1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مهذب الأحكام
  8. /
  9. كتاب القضاء
  10. /
  11. المقدمة

الحمد للّه الذي يقضي بالحق في الدنيا و العقبى،

و الصلاة و السلام على من أرسله لفصل القضاء في الآخرة

و الأولى. و آله الذين شرحوا لنا موازين القضاء.

القضاء يستعمل لغة في عدة معان، و الجامع بينها هو: «انقطاع الشي‏ء و تمامه»، و قد وردت تلك المعاني في الكتاب الكريم، فقد استعمل فيه بمعنى الخلق، قال تعالى‏ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏۱، أي خلقهن، و بمعنى الأمر كقوله تعالى‏ وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏۲، أي أمر بذلك، و بمعنى الإنهاء كقوله تعالى‏ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ‏۳، أي فرغتم منها، و بمعنى الإعلام كقوله تعالى‏ وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ‏4، أي أعلمناهم، أو أوحينا إليهم وحيا جزما، و بمعنى الحتم كقوله‏

تعالى‏ ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا٥ أي حتم، و بمعنى العلم كقوله تعالى‏ وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ‏٦ أي علّمناهم، و بمعنى الحكم قال تعالى‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ*۷ أي يحكم بينهم، و بمعنى الفعل كقوله تعالى‏ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ‏۸، إلى غير ذلك مما أنهاها بعضهم إلى عشرة أو أكثر.

و مقتضى أصالة عدم تعدد الوضع، و إمكان إرجاع بعض هذه المعاني إلى بعض بجامع قريب عرفي، كما تقدم عدم الاشتراك اللفظي بين تلك المعاني، كما أن مقتضى أصالة عدم لحاظ الجامع القريب العرفي حين الوضع، عدم كونها من المشترك المعنوي، و كون جميع ذلك من دواعي الاستعمال معلوم، فيكون القضاء متّحد المعنى: و هو «الحتم أو الانقطاع»، و البقية من دواعي الاستعمال، و حيث ثبت في محله أن الظهور الاستعمالي حجة معتبرة، و لو لم يستند إلى الحقيقة بل استند إلى القرائن المعتبرة، و ما ليس بظاهر لا اعتبار به و لو كان الاستعمال حقيقيا، لا وجه لتطويل البحث في أن لفظ القضاء في موارد استعماله من المشترك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة و المجاز، بل المدار على ظهوره في كل مورد في معنى يناسبه و لو بالقرائن.

و الظاهر أن اصطلاح الفقهاء ليس مغايرا للمعنى اللغوي، بل هو من بعض مصاديق الحتم و الحكم على ما سيأتي.

و لا بد من تقديم أمور:

الأول‏: القضاء من أهم الأمور النظامية في حياة الإنسان من حين هبوط آدم عليه السلام إلى انقراض العالم، فبدأ القضاء منه سبحانه و تعالى و يختتم به عزّ و جل يوم القيامة، و لا يختص بملة دون أخرى، فلكل ملة قاض، و في كل واقعة قضاء،

و كل قضاء لو انطبق على القوانين المقدسة الشرعية لا ريب فيه، و كل ما خالفها فهو باطل بلا شبهة تعتريه، و كل قاض بذل وسعه و أعمل جهده في أن يوافق قضاؤه مع قضاء اللَّه جلّ جلاله، فمصيره إلى الجنة لا محالة، و كل من خالف ذلك يكون مصيره إلى النار، فلا بد من الاهتمام الكثير و نهاية بذل الوسع في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمانات اللَّه على النفوس و الأعراض و الأموال، و لا بد و أن ترد هذه الأمانة الكبرى إلى أهلها، و هم الأنبياء و المعصومون عليهم السلام، و من يقتفون أثرهم علما و عملا من كل جهة، لئلا تهتك أعراض الناس و أموالهم و نفوسهم، التي عصمها اللَّه عزّ و جل عن أدنى وصمة الهتك.

الثاني‏: القضاء يلحظ تارة بالنسبة إلى نفسه، و أخرى بالنسبة إلى من يقوم به، كما هو شأن جميع الصفات التي تكون ذات الإضافة إلى المحل- كالحكم و الفتوى و العلم و نحوها- و هو عند الفقهاء بالاعتبار الأول: الحكم بين الناس بما هو صلاحهم، سواء كان مسبوقا بالخصومة الفعلية أم لا، و هي الغالب فيه في ظرف عدم بسط اليد.

و بالاعتبار الثاني: ولاية على الناس فيما يصلح به شؤونهم بالطريقة الشرعية.

و إن شئت قلت: القضاء سلطة شرعية على النفوس و الأعراض و الأموال بما جعلها اللَّه عزّ و جل، و لا يختص بمورد التخاصم و التنازع، و إن كان هو الغالب فيها مع عدم بسط اليد، بل يشمل كلما فيه صلاح الناس من إيجاب أمور و تحريم اخرى فيما فيه الصلاح، و تتسع تلك السلطة و تتضيق بحسب بسط اليد و ضيقها.

و بذلك يمكن أن يجمع بين الكلمات، فمن فسره بالحكم نظر إلى اللحاظ الأول، و من فسره بالولاية نظر إلى اللحاظ الثاني، و كل منهما حق.

الثالث‏: القضاء بين الناس مقام رفيع عظيم و منصب جليل، لأنه من فروع ولاية اللَّه تبارك و تعالى على عباده، و من أغصان النبوات السماوية، كما أنه منصب خطير جدا، لا ينجو من خطراته إلا من عصمه اللَّه تعالى و كان اللَّه معه فيه في جميع حركاته و سكناته و أفعاله و أقواله، بل و خطرات قلبه، قال النبي صلّى اللَّه عليه و آله:

«من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين»۹، و عنه صلّى اللَّه عليه و آله: «يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض في تمرة قط»۱۰، و عن الصادق عليه السلام في الموثق: «من حكم في درهمين بغير ما انزل اللَّه عزّ و جل فهو كافر باللّه العظيم»۱۱، و قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي، أو وصي، أو شقي»۱۲، و عن الصادق عليه السلام: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة»۱۳، و قال عليه السلام أيضا:

«اتقوا الحكومة، إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل بين المسلمين، كنبي أو وصي نبي»۱4، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة.

الرابع‏: القاضي و المفتي و المجتهد و الفقيه، ألفاظ متحدة مصداقا و مختلفة اعتبارا، فيسمّى قاضيا و حاكما باعتبار حكمه و إلزامه في الوقائع الشخصية، و مفتيا باعتبار الإخبار عن الحكم كليا، و مجتهدا باعتبار بذل الوسع في رد الفروع إلى الأصول، و فقيها باعتبار علمه بالأحكام الإلهية. فهذه مناصب أربعة، كل واحد منها من أجلّ المناصب و أعظمها، و سيأتي الفرق بين الفتوى‏ و الحكم إن شاء اللَّه تعالى.

و المراد من الاجتهاد في القضاء إعمال الوسع في فهم خصوصيات المخاصمة و الدعاوي.

الخامس‏: مقتضى أصالة عدم الحجية و الاعتبار، عدم حجية قول كل أحد و رأيه و عمله قاضيا كان أو غيره، إلا ما خرج بالدليل، و قد دلّ الدليل على خروج القاضي المنصوب عن هذا الأصل، و هو الذي أذن له الإمام عليه السلام بالخصوص في القضاوة، و يقال له: النائب الخاص و القاضي المنصوب، و لا وجود له في زمان الغيبة، لاختصاصه بالإذن الخاص منه عليه السلام، و النصب المخصوص منه عليه السلام لشخص خاص، الذي لا موضوع له في هذه الأعصار، و مقتضى الإطلاقات و العمومات- على ما سيأتي اعتبار جميع الشرائط المعتبرة في مطلق القاضي في القاضي المنصوب أيضا، و لا وجه للتعرض للفروع المتعلقة به.

أما في زمان الغيبة فلعدم الموضوع له، و أما في زمان الحضور فلأن الإمام عليه السلام اعرف بمن يأذن له في القضاوة، من حيث خصوصيات الشخص المأذون له و خصوصيات الإذن و سائر الجهات، و الظاهر عدم تحقق القاضي المنصوب في زمان حضور الأئمة عليهم السلام، لقصور الظروف عن تصدّيهم لهذا الأمر حتى بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام في زمان خلافته الظاهرية، إذ لم ينقل بوجه معتبر أنه عليه السلام نصب قاضيا، إلا ما قيل بالنسبة إلى شريح في خبر النصب عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام قال: «لما ولّى أمير المؤمنين عليه السلام شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه»۱٥، و هو ظاهر في عدم النصب، و يشهد له قوله عليه السلام لشريح: «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي»۱٦– نعم قد حصل بالنسبة إلى مثل مالك الأشتر دون غيره- فتكون هذه المسألة من المسائل الفرضية التي تعرضوا لها.

و كذا خرج بالدليل النائب العام، و هو الذي انطبقت عليه الأدلة العامة.

ممن اتصف بالصفات الخاصة المعتبرة في القاضي، مثل قوله عليه السلام: «من نظر في حلالنا و حرامنا»۱۷، و قوله عليه السلام: «رواه أحاديثنا»۱۸، و نحو ذلك من العناوين العامة المنطبقة على أفراد مخصوصة.

و بالجملة: القضاء منصب إلهي لا بد له من إذن، أو إذن من يكون إذنه إذن اللَّه تعالى، و الإذن إما عام أو خاص، و يأتي التفصيل في مستقبل المقال إن شاء اللَّه تعالى.

فالنائب العام- أو القاضي المنصوص بالنص المطلق و الإذن العام- يتحقق في زمان الغيبة و الحضور، لعموم الأدلة الشامل لهما، و النائب الخاص يختص بزمان الحضور و لا يتحقق في زمان الغيبة، فليس في البين قسم ثالث من القضاء.

و لكن نسب إلى المشهور وجود قسم ثالث اصطلحوا عليه ب (قاضي التحكيم)، قال في الشرائع: «لو تراضى الخصمان بواحد من الرعية فترافعا إليه لزمهما حكمه»، و قريب منه عبارات غيره، و البحث في قاضي التحكيم من جهات:

الأولى‏: في معناه، و هو في العرف- و منه اصطلاح الفقهاء- من يجعله المتخاصمان حكما بينهما و يرضيان بحكمه. و هو شائع و متعارف بين الناس خصوصا في قديم الأيام، كما يشهد له الخبر الآتي.

الثانية: في دليل اعتباره، قد يقال: إن قاضي التحكيم من كان فاقدا للاجتهاد، كما عن جمع، أو فاقدا لبعض الشرائط، كما عن آخر مع كونه من الخاصة لا من غيرهم، فإن قلنا بجواز القضاوة للمقلد فلا وجه للبحث عنه أصلا، و إن قلنا بعدم جوازها- كما سيأتي- و تمت الأخبار التي استدلوا بها عليه فهو، و إلا فمقتضى الأصل و إطلاق الأدلة عدم اعتباره، و سيأتي اعتبار جميع‏  شرائط القضاوة فيه أيضا.

و قد استدلوا على اعتبار قاضي التحكيم.

تارة: بالإجماع، الذي ادعاه جمع.

و أخرى‏: بخبر ابن الفضل قال: «قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام: أي شي‏ء بلغني عنكم؟ قلت: ما هو؟ قال: بلغني أنكم أقعدتم قاضيا بالكناسة، قلت: نعم جعلت فداك رجل يقال له عروة القتات، و هو رجل له حظ من عقل نجتمع عنده فنتكلم و نتساءل ثمَّ يرد ذلك إليكم، قال: لا بأس»۱۹.

و ثالثة: بمفهوم النبوي صلّى اللَّه عليه و آله: «من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون»۲۰، و روى أبو شريح أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال له: «إن اللَّه هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟! قال: إن قومي إذا اختلفوا في شي‏ء أتوني فحكمت بينهم و رضي عليّ الفريقان، قال: ما أحسن هذا، فمن أكبر ولدك؟ قال شريح قال صلّى اللَّه عليه و آله: فأنت أبو شريح»۲۱.

و مقتضى الأصل عدم حجية قوله و عمله إلا مع دليل معتبر على الخلاف، و جميع هذه الأدلة قابلة للمناقشة.

أما الإجماع فلكثرة اختلافهم في خصوصيات المسألة و فروعها، حتى من العامة الذين هم الأصل لاعتبار قاضي التحكيم، كما لا يخفى على أهله.

و أما الأخبار فهي قاصرة السند عن إثبات هذه السلطنة على الناس المخالفة للأصول العقلائية و الشرعية، و لا ثمرة في هذا البحث أصلا كما يأتي.

نعم، لو أريد من قاضي التحكيم إيجاد الصلح و المراضاة بين الخصمين عرفا بغير ما هو منهي عنه شرعا، من غير أن تترتب عليه أحكام القضاء المعروف، الذي وضعوا لها كتابا مستقلا، لكان له وجه، بل هو حسن و مطلوب، لعموم قوله تعالى‏ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏۲۲.

الثالثة: ظاهرهم الاتفاق على أنه يعتبر في قاضي التحكيم جميع ما يعتبر في مطلق القاضي من الشرائط، التي منها الاجتهاد و غيره، و قال في المسالك، و نعم ما قال: «اعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط، التي من جملتها كونه مجتهدا، و على هذا فقاضي التحكيم مختص بحال حضور الإمام عليه السلام فيفرق بينه و بين غيره من القضاة، بكون القاضي منصوبا و هذا غير منصوب من غير الخصمين، أما في حال الغيبة فسيأتي أن المجتهد ينفذ قضاؤه لعموم الإذن، و غيره لا يصح حكمه مطلقا، فلا يتصور حالتها قاضي التحكيم»، و قال في الجواهر بعد نقل عبارة المسالك: «و مراده بحال الغيبة ما يشمل زمان الصادق عليه السلام أيضا، لأن نصب مطلق المجتهد كان فيه، و هو من زمان الحضور و لا يتصور فيه قاضي التحكيم. نعم يتصور فيما قبله مما لا إذن فيه لمطلق المجتهد، كزمن النبي صلّى اللَّه عليه و آله، بل لعله خاص فيه أيضا لظهور دليل نصب المجتهد في جميع زمان الجور، الذي نهينا فيه عن المرافعة إلى قضاتهم من حيث غلبة الجائرين، فيكون نصب الصادق عليه السلام مبنيا على نصب من قبله، و أن هذا من قبيل الحكم الشرعي المتفق عليه فيما بينهم، و حكم آخرهم كحكم أولهم».

أقول‏: و هو كلام متين جدا موافق للاعتبار و مذاق أئمتنا الأطهار عليهم السلام، فلا موضوع لقاضي التحكيم لا في زمان الحضور و لا في زمان الغيبة، لشمول الإذن للجميع، فينحصر القضاء في المأذون العام من قبل الإمام عليه السلام.

و يحتمل قريبا أن أساس هذا الحكم حدث لأجل تصحيح ما وقع من جعل الحكام لمصلحة زمانية في مقابل المصالح الواقعية، و تبعهم أصحابنا في التعرض لأصل المسألة، مع اشتراطهم في مثل هذا القاضي جميع الشرائط المعتبرة في سائر القضاة.

الرابعة: اختصاص قاضي التحكيم بزمان الحضور، أو يعم زمان الغيبة أيضا؟ لا موضوع لهذا البحث بناء على ثبوت الاذن العام لمن كان مستأهلا للقضاء، مع إجماع الإمامية على أن قاضي التحكيم لا بد و أن يستجمع جميع الشرائط، و إجماعهم أيضا على تقوّم صحة القضاء بالإذن، فالأمر حينئذ يدور بين الصحة مطلقا و الفساد كذلك.

و كذا لا وجه للبحث عن الجهة الخامسة: و هي أن حكمه متبع مطلقا أو في خصوص من تراضيا به.

و كذا الجهة السادسة: في أنه هل يجب إنفاذ حكمه أو لا؟ و ذلك لأنه بعد كونه جامعا للشرائط يترتب عليه جميع آثار الحكم من كل جهة، و لقد أحسن من أعرض عن ذكر قاضي التحكيم مطلقا، لأنه كالقاضي المنصوب من الموضوعات الفرضية. و العجب من بعض أصحابنا أنه تعرض لجملة كثيرة من فروعه أصالة أو تبعا للقوم.

السادس‏: اتفق أصحابنا على أن صحة القضاء متقوّمة بالإذن من اللَّه تعالى في كتابه الكريم، أو ما نطق به السنة خلفائه المعصومين عليهم السلام، و البحث فيه من جهات:

الاولى‏: في الدليل على هذا المدعى، استدل عليه أولا بالإجماع المتكرر في كلماتهم.

و ثانيا: بأصالة عدم حدوث المنصب، و عدم حجية القول و الفعل إلا بذلك، بعد عدم كون الإطلاقات في مقام البيان من هذه الجهة.

و ثالثا: بأن الحكم للّه عزّ و جل أولا و بالذات، كما دلت عليه الآيات مثل قوله تعالى‏ وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ‏۲۳، و قال تعالى‏ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً۲4، و قال تعالى‏ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ*۲٥، إلى غير ذلك من الآيات‏ المباركة، بل تدل عليه الأدلة العقلية الدالة على أنه منه تعالى، ثمَّ أفيض إلى الأنبياء، قال تعالى‏ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏۲٦، فجعل تعالى الحكم لنفسه و إن صدر عن كتبه و أنبيائه، فالحكم من خاصة اللَّه و خلفائه، لا يصح للغير إلا بالإذن.

و رابعا: بنصوص مستفيضة بل متواترة، منها قول أبي عبد اللَّه عليه السلام في صحيح ابن خالد: «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة: إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبي أو وصي نبي»۲۷، و قال علي عليه السلام لشريح: «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي، أو وصي نبي، أو شقي»۲۸، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

و خامسا: إن الحكومة و القضاء سلطة تشريعية مع أنها تنفذية على البشر، لا تعطى هذه السلطة إلا لأمين إلهي- و هو المعصوم- أو من نصبه المعصوم، و إلا يصير الأمر فوضى تستباح الأموال و الأعراض و الدماء، خصوصا في هذه الدنيا التي لا تتبع إلا الهوى، و مع الشيطان الذي أقسم بربه في الإغواء بسلطته على الإنسان، و النفوس التي جبلت على الظلم و النزاع و الدعوى. و كل من رجع إلى فطرته يجد صحة ما قلناه من دون احتياج إلى دليل من الخارج، و لا اختصاص لذلك بخصوص مذهب الإسلام، بل كل سلطة كذلك لا بد و أن تكون تحت نظر ولي الأمر، و بإذنه في العالم كله بجميع أديانه. و على هذا يمكن التمسك للمدعي بسيرة العقلاء في شؤونهم الدينية و الدنيوية.

الثانية: في طريق إثبات هذا الإذن، و تدل عليه الأدلة الأربعة، فمن الكتاب قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏۲۹، و هو ترغيب إلى الحكم بالعدل و أمر به، و هو مستلزم للإذن فيه عرفا.

و من الإجماع: إجماع الإمامية فتوى و عملا على تحقق الإذن فيه، مع استجماع الشرائط الآتية، و يعضده السيرة العملية بين العلماء بل بين العوام في الجملة، بالرجوع إلى العلماء في التخاصم الذي يجري فيما بينهم.

و من السنة: نصوص كثيرة، كخبر أبي خديجة: «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه»۳۰، و في مقبولة عمر بن حنظلة قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين، أو ميراث فتحاكما إلى السلطان و إلى القضاة، أ يحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنما يأخذ سحتا و إن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، و ما أمر اللَّه أن يكفر به، قال اللَّه تعالى‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ‏، قلت:

فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللَّه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللَّه و هو على حد الشرك باللّه»۳۱.

و من العقل أن الحوادث الواقعة بين الناس، إما أن تترك مهملا، أو يرجع فيها إلى قضاة الجور، أو يديرونها العوام بأفكارهم، أو فقهاء أهل البيت الموثوق بهم في التصدي لها و الناس مأمورون بالرجوع إليهم.

و الكل باطل إلا الأخير إذ الأول خلاف الحكمة بل العدل و هو محال‏ بالنسبة إليه تعالى. و الثاني باطل بالنصوص المتواترة. و الثالث من ترجيح المرجوح على الراجح مع مفاسد أخرى تترتب عليه، فيتعين الأخير.

بل نقول: يجب عقلا على اللَّه تعالى و خلفائه المعصومين عليهم السلام الإذن في هذا الأمر العام البلوى، دفعا للفساد و اختلال النظام، و جميع ما ورد في الشريعة إرشاد إلى حكم العقل، فلا وجه للبحث عن السند أو في سائر الجهات، لأن المقام من صغريات قاعدة اللطف.

فأصل الإذن ثابت بالأدلة الأربعة، كما في جميع الواجبات النظامية التي يكون المقام من أهمها. فقوام الولاية الخاصة و نفوذ الحكم إنما هو بالإذن، و الشروط المذكورة لها متفرعة عليه و لذا تعرضنا للإذن في المقدمات لا في الشروط، فالشروط التي يذكرونها شروط صحة الإذن، و بانتفاء كل واحد منها ينتفي أصل الإذن فينتفي أصل الموضوع.

الثالثة: قامت الضرورة بين المسلمين على جواز تصدي الفقيه الجامع للشرائط لمنصب القضاء في الجملة، و أثبتنا في الجهة السابقة وجوب الإذن على ولي الأمر حفظا للنظام عن الاختلال، و هذا الإذن عام يشمل كل من كان واجدا للشرائط، كما هو مقتضى ظواهر الآيات و النصوص، مثل قوله تعالى:

وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏۳۲، و قول أبي عبد اللَّه عليه السلام:

«انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه»۳۳، و قريب منه غيره كما تقدم. إلا أن الإذن على قسمين:

الأول‏: ما يعتبر في العقود المسبوقة بالإذن.

الثاني‏: ما يكتفى به بمجرد العلم بالرضا، كالصلاة في دار الغير، و الوضوء من مائه، مما يحرز بالفحوى و شاهد الحال، فهل المقام من قبيل الأول أو الثاني؟ فلو علم فقيه من نفسه جامعيته للشرائط، يجوز له التصدي أو لا؟ الظاهر أنه لا ثمرة لهذا البحث أصلا، لأنه بعد ثبوت الإذن العام، و كون انطباقه على المورد قهريا فمهما وجد مورد ينطبق عليه الإذن يكون إذنا لا محالة، و مع العدم فلا إذن و لا رضا أبدا، سواء جعلنا الإذن شرطا أم اكتفينا بمجرد إحراز الرضا، و مع الشك لا يصح التصدي سواء جعل الإذن شرطا أم اكتفى بمجرد الرضا، بل لا يتصور إحراز الرضا مع الشك.

و خلاصة المقام أن الوجوه المتصورة خمسة.

الأول‏: أن يكون القضاء منصبا مجعولا إلهيا لأهله في عرض المنصب المجعول للنبي و الإمام عليهم السلام، و الفرق بينهما بالشدة و الضعف.

الثاني‏: أن لا يكون القضاء منصبا مجعولا أصلا من اللَّه تعالى، و لا من الإمام عليه السلام، بل كان من الأمور الانطباقية القهرية و لم يكن متوقفا على إذن الإمام عليه السلام أيضا، بل كان مثل منصب إمامة الجماعة و الفتوى و التدريس مثلا، فمع وجود الشرائط ينطبق عليه المنصب قهرا، و مع عدمها لا موضوع للنصب.

الثالث‏: أن يكون القضاء منصبا إلهيا في طول المنصب المجعول للإمام عليه السلام، كالطهارة الترابية- مثلا- المجعولة للّه تعالى في طول الطهارة المائية.

الرابع‏: أن يكون المنصب مختصا بالإمام فقط، و غيره يقوم بالحكم بالقسط و العدل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، للعمومات، و الإطلاقات من الآيات و الروايات- المتقدمة- الدالة على هذه الأمور بلا توقف فيها على الإذن، و قد اختار هذا الوجه صاحب الجواهر.

الخامس‏: عين الوجه الرابع مع التوقف على الإذن، و المنساق من الأدلة و ظهور إجماعهم على اعتبار الإذن هو هذا الوجه.

و حيث لا ثمرة فيه بعد الإجماع، بل الضرورة على صحة تصدي الفقيه الجامع للشرائط لهذا المنصب، فلا وجه للتطويل.

و هو: الحكم بين الناس فيما يحتاجون إليه لفصل الأمر بينهم عند التخاصم و نحوه بالشرائط الآتية (۱)، و هو منصب جليل ذو خطر عظيم (۲)، و فيه فصول:

لغة كما تقدم، و شرعا، و تلزمه الولاية في الجملة أيضا، إذ الحكم يتقوّم بالحاكم، و الحاكم له نحو ولاية و سلطة على الحكم لا محالة، فمن عبّر بالحكم أو الولاية عبّر بأحد المتلازمين، و من عبّر بهما عبّر بالمتلازمين معا تبيينا و استيضاحا، فالقضاء تارة قضاء إلهي، و اخرى بشري، و الأول: هو الحكم المستند إلى اللَّه تعالى، الذي يفاض منه تعالى إلى النبي صلّى اللَّه عليه و آله، و منه إلى الإمام عليه السلام، و منه إلى الحاكم الشرعي الجامع للشرائط، فالحكومة الشرعية من أغصان شجرة النبوة و الإمامة كما تقدم، و يأتي التعرض للشروط إن شاء اللَّه تعالى.

لما تقدم في الأمر الثالث و الأول من المقدمة، فلا وجه للتكرار.

ثمَّ إنه لو قرن القضاء بالفتوى لحقه خطر الفتوى أيضا، قال أبو جعفر عليه السلام في الصحيح: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللَّه تعالى، لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه»۳4، فيجتمع فيه حق اللَّه و حق الناس.

  1. سورة فصلت: ۱۲.
  2. سورة الإسراء: ۲۳.
  3. سورة البقرة: ۲۰۰.
  4. سورة الحجر: ٦٦.
  5. سورة الانعام: ۲.
  6. سورة الإسراء: 4.
  7. سورة يونس: ۹۳.
  8. سورة القصص: ۲۹.
  9. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي.
  10. سنن البيهقي ج: ۱۰ باب( كراهية الإمارة): ۸ من كتاب القضاء الحديث: ۲۰.
  11. الوسائل باب: ٥ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۲.
  12. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۲.
  13. الوسائل: باب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث: 4.
  14. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۳.
  15. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۱.
  16. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۲.
  17. الوسائل: باب ۱۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۱.
  18. الوسائل: باب ۱۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۹.
  19. الوسائل: باب ۱۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۳۱.
  20. المغني لابن قدامة: ج: ۱۱ صفحة: 4۸4.
  21. سنن أبي داود كتاب الآداب باب تغيير الاسم القبيح الحديث: 4۹٥٥.
  22. سورة الحجرات: ۱۰.
  23. سورة الرعد: 4۱.
  24. سورة المائدة: ٥۰.
  25. سورة الانعام: ٥۷.
  26. سورة البقرة: ۲۱۳.
  27. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي.
  28. الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي.
  29. سورة النساء: ٥۸.
  30. الوسائل: باب ۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ٥.
  31. الوسائل: باب ۱۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۱.
  32. سورة النساء: ٥۸.
  33. الوسائل: باب ۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ٥.
  34. الوسائل: باب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث: ۱.
الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"