1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآيات 113 الى 115

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (‍۱۱٤) وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (۱۱٥)


الآيتان المباركتان متحدتان في السياق مع ما قبلهما من الآيات لأنهما تبين و تقرر ان اهل الكتاب ليسوا جميعا علي حد سواء في الانحراف و البعد عن الايمان باللّه تعالى كما اسلفتها الآيات السابقة بل استثنى سبحانه و تعالى عنهم امة مستقيمة على الهدى قائمة بالعبادة مؤمنة بالمبدإ و المعاد ناهضة بتكاليف الامة المسلمة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سباقة إلى الخير فهم مجزيّون على أعمالهم كما يجزى الصالحين و اللّه سبحانه و تعالى يعلم ما اضمرته قلوبهم كما هو عليم بالمتقين.

قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً.
جملة استينافية تبين عدم استواء جميع اهل الكتاب في ما وصفهم اللّه تعالى به و الحكم الذي حكمه عليهم آنفا، فانه سبحانه و تعالى قد قسمهم الى طائفتين هما المؤمنون و هم الأقلون، و الفاسقون و هم الأكثرون. قال تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» آل عمران- 110 ثم بين أوصاف الفاسقين و حذّر المؤمنين من غيّهم و مكرهم و بيّن تعالى جزاؤهم ثم حكم على النوع بما تقدم.
و في هذه الآية المباركة يبين عز و جل حال الطائفة المؤمنة منهم و صفاتهم.
و السواء مصدر، و لذا أفرد مع كونه خبرا لجمع، و لكن أريد به الوصف أي: ليسوا مستوين.
قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ.
جملة تعليلية تفصيلية تبين الوجه في عدم الاستواء. و مادة (قوم) تدل على الثبات و الاستدامة، و قد استعملت في القرآن الكريم كثيرا بهيئات مختلفة، و المراد في المقام استقامة تلك الأمة على الطاعة و الايمان و العبادة و ثباتها على ذلك.
و بعبارة جامعة: الثبات على الحق مقابل من أنحرف عنه، و يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة الذي يبين انها كانت قائمة في الايمان باللّه و الطاعة له عز و جل و القيام بوظائف العبودية و العمل الصالح.
و المراد من أهل الكتاب هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في الآية السابقة عند تقسيمه لهم. قال تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» بلا فرق في ذلك بين اليهود و النصارى، و ذكر المفسرون أنهم النجاشي و جماعة من اليهود الذين ثبتوا على الحق و آمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) المبشر به في الكتب الإلهية.
و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف متعددة تبين صدق إيمانهم و استقامتهم على الحق.
قوله تعالى: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ.
تفصيل بعد إجمال، و التلاوة هي القراءة مع التأمل في الجملة.
و الآناء جمع (انى) بكسر الهمزة أو فتحها و هو مطلق الوقت و الزمان أي قيامهم في الليل بقراءة آيات اللّه في صلاتهم و تهجدهم.
و المراد بآيات اللّه تعالى الأعم مما ورد في التوراة و الإنجيل و القرآن الكريم. و هذا الوصف يبين جهة عبودتهم و ثباتهم فيها.
قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.
وصف آخر يبين سبقهم الى الايمان بالمبدإ و المعاد الأعم من الايمان بهما في حالة العمل بشريعتهم و حالة ظهور شريعتنا و تصديقهم لها، فهم في كلتا الحالتين يؤمنون باللّه و اليوم الآخر.
و إنما أخر سبحانه و تعالى الايمان باللّه و اليوم الآخر عن التلاوة و السجود اشعارا بان العمل بالدين أهم أركانه. و انه ليس من مجرد الاعتقاد فقط و ان عبادتهم للّه تعالى و ملازمتهم لها أوجبت توفيقهم بقبول الإسلام و عدم جحودهم له.
قوله تعالى: وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وصف ثالث يبين طاعتهم للّه تعالى بأهم أركانها و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و يتشرفون بذلك بالاتصاف بما اتصف به خير أمة.
قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ.
وصف رابع يبين الإخلاص في اعتقادهم و الصدق في ايمانهم و سعادتهم.
و المسارعة: المبادرة. و الفرق بينها و بين العجلة أن المسارعة وصف للحركة، سواء كانت بارادة أم لا. و أما العجلة فهي وصف للمتحرك اي استعجل في فعله و حركته.
و عن جمع من اللغويين و بعض المفسرين ان الفرق بين السرعة و العجلة ان السرعة: التقدم في ما ينبغي أن يتقدم فيه، و هي محمودة و نقيضها مذموم و هو الإبطاء، و العجلة: التقدم في ما لا ينبغي ان يتقدم فيه و هي مذمومة و نقيضها محمود و هو الإناءة.
و لكن لا يمكن قبول ذلك على الإطلاق لاستعمال العجلة بالنسبة اليه تعالى، قال جل شأنه: «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح- 20.
و الخيرات جمع خير و هو معلوم عند الجميع سواء كان في العبادة أو في غيرها، و لكن الغالب استعماله في بذل المال و قضاء الحوائج به و لكن لا بد ان لا يتعلق به نهي شرعي و الا سقط عن الخيرية.
قوله تعالى: وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
قضية حقيقية تبين نتيجة ما تقدم من الصفات و الأعمال، فتكون جميع الآية المباركة بمنزلة العلة و المعلول.
و الصالحون هم اهل الحق في الدنيا و الآخرة، و لهم مقام محمود يتمناه الأنبياء العظام قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام):
«تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» يوسف- 101، و قال تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» الشعراء- 83. فيكون المراد من الصالح من كمل اعتقاده و عمله فصلح للوصول إلى مقام القرب اليه تعالى، و لهذه الصلاحية مراتب كثيرة ياتي التعرض لها ان شاء اللّه تعالى.
و المعروف بين المفسرين ان المراد بهؤلاء الممدوحين عبد اللّه بن سلام و أصحابه. و لكن ذكرنا سابقا أن الآيات الشريفة كليات حقيقية واقعية انما يتعرض المفسرون لبعض مصاديقها و ذلك لا يوجب التخصيص بشي‏ء ابدا.
قوله تعالى: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ.
المراد من الخير ما تقدم في الآيات السابقة من الايمان باللّه و اليوم الآخر، و الطاعة له عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و المسارعة إلى الخيرات.
و المعنى: و كل ما يصدر منهم من خير اعتقادا كان أو عملا فلن يحرموا شكر اللّه تعالى و الاثابة لهم و لن يضيع عملهم عند اللّه فيوفيهم أجورهم من غير نقصان و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: «وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» البقرة- 108.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
اي: ان اللّه تعالى يعلم السرائر و ما تنطوي عليه نفوسهم و عليم بأعمالهم و إن أسروا بها، و عليم بتقواهم فيجازي كل فرد بحسب ما يعمله.
و في الآية الشريفة التحريض على تحصيل التقوى، و قد ختم سبحانه و تعالى الخطاب بالتقوى للتنويه بفضلها و لبيان انها الأساس في جميع الأديان.

ذكرنا ان قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» جملة مستقلة مركبة من اسم ليس و هو الضمير، و خبرها «سواء» و قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ» جملة اخرى مركبة من المبتدأ و الخبر.
و قيل «امة» اسم ليس و سواء خبرها، و أتى الضمير في ليس على لغة من قال «أكلوني البراغيث» ورد بأن المقام ليس مثل أكلوني.
و قوله تعالى: «يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ في موضع رفع صفة ل أمة.
و قيل: ان الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير «يتلون» و لكن أشكل عليه بان التلاوة لا تكون في السجود و لا في الركوع.
و الحق ان يقال: ان المستفاد من الجملة استمرار التلاوة منهم في حال تهجدهم و عبادتهم سواء كانت في السجود أم الركوع أم في غيرهما، مع انه لم يثبت بدليل امتناع التلاوة في شريعة اهل الكتاب في حال السجود.
و قوله تعالى: «آناءَ اللَّيْلِ» نصب على انه ظرف زمان.
و انما تعدى «فلن يكفروه» إلى مفعولين لأنه بمعنى الكفران اي‏ ان يحرموا ثواب فعلهم و الشكر عليه.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:
يستفاد من قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» التفرقة بين الحق و الباطل، و هو امر فطري كالتفرقة بين النور و الظلمة و يرشد الى ذلك قوله تعالى: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» السجدة- 18 فانه عز و جل ارجع عدم استواء الفريقين إلى فطرة الإنسان و هو لا يختص بفريقين أحدهما يكون مؤمنا و الآخر فاسقا، بل يمكن ان يجري في الشخص الواحد في حالتين مختلفتين و هو أمر وجداني.
الثاني:
يدل قوله تعالى: «أُمَّةٌ قائِمَةٌ» على ان مناط الايمان انما هو الاستقامة و انما تتحقق بالعمل بكتاب اللّه تعالى و الطاعة له عز و جل و الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه فيصير بذلك صالحا و يدخل في زمرة الصالحين، و قد ذكر عز و جل صفات متعددة في هذه الآيات كل واحدة منها تبين جانبا من جوانب الشخصية الايمانية.
الثالث:
انما قرن سبحانه و تعالى الايمان باللّه مع الايمان باليوم الآخر لبيان ان ايمانهم كان ايمانا يثير الخشية للّه تعالى و الاستعداد للقاء اللّه تعالى و المحاسبة للأعمال، فكان ايمانهم ايمانا اذعانيا لا ايمانا ادعائيا كما يدعيه أبناء جنسهم.
الرابع:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» ان هذين التكليفين من أهم الواجبات النظامية في جميع الشرائع الإلهية و كل مؤمن في اي دين كان انما يثبت إيمانه بالأمر بالمعروف‏ و النهي عن المنكر.
الخامس:
يدل قوله تعالى: «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» ان الخير قد تمكن في نفوسهم بحيث يبادرون إلى فعله غير متثاقلين لعلمهم بحسنه و عظيم اثره و جلالة مقامه و رفعة شأنه فهذه الصفة جامعة لجميع الفضائل و مكارم الأخلاق.
السادس:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» ان تلك الصفات ثابتة فيهم و ناشئة عن ملكات راسخة و قد صلحت سرائرهم فتكون الذات و الاعتقاد و العمل صالحا و يدخلون بذلك في زمر الصالحين و هم عباد اللّه المخلصين و هم الأقلّون في كل امة، و لهم المقام المحمود في الدنيا و الآخرة.
السابع:
يدل قوله تعالى: «وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» على حقيقة من الحقائق و هي ان اعمال العباد محفوظة عند اللّه تعالى، فهو العالم بصلاحها و فسادها، و هو يجازي كل فرد بما يستحقه، و تدل عليها جملة كثيرة من الآيات الشريفة.
الثامن:
يدل قوله تعالى: «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» ان المناط في قبول فعل الخيرات انما هو التقوى، و يدل عليه قوله تعالى: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» المائدة- 27.

في الدر المنثور في قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» عن ابن عباس قال: «لما اسلم عبد اللّه بن سلام و ثعلبة بن سعية، و أسيد بن عبيد و من اسلم من اليهود قالت اخبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا و لو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، و قالوا: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره فانزل اللّه تعالى: «لَيْسُوا سَواءً»- الآية.
و فيه أيضا عن ابن مسعود قال: «نزلت الآية في صلاة العتمة يصليها المسلمون و من سواهم من اهل الكتاب لا يصليها».
أقول: على فرض اعتبار الروايتين و غيرهما مما ورد في هذا الشأن فإنها تبين بعض المصاديق و قد ذكرنا ان الآية الشريفة مطلقة تشمل جميع اهل الكتاب قبل الإسلام و حين الدعوة و أما بعد استقرار الدعوة فلا تنفعهم أعمالهم لفرض انهم مأمورون بالإيمان.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"