1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 116 الى 117

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (۱۱٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)


بعد ما ذكر سبحانه و تعالى صفات المؤمنين المتقين من اهل الكتاب و بين حسن سريرتهم و سعادتهم يذكر تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حال الكفار- الذين خسروا أنفسهم و باعوها للشيطان فجحدوا الحق- توبيخا لهم و تشنيعا عليهم و إتماما للحجة، و مقابلة للطائفة الاولى المتقدمة ليعرف المؤمنون بذلك مقاماتهم المعنوية و ما لهم من الجزاء الكبير.
كما بين سبحانه و تعالى ان ما أنفقت هذه الطائفة الكافرة باللّه العظيم في هذه الدنيا لحفظ جاهها و استمرار ملذاتها لن تنفعها عما أعدلها من الجزاء في هذه الدنيا و لها في الآخرة عذاب الخلود و مثل تعالى‏ ما ينفقونها كعاصفة باردة تحرق الحرث و تدمره لأنهم ظلموا أنفسهم و اندفعوا وراء شهواتهم مختارين فكان مصيرهم الهلاك و العذاب.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
الآية المباركة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية، و تظهر سوء حال الكافرين لا سيما في يوم الجزاء، و هي عدم انتفاع الإنسان بما يعتبره رافعا لحوائجه و ما يدخره للانتفاع به، و ان بذل غاية جهده في نيله و الاحتفاظ به الا إذا أضيف ذلك إلى اللّه تعالى لأنه الدائم الباقي و الغني المطلق و هو الذي يحفظ الأعمال ليجازي عليها، و حيث أن أهم ما يبذل الإنسان جهده فيه هو الأموال و الأولاد و يعول عليهما في النوائب و الشدائد فقد ذكرهما عز و جل.
و بما ان ما عند الكافر لم يكن مضافا إلى اللّه تعالى لفرض كفره فلا موضوع لاغنائهما عنه في يوم حاجته إليهما و ان تمتع بهما قليلا لكن لا يغنيه شي‏ء منهما، و يؤكد ذلك قوله تعالى «شَيْئاً» الدال على عدم الإغناء بوجه من الوجوه، و قد تقدم في الآية العاشرة من هذه السورة بعض الكلام.
و المراد من الذين كفروا مطلق من كفر بالحق و عانده سواء كان من اهل الكتاب أو المشركين. فهذه الآية الشريفة من جهة تكون مقابلة للطائفة المؤمنة كما عرفت، و من جهة اخرى تكون توطئة لما سيذكره عز و جل في قصة أحد.
قوله تعالى: وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
اي: أولئك الكافرون داخلون في النار و ملازموها و لا يمكنهم الخلاص منها لأنهم كانوا ملازمين للكفر و مداومين على الظلم و قد جبلت نفوسهم على الفسق و الضلال فلا موضوع لنجاتهم منها. و هذه الآية المباركة كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» آل عمران- 10.
و انما افترقت هذه الآية عن سابقتها في ان السابقة اختتمت بقوله تعالى: «وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» و في المقام «وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» و المآل و ان كان واحدا و لكن السابقة ناظرة إلى كيفية العذاب و هذه إلى أصله.
قوله تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا.
الآية الشريفة في بلاغتها و فصاحتها و حسن اسلوبها تصور الواقع الذي عليه تصرفات الظالمين و الكافرين و المنافقين و انفاقهم بأبلغ صورة و احسن تشبيه.
و فيها مثل عام لكل من ينفق في غير وجه اللّه تعالى و كان للدنيا و في الدنيا. و هي كالدليل لعدم إغناء الأموال عن الكافرين، و تبين عدم انتفاع المنفق بها بوجه من الوجوه بل يكون و بالا عليهم لأنهم كفروا باللّه العظيم و آياته و أشركوا به، و لم يطلبوا من الانفاق وجه اللّه تعالى و رضاؤه و ان كان بزعمهم منه فانه من مجرد الوهم و الظن لوجود المانع فيهم.
و المثل في الكلام هو إيراد كلام يشبه كلام آخر يقصد به شي‏ء معين يبين أحدهما الاخر و يصوره، و الأمثال في القرآن الكريم كثيرة و هي تقرب المقصود إلى أذهان المخاطبين بأحسن وجه.
و انما خص سبحانه و تعالى التمثيل بالحياة الدنيا لبيان انهم منقطعون عن الدار الآخرة؛ و هذا وجه آخر دال على ان انفاقهم كان للدنيا و في الدنيا و منقطعا عن اللّه تعالى و الدار الآخرة مضافا إلى كفرهم، فهم لا ينفقون غالبا إلا على نظائرهم و أمثالهم، و لو اتفق انهم أنفقوا في صلة الرحم و الفقراء و المساكين، و نفع المحتاجين و غير ذلك من المقاصد و الشؤون، فان كفرهم مانع عن قبول اللّه تعالى لها الذي هو المناط في جميع الأعمال.
و انما خص الأموال بالذكر و لم يذكر الأولاد لأنهم يتبعون الآباء ان كانوا كفارا و إلا فلا ارتباط بينهما لأنهم مسلمون فهم عليهم لا لهم.
قوله تعالى: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ.
الريح واحدة الرياح، و قيل ان المفرد يستعمل في العذاب ان لم تكن قرينة على خلاف ذلك مثل قوله تعالى: «وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها» يونس- 22 و الجمع في الرحمة و في الحديث: «كان يقول إذا هاجت الريح: اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا» و مما يثبت ذلك ان اغلب المواضع التي ذكر اللّه تعالى في القرآن الكريم إرسال الريح بلفظ الواحد كان في العذاب. و الجمع في آيات الرحمة قال تعالى: «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ» الإسراء- ٦۹، و قال تعالى: «وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ» الحاقة- ٦، و قال تعالى: «وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» الفرقان- ٤۸.
و مادة (ص ر ر) تدل على الجمع و الاشتداد و التأكد، و قد استعملت في موارد كثيرة بهذه الدواعي منها البرد الشديد، و منها الضجة و الصيحة؛ قال تعالى: «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ» الذاريات- 29.
و منها: الجمع و الانضمام قال تعالى: «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» البقرة- ۲٦۰.
و منها: الإصرار على الشي‏ء، و في الحديث: «ما أصر من استغفر». و لعل استفادة الشدة من المعنى للقاعدة المعروفة بين الأدباء «ان زيادة المباني تدل علي زيادة المعاني».
و الحرث: الزرع. و في الآية الشريفة تشبيه مركب فقد شبه سبحانه و تعالى إنفاقهم في مقاصدهم و شؤونهم التي يزعمون انها وجه اللّه أو التي يريدون بها الصد عن سبيل اللّه تعالى بالريح الباردة التي تضر بالحرث و الزرع، فهي فاسدة و مفسدة فلا ينتفعون من انفاقهم ابدا لا في الدنيا و لا في الآخرة بل يكون مفسدا لأخلاقهم و موجبا لسقوط الآثار الواقعية التي تترتب على كل انفاق، و يحرمهم من السعادة الدنيوية و الأخروية فلم يجنوا من انفاقهم الا الشقاء و الحرمان، فالآية المباركة تبين حال انفاقهم مع كفرهم في احباطه له فيكون الكفر و الظلم بمنزلة الريح الباردة.
و انما وصف القوم بالظالمين لبيان ان ظلمهم هو السبب في هلاك الزرع و الانفاق، فهو يتلف الأعمال و يذهب آثارها الدنيوية و الأخروية فيكون الهلاك و الحرمان عقوبة لهم.
و انما عبر سبحانه و تعالى بالريح الباردة دون النار و غيرها التي توجب إتلاف الزرع و سقوط الانتفاع به بالكلية، لان الريح الباردة تفسد الزرع و تهلكه فلا قابلية له للنمو و لكن يبقى حشيشها و اصل المادة و يمكن الانتفاع بها في بعض الجهات و هكذا انفاق الكافرين فانه قد ينتفع به إما في الدنيا لقضاء مآربه أو في البرزخ فانه يوجب تخفيف‏ العذاب ان كان لأغراض حميدة.
قوله تعالى: وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
الضمير يرجع إلى الكافرين المنفقين. و هذه القضية مكررة في القرآن الكريم بأساليب مختلفة، و هي تدل على نفي الظلم عنه عز و جل و ثبوت الاختيار للإنسان و انه الفاعل المختار، و ان الجزاء و الآثار التي تترتب على الأفعال انما يستحقها بما يختاره من الأفعال و الأعمال إن خيرا فخير و ان شرا فشر. و ذلك لان نظام العالم انما يتحقق يترتب المسببات على الأسباب و المعلول على العلة، فإذا كان للشي‏ء سببا واحدا فالترتب واضح معلوم، و اما إذا كانت الأسباب متعددة و المقتضيات كثيرة، فالمسبب و المقتضى (بالفتح) يترتب على السبب الأخير، و ان كان للجميع دخل في التحقق، و لا ريب ان جميع الممكنات يستند إلى قضاء اللّه تعالى و قدره، و مشيته الكاملة، و لكنه تعالى أراد ان يجعل الإنسان مختارا في أفعاله لحكم كثيرة منها تصحيح قانون الثواب و العقاب على الفعل الاختياري و حينئذ يستنكر العقل ان يستند الظلم إلى اللّه تعالى بعد خلقه للإنسان مختارا في أفعاله و اعماله فتنحصر نسبة الظلم إلى الفاعل المباشر فالآية الشريفة هي قضية عقلية كما عرفت. و من أهم الأمور الدينية، لان جميع الأديان الإلهية تستنكر استناد الظلم إلى اللّه عز و جل. و وجدانيته لان اللّه تعالى بعد ان أتم الحجة على العباد و بيّن لهم الصراط المستقيم و أرسل الرسل و انزل الكتب لتكميل الإنسان و منحهم العقل و الشعور و الاختيار، فإذا اختار عبد غير المطلوب منه فقد ظلم نفسه بأن حرّم نفسه من الكمالات و الأجر الجزيل.
و المعنى: ان اللّه لم يظلم الكافرين الذين أنفقوا أموالهم في غير وجه اللّه فحرموا أنفسهم من الثواب و احبطوا عملهم لكنهم هم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر المانع عن القبول فاختاروا العذاب و الحرمان.

تدل الآيتان الشريفتان على امور:
الاول:
يدل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» على حقيقة من الحقائق الواقعية و هي: ان الأموال و الأولاد انما يستفيد منهما الإنسان مطلقا و يستغنى بهما في حوائجه و مآربه إذا كان كل واحد منهما للّه تعالى و في وجه اللّه عز و جل حتى تكون محفوظة عنده تعالى، و تبقى ببقاء اللّه لأنها تدخل في خزائنه، و للّه خزائن السموات و الأرض، و يوفي صاحبها الجزاء الأوفى و يدفع العذاب عنه، و الكافر قد انقطعت العصمة بينه و بين اللّه تعالى بسبب كفره فحرم نفسه عن جميع تلك الآثار فلن تغني عنه من اللّه شيئا.
الثاني:
يستفاد من قوله تعالى: «مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» امور:
منها: ان انفاقهم للأموال انما كان للدنيا و لأجل الشؤون و المقاصد الدنيوية فقط و لا نظر لهم إلى ما ورائها.
و منها: انهم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر، كما ظلموا أنفسهم في انفاق الأموال في غير وجه اللّه تعالى، فقد حرموا أنفسهم من‏ الآثار الواقعية التي تترتب على إنفاقها.
و منها: انهم لم يحرموا من بعض الآثار كما لم يحرم الزارع من حشيش الزرع و بقاياه بعد إصابته الريح الباردة و اتلافها له، و لذلك نرى إن التعبير يختلف بالنسبة إلى أعمالهم في آية اخرى قال تعالى:
«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» النور- 39.
الثالث:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» على استمرار الظلم و تجدده باستمرار العلة و هي الكفر و العصيان.
الرابع:
يستفاد من الآية الشريفة ان الذنوب و المعاصي قد توجب هلاك الزرع و النسل و الكوارث و الآفات، لان للذنوب آثارا واقعية لا يمكن التخلف عنها، و قد دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن الكريم و السنة الشريفة، بل ان كل ذنب له اثره الخاص به كما دلت عليه أدلة متعددة و في كثير من الدعوات المأثورة، منها الدعاء المعروف بدعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

جميع الأفعال الحاصلة من النفس الانسانية بواسطة القوى الباطنية الجسمانية انما هي بمنزلة الأشباح و الاظلة للصور الحاصلة في النفس، فهي كالمرآة التي تبث أشعتها إلى الخارج، و قد اثبت ذلك المحققون من الفلاسفة و قال بعض المحققين: النفس في وحدتها كل القوى و فعلها في فعلها قد انطوى‏

و القرآن الكريم و السنة الشريفة يثبتان ذلك ايضا فإذا كانت النفس متوجهة إلى اللّه تعالى تكون أشعتها من سنخها متصلة إلى اللّه جل جلاله و إذا كانت متوجهة إلى غيره عز و جل تكون أشعتها كذلك فلا تتحقق أية اضافة للّه تعالى و الا لزم الخلف الباطل هذا من جهة النفس.
و اما من جهته عز و جل فقد قال اللّه تعالى: «انا خير شريك من عمل لي و لغيري تركته لغيري» فإذا كان العمل له تعالى و لغيره لا يعتني به اللّه تعالى فكيف إذا كان تمام العمل لغيره، و إذا كانت تربية الأولاد و مصرف الأموال في غير ما يرتضيه عز و جل لا يمكن ان ينتفع من ذلك نفعا إلا ما يتصور من المنافع الوقتية الوهمية و هي عدم محض بالنسبة إلى النفع الواقعي الحقيقي، قال تعالى: «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» النور- 39 و قال تعالى: «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»* الأنفال- ۲٥.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"