريم، فبعضهم يكون القرآن بالنسبة اليه بلاغا و بيانا، و البعض الآخر يكون هدى و موصلا له إلى الهداية و موعظة تدعوه إلى الاتعاظ و الاعتبار و زيادة الايمان و ثباته، كل ذلك لا بد ان يكون للذين اعدوا أنفسهم لقبول الهداية و الاتعاظ، و هم المتقون الذين يتأثرون بالبيان و ينتفعون منه و يهتدون بهداه و يتعظون بمواعظه دون سواهم، و قد تقدم نظير ذلك في أول سورة البقرة فراجع.

تدل الآيات الشريفة على أمور:
الاول:
قد جمعت الآيات المباركة المتقدمة وجوه البر و مكارم الأخلاق التي لا بد من التحلي بها و لا يسع لاحد الإعراض عنها فإنها فاتحة الكمالات و جامعة للخيرات و هي من المكارم الفردية و الاجتماعية بها يعيش الفرد حياة سعيدة خالية عن ما ينغصه من الكدورات‏ و الشرور. و بها يصلح المجتمع.
و من هذه الآيات الشريفة نستفيد المنهج الاخلاقي في الإسلام، فانا ذكرنا في أحد مباحثنا الاخلاقية: أن المنهج الاخلاقي في الإسلام يختلف عن المناهج الاخرى في الأصول و الأسلوب و الطريقة و ان الإسلام ينظر إلى التقوى و العمل أولا و بالذات و انه السبيل الوحيد لنيل الكمال و الوصول إلى الغاية، و هذه الآيات تبين المنهج العملي، و نظير هذه الآيات قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» البقرة- 177 فراجع ما ذكرناه هناك.
الثاني:
انما قدم عز و جل المغفرة على الجنة لان المغفرة سبب للدخول فيها، و كل سبب مقدم على المسبب، مع ان الجنة دار طهر لا يصلح لدخول غير المطهرين فيها و بالمغفرة يطهر المذنب فيصلح للدخول فيها.
الثالث:
يستفاد من قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ان التقوى هي السبب في اعداد الجنة و تهيئتها للمتقين و حضورها لهم.
الرابع:
يستفاد من قوله تعالى: «عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ» كمال الجنة من جميع الجهات و تمامية النعمة فيها فان الجنة التي تكون سعتها كذلك فلا بد أن تكون محفوفة بجميع موجبات البهجة و السرور و فيها الحياة الكاملة كما قال عز و جل: «وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» العنكبوت- ٦٤.
الخامس:
يستفاد من قوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ان كل وصف سابق معد للوصف اللاحق فان الانفاق يوجب ترويض النفس المحبة للأموال و الملذات و السيطرة عليها، فتستعد لكظم الغيظ و هذا موجب للعفو عن الناس، و هو موجب لمزيد الإحسان.
السادس:
يستفاد من قوله تعالى: «ذَكَرُوا اللَّهَ» ان ذكر اللّه تعالى هو السبب في انقلاع العبد عن المعصية و الانزجار عن الذنوب و عدم العود إليها و التوبة إلى اللّه تعالى و طلب المغفرة منه عز و جل لان غفران الذنوب تحت سلطته عز و جل، و ان الإصرار على المعصية يسلب التوفيق عن تذكر اللّه تعالى و هم يعلمون بان الإصرار يكون كذلك و يوجب التجري على اللّه تعالى و الاستكبار عليه و عدم المبالاة بحرماته و تزول عنه حالة الندم و الخوف عن نفسه.
السابع:
انما جعل عز و جل قصص الماضين سواء الصالحين منهم أو الظالمين خاتمة لتلك التعاليم الاسلامية عبرة لللاحقين و دستورا للعمل و منهاجا في سيرهم و سلوكهم، مضافا إلى كونها مواعظ يتعظ بها المتعلمون، و يصلح بها الفاسد.

في المجمع عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه سئل إذا كانت عرضها السموات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال (ص): أقول: روى السيوطي أيضا في الدر المنثور عن التنوخي في كتاب هرقل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مثل ذلك، و يمكن أن يكون هذا الجواب منه (صلى اللّه عليه و آله) إقناعيا اسكاتيا. كما يمكن ان يكون على وجه التحقيق بان نقول ان خلق النار تبع لخلق الجنة فهي لا تنفك عنها، كما ان خلق الليل لا ينفك عن خلق النهار و أما وجه التبعية فلقوله تعالى: «وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً» غافر- 7 و «سبقت رحمته غضبه».
و في الخصال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» قال (ع). «انكم لن تنالوها إلا بالتقوى».
أقول: لما تقدم من أن التقوى سبب لحصول الجنة فلا يعقل نيلها إلا بالتقوى و لا بد من تعميم التقوى إلى التوبة و الاستغفار، كما في صدر الآية الشريفة.
و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما من عبد كظم غيظا إلا زاده عزا في الدنيا و الآخرة، قال اللّه عز و جل:
و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و اللّه يحب المحسنين».
أقول: وردت روايات كثيرة في شأن كظم الغيظ سيأتي في المحل المناسب التعرض لبعضها.
و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليكم بالعفو فانه لا يزيد العبد إلا عزا فتعافوا يعزكم اللّه».
أقول: لان العفو من صفات اللّه تعالى فيعز العبد العافي بعزه، و يأتي في الموضع المناسب شرح ذلك.
و في المجمع و الإرشاد للمفيد «إن جارية لعلي بن الحسين (عليهما السلام) جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: ان اللّه تعالى يقول: و الكاظمين الغيظ، فقال لها: كظمت غيظي، قالت: و العافين عن الناس.
قال: عفا اللّه عنك. قالت: و اللّه يحب المحسنين قال: اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه».
أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور أيضا عن البيهقي، و الحديث يدل على أن الإحسان أمر زائد على اصل العفو، و مثل ذلك كثير في العالمين العاملين بعلمهم.
و في الكافي و تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا» قال (عليه السلام):
«الإصرار ان يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه، و لا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار».
أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة، و قد تقدم ما يشهد لذلك، و سيأتي ما يرتبط بذلك أيضا.
و في تفسير العياشي في حديث قال: «و في كتاب اللّه نجاة من الردي‏ء و بصيرة من العمى. و شفاء لما في الصدور في ما أمركم اللّه به من الاستغفار و التوبة قال اللّه تعالى: «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ»، و قال تعالى: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» فهذا ما امر اللّه به من الاستغفار و اشترط معه التوبة و الإقلاع عما حرم اللّه فانه يقول: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» أقول: تقدم مكررا ان العمل الصالح من الايمان فلا ايمان إلا به.
و في المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي في قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» نزل في بهلول النباش و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها- و كانت بيضاء جميلة- فسوّل له الشيطان فزنى بها ثم ندم فجاء إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فرده ثم اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبد و يتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل توبته و نزل فيه القرآن».
و في اسباب النزول للواحدي عن ابن عباس في رواية عطا قال: «نزلت الآية و هي قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» في نبهان التمار أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه و قبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و ذكر ذلك له فنزلت هذه الآية».
أقول: قد وردت روايات متعددة في شأن هذه الآية و هي على فرض صحتها لا تكون مخصصة للآية بل هي بعمومها تشمل كل فاحشة تاب صاحبها عنها.
و في المجالس عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا له: يا سيدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا. فقال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك. فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بما ذا؟ قال: أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة».
أقول روي مثله من طرق الجمهور أيضا.

الإصرار على الذنب سواء كان صغيرا أم كبيرا من القبائح العقلية التي يحكم العقل بقبحه و شناعته بل هو من أشد القبائح لأنه يوجب شقاوة النفس و الجرأة على اللّه تعالى، و قد يصل إلى حد الاستهزاء بحرماته عز و جل، و هو على حد الكفر. و الإصرار على الذنب على الأقسام:
الاول: إتيان الذنب ثم تكراره و البناء على إتيانه مكررا من دون تخلل التوبة و الاستغفار.
الثاني: إتيان الذنب و البناء على الإصرار و التكرار و لكن لم يتهيّأ له اسباب إتيانه مع السعي في مقدمات الإتيان.
الثالث: نفس الصورة السابقة مع عدم السعي في المقدمات.
الرابع: أن يأتي بالذنب و كان بانيا على الإتيان قلبا من دون صدور عمل خارجي منه أصلا.
الخامس: ان يأتي بذنب ثم يتوب ثم يأتي به ثانيا. و غير الأخير كله من الإصرار بحسب مراتبه. و اما الأخير فمقتضى قوله (صلى اللّه عليه و آله): «لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار» محو الأول و زواله بسبب التوبة فلا يتحقق موضوع الإصرار حينئذ، و الإصرار كما يتحقق بفعل المعصية يتحقق بترك الواجب عصيانا أيضا.
آخر فيتعدد العقاب و لا موجب لتداخله فان تعدد المنشأ و السبب يستلزم تعدد المسبب لا محالة.
ثم ان الغفلة عن اللّه جل جلاله، و عدم الاعتقاد بحضوره تعالى هي من أشد الذنوب و المداومة على هذه الحالة ذنب عظيم بل هي أم المفاسد و رأسها، و الكتب الإلهية و أنبياء اللّه تعالى انما اهتموا لإزالة هذه الحالة و إرجاع العبد إلى اللّه تعالى و يتحقق التوجه اليه عز و جل بإتيان الصلاة؛ فإنها تنهى عن الفحشاء و المنكر، كما نطق به التنزيل.

لا ريب في ان عالم الدنيا متقوم بالخيالات و الأوهام و الجهالات، و الناس بعيدون عن الحقائق و الواقعيات و موجبات الإغراء بالشهوات كثيرة و متعددة، و الآيات الشريفة المتقدمة ترشد الإنسان الى أهم الحقائق التي بها يستقيم الفرد و ينتظم نظام المجتمع و حقيقة هذه الآيات ترجع إلى التغافل عن ما يصيب الفرد من المكروه و الأذى من الغير، و بذل أحب الأشياء لديه و هو المال و الجاه و ترويض النفس و جعلها تحت إمارة العقل و الحكمة و اعتبار الفرد نفسه من أفراد المجتمع و جزءا لا يتجزأ منه بحيث يعتبر ما يكون كمالا للمجتمع كمالا له و ما يصيبهم من السوء يصيب نفسه.
و قد أكد عز و جل إرساء قواعد العفو و المغفرة بين الناس فان كل فرد أحوج من غيره إلى العفو و المغفرة لما يصدر منه من الذنوب و المعاصي، فبالعفو عن إساءة الغير و بذل ما عنده اليه يدخل في زمرة من تخلق‏ بأخلاق اللّه تعالى التي من أهمها بالنسبة إلى الإنسان العفو و المغفرة فان الدنيا مزرعة الآخرة فما يزرع فيها يحصد في الآخرة، و قد فتح اللّه تعالى باب التوبة و الرجوع اليه عز و جل بأي وجه أمكن، فان لها جهتان جهة تكوينية و هي تربية الإنسان، و جهة تشريعية و هي تكثير صفوف المتقين و قد اهتم به اللّه عز و جل اهتماما بليغا و أعلن في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم بانه الغفور الرحيم و جهر بقبول التوبة و الدعوة بالرجوع اليه، و هذا هو عين ما يدعو اليه العقل المجرد فما ورد في تلك الآيات الشريفة كله من الاحكام العقلية النظامية صدر عن خالق العقل و موجده.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"