قد تقدم في أول الكتاب أن علم الاصول:هو ما يبحث فيه عن كيفية تعيين الوظيفة،و ما يصح أن يعتذر به لها.و نتائج مسائله لا بدّ و أن تقع في طريق استفادة الوظائف و الاعتذار.
و الكلام في هذا القسم من الكتاب يقع في ما يصح الاعتذار به عند العقلاء و لم يردع عنه الشارع.
و هو إما عذر بنفسه أو لا،و الثاني إما أن تعتبر العذرية فيه لأجل الكشف الناقص الموجود فيه أو لا.و الأول هو القطع،و الثاني الظن،و الثالث الشك الذي يكون موردا لاعتبار الاصول العملية الأربعة.
و إن شئت قلت:الاعتذار إما بما فيه الكشف التام،أو الكشف الناقص،أو بما لا كشف فيه.
و المقصود بالقطع و الظن و الشك هنا،ما حصل للمجتهد الباحث في الأدلة الفاحص عنها،لأن ما حصل من هذه الصفات لغيره لا يترتب عليه هذا الأثر قطعا،فلا يكون من مسائل الفن رأسا،و اعتبار القطع لكل من حصل له في الجملة.و كذا اعتبار الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية لغير المجتهد أيضا لا يصلح لأن يكون من مسائل الاصول،إذ ليس كلما اعتبر لكل أحد من مسائله،بل هو نحو اعتبار خاص يتوقف على مقدمات مخصوصة من البحث و الفحص و اليأس،و الوقوع في طريق الاستنتاج الفرعي،و غير المجتهد بمعزل عن ذلك كله.
ثم إن الحق تثليث الأقسام،كما مرّ لأن المقام من قبيل ذكر الفهرس لما يأتي من المباحث المتعلّقة بالقطع و الظن و الشك،فينبغي ذكر الثلاثة بالخصوص إرشادا إلى الموضوعات الآتية.
إن قلت:الظن غير المعتبر بحكم الشك،و المعتبر منه بحكم القطع مع أن متعلّقهما إنما هو الحكم الفعلي،و هو إما مقطوع به أو لا،فلا وجه للتثليث.
قلت:أما الإلحاق حكما فهو لا يضرّ بالتعدد-موضوعا-الذي لا بد من ذكره في المقام مقدّمة للمباحث الآتية.
و أما أن متعلّقهما الحكم الفعلي،و هو إما مقطوع به أو لا،فليس ذلك إلا مجرد التغيير في التعبير،لاشتمال قول(أو لا)على الظن و الشك،و لذا فسّره بهما في الكفاية،فراجع.مع أن الحكم الفعلي معتبر طريقا إلى الواقعي و لا موضوعية فيه بوجه،فلا وجه لذكره بالخصوص.
ثم إنه مع حصول الشك يتحقق موضوع الاصول العملية،و المتداول منها في الفقه الأربعة المعروفة:الاستصحاب،و الاحتياط،و التخيير،و البراءة.و هي من الاصول المعتبرة العقلائية التي لم يردع عنها الشرع،بل أمضاها،و لا تختص بباب دون باب بل تجري في جميع الأبواب،و حصرها في الأربعة استقرائي، و يصح أن يكون عقليا بالعرض،كما يأتي.
و هناك أصول اخرى ليست بذلك العموم و السريان فتختص ببعض الأبواب فقط،كأصالة احترام المال و العرض و النفس،و أصالة الحرية،و أصالة الصحة،و أصالتي الطهارة و الحلية،و أصالة عدم التذكية،إلى غير ذلك من الاصول المعتبرة.
و يمكن تقرير حصر مجاري الاصول الأربعة المعروفة بوجه عقلي،بأن يقال:الشك إما أن تلحظ فيه الحالة السابقة أو لا تلحظ،و على الثاني إما أن يعلم بالتكليف و لو بجنسه أو لا يعلم.و على الأول إما أن يمكن الاحتياط أو لا يمكن. و الأول مجرى الاستصحاب،و الثاني مجرى الاحتياط،و الثالث مجرى التخيير، و الرابع مجرى البراءة.
و حيث أن هذه الاصول الأربعة مختصة بمجاريها اختصاص العرض بموضوعه،يكون الحصر فيها عقليا،لكن بالعرض لا بالذات-كما لا يخفى- و ليس في البحث عن كيفية الحصر مطلقا ثمرة عملية،بل و لا علمية.
ثم إن الاستصحاب برزخ بين الأمارة المحضة و الأصل المحض،فيصح أن يقال:إن ما اعتبر إما أمارة محضة،أو أصلا محضا،أو برزخا بينهما. و الأول كخبر الواحد مثلا،و الثاني كالبراءة،و الثالث كالاستصحاب.