1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة آل عمران‏
  10. /
  11. الآية 7

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (۷) 


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في الآيات المتقدّمة نزول الكتاب على النبيّ الهادي الأمين، بيّن في هذه الآية الشريفة بعض أوصاف الكتاب، بأنه يشتمل على اصول المعارف واضحة و مفهومة، هي ام الكتاب، و اخرى يصعب درك المراد منها، فتختصّ معرفتها به جلّت عظمته و بالأنبياء و الأولياء الأمناء على الوحي المرتبطين به عزّ و جلّ فيعول في درك حقائقها عليهم، فإن معرفة تلك الأصول و الآيات تفوق العقل البشري، فلا يعلم حقائقها إلا اللّه العالم المحيط بما سواه، أو الذين أفاض عليهم أنوار علومه، و كرّمهم بمعرفة أسرار كتابه و رموزه و الإحاطة بتأويله، فهم يشرحون لمن دونهم الواقع المطلوب و ما استفادوه من الغيب المحجوب. و هذا من إحدى جهات جامعيّة هذا الكتاب المبين، و كمال نظمه في تقنين القوانين.
و لكن الذين في قلوبهم انحراف و ضلال عن سواء الفطرة، و يميلون عن الحقّ، يتركون الأصول الواضحة و المعارف الحقّة التي تطابقت مع فطرة العقول، و يتحرّون وراء المتشابه، طلبا لإيقاع الفتنة بين الناس و إضلالهم و تلبيس الواقع عليهم.
على خلاف الذين بلغوا من علمهم ما يعرفون به الحقائق، و اعترفوا بالحقّ الواقع بأن جميع الكتاب و كلّه للّه تعالى، فأرشدوا الناس إلى الهداية و السعادة.
و ختم سبحانه و تعالى الآية المباركة بمدحهم مدحا بليغا لا حد له، فوصفهم بأنهم من أولى الألباب.

قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ.
تقدّم الفرق بين الإنزال و التنزيل بالنسبة إلى جميع الآيات المباركة بوجه كلّي، و إنما ذكر عزّ و جلّ الإنزال لأن المقصود الأهمّ في المقام هو بيان تبعيض الآيات الشريفة، بأن بعضها محكمات و الاخرى متشابهات.
و مادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان و الإصلاح و الحتم و المنع عن الخبط و الفساد، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى- حكاية عن نوح-: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ [سورة هود، الآية: ٤٥]، و في الحديث: «ان الجنّة للمحكمين»، أي الذين حتم عليهم القتل بعد ما خيّروا بين الشرك و القتل فاختاروه على الشرك.
و الإحكام في الكتاب تستعمل في موردين:
الأول: بالنسبة إلى جميع هذا الكتاب العظيم، المشتمل على الأسلوب المحكم المتقن و الصادر من المصدر الأزلي الحكيم، و هذا وصف لجميع آيات القرآن حتّى المتشابهات منه، لأنها منه عزّ و جلّ، و هي محكمة من تمام الجهات، من حيث الصدور، و من حيث الأسلوب، و من حيث الإعجاز، و من حيث الهداية، فهي محكمة بجميع ما مرّ من معاني الإحكام، قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود، الآية: 1].
الثاني: في مقابل المتشابه، فتصير الآيات الشريفة حينئذ على قسمين، محكمة و متشابهة، و المراد من المحكمات في هذه الآية الشريفة معلومة الدلالة و مفهومة المراد، أي: مصونة عن طرو التردد و الاحتمال عند الأذهان المستقيمة.
قوله تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
مادة (ا م م) تأتي بمعنى الأصل، قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة الشورى، الآية: 7]، و سمّي اللوح المحفوظ ب (ام الكتاب)، قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: ٤]، و أم النجوم المجرّة، و سمّيت المحكمات ام الكتاب لأنها اصول المعارف الإلهية، و القوانين الخلقية، و تنظيم الأنظمة الدنيوية و الاخروية، فإذا كانت المحكمات اصول القرآن فهي اصول جميع الكتب السماويّة، لأن جميع الكتب السماويّة شوارق من أشعة القرآن، استشرقت بها قلوب الأنبياء السابقين، حتى تجلّت بتمامها في قلب سيد المرسلين، فشرقت شوارق قلبه المقدّس بعد الاتصال بالذات الأقدس بجوامع الكلم التي هي في نفسها مدار الفقه و الفلسفة و البرهان لأهل اليقين و العرفان، لاتصال النور بالنور، فيشع في مراتب البروز و الظهور.
و التشابه من الشبه، و هو من المفاهيم العامة الاستعمال في المحاورات الدائرة بين الناس، فيستعمل في مطلق مشابهة شي‏ء بشي‏ء آخر كيفا أو كما أو في جهة اخرى، و ربما يكون ظهور اللفظ في معنى عرفي يوجب التشابه و الالتباس في مورد الاستعمال، كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، و قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ [سورة طه، الآية: ٥]، كما أن المجمل كذلك أيضا.
و قد يتّصف جميع الكتاب بالتشابه أيضا، كما في قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [سورة الزمر، الآية: 23]، لتشابه جميع آياته في الفصاحة و البلاغة و بديع الأسلوب و كمال الجمال، و أنها صادرة عن مبدئ حكيم قدير، لا يمكن أن يحيط بحكمته و صنعه ادراك الممكنات.
و هو غير التشابه الذي ورد في هذه الآية الشريفة كما في المحكمات، و المعنى أن الآيات المحكمات التي هي ام الكتاب هي الأصل الذي لا بد أن يرجع إليه عند قصور العقول عن درك معاني غيرها.
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ.
مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة إلى خلافها، و هي مستعملة بهيئات كثيرة في القرآن، لعلّ أشدّها على النفس قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف، الآية: ٥].
و زيغ القلوب ميلها عن الحقّ، و له مراتب كثيرة فعلا و قولا و اعتقادا، بل و خطرة في القلب، و الكلّ مضبوط لدى العليم الخبير بالدقائق و الشاهد للحقائق.
و الآية الشريفة تعبّر عن أحوال الناس في تلقيهم الآيات الشريفة بمحكماتها و متشابهاتها، فإن منهم مائلا عن الحقّ، يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة و الضلال، كما عبّر جل شأنه ب: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.
قوله تعالى: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.
مادة (ب غ ي) وردت بمعنى طلب تجاوز الاقتصاد كما أو كيفا، تجاوزه أو لم يتجاوزه.
و البغي على قسمين: محمود و مذموم، و الأوّل مثل قوله تعالى: وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [سورة الإسراء، الآية: 28]، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان اللّه يحبّ بغاة العلم»، و كذا تجاوز العدل إلى الإحسان. و الثاني كتجاوز الحقّ إلى الباطل أو الشبه، و التمييز بينهما بالقرائن، فإن كان الطلب لشي‏ء محمود، فالابتغاء فيه يكون كذلك، و إذا كان الطلب مذموما، فالابتغاء مذموما أيضا، و لكن أكثر موارد استعماله يكون في الذم.
و هيئة الافتعال تدلّ على كثرة الاهتمام بذلك، قال تعالى: وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد، الآية: 22].
و الفتنة: الاختبار، من قولهم فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته للتمييز بين جيده و رديئه، و لها مراتب كثيرة، قال تعالى: وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً [سورة طه، الآية: ٤۰]، و تستعمل في النار و في العذاب أيضا من باب استعمال اللفظ في بعض لوازم المعنى، و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شي‏ء، قال تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ‏ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [سورة الذاريات، الآية: ۱٤]، أي عذابكم، و قوله تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [سورة التوبة، الآية: ٤۹]، و التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، أو البيان، و له مراتب كثيرة، قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف، الآية: ٥۳]، و لكن البيان:
تارة: يكون واقعيا و عن حجّة معتبرة، و هو ممدوح.
و اخرى: يكون اعتقاديا و بلا حجّة معتبرة، و هو مذموم.
و المعنى: أن الذين في قلوبهم زيغ يميلون عن المحكمات إلى المتشابهات، لأجل ابتغاء الفتنة، أو ابتغاء تفسير الآية و بيانها حسب آرائهم و معتقداتهم.
و سياق الآية الشريفة أنها في مقام ذمّ الصنفين، فلا بد و أن يكون ابتغاء الأمرين بالاختيار و التعمّد حتّى يتعلّق به الذم، و كذا إذا كانا منتسبين إلى قصور الإدراك و ترتّب على ذلك الفتنة و التأويل بلا اختيار و عمد لهما، كبعض من فسّر الآيات المتشابهة من القرآن و بيّنها برأيه الخاص، مغرورا بنفسه، فيصحّ توجيه الذم إليه لتقصيره في السبب.
قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
الرسوخ: الثبوت و الاستقرار و التحقّق، و له مراتب كثيرة كمراتب أصل الإيمان به جلّت عظمته، و لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين، أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: ۱٦۲].
و المعروف بين المفسّرين و جمع من الأدباء أن جملة: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ مستأنفة، و أن الجملة الاولى مبتدأ و الثانية خبر، فيكون المعنى: أن الراسخين في العلم يقولون: آمنا باللّه عزّ و جلّ و أن الآيات كلّها من عند اللّه‏ تعالى، في مقابل من كان في قلبه زيغ فيتّبع ما تشابه منها.
و يرد عليه: أن قول: كلّ من عند ربنا، قول عامّة المسلمين، فإنهم يعتقدون بأن القرآن كلّه من عند اللّه تعالى، بلا فرق بين عالمهم و جاهلهم و أهل البادية و السوق منهم، و سياق الآية الشريفة سياق المدح و الثناء، فيختصّ بقوم خاص، و لا يعمّ كلّ من قرأ القرآن و لا يلتفت إلى مداليل الآيات المباركة و معانيها، فهذا الوجه مخدوش.
إلا أن يراد من الراسخين في العلم المعنى السلبي، أي: من ليس في قلبه زيغ و لم يمل من الحقّ إلى الباطل، فيشمل عامّة المسلمين أيضا، و لا يختصّ بصنف خاص. فيصير معنى الآية المباركة: من كان بصدد الإضلال و الإلحاد يتبع المتشابه، و من لا يكون كذلك يقول: كلّ من عند اللّه.
و هو بعيد عن سياق الآية الشريفة أيضا.
و المنساق من الآية الشريفة أن الجملة معطوفة على اللّه، أي: لا يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم. و الراسخ في العلم منحصر بسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و من استفاد منه هذا العلم، حيث‏ قال فيه: «اللهم علّمه التأويل»، و عن علي عليه السّلام: «علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب»، فالجملة ليست مستأنفة بل معطوفة على المستثنى، و يكون من قبيل عطف البعض على الكلّ مثلا، لأن هذا العلم بالنسبة إلى اللّه تعالى أولا و بالذات، و بالنسبة إلى سيد الأنبياء ثانيا و بالعرض، فيكون كنسبة علم المتعلّم إلى المعلم، و هذا الوجه هو الظاهر من الآية المباركة، و تدلّ عليه روايات كثيرة، كما يأتي. و إنما أتى بلفظ الجمع تعظيما و إجلالا، و ليشمل المصطفى سيد المرسلين و المتّقين، الذي هو في قمة مقام اليقين بالنسبة إلى المعارف الربوبية، و لا فرق بين علمه صلّى اللّه عليه و آله بالتأويل و علمه تعالى به إلا بالاعتبار، لفرض أن علمه بالتأويل من علم اللّه تعالى، فالفرق بينهما بالمظهر (بالضم) و المظهرية (بالفتح) في مقام التنزيل و التأويل، و لذا صار صلّى اللّه عليه و آله خاتما لمن سبق و فاتحا للعلوم و المعارف لمن لحق، و هذا في الممكنات يختصّ به، فهو الراسخ‏ في علمي التنزيل و التأويل بحقيقة معنى الرسوخ علما و عملا.
على أن الآية الكريمة ليست بعديمة النظير، فإذا ألقى ملك عظيم خطابا على رعيّته، و كان الخطاب مشتملا على محكم و متشابه و تأويل، يكون أخصّ وزراء ذلك الملك أعرف بمتشابهاته و تأويلاته من غيره، فكيف بمقام الرسالة الأحمدية التي هي أتم مرآة للمعارف الربوبية؟! مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع بعد ما عرفت من أن للتأويل و الغيب مراتب متفاوتة، فبعضها يختصّ به سبحانه و تعالى، و بعضها مستلهم منه تبارك و تعالى، و محمد صلّى اللّه عليه و آله هو قائد هذا العلم و من تعلّم منه، فلا نزاع في البين على هذا، سواء كانت الجملة مستأنفة أو معطوفة.
نعم، يتصوّر النزاع الصغروي في بعض مصاديق الراسخين، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.
و ما عن بعض من أن الجملة مستأنفة، و أن التأويل منحصر به عزّ و جلّ، لأن أدب القرآن الكريم في نظام المقام جرى على أن يذكر النبيّ الأعظم أولا مستقلا بعنوان الرسالة و نحوه، ثم يعطف عليه البقية، قال تعالى: لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ [سورة التوبة، الآية: 88]، و قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة التوبة، الآية: ۲٦]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
غير صحيح، أولا: بأنه تعالى ذكر رسوله في بدء الكلام، بقوله جلّ شأنه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ.
و ثانيها: أنما هو على فرض كلّيته يكون فيما إذا كان مع الرسول غيره يجمعهما شي‏ء واحد، كما في الآيات المباركة المتقدّمة، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: ٦۸]، و قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [سورة التوبة، الآية: ۲٦]، و أما إذا كان الموضوع منحصرا به صلّى اللّه عليه و آله، و كانت البقية منبعثة منه انبعاث الأشعة من الشمس، فلا تعدّد و لا اشتراك حينئذ، فلا حاجة لذكره صلّى اللّه عليه و آله بالخصوص بعد فرض الحصر فيه.
و دعوى: أن العلم بالتأويل منحصر به جلّ شأنه، و لا يتعدّى عنه، لأنه من علم الغيب الذي اختصّ به، فينحصر التأويل به تعالى و لا يعمّ غيره.
مخدوشة: بأن العلم بالغيب مختصّ به تعالى بالذات بلا إشكال، عقلا و نقلا، و لكن أنبياءه و أولياءه يستلهمون بعض ذلك منه و يظهرونه للناس، إثباتا لمقامهم و احتجاجا على الخلق، فليكن المقام كذلك.
و قولهم: آمنا به كلّ من عند ربنا، من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، لأن علمهم بأن جميع الآيات الشريفة من المحكم و المتشابه من عنده تعالى يوجب الإيمان بالكلّ، فلا متشابه عندهم في الواقع، لأنهم بما علّمهم اللّه تعالى من علم التأويل يردّون المتشابه إلى المحكم، فهما بمنزلة قرينة اللفظ، و ذي القرينة عندهم بخلاف غيرهم، فيتحقّق عندهم المتشابه و يأخذون به ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل.
و المعنى: و ما يعلم تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، الذين كرّمهم اللّه تعالى بهذه الرتبة بتعليمه لهم، و مع العلم بتأويله يقولون: آمنا بالكتاب كلّ من المحكم و المتشابه و التنزيل و التأويل من عند ربنا.
قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
اللب: العقل الخالص عن كلّ الشوائب، و إنما عبّر سبحانه و تعالى بالتذكّر، لأن التذكّر و التفكّر في المعارف الربوبية من شؤون العقل الخالص، فإن أولي الألباب يتفكّرون في المعارف الإلهية، فينتقلون من المعلول إلى العلّة أو بالعكس.
و الآية المباركة تبيّن شرف الخطاب و المخاطب، إذ نفس هذا الخطاب خطاب تشريفي، فلا بد و أن يكون المخاطب من له الإضافة التشريفية، و ليس ذلك إلا من كان من أولي الألباب، و قد مدحهم سبحانه و تعالى في جملة كثيرة من الآيات المباركة، و لعلّ أهمها قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران، الآية: 190].

تقدّم أن سياق الآية الشريفة يدلّ على أن جملة: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ عطف على لفظ الجلالة، فتكون جملة: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ في موضع الحال و محلّه النصب لذلك، أي: مع كونهم راسخين في العلم قائلين: آمنا به كلّ من عند ربنا، و استشهدوا لذلك بقول الشاعر: الريح تبكي شجوة و البرق يلمع في غمامة أي: أن البرق يبكي أيضا لا معا في غمامة، فان هذا المقال صفة عامة لكل مسلم، سواء كان راسخا في العلم أم من كان في قلبه مرض، فهذه الآية تبيّن صفتين للراسخين في العلم:
أحدهما: جهة رسوخهم في العلم.
ثانيهما: جهة إيمانهم و تسليمهم للكتاب من كلّ جهة، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنهم يقولون: إن المتشابه و المحكم من عند ربنا، لكنهم يتّبعون المتشابه و لا يردّونه إلى المحكم، لأغراضهم الفاسدة.
و قوله تعالى: و ما يذكر إلا اولوا الألباب. أصل يذكر يتذكّر، و فيه الأبدال، فإن أهل اللغة ذكروا قاعدة و هي: ان تاء الافتعال لو وقعت بعد دال أو ذال أو زاي انقلبت دالا، نحو: أدان، و اذدكر و ازدان. و يجوز في نحو اذدكر قلب الذال دالا أو الدال ذالا، فتقول: ادكر و اذكر.

يستفاد من الآية الشريفة امور:
الأوّل: استعمال لفظ (الام) مضافا في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء كثير جدا، مثل قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ [سورة الشورى، الآية: 7]، بل لا يستعمل هذا اللفظ إلا مضافا إلى الظاهر أو المضمر، و هذه الإضافة لا ريب في أنها تفيد الاختصاص، و أنها:
تارة: تكون من قبيل اختصاص المادة للصور المتعددة.
و اخرى: من الاختصاص الخارجي.
و إنما عبّر سبحانه و تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ للدلالة على أن مجموع المحكمات من الآيات المباركة بمنزلة المادة لجميع الآيات الشريفة، فلا بد من رجوعها إليها، فتكون الإضافة من قبيل الأول بمعنى: أن المحكمات بمنزلة المادة للآيات الشريفة، فلا بد من رجوع جميعها إليها، و إلا يكون من قبيل الصورة بلا مادة، و هو غير ممكن.
الثاني: إنما قدّم سبحانه و تعالى (الفتنة) على (التأويل)، لأنها أهمّ و أعمّ بالنسبة إليه، لكون الفتنة أكثر وقوعا، و أقوى في الإغواء و الإضلال من التأويل، لأنه إخبار عن معتقد الشخص قد يمكن أن لا يعتني المخاطب بمعتقده، بخلاف الفتنة، فتكون أشدّ و أغوى في الإضلال عن التأويل.
الثالث: سياق الآية المباركة يدلّ على الذم إن جزم بالمتشابه من دون ارجاعه إلى المحكم و ترتب الأثر عليه، فيدخل في ذلك جميع الآراء الفاسدة و المذاهب الباطلة التي يتمسّك بها ببعض الآيات المتشابهة لإثبات ما يدّعونه.
و أما مجرّد الاحتمال فقط من غير قصد ترتّب الأثر عليه، لا يكون من اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة، نعم لو حرّر ذلك و دوّن و علم أنه يتبع احتماله غيره و يترتب عليه الأثر، يدخل تحت الآية الشريفة.
الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المعنى السلبي، أي عدم الحجاب لديهم عن درك الحقائق القرآنية، و المعنى الايجابي، أي معاينة الواقع و الحقيقة، فهما متلازمان.
و للرسوخ في العلم مراتب متفاوتة يمكن جمعها في ثلاثة: علم اللّه جلّ‏ جلاله، و علم رسوله الأمين صلّى اللّه عليه و آله، و علم من علّمه رسول اللّه، و ستأتي بقية الكلام في الآيات الآتية إن شاء اللّه تعالى.
الخامس: إنما كرّر سبحانه و تعالى: (الابتغاء) في الآية الشريفة مع قرب متعلّقهما، دفعا لتوهّم رجوع التأويل إلى الفتنة.
السادس: إنما أطلق سبحانه و تعالى الفتنة ليشمل كلّ فتنة تقع في الخارج مستندة إلى التمسّك بالآيات المتشابهة، سواء كانت دنيوية أم اخروية، نوعية كانت- كالفتن التي تهدف الاجتماع و تفسده- أم شخصية، و سواء كانت في العقيدة، كالبدع، أم في غيرها، دائمية كانت أو محدودة.
السابع: اتباع المتشابه لغرض ابتغاء الفتنة- كما تقدّم- من باب الحكمة، لا من باب العلّة، و قد تترتّب على ابتغاء المتشابه أغراض فاسدة اخرى.
الثامن: ابتغاء الفتنة قد يكون عن اختيار و التفات، و قد يكون مترتبا على إشاعة المتشابه، ترتب الأثر على المؤثّر، أي الابتغاء يكون بلا اختيار و لا التفات، و إن كان الاتباع اختياريا، و إطلاق الآية المباركة يشمل كلا القسمين.
التاسع: إنما ختم سبحانه و تعالى الآية الشريفة بالثناء على الراسخين بقوله جلّت عظمته: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ، للدلالة على أن ذوي العقول الكاملة يتلقّون ممّا وهبهم اللّه تعالى من علم التأويل في ردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات، و لكن القشريين يتّبعون المتشابه.

في الكافي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «إن أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أن اللّه تبارك و تعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فالمنسوخات من المتشابهات، و المحكمات من الناسخات».

أقول: هذه الرواية محمولة على ذكر بعض المصاديق، لا الحصر الحقيقي.

في تفسير العياشي: «سئل الصادق عليه السّلام عن المحكم و المتشابه؟ قال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول: المراد بالجاهل من لم يكن راسخا في العلم، و إلا فمن كان كذلك مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلا وجه للتشابه و التأويل بالنسبة إليه، و سيأتي في البحث العلمي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي- أيضا-: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان القرآن محكم و متشابه، فأما المحكم فتؤمن به، و تعمل به، و تدين به، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، و الراسخون في العلم هم آل محمد».

أقول: هذه الرواية تدلّ على ما تقدّم في التفسير من أن الجملة عطف على اسم الجلالة، و أن الذين في قلوبهم زيغ يعتقدون بأن جميع الآيات بأصنافها من عند اللّه تعالى، و لكنهم يتّبعون المتشابه لابتغاء الفتنة و يعملون به.

و قوله عليه السّلام: «و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به»، فهو مطابق لفطرة العقول، إذ المجمل لا اعتبار به لديهم، فلا بد من ردّه إلى المحكم و المفصّل.

و أما قوله عليه السّلام: «و الراسخون في العلم هم آل محمد»، فقد تقدّم أنهم علموا ذلك بالوراثة عن خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و يأتي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي: عن مسعدة بن صدقة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه؟ قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول: تقدّم في الرواية الاولى عن الصادق عليه السّلام ما يتعلّق بهذه الرواية.

و في رواية اخرى: «الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا».

أقول: المراد من الثابت، أي: الحجّية في العمل به، كما أن المراد من ما مضى، أي مضى أمده و انتفت حجّيته، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بالمقام.

و في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «المنسوخات من المتشابهات».

أقول: تقدّم أنه من باب ذكر أحد المصاديق، فلا بد و أن يحمل على قبل العلم بالناسخ، و إلا فيزول التشابه لا محالة.

في الكافي: عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله».

أقول: لأن علمهم من علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ورثوا ذلك منه بالوراثة العلمية و النسبية.

في الكافي: عن بريد بن معاوية، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فرسول اللّه أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه اللّه عزّ و جلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، و الذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم اللّه بقوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، و القرآن خاص، و عام، و محكم، و متشابه، و ناسخ، و منسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول: هذا بيان لأصل الراسخ في العلم، و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما يتفرّع منه، و هم أوصياؤه العظام، كما مرّ في التفسير، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بذيل الرواية.

في الكافي: عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام: «نحن قوم فرض اللّه عزّ و جلّ طاعتنا، لنا الأنفال، و لنا صفو المال، و نحن الراسخون في العلم».

أقول: المراد من الطاعة هنا اتّباع أقوالهم و أفعالهم، لأن قولهم و فعلهم عليهم السّلام حاكيان عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فعله، و كلّ من قال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيئا يجب إطاعته، لأن قوله يكون قول النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو قول اللّه عزّ و جلّ.

عن علي عليه السّلام في حديث له مع معاوية: «القرآن حق و نور و هدى و رحمة و شفاء للمؤمنين الذين آمنوا، و الذين لا يؤمنون في آذانهم و قر و هو عليهم عمى، يا معاوية إن اللّه عزّ و جلّ لم يدع صنفا من أصناف الضلالة و الدعاة إلى النار إلا و قد ردّ عليهم و احتجّ في القرآن، و نهى عن اتباعهم و أنزل فيهم قرآنا ناطقا عليهم، علمه من علمه و جهله من جهله، و إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ليس من القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و لا منه حرف إلا و له حدّ مطلع على ظهر القرآن و تأويله و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا: آمنا به كلّ من عند ربنا، و أن يسلموا لنا و أن يردّوا علمه إلينا، و قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ و يطلبونه».

أقول: الروايات في أن للقرآن ظهرا و بطنا كثيرة، و في بعضها سبعة أبطن، و ذلك كلّه محمول على مراتب التأويل، التي يعلمها من علم تأويل القرآن، كما سيأتي.

و أما قوله عليه السّلام: «و له حدّ مطلع على ظهر القرآن»، المراد من هذا المطلع ما يفهمه العالم بالتأويل، و علمه مختصّ بالراسخ في العلم، و الرسوخ في العلم لا يحصل بكثرة الممارسة، بل نور يستوهب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما مرّ.

و أما قوله عليه السّلام: «و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا»، قد أثبتنا في التفسير أن ذلك لا ينافي كونهم راسخين في العلم، و مع ذلك يؤمنون بأن الكلّ منزل من عند اللّه تبارك و تعالى.

و أما قوله عليه السّلام: «ان يردوا علمه إلينا و قال اللّه عزّ و جلّ: و لو ردوه إلى الرسول و إلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، يظهر من سياق هذه الرواية و ذكر هذه الآية الشريفة في ذيلها أن الاستنباط من القرآن لا بد و أن يكون للراسخ في العلم فيه، و هو كذلك لما تقدّم غير مرة من أن القرآن الكريم لا يشرحه إلا السنّة، فهو كالمتن لها، لا يفهم المراد من المتن إلا بالرجوع إلى السنّة المقدّسة.

في تفسير العياشي: عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه التأويل، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، قال: جعلت فداك، إن أبا الخطاب كان يقول فيكم قولا عظيما، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنكم تعلمون علم الحرام و الحلال و القرآن، قال: إن علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث في الليل و النهار».

أقول: أما ان اللّه تبارك و تعالى علّم رسوله جميع ما أنزل، فهو حق واقع، إذ لا معنى للوحي و التشريع بالنسبة إلى خاتم الأنبياء إلا ذلك، و أما كون علم الحلال و الحرام يسير في جنب علم ما يحدث في الليل و النهار، لأنه من الأمور الغيبيّة و أسرار القضاء و القدر التي تحيّرت العقول في أصل دركها، فضلا عن الإحاطة بها، و يمكن أن يستظهر من هذه الرواية أن ذلك أيضا من متفرّعات الرسوخ في العلم، فكما أن أصل الرسوخ في العلم، بجميع مراتبه مختصّ به تعالى، فكذلك أسرار ما يحدث بالليل و النهار.

نعم استلهم أولياؤه بعض مراتبه.

عن مسعدة بن صدقة: عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام: «ان رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: هل تصف ربّنا نزداد له حبا و به معرفة؟ فغضب عليه السّلام و خطب الناس فقال- فيما قال-: عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته، و تقدّمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به و استضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه و لا في سنّة الرسول و أئمة الهدى اثره، فكل علمه إلى اللّه سبحانه، و لا تقدر عظمة اللّه، و اعلم يا عبد اللّه أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كلّ من عند ربنا، و قد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم‏ يكلّفهم البحث عن كنهه منهم رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

أقول: أما غضبه عليه السّلام بالنسبة إلى هذا الشخص فلأنه أراد توصيف اللّه تعالى بما هو خارج عن ظاهر الكتاب المبين و السنّة المقدّسة الشريفة، و يشهد لذلك‏ قوله عليه السّلام: «عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته و تقدّمك فيه الرسول»، ثم ذمّه عليه السّلام للتعمق في ما وراء ذلك، و قد ورد في جملة من الأخبار ذم ذلك أيضا.

و أما قوله عليه السّلام: «و ما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه»، فالمراد التوهّمات أو الخيالات الحاصلة في النفس في المعارف، فليس لأحد أن يتبعها، بل لا بد من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه و إيكال علم ذلك إلى اللّه تبارك و تعالى، و الا فيدخل ذلك في اتباع الشيطان و إغوائه و التعمّق المنهي عنه.

و أما قوله عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب»، فقد ذكر صفات الراسخين في العلم و مدحهم، يعني: أنهم اكتفوا بما استفادوا من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من الرسوخ في العلم، و لم يتعدّوا ما وراء ذلك، لكونه حينئذ من التعمّق المنهي عنه، فمثل هذه الروايات تدلّ على أمرين:

الأول: كونهم راسخين في العلم، و استفادوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني: أنهم لا يقتحمون- في ما وراء ما استفادوا من الرسوخ في العلم- السدد المضروبة دون الغيوب.

في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث ثم قال: «إن اللّه جلّ ذكره لسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه، قسّم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تميّزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلا اللّه و أنبياؤه و الراسخون في العلم- الحديث».

أقول: هذا الحديث مطابق لما تقدّم من أن المتشابه و المحكم و غيرهما من مراتب الإدراكات، فلا بد في كلام الحكيم أن يلحظ فيه هذه المراتب.

و عن بريد بن معاوية قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام قول اللّه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، فرسول اللّه أفضل الراسخين قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كله، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم اللّه: يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا و القرآن له خاص، و عام، و ناسخ، و منسوخ، و محكم، و متشابه، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول: المراد من «تأويل القرآن كله» ما اشتمل على المتشابه و التأويل، و إلا فالمحكمات ليس لها تأويل.

عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، نحن نعلمه».

أقول: تقدّم وجه ذلك.

في العيون عن الرضا عليه السّلام: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم- ثم قال- إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا».

أقول: قد ذكرنا في التفسير أن اشتمال كلمات الأعاظم و الأكابر على المحكم و المتشابه غالبي، بل فطري بالنسبة إلى مراتب العقول، كما يأتي في البحث العلمي.

في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه».

أقول: هذا من باب بيان بعض آثار الراسخين في العلم، لا جميعها.

في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و غيره عن أنس و أبي امامة و وائلة بن اسقف و أبي الدرداء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل عن الراسخين في العلم فقال: «من برّت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عفّ بطنه و فرجه، فذلك من‏ الراسخين في العلم».

أقول: هذا تفسير باللازم، لأن من لوازم التقوى و المواظبة على أحكامه الاتصاف بما ورد في الرواية، و يصير العالم بذلك راسخا في العلم، و ليس ذلك من باب الحصر الحقيقي، بل لا بد و أن يحمل على الحصر الإضافي.

و عن علي عليه السّلام أنه قيل له: «هل عندكم شي‏ء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، إلا أن يعطي اللّه عبدا فهما في كتابه».

أقول: يستفاد منه أن فهم القرآن الذي أفاضه اللّه تعالى على عبده من مراتب الوحي و شؤونه، و هو كذلك، لأن جميع ما شرحه علي عليه السّلام في الأصول و المعارف و كذا أولاده المعصومون، خصوصا الباقران و الرضا عليهم السّلام، لا يكون إلا من مراتب الوحي الإلهي، المستفاد من الوحي الكلّي، و هو القرآن الكريم، بل جميع ما أعطاه اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله من جوامع الكلم الذي افتخر به صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء يكون كذلك.

في الكافي: عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيها الناس، إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد، و يأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه، و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، و ما حل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق؛ له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجلّ جال بصره و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات، فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربّص».

أقول: أمثال هذه الرواية تدلّ على عظمة القرآن و رفعة شأنه، الملجأ في الفتن و الشدائد، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما حل مصدق»، أي خصم مجادل مصدق.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة»، أي جعله منهجا في عمله، كما أن المراد من الجعل في الخلف ترك العمل به، و معلوم أن العمل بالقرآن يوجب الفوز بالجنّة، كما أن ترك العمل به يوجب الدخول في النار.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و هو الفصل ليس بالهزل»، أي الفاصل بين الحقّ و الباطل.

و المراد من نفي الهزل نفي أي وجه من البطلان عنه.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و له ظهر و بطن»، المراد من الظاهر ما يفهم من ظاهر الآيات الشريفة، و المراد من الباطن الإشارات و الرموز التي يجمعها القرآن التي تحدث إلى يوم القيامة قرنا بعد قرن، و الظاهر و الباطن موجودان في كلمات الأكابر و العظماء، فكيف بكلمات اللّه تبارك و تعالى التي يتشعع معارف بطونها إلى يوم القيامة.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فظاهره حكم و باطنه علم»، المراد من الحكم التصديق الجازم، و ليس المراد بذلك الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء، بل هو الأعمّ منه، و المراد من العلم هو القضايا الحقيقيّة الكاشفة عن الحقائق التي هي العلوم الواقعيّة، لأنّ كلّ تصديق يكشف عن علم، و العلم تابع لظاهر التصديق.

و المراد من علمية الباطن- مع أن ظاهره علم أيضا- هو العلم الذي اختصّ به أولياؤه المكرمون.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ظاهره أنيق و باطنه عميق»، المراد من الأنيق حسن الأسلوب و الإبداع، و أن الأفئدة تهوى إليه، و أما أن باطنه عميق فلأن العقول قاصرة عن الإحاطة بتأويلاته، و كلّ ما تأمّل فيه يتجدّد لها معنى غير الأول.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «له تخوم و على تخومه تخوم»، التخم (بفتح التاء) حدّ الشي‏ء و علامته، و الجمع التخوم، و المراد به حدّ معاني القرآن و علاماته، و لا ريب في أنها تتفاوت بحسب مراتب التأويل و معانيها.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة»، يعني: أن القرآن دليل على معرفته تبارك و تعالى لمن عرف أنه كلام نازل عن اللّه سبحانه، و حيث عرف صفة علمه تعالى من أنه غير متناه من جميع الجهات، فتتحقّق لديه المعرفة التامّة و يذعن بتلك الصفات المتقدّمة للقرآن.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فليجل جال بصره»، المراد من جولان البصر التفكّر في القرآن بما رغّب إليه الشرع، بحيث يكون تفكّره موافقا للحدود الشرعية.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و ليبلغ الصفة نظره»، يعني: يتأمّل بالمعنى الذي مرّ آنفا من أنه من اللّه تعالى، فحينئذ فإن بلغ إلى نظره معاني مستحدثة غريبة، طبّقها على الشرع، فإن وافقها يعتمد عليها و إلا يذرها في بقعة الاحتمال.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ينج من عطب»، أي يخلّصه عن تعبه الذي أتعبه في المعقولات، فإن القرآن منتهى جميعها، فلا بد و أن يرجع كلّها إلى كلام اللّه سبحانه و تعالى.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يخلص من نشب»، أي ينجى و يخلّص كلّ من تعلّق بالقرآن عن جميع المهالك و المتاعب.

و أماقوله صلّى اللّه عليه و آله: «فان التفكّر حياة قلب البصير»، فهو قاعدة عقليّة متّفق عليها في المعقول، و دلّت عليها نصوص كثيرة، فقد أثبتوا: «من أن غذاء الروح و حياتها المعنوية إنما هو بالتفكّر»، و الآيات القرآنية التي ترغّب إلى التفكّر في الطبيعة و ما وراءها تدلّ على ذلك، و سيأتي بيان تلك القاعدة إن شاء اللّه تعالى.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «كما يمشي المستنير في الظلمات»، فهو واضح، إذ ليس الخلاص من ظلمات الجهل إلا بالاستنارة من نور الفكر إن كان في المعارف الدينية.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فعليكم بحسن التخلّص»، يعني تخلّصوا من التفكّر في القرآن بوجه حسن، فلا تدخلوا فيه كلّ و هم و خيال.

و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و قلّة التربّص»، يعني لا تتعمّقوا في خصوصيات القرآن‏ التي لا تصل إليها عقولكم، بل أوكلوها إلى اللّه تعالى بالرجوع إلى الراسخين في العلم، و من أوحى إليه.

و يمكن أن يراد بقلّة التربّص الممانعة عن دخول الأوهام الباطلة و الخيالات الفاسدة في القرآن.

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة و ضياء من الاحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار».

أقول: تقدّم ممّا ذكرنا في الحديث السابق بيان هذا الحديث و عدم الريب فيه.

ثم إن هناك طوائف اخرى من الروايات التي ترتبط بالموضوع، فلا بد من التعرّض لها و بيان ما يتعلّق بها.

وردت روايات كثيرة دالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي، مثل‏ ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».
و عن أبي داود في سننه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار».
و في تفسير العياشي: عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام: «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يوجر، و إن أخطأ فهو أبعد من السماء».
و في تفسير العياشي- أيضا-: عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «الرأي في كتاب اللّه كفر».
و في سنن الترمذي: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
أقول: صريح هذه الروايات الذم في إعمال الرأي في القرآن العظيم، بل جعله‏ بديل الكفر في بعضها، و أن مصيره إلى النار.
و النظر في القرآن أو اعمال الرأي فيه يتصوّر على وجوه:
الأول: الأخذ بظاهره العرفي، الذي هو ظاهر عند النوع و تدور الاستفادة من القرآن مداره، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1]، و قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: 118]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
الثاني: إعمال النظر الشخصي في الآيات الشريفة و تفسيرها، به و لكنه لا يتعدّى عن مرحلة الاحتمال الذهني و الحضور الفكري إلى الخارج، بلا إذعان و لا اعتقاد.
الثالث: ما يكون من إعمال النظر الشخصي، و يكون الناظر في مقام ترتّب الأثر عليه، و الإذعان بأن ذلك مراد اللّه سبحانه و تعالى.
و شمول هذه الأخبار للقسم الأول ممنوع بلا إشكال، و إلا لبطلت الإفادة و الاستفادة من الكتاب العظيم الذي وضع لأجل ذلك، و كذا شمولها للقسم الثاني لفرض عدم ترتّب أي أثر عليه، بل يكون مجرّد العبور الذهني و الخطور الفكري الذي قد يكون بلا اختيار.
و أما القسم الأخير فهو المعلوم المتيقّن من مفاد جميع تلك الأخبار، و يشهد لذلك الشواهد العقلية أيضا، فإن كلمات الأكابر و الأعاظم لا بد أن تحفظ عظمتها بأي وجه أمكن من دون تدخّل الآراء الخاصة في تفسيرها، فكيف بالقرآن العظيم؟
و ما قيل في معنى التفسير بالرأي من الوجوه فإن رجعت مآلها إلى ما ذكرناه فهو، و إلا فالخدشة واضحة فيها، لأن أكثرها دعوى بلا دليل.
و من ذلك يعلم أنه لا وجه لفتح باب الاجتهاد الشخصي في الآيات الشريفة، إذ لا موضوع فيها بعد فرض أن متشابهاتها ترجع إلى محكماتها، و هي مشروحة بالسنّة المقدّسة.
نعم، باب الاجتهاد النوعي مفتوح في تفسير الآيات، بمعنى إرجاع المتشابه منها إلى المحكمات، و أخذ شرح المحكم من السنّة الشريفة.
و يستفاد ما قلناه من الآيات الشريفة أيضا، قال تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء، الآية: 83]، و قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92]، و قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء، الآية: ۳٦]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، التي يستفاد من جميعها أنه لا بد في الاستفادة من القرآن الكريم عدم الاجتهاد الشخصي، بل ردّ الآيات بعضها إلى بعض و الاستعانة بالسنّة المقدّسة، و أن التفسير بالرأي هو القول بغير علم، كما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار».
و أما ما ورد في بعض الروايات من النهي عن ضرب بعض القرآن ببعض، كما في جملة من الأخبار.
ففي تفسير العياشي: عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام قال: «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».
و في المحاسن: عن الصادق عليه السّلام: «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».
و في الدر المنثور: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب، فقال: بهذا ضلّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم و ضرب الكتاب بعضه ببعض، قال: و إن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا، و لكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به و ما تشابه عليكم فآمنوا به».
و فيه- أيضا-: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما يتدارءون، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه‏ بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضها، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه».
أقول: ضرب القرآن بعضه ببعض يحتمل فيه وجوه:
الأول: ردّ المتشابه إلى المحكم، و هذا صحيح، بل واجب كما أمرنا به عقلا و شرعا، و لا وجه للطعن عليه بل جعله كفرا.
الثاني: الاستشهاد لآية بآية اخرى، و هذا أيضا صحيح إذا كان مطابقا للسنّة الشريفة، و قد وقع ذلك في كلمات الأئمة عليهم السّلام أيضا.
الثالث: ما إذا اختار رأيا مستقلا و نظرية خاصة من عند نفسه في تفسير آية و رأي كذلك في آية اخرى، و جمع بينهما برأيه، أو جعل آية اخرى دليلا لما اختاره من عند نفسه، فهذا هو المذموم بلا إشكال، بل قد يوجب الكفر أيضا لأنه يستلزم تكذيب القرآن، كما مرّ في الحديث.
و لعلّ ما سأله الصدوق عن شيخه ابن الوليد في معنى الرواية المتقدّمة عن المحاسن هو ذلك، و أيضا يدلّ على ما ذكرنا روايات كثيرة:
منها:
ما في تفسير العماني عن إسماعيل بن جابر، قال: سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام يقول: «إن اللّه تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء، فلا نبيّ بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتاب فلا كتاب بعده، أحلّ فيه حلالا و حرّم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم، و جعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس، و هم الشهداء على أهل كلّ زمان، و عدلوا عنهم ثم قتلوهم، و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى‏ خائِنَةٍ مِنْهُمْ، و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجّوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجّوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم، و احتجّوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجّوا بأوّل الآية و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا و أضلّوا. و اعلموا رحمكم اللّه: أنه من لم يعرف من كتاب اللّه عزّ و جلّ الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكّي من المدني، و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار فيه، و الصفة لما قبل ممّا يدلّ على ما بعد، و المؤكّد منه و المفصّل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده، فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله. و متى ما ادّعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على اللّه الكذب و رسوله، و مأواه جهنم و بئس المصير».
و منها:
ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ذيل ما ورد في الدر المنثور: «فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم به فكلوه إلى عالمه».
و منها:
ما في نهج البلاغة قال عليه السّلام: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعا و إلههم واحد و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد أ فأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟
أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغه و أدائه؟ و اللّه سبحانه يقول: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ، و قال و فيه تبيان لكل شي‏ء، و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، و أنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً، و أن القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تكشف الظلمات إلا به».
و خلاصة ما يستفاد منها- على طولها- أن فهم القرآن لا بد و أن يكون أوّلا بإرجاع المتشابه إلى الحكم و إرجاع الحكم إلى السنّة، ثم ترتّب الأثر بما يستفاد من المحكم و الاعتراف بالعجز عن الفهم و الدرك، و أن التفسير بالرأي و العمل به بدون ذلك يستلزم الاختلال المذموم عقلا و شرعا.

وردت روايات كثيرة دالة على أن للقرآن ظهرا و بطنا، كما في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية: (ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا وله حدّ، و لكلّ حدّ مطلع)، ما يعني بقوله: لها ظهر و بطن؟ قال: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر كلّما جاء منه شي‏ء وقع، قال اللّه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، نحن نعلمه».
أقول: يظهر من هذه الرواية أن أسرار التأويل تجري في التكوينيات من حيث بدأها إلى ختامها، و أن وقوعها في الخارج مطابق للتأويل الذي يكون في القرآن، و لا يعلمه إلا اللّه و الراسخون في العلم، ففي الحقيقة يمكن استفادة جميع أسرار التكوين من الآيات الشريفة بالتأويل، كما يظهر من الآيات الشريفة، قال تعالى: وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [سورة يس، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: ٥۹]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن».
و عن علي عليه السّلام: «ما من آية إلا و لها أربعة معان، ظاهر و باطن و حدّ و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحدّ هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع هو مراد اللّه من العبد بها».
و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان للقرآن ظهرا و بطنا وحدا و مطلعا».
في تفسير العياشي: عن جابر قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شي‏ء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجاب بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر، إن للقرآن بطنا و للبطن بطن، و ظهرا و للظهر ظهر، يا جابر و ليس شي‏ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، أن الآية يكون أوّلها في شي‏ء و آخرها في شي‏ء، و هو كلام متصل يتصرّف في وجوه».
أقول: المراد من‏ قوله عليه السّلام: «و ليس شي‏ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» قبل التفحّص وردّ المتشابه إلى المحكم، و أما بعد ذلك و تقرير العقول بالشريعة المقدّسة، فلا بعد حينئذ، بل أمرنا بالتعقّل و التدبّر و التفكّر في القرآن الكريم في كثير من الآيات الشريفة، و لا معنى لكون ذلك فيما هو بعيد عن العقول، فهو بعيد في عين كونه قريبا إلى العقول بالاعتبارين، كما مرّ آنفا، و هو كلام متّصل يتصرّف في وجوه.
و في المعاني: عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ظهر القرآن و بطنه، فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، و بطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك»، و الروايات في هذا المساق كثيرة جدا، مضمونها واحد و إن اختلفت التعبيرات الواردة فيها.
و المراد من الظهر و البطن و الحدّ و المطلع التي وردت في الروايات المتقدّمة حقيقة واحدة ذات مراتب تشكيكيّة، فالظهر أي ما يفهم من الظاهر، فهو مرتبة منها، و البطن أي ما يستفيده الراسخ في العلم مرتبة اخرى منها، و كذا المطّلع أو المطلع، فالمراتب مختلفة و الحقيقة القرآنية واحدة، و نحن في حجب عن درك تلك المراتب، مثال ذلك: أن اللبن حقيقة واحدة، و هو في عالم الماديات عبارة عن ما هو المعهود الذي يدر من ثدي الأنثى من الحيوان، و في عالم الرؤيا مثلا عبارة عن‏ العلم، لأن المعروف عند أهل التعبير أن من رأى اللبن في منامه يرزق علما، و يمكن أن يكون في عالم الآخرة شيئا آخر غيرهما، فالحقيقة واحدة و لكن المراتب مختلفة، فبعضها ظاهرة و بعضها غير ظاهرة.
و كذا الصلاة الواردة في القرآن الكريم كثيرا، فإن لها حقيقة تشكيكية، و لها مراتب، منها القيام بين يدي الربّ بالعمل الخارجي، و منها القيام بين يدي الربّ بالجوهر الجسماني الخارجي، كما يكون في أولياء اللّه تعالى، و منها بالصورة الذهنية، و رابعة بما حصل للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج بتعليم اللّه تعالى له مشافهة، فيمكن حينئذ حمل البطون على مثل هذه المراتب، و المراتب التي لم يمكن أن تظهر لنا للحجب المانعة عن الوصول إلى تلك الحقائق، و يشهد لما ذكرنا ما في تفسير العياشي ما تقدّم عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.
و لا ينافي ما ذكرناه‏ قول علي عليه السّلام فيما مرّ: «ما من آية إلا و لها أربعة معان ظاهر و باطن و حدّ و مطلع- الحديث»، و كذا قول أبي جعفر عليه السّلام فيما مرّ من رواية حمران بن أعين، فحمل البطون فيها على المراتب الطولية- كالصحابة مثلا و التابعين لهم و تابع التابعين، و هكذا إلى يوم القيامة- هو أيضا صحيح، لصحّة حمل لفظ البطن على جميع ذلك، إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون البطن- أي ما يفهم من اللفظ عرضيا- كما مرّ أو طوليا.

وردت روايات كثيرة بطرق متعدّدة و تعبيرات مختلفة، و لكن مضمون جميعها واحد، منها ما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف».
و عن علي عليه السّلام: «ان اللّه أنزل القرآن على سبعة أقسام، كلّ منها كاف شاف، و هي: أمر و زجر، و ترغيب و ترهيب، و جدل و مثل و قصص».
و في بعض الروايات: «زجر و أمر، و حلال و حرام، و محكم و متشابه، و أمثال و قصص».
أقول: ليس الحصر الوارد فيها حقيقيا حتى يتحقّق التنافي، بل هو من الحصر الإضافي الاعتباري، و المراد منها ما فسّره علي عليه السّلام: «ان القرآن حمال ذو وجوه»، أي يحمل كلّ وجه إن طابق الموازين الشرعية و العقلية.
و من ذلك يعرف أن تفسيرها بالقراءة أو بالبطن، أو تفسيرها بالأمر أو الزجر و الترغيب و الترهيب و الجدل و القصص- كما مرّ- لا يوجب التنافي، لفرض عدم كونها في مقام بيان التحديد الحقيقي.

المراد من العلم في قوله تعالى: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، هو العلم بالمعارف الحقّة و حقائق الأشياء التي توجب السعادة الأبدية و خروج النفس الإنسانية عن حدود الحيوانيّة و البهيميّة و وصولها إلى منتهى أوج الروحانيّة المجرّدة، بواسطة معرفة الموحي و الوحي و الموحى إليه و الإذعان علما و عملا و معرفة، حسب الإمكان، و قد جمع ذلك كلّه في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت، الآية: ٦۹]، و في قوله جلّ شأنه: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]، و عن علي عليه السّلام في قوله: «رحم اللّه امرءا عرف من أين و في أين و إلى أين»، و قد جمعها علماء النفس و الأخلاق في قولهم: «أوّل العلم معرفة الجبّار، و آخر العلم تفويض الأمر إليه»، و عن الصادق عليه السّلام: «من حرم الخشية من اللّه فليس بعالم و إن شقّ الشعر في المتشابهات، و من لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».
فيكون المراد بالرسوخ: الرسوخ العملي المنبعث عن العلم بالمعارف الحقّة، حتى يدخل في قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، فيصير القول و العمل و الاعتقاد شيئا واحدا، فتسري الروح الإيماني من القلب إلى العمل، بل من العمل إلى القلب، لأن‏ للأعمال تأثيرات حقيقة في الملكات النفسانيّة، فيكون من النور و في النور و إلى النور، قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة الحديد، الآية: 12]، و بعبارة اخرى يصير قلبه قرآنا علميا و جوارحه قرآنا عمليا، فلا محالة يتحقّق الرسوخ.
و أوّل المصداق الحقيقي لذلك هو خاتم الأنبياء، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: ٤٤]، ثم من رباه تربية علميّة و عمليّة علي بن أبي طالب عليه السّلام، و كلماته المقدّسة في نهج البلاغة أظهر دليل لما قلنا، ثم من ربى بهما أيضا تربية علمية و عملية فأخذوا علومهم و معارفهم من النبيّ الأعظم و تأسّوا به في أفعاله و أذعنوا بأقواله، فربوا في حجر الإسلام و رضعوا من ثدي الإيمان، فرسخ العلم في أصولهم و عروقهم و قلوبهم و جوارحهم، فجعل اللّه لهم نورا يمشون به في الظلمات و يرشدون به إلى سبل السّلام.

لا ريب في اختلاف أفراد الإنسان في مراتب إدراكاته سواء كانت القوى المدركة جسمانية (كالقوى الخمس الظاهرة أي السامعة و الباصرة و اللامسة و الشامة و الذائقة) أم معنوية كالفكر و العقل بل ان اختلاف القوى الجسمانية المدركة يعم الحيوانات و بعض النباتات بل بعض المعادن أيضا على ما ثبت في العلم الحديث و هل يكون اختلاف القوى الادراكية المعنوية في الإنسان من خصوصيات العقل المودع فيه؟ أو من النفس الناطقة؟ أو منهما معا؟ أو من شي‏ء آخر كالبيئة و الاجتماع أو المأكل و المشرب أو غيرها؟ لا يعلم ذلك غير اللّه تعالى، فكلّ محتمل.
و من ذلك ينشأ اختلاف الاستعدادات في مراتب الاستفادة و تحصيل العلوم، و لذا ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم».
و تقدّم في البحث الروائي ما يدلّ على ذلك. هذا إذا كانت العلوم و الاستفادة منها مستندة إلى أسباب و علل ظاهرية، كأغلب العلوم.
و أما إذا كان العلم مستندا إلى وحي السماء مباشرة، كما في الأنبياء، أو تسبيبا كمن يتلو تلوهم، أي الآخذين منهم، فلا اختلاف فيهم حينئذ، لفرض الانتهاء إلى علم لا يعقل فيه الاختلاف أبدا، و هو علم اللّه جلّ جلاله.
نعم، الاختلاف في أصل الرسالة و النبوّة موجود، و هو شي‏ء آخر لا ربط له بالمقام، قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [سورة البقرة، الآية: ۲٥۳]. و تقدّم الكلام في معنى التفضيل.
و منه يظهر أن الإجمال و التشابه و نحوهما يستند إلى معنى سلبي، و هو عدم إحاطة العقول بالواقعيات و قصورها عن دركها، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: ٤٤].

المحكم و المتشابه و علم التأويل يحصل من الاستعدادات المكنونة في الإنسان المختلفة غاية الاختلاف- كما مرّ في البحث السابق- فإذا القي خطاب في مجمع أو القي درس في جامعة، أو ألقينا مثلا سائرا بين الناس، فمنهم من لا يتجاوز فهمه الصريح المحض، و منهم من يتجاوز ذهنه إلى اللوازم القريبة منه، و منهم من يتعدّى إلى الأكثر عمقا و يتجاوز إلى اللوازم و الملزومات البعيدة أيضا، خصوصا إذا كان الدرس من العلم الذي هو فوق المادة و المحسوس، و يتحصّل من ذلك امور:
الأول: تحقّق تلك العناوين، أي المحكم و المتشابه و العلم بالتأويل من الأمور الفطرية المستندة إلى الاستعداد- أو الدرك- الذي هو أمر غير اختياري، و يختلف ذلك حسب الاستعداد و درك الأفراد و كثرتهم و قلّتهم.
الثاني: أن المحكم و المتشابه ما كان بحسب النوع لا الشخص، لأن ذلك هو المدار في الخطابات الملقاة على الناس، كما أن المراد من المتشابه المستقر منه دون‏ الزائل بالتعمّق.
الثالث: أنهما- أولا و بالذات- من صفات المعنى، ثم يسريان إلى اللفظ، فيصحّ أن يكونا من صفات اللفظ أولا و بالذات فيسريان إلى المعنى أيضا لمكان الاتحاد بين اللفظ و المعنى، و لذا يسري حسن أو قبح أحدهما إلى الآخر، فيصحّ البحث عنهما في مباحث الألفاظ كما يصحّ البحث عنهما في مباحث الحقائق العلميّة، كما هو شأن كثير من المفاهيم.
و ممّا ذكرنا يظهر أن الأقوال الواردة في معنى المتشابه- التي تتجاوز العشرة- كلها من باب المغالطة و الاشتباه بين المفهوم و المصداق، فقد ذكروا مصاديق المتشابه في حقيقته و معناه، و هو باطل لأن مصاديقه كثيرة، كما أن مناشئه أيضا كذلك.
و البحث في المحكم و المتشابه من جهات، نذكر الأهم منها.
مفهوم المحكم و المتشابه:
المحكم و المتشابه أو المجمل و المبيّن من المفاهيم العرفية في كلّ محاورة و لغة من اللغات، فإن كلا منهما تشتمل على محكم و متشابه و مجمل و مبيّن عند أهل تلك اللغة، فيصحّ عدّ مفهوم تلك الصفات من المفاهيم المبيّنة في المحاورات.
و ما هو المعروف في تعريف المتشابه: «ما لا يعرف المراد منه إلا بالقرينة»، مثل قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، لا يعرف بدوا المراد منه إلا بالرجوع إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ [سورة الشورى، الآية: 11]، فيعرف أن المراد منها القوة و الإحاطة، أو القدرة بالملازمة، و كذا قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر، الآية: 22]، يعرف المراد بالرجوع إلى ما تقدّم من الآية المباركة من أنه الرحمة و الغفران بالملازمة.
و كذا في المحكم من أنه: «ما يعرف المراد منه بلا استعانة قرينة»، مثل قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الحمد، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ [سورة النور، الآية: ٥٦]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة. راجع إلى ما ذكرنا أيضا.
المحكم و المتشابه من الأمور النسبية:
تقدّم أنهما يرجعان إلى اختلاف الاستعدادات المتفاوتة في الإنسان، فيكونان من الأمور النسبيّة الإضافية، لاختلاف منشئهما و سببهما، و إن رجعا إلى حالات اللفظ و صفاته فهي أيضا امور نسبية اختلافية، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة، و لأجل ذلك نرى الاختلاف في عدّ مصاديق المتشابه، فربّ شخص يعدّ لفظا أو آية من المتشابه و ينكره الآخر، أو قد يكون الاختلاف من شخص واحد في موردين أو في زمانين.
و قد اطلق لفظ المحكم و المتشابه على الأفراد، كما في بعض الروايات.
المدار في المحكم و المتشابه:
المناط في اتّصاف الكلام بالمحكم و المتشابه إنما هو الأنظار العرفية العادية المؤهّلة لورود عامة الخطابات عليها، لأنها المدار في تلقّي الأحكام، و ليس المدار الأنظار الدقيّة العقليّة، لاختصاصها بطائفة خاصة و عدم كونها مدار الإفادة و الاستفادة النوعية، فلو كانت الآية أو الرواية بحسب الأنظار العرفية تعدّ متشابهة و بحسب الدقة العقلية- أي بإعمال الأساليب العلميّة- تكون محكمة، لا يؤخذ بها، بل تردّ إلى المحكم، و أما لو كانت بحسب الأنظار العرفية محكمة دون الأنظار الخاصة- أي الدقيّة العقليّة- يؤخذ بها.
و لو كانت آية أو رواية محكمة عند طائفة و متشابهة عند اخرى، فإن كانت الاولى من ذوي الخبرة و الفن لا بد للثانية من اتباعها، و كذا العكس، و مع التساوي يعمل كلّ بحسب تكليفه و رأيه بعد استقرار المحكم و المتشابه، و مع التعارض في مورد يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الحجّية المقرّرة في علم الأصول.
أسباب التشابه:
لا وجه لتحديد مناشئ التشابه و الإجمال بحدّ خاص و موارد معينة، بعد ما عرفت، فيصحّ أن يكون منشأ التشابه نفس وضع اللفظ لغة من حيث هو، مثل قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [سورة البقرة، الآية: 228]، أو يكون في اختلاف القراءة، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [سورة البقرة، الآية: 222]، أو يكون المنشأ اختلاف السنّة الواردة في تفسير الآية الشريفة لو كانت متنافية فيصير التشابه من باب الوصف بحال المتعلّق، لا الوصف بحال الذات، و قد يتعلّق اختيار المتكلّم بالإجمال و التشابه لأغراض مترتبة على ذلك.
نسبة التشابه:
التشابه من الصفات ذات الإضافة، و لا يعقل التشابه بالنسبة إلى علم اللّه جلّ جلاله، لأنه عين ذاته المهيمن لجميع الجهات و المحيط بها، و كذا بالنسبة إلى الموحى إليه كما مرّ. و إنما يتحقّق التشابه بالنسبة إلى غيرهما من المخاطبين في خطابه تعالى أو غيره، سواء أ كانوا حاضرين في مجلس الخطاب، أم غائبين عنه، لما مرّ من أن السبب الأوّلي في التشابه إنما هو اختلاف الإدراكات و قصورها.
نعم، يمكن أن يوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله آية ثم يوحى إليه مرة اخرى شرح تلك الآية و بيانها، و تسمية ذلك بالتشابه إلى الموحى إليه في الآية الاولى مشكل بل ممنوع، و هما بمنزلة الشارح و المشروح، و ليس ذلك من المجمل أيضا، و كذا لو وصل الحكم إلى الموحى إليه إجمالا، و انتظر صلّى اللّه عليه و آله بيانه و تفصيله، كما تقدّم في تغيير القبلة، قال تعالى: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [سورة البقرة، الآية: ۱٤٤].
مع أن الأدلّة الدالّة على أن خاتم النبيين من أهمّ الراسخين في العلم يأبى عن ذلك كلّه، فخروج التشابه بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه و آله تخصصي، لا أن يكون تخصيصيا، و الفرق بينه و بين اللّه تبارك و تعالى أن التخصص بالنسبة إليه جلّ شأنه بالذات، و بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه و آله بالغير، أي من اللّه تعالى، كما تقدّم ذلك.
واقعية المحكم و المتشابه:
لا شك في أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة، فلا دخل للاعتقاد فيها، كما أثبتنا ذلك في علم الأصول. فالمراد من المحكم و المتشابه هو الواقعي منهما دون الاعتقادي، لأن الواقعيات مورد وضع الألفاظ دون الاعتقاديات، إلا أن يدلّ دليل على الخلاف، و حينئذ كلّ من اعتقد أن آية من الآيات القرآنية أو حديثا من السنّة محكم أو متشابه، ثم بعد مدة تبين الخلاف لا أثر لاعتقاده و لا يترتب عليه آثارهما، و لا يكون من باب تبدّل الموضوع، بل من باب كشف الخلاف، و لا بد و أن يبحث عنه في مباحث الإجزاء المقرّرة في علم الأصول.
موضوع المحكم و المتشابه:
المحكم و المتشابه يعرضان بعد استقرار حجيّة الكلام، إذ لا ريب في أن دلالة اللفظ تغاير حجّيته، فقد يكون اللفظ دالا على شي‏ء و لم يكن حجّة، مثلا العام و المطلق قبل الفحص عن الخاص و المقيد ظاهران و دالان على العموم و الإطلاق، و لكنهما ليسا بحجّة و لا يجوز التمسّك بكلّ منهما إلا بعد الفحص و عدم الظفر بالمخصص و المقيد، فالدلالة انما تعتبر طريقا إلى الحجيّة، فلو لا الحجيّة و صحّة الأخذ و الاستدلال لا أثر لنفس الدلالة من حيث هي، فالمحكم و المتشابه يعرضان على الكلام الصحيح الثابت حجيّته.
و بعبارة اخرى: المراد بالمحكم و المتشابه إنما هو المستقر منهما، لا الزائلان بعد التروي و التأمّل.
التشابه في القرآن:
لا ريب في تحقّق التشابه و أصل حدوثه في الجملة بالنسبة إلى الأمة في القرآن، و لا مجال لإنكار ذلك. كما لا شك أنه في معرض الزوال بالرجوع إلى الراسخ في العلم و إلى المحيط بالسنّة المقدّسة، التي هي مبيّنة لمتشابهات القرآن، أو بردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات منها، كما في الآية المباركة فحينئذ لا يبقى موضوع للتشابه الدائمي في القرآن.
نعم، أصل حدوثه في القرآن ممّا لا ينكر، قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
فما عن بعض من إنكار أصل التشابه في القرآن تمسّكا بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 138]، و قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89]، و غيرهما من الآيات.
غير صحيح، لما مرّ في الآية المباركة مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، بل يدلّ على ذلك وجدان أهل المحاورة، لأنهم يفرّقون بالفطرة بين الدلالة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام، الآية: ۹٤]، و بين الدلالة في قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر، الآية: 22]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و أما ما استدل به من الآيات الشريفة، ففيه أن كون الكتاب بمجموعه مشتملا على تبيان كلّ شي‏ء، أو أنه بيان للناس، لا ينافي وجود بعض المتشابهات بعد صيرورتها تبيانا إن ردّت إلى المحكمات.
نعم، لو أراد إنكار دوام التشابه في القرآن لا أصل حدوثه، فهو صحيح لأن القرآن قانون دائمي نوعي إلى يوم القيامة، و لا وجه لوقوع التشابه الدائمي فيه، خصوصا بعد أن أمرنا بردّ المتشابه إلى المحكم ثم الاستفادة منه.
إن قيل: إن جملة من مفتتحات السور و أوائلها باقية على التشابه إلى الأبد.
يقال: أنها معلومة أيضا عند الراسخين في العلم، و فسّرت أيضا بما مرّ.
و بالجملة: لا تشابه في القرآن بعد عرض الآيات المتشابهة على المحكمات أو على العقل المقرّر شرعا. فالتشابه حدوثي لا دائمي في القرآن.
الحكمة في اشتمال القرآن على المتشابه:
بعد أن ظهر أن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم ترجع إلى القصور في العقل و عدم الإحاطة بردّ تلك الآيات إلى المحكمات، تصير الحكمة في إنزال الآيات المتشابهة حينئذ أمرا سلبيا، و هو عدم درك العقول و عدم احاطتها بالحقائق القرآنية، و إلا فلا قصور في نفس الآيات المباركة بعد ردّ بعضها إلى البعض، ففي الواقع لا تشابه في الآيات القرآنية، لا ثبوتا و لا إثباتا إذا عرضت الآيات المتشابهة على العقل المدرك المقرّر بالشرع، فيكون التشابه في النظر البدوي من الإدراك، لا في النظر الحقيقي، و لذا نرى الاختلاف في تعيين المصاديق للآيات المتشابهة عند العلماء و المحقّقين.
و أما ما أشكل على وقوع التشابه في القرآن بأنه لا وجه له، مع أن القرآن قانون أبدي، و هو كتاب فسّرت آياته من لدن علي حكيم، فلا بد أن يكون شرعة لكلّ وارد و يستفيد منه كلّ أحد.
غير صحيح، لأن اختلاف العقول في جهات الإدراك فطري خارج عن تحت، أي اختيار و القرآن لا يعدو الفطرة.
المتشابه في السنة:
كما أن في القرآن محكما و متشابها، كذلك يكون في السنّة المقدّسة، ففيها متشابهات و محكمات لا بد و أن يردّ المتشابه إلى المحكم. و قد ظهر ممّا ذكرنا أن ذلك حدوثي لا دائمي، و ينشأ ذلك من اختلاف الاستعدادات كما مرّ، و ردّ متشابهاتها إلى محكماتها إنما هو من شأن الفقهاء و المحدّثين العالمين العاملين بها، ففي السنّة الشريفة راسخ في العلم أيضا، و تقدّم ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «ان في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا».
التأويل و معناه:
تقدّم أن التأويل من الأول. و للأول عرض عريض جدا، فيشمل كلّ ما له قابلية الشمول، مثلا أن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ يشمل كلّ ما تؤول إليه الصورة الإنسانية من الخصوصيات الذاتية و العرضية و الزمانية و المكانية، و يدخل في التأويل كلّ ذلك، فإذا نظر الراسخ في العلم إلى صورة إنسان يعلم بعلمه الراسخ جميع الحالات الواردة على الإنسان في عوالمه الطولية و العرضية، فيعلم أنه كيف يعيش و متى يموت، و في أي محل يقبر، فجميع هذه الصور معلومة عنده حسب شأنه و رسوخه في العلم، و هذا أعظم أنواع التأويل.
فالتأويل أخصّ من التفسير بلا إشكال، لأنّ التفسير من فسّر، و هو و السفر بمعنى واحد، أي كشف القناع، و يحصل ذلك ببيان أوّل مرتبة من مراتب معاني اللفظ، بخلاف التأويل، و لذا يختصّ التأويل بأئمة الدين، كما ورد عنهم: «أن عندنا علم التأويل»، على ما تقدّم معناه، فيكون علم التأويل أجل و أعظم بمراتب من علم التشريع، و عبّر عن بعض مراتبه بعلم البلايا و المنايا، فإن له مراتب كثيرة، لأنّ للقرآن بطونا، و لعلّ المراد منها بعض مراتب التأويل.
الفرق بين التأويل و التنزيل:
ظهر ممّا تقدّم الفرق بينهما، فإن التنزيل يختصّ بالآيات المباركة من حيث اللفظ و غيره، و التأويل كلّ ما له قابلية الشمول للآية، فيكون الفرق بينهما أن‏ التنزيل إنما يلحظ باعتبار وجوده الجمعي، أي الوحدة في الكثرة، و التأويل إنما يلحظ باعتبار وجوده الانطباقي الانبساطي الخارجي في الحوادث التكوينيّة و التشريعيّة، من أوّل الحدوث إلى آخر الخلود، لجميع الجزئيات و الخصوصيات و العلل و المعلولات و الشرائط و الموانع، باعتبار الوجود الانبساطي الخارجي، و لا يمكن الإحاطة بذلك إلا للّه جلّ شأنه، لقصور ما سواه عن ذلك، و قد يفيض بعض ذلك لخلّص عباده، كما مرّ.
و قد بيّن اللّه تبارك و تعالى في سورة الكهف من آية ٦٦ إلى 78 في ما سأله موسى عن الخضر عليهما السّلام الفرق بين التنزيل و التأويل، فقال تعالى حاكيا عن الخضر: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً، فالتأويل ما فعله الخضر و أجاب عن ما سأله موسى، و التنزيل ما سأله موسى عن الخضر. و نعم ما نسب إلى بعض أكابر العرفاء: «التأويل علم الحقيقة، و التنزيل علم الشريعة و الطريقة»، و مثّل لذلك بالفقيه و الطبيب، فإن الفقيه محتاج إلى الطبيب في العلم بالعلاج و العلم بخواص الأدوية، و الطبيب محتاج إلى الفقيه في العلم بظواهر الشرع.
و الجامع القريب بين التنزيل و التأويل إحقاق الحقّ و إبطال الباطل.
أما التأويل في السنّة و الروايات، فقد ورد فيها أيضا- كما في بعض الروايات- لأن لها الوجود الانبساطي الخارجي القابل للانطباق على القضايا الخارجيّة أيضا، كما تقدّم في تأويل الآيات الشريفة.
كما أن علم تعبير الرؤيا اطلق عليه التأويل أيضا، قال تعالى حاكيا عن نبيّه يعقوب لابنه يوسف عليهما السّلام: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [سورة يوسف، الآية: ٦]، و المراد منها الأحاديث الحاصلة من النوم، بقرينة قوله تعالى حاكيا عن الملأ: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [سورة يوسف، الآية: ٤٤]، و قد ورد في السنّة المقدّسة أن الرؤيا جزء من تسعة و تسعين جزءا من أجزاء النبوّة.
مورد التأويل في الآيات القرآنية:
لا ريب في ثبوت التأويل في القرآن في الجملة، بلا شك كما دلّت عليه الآيات المباركة، و هل يصلح جميع الآيات أن تكون موردا للتأويل حتى المحكمات و المتشابهات منها أو يختص ببعض دون بعض؟ لا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا بما وصل إلينا من بيان التأويل و إلا فليس لنا ضابطة تميّز الآيات المتّصفة بالتأويل عن غيرها لفرض اختصاص ذلك بالراسخ في العلم.
الفرق بين التأويل و مطلق استعمال اللفظ:
تبادر المعنى من اللفظ و استعماله فيه- و لو بنحو المجاز- ليس من التأويل، لا لغة و لا عرفا، و إن الاستعمال أخصّ من التأويل موردا، و يمتاز كلّ منهما عن الآخر بأمور:
الأول: أن التأويل له مراتب كثيرة، لأن للقرآن بطونا- كما في البحث الروائي- و لها لوازم و ملزومات، و بالنسبة إلى المؤول تارة يكون الذهن مأنوسا بشي‏ء دون آخر، فيؤولها حسب الانس الذهني، إن لم يكن مخالفا للحجج الشرعية الدائرة، و ذلك لا يكون إلا من الإفاضة الغيبيّة الإلهيّة المختصّة بأهلها، كما تقدّم، و ذلك لا يكون في التبادر و الاستعمال.
الثاني: أن الأول بمعنى الرجوع و المرجع- كما تقدّم- و يصحّ أن يكون لكلّ موجود من موجودات هذا العالم- جوهرا كان أو عرضا- بجميع أنواعها مناشئ و مراجع كثيرة، سابقة على ما يفهم من ظاهر لفظه و لا حقة كذلك، و حوادث محفوفة بكلّ واحد منها، فيشمل التأويل جميع تلك الوجودات، أو العلوم الحادثة في العالم من أوّل هبوط آدم إلى قيام الساعة من جميع أنحاء العلوم و الخواص كلّية أو جزئية، بسيطة أو مركبة، في الجواهر أو الأعراض في الأفلاك أو الأملاك.
و بعبارة اخرى: الإحاطة العلميّة الحضورية بجميع ما سوى اللّه من كلّ جهة، و مثل هذا العلم غير محدود و غير متناه، و يختصّ بعض مراتبه باللّه جلّ ذكره، و بعضه الآخر يفيضه جلّ شأنه على من يشاء من عباده، و هم الراسخون في العلم الذين أفنوا جميع شؤونهم الإمكانية في مرضاته تعالى، كما يطلع على الغيب المحجوب بعض عباده المقرّبين المحبوبين. فللتأويل وجود انبساطي يشمل جميع ما تقدّم، بخلاف الاستعمال كالتبادر و أمثاله، فإنه محدود من جميع الجهات.
الثالث: صفات الحقيقة و علاماتها و كذا شرائط المجاز قد لا تكونان في المعنى المؤول، لأنه قد لا تستأنس الأذهان العامّة بذلك، كما في قصة موسى و الخضر في سورة الكهف من آية 64 إلى آية 82، و لكن في الاستعمال لا بد منها، أو لا بد من قرينة تدلّ على صحّة الاستعمال.
الرابع: المؤول لا يصحّ التمسّك به في الحجج الظاهريّة، بخلاف الاستعمالات الظاهرية، فإنها حجّة عند العقلاء، سواء كانت بلا قرينة أم معها.
نعم، لو كان دليل من الخارج على إرادة المعنى المؤوّل يكون حجّة حينئذ، لكنه من باب الوصف بحال المتعلّق لا الوصف بحال الذات، هذا بالنسبة إلى نوع الأذهان العامّة، أما بالنسبة إلى العالم بالتأويل و الراسخ في العلم، يكون المعنى المؤول حجّة عنده، كما في قصة الخضر و موسى.
دوران الأمر بين التأويل و التفسير:
لو ورد حديث في معنى آية من الآيات القرآنية و شكّ في أنه من التفسير لها أو التأويل، فمع الظهور اللفظي يؤخذ به و يكون من التفسير و أنه حجّة، و أما لو لم يكن كذلك فمقتضى الأصل عدم الحجّية ما لم تكن قرينة من الخارج تدلّ عليها، فيدخل في البحث السابق من أنه ليس كلّ تأويل حجّة إلا لأهله.
و كذا الآيات القرآنية، فلأنها إما محكمة، أو متشابهة، أو مرددة بينهما، و يجري على الأخيرة حكم الثانية، فلا يصحّ التمسّك بها إلا بعد الرجوع إلى ما ورد في شرحها في السنّة المقدّسة.
الاستعارات و الكنايات القرآنية:
لا ريب في أن الآيات المباركة مشتملة على الكنايات، التي هي من أهمّ شؤون الفصاحة و البلاغة، و يعدّ ذلك من أدب القرآن، مثل قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [سورة المائدة، الآية: ۷٥]، فإنه كناية عن البراز، و قال تعالى: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [سورة البقرة، الآية: 237]، فإنه كناية عن الجماع، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، فهي لا تكون من المتشابهات بل إنها من المحكمات، فإن لها ظهورا عرفيا و لو بالقرينة في المعنى المراد. و قد أثبتنا في علم الأصول أن المدار في المحاورات على الظهورات العرفيّة و لو كانت مجازيّة.
و كذا ما ورد في بعض الأحاديث من أن القرآن: «نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة».
و أما اللطائف و الإشارات و الدقائق، فإنها إن كانت منساقة من ظاهر اللفظ بحسب المحاورة، تكون من المحكمات، و إلا فهي من المتشابهات.
و من هنا يظهر فساد ما عن بعض من إنكار كون الكنايات من المحكمات و أنها من المتشابهات.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"