1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. تهذیب الاصول
  8. /
  9. القسم الأول الأوامر و البحث فيها يقع ضمن امور:
تقديم:

إن جميع ما يذكر في مباحث الألفاظ في صناعة الاصول إنما هو تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور،التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية،فلا بد من الوقوف عند جميع تلك الصغريات على باب العرف،لأنه المرجع في ذلك كله.و منه يعلم أن جملة كثيرة من التطويلات لا وجه لها في هذه العرفيات العامة البلوى.

الأمر الأول في مادة الأمر و فيه جهات من البحث:

قد ذكر في اللغة للفظ الأمر معان متعددة،كالشأن،و الفعل و الحادثة،و نحوها،و مقتضى الأصل عدم التعدد إلاّ في ما لا يمكن إرجاعه إلى جامع قريب عرفي،و في ما أمكن ذلك يكون من المشترك المعنوي لا اللفظي.

و قد ذكر من معاني الأمر الطلب،و الشيء،مع أنه قد يصح استعمال الطلب في مورد و لا يصح استعمال الأمر فيه،كقولك:يا طالب الدنيا،و قولك: طلبت شيئا فما وجدته.كما أنه يصح استعمال الشيء بالنسبة إلى الأعيان الخارجية و لا يصح استعمال الأمر بالنسبة إليها،إلاّ أن يكون مرادهم المعنى في الجملة،لا بنحو الكليّة.

و أما بحسب العرف-الذي منه الاصطلاح الاصولي-فهو عبارة عن البعث بلفظ افعل،أو ما يقوم مقامه،و تصح الاشتقاقات منه باعتبار تضمنه معنى البعث،و هو معنى حدثي قابل للاشتقاق و التفرع،و ليس المراد أن يكون لفظ الأمر موضوعا للقول المخصوص حتى يكون مثل لفظ الاسم الموضوع لكلمة مخصوصة حتى لا يصح الاشتقاق منه،لأنه ليس فيه معنى حدثيّ.هذا مع الظهور فيه،و أما مع الإجمال فالمرجع هو الأصل العملي عن التكليف.

مقتضى الارتكازات تقوّم معنى الأمر بالعلو.و أما الاستعلاء فالأصل عدم اعتباره،فيكون الأمر الصادر من العالي الخافض لجناحه أمرا بخلاف ما صدر من الخافض أو المساوي،فلا يسمى ذلك أمرا عرفا،بل ربما يوجب التوبيخ و التقبيح إن كان على نحو الأمر المعهود و لم يكن من السؤال و الالتماس.

ثم إن مادة الأمر في أيّ هيئة استعملت ظاهرة في الوجوب،إلاّ مع القرينة على الخلاف،لانسباق الوجوب منها في المحاورات.

يختلف الطلب و الإرادة مفهوما،إذ ربما تستعمل الإرادة فيما لا يصح استعمال الطلب فيه،كقوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقٰامَهُ،   و قوله تعالى: فَأَرٰادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغٰا أَشُدَّهُمٰا،  و كقولك:«أردت الصلاة فصليت»،إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة.كما أنه يستعمل الطلب فيما يشكل استعمال الإرادة فيه،كقولك:«طلبت حقي من زيد فأنكر».نعم،لا ريب في تصادقهما في الجملة،و لكنه لا يدل على الاتحاد بالكلية.

و الظاهر من المحاورات أن الطلب مبرز للإرادة لا عينها،و نسبة الطلب إلى الإرادة نسبة اللفظ إلى المعنى في الجملة،و نسبة الكاشف إلى المكشوف مفهوما و حقيقة و استعمالا،و إن اريد من الاتحاد هذا النحو منه،فلا ريب فيه في الجملة،بل الظاهر اختلافهما عرفا أيضا،لأن إحراز الطلب يكفي في إتمام الحجة و صحة المؤاخذة على ترك المطلوب من حيث أنه إحراز للطلب بخلاف إحراز الإرادة،فإنه كإحراز الملاك لا بد من كفايته في إتمام الحجة من إقامة دليل عليها من سيرة أو نحوها.

و أما اتحادهما إنشاء فهو مبني على أن يكون مفاد الأمر إنشاء الطلب، و هو مردود،لأن مفاده البعث،و التحريك نحو المتعلق،فكما يحصل البعث بالترغيب إلى المصلحة،و الزجر عن الترك،يحصل بلفظ(افعل)أيضا،فلا موضوع لإنشاء الطلب حتى يبحث عن أنه متحد مع إنشاء الإرادة،أو لا.

و من ذلك كله يظهر اختلافهما بالدقة العقلية أيضا،كما تقدم من أن الطلب عنوان مظهر الإرادة،و نسبته إليها نسبة اللفظ إلى المعنى،كما لا يخفى. مع أن من ادعى الاتحاد بينهما لم يأت بدليل عليه إلاّ دعوى الوجدان.

و يمكن رفع النزاع من البين بأن من يدعي الاتحاد يريد به الاتحاد في الجملة،و من يدعي الاختلاف يدعيه كذلك،إذ لا ريب عند أحد في تصادقهما في الجملة.

و لا يخفى أن ما اثبتناه من تغاير الطلب و الإرادة ليس لدفع محذور شبهة تخلف المراد عن الإرادة-كما التزم به الأشاعرة-بل لأجل أن التحقيق يقتضي ذلك،و نجيب عنها بوجه آخر على ما يأتي.

ثم إنه قد جرت العادة في المقام بذكر شبهة الجبر،و شبهة تخلف المراد عن الإرادة،و شبهة الكلام النفسي،و دفعها،مع أن كل ذلك لا ربط له بالاصول.

الأول من مذاهب الجبر:ما نسب إلى الأشاعرة من نفي الإرادة و الاختيار عن العبد مطلقا،و قالوا:إن نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و إلى العبد بالمجاز،و إن العبد بالنسبة إليه تعالى،كالقلم في يد الكاتب،و السيف في يد القاتل.و من أمثلتهم:قال الحائط للوتد:لم تشقّني؟قال:سل عمن يدقّني.و استدلوا عليه بظواهر بعض الآيات،كقوله تعالى: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ،  و قوله تعالى:  وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ  إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.و أن التوحيد الخالص في الفعل يقتضي نفي الإرادة و الاختيار عما سوى اللّه تعالى.

و يرد عليه:

أولا:أن تلك الآيات معارضة بما هو أقوى منها في الدلالة على نسبة الفعل إلى العبد،كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ `وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ،  و يصح نسبة خلق عمل العبد إليه تعالى بالتسبيب مع اختيار العبد،كما يأتي.و نفي الرمي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة،لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلّى اللّه عليه و آله.

و ثانيا:أنه مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء.

و ثالثا:أنه يلزم منه نفي استحقاق الثواب و العقاب المتفق عليهما في جميع الشرائع الإلهية إلى غير ذلك من المفاسد التي يأبى العقل عنها.

و لو لا ظهور بعض كلماتهم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه،كالعزّة،و الذلّة،و الغنى و الفقر و نحوهما،و يمكن أن يحمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي،يعني أن مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها،و لكنه تعالى جعل للإنسان بل مطلق الحيوان،إرادة في الجملة لمصالح كثيرة،و الجبر الاقتضائي لا ينافي الاختيار الفعلي من العبد.

الثاني:ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود،بل الوحدة المطلقة، فلا اثنينيّة بين الخالق و العبد حتى تكون فيه الإرادة و الاختيار،لأن ثبوتهما للعبد يتوقف على تعدد وجوده مع وجود اللّه تعالى،و مع الوحدة لا اثنينيّة في البين، فلا وجه لهما بالنسبة إلى العبد في مقابل اللّه تعالى.

و فيه:مضافا إلى جميع ما ورد على قول الأشاعرة،أنه قد ثبت في محله بطلان القول بوحدة الوجود مطلقا فضلا عن الوحدة المطلقة،بل قد ثبت في الفقه أن هذا القول كفر مع الالتزام بلوازمه.

الثالث:ما عن بعض من أن علم اللّه تبارك و تعالى علة تامة لحصول معلوماته،و فعل العبد معلوم له تعالى،فعلمه تعالى علة تامة لحصوله،فلا أثر لإرادة العبد و اختياره في فعله أصلا.

و فيه:أنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على كون العلم علة لحصول المعلوم،بل مقتضى الوجدان خلافه،و في جملة من الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل-التي جمعها في الكافي-دلالة عليه أيضا،فراجع.

نعم،يعلم اللّه تعالى أن العباد يفعلون أعمالهم بإرادتهم و اختيارهم، بحيث أن لهم أن يفعلوا و لهم أن يتركوا،فتعلّق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنها مختارة،لا أن يتعلّق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي:المشيئة،و الإرادة،و القدر و القضاء،و الإمضاء و نحوها،و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر،سواء كان هو اللّه تعالى أم العباد.

و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية،و كل ذلك من المقتضيات، و ليست من العلة التامة في شيء.

و هذه كلها تارة التفاتية تفصيلية،و اخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب.

الرابع من المذاهب في أفعال العباد:التفويض،و نسب إلى المعتزلة، فقالوا:إن الأفعال منسوبة إلى العباد بالحقيقة و إلى اللّه تعالى بالمجاز،و أنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة اللّه تعالى أصلا،و إنما هي مختارة باختيارهم فقط، و لا دخل لاختياره تعالى فيها،لأنه لو كانت أفعال العباد موردا لإرادته تعالى لزم الجبر،مع أنه لا يصح أن تكون السيئات و الأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

و فيه:انه مردود عقلا و نقلا،أما الأول فلما يأتي من بيان الأمر بين الأمرين.و أما الثاني فلقوله تعالى: إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ،  و قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ.

و لما ورد من المعصومين من قول:«لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه»،و لما ورد في الدعوات الكثيرة من الاستعانة به تعالى في جميع الامور.

و الجميع ظاهر ظهورا عرفيا في صحة إضافة أعمال العباد إلى اللّه تعالى، إما بنحو القضاء و الرضا معا،كما في الحسنات،أو على نحو القضاء فقط،كما في السيئات.و قضاؤه تعالى ليس من العلة التامة المنحصرة في شيء أبدا،و إلاّ فهو جبر باطل.

و يمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي،بأن يقال إن نهاية استغنائه تعالى عن خلقه تقتضي إيكال الإرادة إلى العباد بعد بيان طريق الحق و الباطل و إتمام الحجة عليهم،و لكنه تعالى لم يفعل ذلك لمصالح كثيرة،بل جعل إرادته عزّ و جلّ مسيطرة على إرادة عباده على نحو لا يلزم منه الجبر،و هذا هو عين الأمر بين الأمرين الذي يأتي بيانه،و على هذا فلا نزاع في حاق الواقع بين المسلمين.

و أما الأمر بين الأمرين،فهو ما ورد عن أئمة الدين أنه:«لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين»،و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان،و قد ذكروا في بيانه وجوها:

أولها:أن أفعال العباد إما من الحسنات،أو من المباحات،أو من السيئات و لا رابع في البين.

و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوّم بالانتساب إليه تعالى و إلى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء،و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها، و التأكيد في إتيانها و الثواب عليه و العقاب على الترك في بعضها،يصح الانتساب إليه تعالى-و أي انتساب أقوى و أحسن من ذلك-و يسمى بالانتساب الاقتضائي،لا يبلغ حدّ الإلجاء و الاضطرار.

و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها،صح انتسابها إليه تعالى اقتضاء أيضا،كما تقدم في الحسنات.فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه تعالى بها و قضاؤه لها.

و من خلقه تعالى للنفس الأمّارة و الشيطان،صح نسبة السيئات إليه تعالى، لكونه خالقا لمنشئها،و هذا الوجه يجري في الأولين أيضا،لأن خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض.

و بالجملة يصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في الجميع،من الحسنات و المباحات و السيئات.

إن قيل:إنه تعالى منزّه عن انتساب السيئة إليه مطلقا.

قلت:لا وجه للانتساب إليه تعالى بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها بلا إشكال فيه من أحد،بل هو لغو.نعم،هو تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئة مع نهيه عنها،و إظهار سخطه و توعيده عليها،و قد فعلها العبد بسوء اختياره،فمنشأ النسبة إليه تعالى من جهة أنه خلق الذات القادرة المختارة مع ابلاغ النهي و التوعيد،و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا القضاء الحتم، و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا.و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.

و بعبارة أوجز:أن في الحسنات و المباحات تعدد جهة الانتساب إليه تعالى من الرضاء و القضاء،و الإذن و الترغيب،و خلق الذات القادرة المختارة. و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة،و القضاء بنحو الاقتضاء مع النهي و التوعيد و إتمام الحجة على الترك من كل جهة،و كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل.

ثانيها:أن لكل فعل أسبابا خفية لا تدركها العقول،و أسبابا ظاهرة تدركها، و الاولى يصح أن تكون من اللّه تعالى،و الثانية من العبد.

ثالثها:أن يكون المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى،و هو محسوس لكل أحد،فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه.

إن قلت:بعد ما اشتهر من أنّ السعيد من سعد في بطن أمه،و الشقي من شقي في بطن أمّه،و ما ورد في الأخبار من أن الإنسان مركب من طينة العلّيّين، و طينة السّجّين،و مصير الاولى إلى الجنّة و الثانية إلى النار،لا أثر للاختيار.

قلت:يجاب عنه بوجوه:منها أن المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية، و بالشقاوة الحرمان عنها،المستندة إلى الأسباب الخفية التي قصرت العقول عن الإحاطة بها.

و منها:ما في مرسل ابن أبي عمير:«سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام:عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:الشقي من شقي في بطن أمّه،و السّعيد من سعد في بطن أمّه؟فقال عليه السّلام:الشّقيّ من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء،و السّعيد من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل السعداء…».

و منها:ما في بعض الأخبار أنه يكتب في جبينه-و هو في بطن أمه-ما سيئول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة،و في بعض الأخبار:«السعيد من ختم اللّه له بالسعادة،و الشّقيّ من ختم له بالشقاوة»،و في جملة من الدعوات المعتبرة: «اللّهم إن كنت شقيّا فامحني و اكتبني من السعداء».

و على أي تقدير السعادة و الشقاوة المنسوبتان إلى جعله تعالى اقتضائيتان،لا على نحو العلة التامة المنحصرة الذاتية،لأنه مع الشقاوة و السعادة الذاتية يلزم منه توالي فاسدات لا يرتضيها العقل و العقلاء،و تصير هذه الدعوات باطلة،كما لا يخفى.

و أما ما ورد في الطينة،فلا تدل على أنها علة تامة منحصرة،بل غايتها إثبات الاقتضاء لها في الجملة،ثم بعد الخلط بين الطينتين يصير الاقتضاء أيضا ضعيفا،فقد خلق اللّه تعالى الإنسان من مقتضى الخيرات،و من مقتضى الشرور لمصالح شتى،ثم خلق فيه العقل و الاختيار،ثم بعث الرسل و أنزل الكتب و بشّر بالثواب على الخيرات و أنذر بالعقاب على الشرور،و خلق الجنة و النار،فلا منشأ لتوهم الجبر و التفويض في أفعال العباد،كما ورد تفصيل ذلك في الأخبار عن الأئمّة الأطهار،و تدل عليه الأدلة العقلية،كما فصّل في محله.

ثم إنه لا اختصاص للأمر بين الأمرين بخصوص أفعال العباد،بل يجري في جميع المعلولات الحاصلة بالعلل التكوينية،فالنبات الذي ينبت في الربيع- مثلا-ينسب إلى المقتضيات التكوينية،كما ينسب إلى إرادة اللّه تعالى،و كذا في تكوين الإنسان و الحيوان،و الدم،و اللحم،و غيرها مما لا يحصى.

فبيانها:أن اللّه تبارك و تعالى إما أن يكون قد أراد الإيمان و الطاعة من الأنام أو لا فعلى الأول يلزم أن لا يتحقق كافر و لا فاسق،لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته.و على الثاني يلزم أن يكون إنزال الكتب و إرسال الرسل لغوا باطلا.

و اجيب عنها بوجوه:

منها:القول بتغاير الطلب و الإرادة،و أن ما هو في مورد إيمان العباد إنما هو الطلب دون الإرادة،و تخلّف الطلب عن المطلوب ممكن،و إن لم يمكن تخلّف المراد عن الإرادة.

و فيه ما لا يخفى:فإنّه مجرد الدعوى،مع أن نفي الإرادة في مورد إيمان العباد خلاف ظواهر جملة من الآيات و الروايات.

و منها:أن الإرادة إنما هي الفعل و الإحداث،فهي من صفات الفعل،سواء كانت في اللّه تعالى،أم في العبد،و لا تخلّف لمراده تعالى عن إرادته في المقام، لأن فعله تعالى بالنسبة إلى العبيد هو الدعوة إلى الإيمان و البعث نحو الخيرات، و الزجر عن الشرور،و قد فعله اللّه تعالى بإنزال الكتب و بعث الرسل بالنحو الأتم الأكمل،فلا وجه لتخلّف المراد عن الإرادة.

و منها:أن الإرادة علة تامة لحصول المراد،إن لم يكن اختيار الغير فاصلا بين الإرادة و المراد.و أما مع فصله فلا وجه لكونها علة تامة،و إلا لزم الجبر حينئذ مع اختيار الإيمان،بل و مع اختيار الفسق و العصيان أيضا.و تقدم في دفع شبهة الجبر ما ينفع المقام،فراجع.

و هي شبهة الكلام النفسي-فقيل فيها:أنه لا ريب في صق المتكلم عليه تعالى،و قال عزّ من قائل: وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً.  فإن كان المراد بالتكلّم فيه تعالى نفس هذه الأصوات و الحروف و الهيئات المستحدثة،لزم كونه تعالى محلا للحوادث،و هو تعالى منزّه عنها.

و اجيب عنها:بأن الكلام فيه عزّ و جلّ قديم قائم بذاته،و هو غير العلم، و الإرادة و سائر الصفات،و هذه الحروف و الأصوات و الهيئات مخلوقة كاشفة عنه،لا أن تكون عينه حتى يلزم كونه تعالى محلا للحوادث.

و فيه:أن التكلم عبارة عن إيجاد الحروف و الأصوات و الهيئات الخاصة، سواء كان بالآلات الخاصة،كما في تكلمنا،أم الإبداع كما في تكلّمه تعالى.

فتكلّمه تعالى عبارة عن خلق الأصوات و الحروف و الهيئات،كما أن إيجاده تعالى لسائر الممكنات عبارة عن خلقها،فلا ملزم للكلام النفسي بوجه،لا فيه تعالى و لا في غيره.إلا أن يكون مرادهم به تقدير الكلام و القضاء به قبل خلقه، فله وجه،إذ ما من شيء إلا و له قضاء و قدر مطلقا،سواء كان في فعله تعالى،أم في فعل غيره.و كذا يصح أن يكون المراد بالكلام النفسي النسبة الكلامية القائمة بالطرفين،و لا مشاحة في الاصطلاح.نعم،لا ريب في وجود الأحاديث النفسانية في الإنسان،كما يدل عليه الوجدان،فإن أرادوا بالكلام النفسي في الإنسان ذلك فلا إشكال فيه.

هذا،و في جملة من الروايات التصريح بأن كلامه تعالى حادث،لا أن يكون قديما و لا نفسيا.

ثم إن من فروع الكلام النفسي مسألة أن القرآن مخلوق أو قديم.و لا وجه للقدم في القرآن إلا علمه تعالى الأزلي بما لا نعرف كيفية تعلّقه به،و بغير ذلك لا يتصور معنى للقدم،فلا وجه لكون القرآن قديما أيضا،إلاّ أنه تعالى عالم بما ينزله من القرآن.و القدم بهذا المعنى لا يختص بالقرآن،بل يعمّ جميع ما سوى اللّه تعالى مما يعمه علمه عزّ و جلّ.

الأمر الثاني في صيغة الأمر و الكلام فيها يقع من جهات:

قد ذكر لصيغة الأمر معان كثيرة:من التهديد،و الترجي، و الإهانة و نحوها،و مقتضى الأصل عدم تعدد الوضع بالنسبة إليها،كما أن مقتضاه عدم تعدد المستعمل فيه أيضا،و المتيقن إنما هو الاستعمال في البعث نحو المطلوب و التحريك إليه و إيجاد الداعي له.

و كون ما ذكر لها من المعاني من دواعي الاستعمال،كما هو الشأن في كثير مما ذكر من المعاني المتعددة لجملة من الألفاظ،فلا اختلاف في الموضوع له و لا في المستعمل فيه،و إنما الاختلاف في الدواعي،و لا ريب في أنها خارجة عن كل منهما.و لا إشكال في أن أصل استعمالها في البعث و التحريك التنزيلي، مسلّم عند الكل،و مقتضى الإطلاق أن يكون الداعي إليه هو البعث الحقيقي،إلاّ أن تكون قرينة على الخلاف.و منه يعلم أن التمني،و الترجي،و الاستفهام، الواردة في كلامه تعالى مستعملة في معانيها الإنشائية بدواع شتى،منها التكلم مع الناس بما يليق بهم في كيفية المحاورة بينهم،و المستحيل إنما هو استعمالها في معانيها الحقيقية بالنسبة إليه تعالى.و أما الاستعمال في المعاني الإنشائية

بدواع اخرى،فلا استحالة فيه أبدا.

اختلفوا في أنها هل تكون حقيقة في مطلق الطلب،أو في الوجوب أو في الندب؟و الظاهر سقوط هذا البحث من رأسه،لما تقدم من أن مفادها البعث نحو المبعوث إليه،و مقتضى الإطلاق كونه بداعي الطلب الحقيقي،فيحكم العقل حينئذ بلزوم الامتثال ما لم تكن قرينة على الترخيص.

فالوجوب حكم عقلي بعد تمامية الحجة و البيان،كما أن الندب يستفاد من القرائن الخارجية،لا من نفس الصيغة من حيث هي.نعم،يصح إضافة كل منهما إلى الصيغة بالعناية.و إن أراد من قال بأنها حقيقة في الطلب ما ذكرناه، فنعم الوفاق،و إلا فلا دليل له عليه.

و ما يقال:من أن الحاكم بالإلزام لا بد أن يكون من بيده الجزاء،و العقل بمعزل عن ذلك.

مدفوع:بأن للجزاء مرتبتين،مرتبة الاستحقاق على المخالفة،و مرتبة الفعلية،و الاولى من حكم العقل و مترتبة على إلزامه،و الأخيرة وظيفة الشارع، و تكون بيده و تحت اختياره.

قد استقرّت السيرة على أن الجمل الخبرية التي علم بورودها مورد البعث،تكون مثل صيغة الأمر في إفادة الوجوب.ما لم تدل قرينة على الخلاف،و قد استعملت في معانيها الحقيقة و هي النسبة الإخبارية،لكن بداعي البعث و التحريك لا بداعي مجرد الإخبار.و لا إشكال فيه لكفاية مثل هذه الجمل في إتمام الحجة،فيحكم العقل بلزوم الامتثال مع عدم ورود الترخيص؛ فالإلزام مطلقا-فعلا كان أو تركا-إرشاد من حكم العقل،و من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل،فكيف بالمقطوع؟!فيصح العقاب على الترك حينئذ عقلا و شرعا.

هذا إذا أحرز أنها وردت في مقام البعث و الإنشاء.و أما إذا شك في ذلك أو علم بورودها في مقام الإخبار فقط،فلا وجه لاستفادة الوجوب منها،بل مقتضى الأصل عدمه.

لا تدل الصيغة على المرة،و لا على التكرار مطابقة،و لا تضمنا،و لا التزاما بالملازمة الشرعية أو العرفية أو العقلية،إذ ليس مفادها إلاّ البعث نحو المطلوب فقط و التحريك إليه،و إيجاد الداعي للعبد و إتمام الحجة عليه،و كل ذلك على نحو اللابشرط عن كل قيد حتى عن اللابشرطية.

و كذا ليست في البين قرينة عامة مقرونة بها تدل على أحدهما.

نعم،يمكن استفادة المرة أو التكرار من القرائن الخاصة في موارد مخصوصة،و مع فقدها فمقتضى أصالة الإطلاق الاكتفاء بمجرد إتيان ذات المأمور به لتحقق الامتثال بذلك عرفا،و هو مقتضى أصالة البراءة أيضا،لأن الشك في الزائد عليه شك في أصل التكليف،و مع عدم البيان بالنسبة إليه يرجع إلى البراءة،فيتطابق مفاد الأصل اللفظي و العلمي على عدم اعتبار خصوصية زائدة على مجرد إتيان المتعلق فقط.هذا و لا بد من التعرض لامور:

 منها:أن المرة تطلق على الفرد و الدفعة،و بينهما عموم مطلق

لصدقهما فيما أتى بذات المأمور به،و صدق الثاني دون الأول فيما إذا أتى بأفراد منه دفعة. و لا يخفى أن هذا البحث إنما هو في ما أمكن التعدد في متعلق الأمر،و إلا فالبحث ساقط من رأسه.

 و منها:حكي عن الفصول أن هذا البحث إنما هو بالنسبة إلى الهيئة فقط

لاتفاق الأدباء على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين يدل على الماهية المطلقة و الطبيعة الصرفة،و المصدر أصل المشتقات و مادة لها،فلا مورد حينئذ للنزاع بالنسبة إلى المادة.

و فيه:

أولا:ما تقدم من أنه لا وجه لكون المصدر أصلا،لأن له هيئة،و ما كان ذا هيئة لا يقع مادة لغيره.نعم،يصح أن يقع لحاظه منشأ لوضع الصيغ

و نظمها،و ليس هذا من المادة في شيء.

و ثانيا:أن المادة المجردة لها حكم،و المادة المتهيئة بهيئة خاصة لها حكم آخر.

و ثالثا:أن المادة و الهيئة متلازمتان،فعوارض إحداهما تنسب إلى الاخرى،لمكان الاتحاد،فلا وقع لهذا النزاع.

 و منها:أنه قد يتوهم أن المراد بالمرة و التكرار في المقام خصوص الدفعة و الدفعات

لأنه لو كان المراد الفرد و الأفراد لكان البحث من متممات البحث الآتي من أن الأمر يتعلق بالطبيعة أو الفرد،و على الثاني فهل المراد المرة أو التكرار؟لا أن يجعل بحثا مستقلا.

و فيه:أنه يصح جعله بحثا مستقلا و لو اريد به المرة و التكرار،لأن مجرد التشابه بين المسألتين في الجملة لا يوجب جعلهما بحثا واحدا مع تحقق الاختلاف العرفي بينهما.

 و منها:أنه لا إشكال في وجوب التكرار بناء على استفادته من القرائن

كما لا إشكال في الاكتفاء بالمرة بناء على استفادة المرة،أو الإطلاق المحض، لانطباقه عليها قهرا.و هل يجوز التكرار عليهما؟لا ريب في جوازه رجاء، للأصل.

و أما بقصد الأمر،فإن كان المأتي به علة تامة لسقوطه من جميع الجهات- خطابا،و ملاكا،و قبولا-فلا يعقل حينئذ قصده،لفرض سقوطه من كل جهة.

و أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس بالإتيان بقصده،لاحتمال بقائه،و يأتي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

أو التراخي.نعم،مقتضى المرتكزات حسن المسارعة إلى الامتثال،و حسن الفورية فيه.

و آيتا المسارعة و الاستباق-لو تمت دلالتهما-لا تكون إلا إرشادا إليها، فلا يستفاد منهما حكم إلزامي مولوي،كما أن مقتضى الإطلاق،و سهولة الشريعة المقدسة هو التراخي بالنسبة إلى الزمان.فصحة التراخي مقتضى التسهيل،و حسن الفورية مقتضى الارتكاز،و لا يتعين أحدهما إلا بدليل معتبر.

و من ذلك يظهر أنه لو ترك الفورية لا يرتفع حسنه،بل يظل حسنه مطلقا فورا ففورا،ما لم يأت بالمأمور به،و ما لم يسقط التكليف.

و يعبّر عنه بالتعبدي،أو لا يكون كذلك،و هو التوصلي،و لا ريب في ثبوتهما في الشرع، كالصلاة و أداء الدين.

و قد وقع الخلاف في أن اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة-جزء أو شرطا-شرعي أو عقلي.فعن جمع أنه عقلي و يمتنع أن يكون شرعيا،لأنه إن كان بنفس الأمر الواحد المتعلّق بالعبادة،فهو مستلزم لتقدم ما هو متأخر طبعا، و هو محال،لأن موضوع الأمر و متعلقه متقدم طبعا على الأمر،كما في العارض و المعروض،فإذا أخذ الأمر المتأخر عن الموضوع في موضوعه،يلزم تقدم المتأخر طبعا،و هو محال.

و يصح تقريب الإشكال بنحو الدور أيضا بأن يقال:إن الأمر متوقف على متعلقه،و المفروض أن المتعلق أيضا متوقف على الأمر به،فيلزم الدور،بل يلزم المحذور في مقام الامتثال أيضا،لأن الامتثال هو الإتيان بالعمل بأجزائه و شرائطه التي منها قصد الأمر بقصد الأمر،فيكون قصد الأمر متأخرا طبعا عن الأجزاء و الشرائط،و المفروض أن منها قصد الأمر،و كيف يصح الامتثال حينئذ؟!.

و الجواب:أنه لا محذور فيه،لاختلاف المتقدم و المتأخر بالحيثية و الجهة،فما هو المتقدم إنما هو لحاظ الأمر بما هو طريق إلى الخارج،و ما هو المتأخر نفس الأمر الخارجي الصادر من الآمر،و بهذا يجاب عن الدور أيضا.

و أما في مقام الامتثال،فما هو قيد للعمل إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى جعل الآمر،و ما هو المتأخر إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى الممتثل،و مع تعدد الجهة و اختلافهما،و كفاية ذلك في دفع المحذور، يرتفع أصل الإشكال من البين،فلا يكون أي محذور في أخذ قصد الأمر في المتعلّق بنفس الأمر المتعلّق به،فضلا عما إذا كان بأمرين.

و ما يقال:من الإشكال عليه بأنه إذا سقط الأمر الأول بامتثال متعلقه لا يبقى موضوع للأمر الثاني،و إلا فلا وجه للأمر الأول.

مردود:بأن الأمر الأول يسقط مع امتثاله من جهة خاصة،لا من جميع الجهات،و سقوطه المطلق يتوقف على امتثال الأمر الثاني،كما هو الشأن في جميع الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب المتممة للجعل الأولى،و بعد إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلق،إما بالأمر الواحد أو بأمرين،يصح التمسك بالإطلاق اللفظي،لنفي القيدية عند الشك فيه،فتثبت التوصلية لا محالة.

مع أنه لو لم يمكن الإطلاق اللفظي-بناء على امتناع التقييد فيمتنع الإطلاق،لأنهما من العدم و الملكة-يمكن التمسك بالإطلاق المقامي الواقعي، لأنه بعد امتناع الإطلاق و التقييد اللحاظي اللفظي يثبت الإطلاق المقامي الواقعي لا محالة.و الملازمة بين امتناع التقييد و امتناع الإطلاق إنما هي في اللفظي منهما دون الواقعي النفس الأمري.

و لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي،فمقتضى البراءة العقلية و النقلية عدم وجوب قصد الأمر،و ليس المقام من موارد الشك في حصول الغرض حتى يجب الاحتياط،لأن وجوبه إنما هو في ما إذا علم الغرض بحدوده و قيوده و تمت عليه الحجة من الشارع،و شك المكلف في مقام الامتثال في أنه هل حصل الغرض أو لا؟و أما إذا شك في أصل حد الغرض ثبوتا مع عدم دليل عليه إثباتا-و إن كان لأجل امتناعه-فلا دليل من عقل أو نقل على وجوب الاحتياط حينئذ.

 و بالجملة:

الغرض الذي علم ثبوته واقعا بحده وجب تحصيله و لو بالاحتياط،كما في أطراف العلم الإجمالي،و الشبهات البدوية قبل الفحص،لا ما إذا كان أصل ثبوته مشكوكا فيه،إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتياط حينئذ.

و بالجملة أنه تطابق الأصلي اللفظي و الحالي و الذاتي،و الأصل العملي على التوصلية عند الشك فيها و في العبادية.

أما وجوب قصد الأمر باستصحاب أصل الوجوب.فهو مردود.

أولا:بأنه محكوم بالإطلاق اللفظي-بناء على جواز أخذ قصد الأمر في المتعلّق-و بالإطلاق المقامي الحالي و الذاتي بناء على عدم الجواز.

و ثانيا:بأنه إن اريد به دخل قصد الأمر في المتعلّق،فهو مثبت.

و إن اريد به وجوب قصد الامتثال من غير دخله في المتعلّق،ففيه:أنه ليس أثرا لنفس المتيقن المستصحب،لأنه ذات الوجوب من حيث هو،و قصد الامتثال غير ذات الوجوب من حيث هو.مع أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المشكوك عين المتيقن شرعا.

و إن أريد به حكم العقل بوجوب الاحتياط،فهو باطل،لأنه مع العلم بأصل الوجوب لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط و تحصيل الغرض المشكوك الثبوت،فكيف يحكم بذلك لأجل الاستصحاب؟!

هذا كله إذا كان التعبد لقصد الأمر.و أما إذا كان لجلب الثواب أو للفرار من العقاب،أو لأنه تعالى أهل لأن يعبد أو غير ذلك،فامكان أخذها في المتعلّق بأمر واحد أو بأمرين مما لا ريب فيه،و لم ينكره أحد.

أحدها: تعتبر المباشرة فى العبادات، و عدم سقوطها بالمحرم

ظاهر أدلة العبادات اعتبار المباشرة فيها،إلا أن يدل دليل على الخلاف،و عليه استقرت الفتوى و السيرة أيضا.كما أن مقتضى المرتكزات عدم سقوط العباديات بالمحرّم،لأن التقرب بالمبغوض مما تأباه العقول،و أما التوصليات فلا يعتبر فيها المباشرة إلا مع الدليل على الخلاف،كما أنها تسقط بالمحرم و إن أثم،و كل ذلك من القضايا التي قياساتها معها.و تفصيل هذا الإجمال يطلب من الفقه.

 ثانيها: اطلاق دليل الوجوب يقتضى كونه عينيا نفسيا تعيينيا، و مقتضى الاصل العملى

إطلاق دليل الوجوب يقتضي أن يكون عينيا نفسيا تعيينيا،لأن الكفائية،و الغيرية،و التخيرية،تحتاج إلى دليل خاص،و قرينة مخصوصة،و مع العدم فالمرجع إنما هو حكم العقل،فكما استفدنا أصل الوجوب بحكم العقل، فكذا عدم هذه الخصوصيات أيضا.و هذا مقتضى الأصل العملي أيضا،أي أصالة عدم السقوط بفعل الغير،أو في ضمن فرد آخر.يمكن أن يستدل عليه بأصالة الإطلاق أيضا،لأن استفادة جنس الوجوب من حيث هو لا وجه له،لأن أدلة الأحكام تدل على الأنواع لا الجنس من حيث هو،و استفادة التخيير بين الأنواع أيضا ممنوع،فينحصر الإطلاق في ما ذكر على فرض كون الوجوب مفاد الدليل اللفظي،فتتحد نتيجة الأصل العملي مع الأصل اللفظي.نعم في ما لو شك في الوجوب الغيري،و لم يكن وجوب ذي المقدمة فعليا،يكون حينئذ من الشك في أصل الوجوب،و المرجع البراءة،بخلاف ما إذا كان فعليا فإنه يجب الإتيان به لا محالة.

 ثالثها: وقوع الامر بعد الحظر لا يكون من القرينة العامة على الاباحة بل هى تابعة للقراءة الخاصة

وقوع الأمر بعد الحظر-كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ  … فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ،  أو بعد توهمه،كما إذا سئل عن جواز الشيء فاجيب بالأمرية-لا يكون من القرينة العامة المعتبرة الدالة على الإباحة مطلقا،بل يصير اللفظ حينئذ مجملا،فيتبع القرائن الخاصة التي تدل على الإباحة تارة.و على الوجوب اخرى،و مع فقدها فالمرجع أصالة البراءة و نتيجتها الجواز،و لا يبعد جعلها حينئذ من القرائن العامة على الجواز.و كذا الكلام في النهي الواقع بعد الأمر،أو توهمه.

رابعها: ايجاب شىء على المكلف مع انتفاء شرطه قبيح عند العقلاء

إيجاب شيء على المكلف مع العلم بانتفاء شرطه قبيح عند العقلاء كافة،و كل قبيح عقلي ممتنع بالنسبة إليه تبارك و تعالى،فيكون من التكليف المحال أو بالمحال.نعم،لو كانت مصلحة خاصة تقتضي ذلك فلا إشكال فيه،لأن وجود المصلحة يرفع قبحه،بل قد يكون تركه قبيحا.و كذا لو كان إنشاء التكليف في ظرف عدم الشرط،و لكن تمكن منه حين فعلية التكليف،و لا إشكال فيه،بل هو شايع.

خامسها: فى الامر بالامر بشىء و استفادة الوجوب بالنسبة الى المامور الثانى تابعة للقرائن

من الشائع المتعارف،و عليه جرى بناء الشارع الأمر بالأمر بشيء،و لا ريب في أنه يستفاد منه الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني إن دلت القرينة على أن الواسطة واسطة في الإبلاغ و الإرسال فقط،كوساطة المرسلين في إبلاغ أوامر اللّه تعالى.

و إذا لم يكن كذلك،و شك في أن الأمر من الآمر الأول صدر للإيجاب على المأمور الثاني،أو لغرض آخر،فهو من الشك في أصل الوجوب، و مقتضى الأصل فيه البراءة،و لا يبعد أن يقال:إن الظاهر كونه في مقام الإيجاب على المأمور الثاني،إلا مع القرينة على الخلاف.

سادسها: اذا ورد الامر بشىء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله يكون الثانى تاكيدا للاول، و ان ورد بعد امتثاله فهو ايجاب آخر

إذا ورد الأمر بشيء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله،فمقتضى المحاورات أن الثاني تأكيد للأول،و إن ورد الأمر بشيء بعد امتثاله فهو إيجاب آخر لا ربط له بالأول و إن كان مثله،إلا مع القرينة على الخلاف في الموردين. و مع الشك في أنه من أيّهما تكون الشبهة من الأقل و الأكثر،فيجزي امتثال واحد و تجرى البراءة عن الأكثر.

 سابعها: لا دلالة لدليل نسخ الوجوب و لا دليل المنسوخ على الابقاء الجواز بعد النسخ و الاقوال فيه ثم ردها، ذكر ما تقتضيه الاصول العلمية و الحكيمة

لا دلالة لدليل نسخ الوجوب،و لا لدليل المنسوخ على بقاء الجواز بعد النسخ.أما بالدلالة المطابقة فمعلوم الانتفاء،و كذا الالتزام،إذ لا ملازمة عقلية و لا عرفية و لا شرعية بين دليل الناسخ أو المنسوخ و الجواز بوجه.

و قيل:إنه يدل عليه بالتضمن،لأن الوجوب عبارة عن الترخيص في الشيء مع المنع عن الترك،فإذا نسخ المنع من الترخيص يبقى الجواز بالدلالة التضمنية.

و فيه:أولا:أن مفهوم الوجوب بسيط لا أن يكون مركبا،سواء كان بحكم العقل،أم من مدلول اللفظ.

و ثانيا:على فرض التركب لا وجه لبقاء الجنس خارجا مع زوال الفصل، كما تقرر في محله،إلاّ أن يتمسك بالعرف.هذا بحسب الاستظهارات اللفظية.

و أما الاصول العملية فهي إما حكمية أو موضوعية.

و الاولى منحصرة في أصالة الإباحة،و لا مانع من جريانها.

و الثانية عبارة عن استصحاب أصل الجواز،و هو لا يجري،لما تقدم من بساطة الوجوب،فلا جواز في البين حتى يكون مجرى له.و على فرض التركب فهو من استصحاب القسم الثالث من الكلي،و يأتي بطلانه في محله.

 ثامنها: متعلق الالتزام هل هو الطبيعة أو الفرد

متعلق الإلزام-فعلا كان أو تركا-لا بد أن يكون مرآة إلى الخارج، لأن التحقق الخارجي هو المراد و المطلوب لكل فرد،و الشارع لا يخالف طريقة العقلاء.

و إنما اختلفوا في أنه مع قطع النظر عن الخصوصيات،و هذا يعبّر عنه بالتعلق بالطبيعة،أو مع اعتبارها مرآة إلى الخصوصية الخارجية،و يعبّر عنه بالتعلق بالفرد.

و الحق هو الأول،و ليس المراد بالطبيعة الطبيعة من حيث هي،لأنها لا تكون مورد الطلب،بل و لا لغرض من الأغراض العقلائية،و إنما هي فرض يختص بفن المنطق و الحكمة فقط.كما أنه ليس المراد بالفرد ما هو المتحقق خارجا بعد تحققه،لكونه مسقطا للطلب،فيكون طلبه من تحصيل الحاصل،و لا يصح أن يكون موردا للطلب،كما أنه ليس المقام مبنيا على ما اختلفوا في الحكمة من أصالة الوجود أو الماهية،لما تقدم من أنه لا بد في مورد الطلب اعتبار التحقق الخارجي طريقا و مرآة،و حيث أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية في هذه المسألة،فلا وجه للتطويل بأكثر من ذلك.

الأمر الثالث أقسام الواجب و هي سبعة:

و هما من المفاهيم المبينة العرفية،لشيوعهما في المخاطبات- كنظائرهما-مما تقوم به المحاورات،و كل ما قيل في تعريفهما لا وجه له ما لم يرجع إلى ما هو المقبول لدى العرف.

فكل واجب إذا لوحظ وجوبه مع شيء،فإن كان مقيدا به فهو مشروط بالنسبة إليه فقط،و إلا فهو مطلق كذلك.فهما من المفاهيم الإضافية لا يخلو منهما واجب أبدا،و يصح اجتماعهما في واجب واحد من جهتين،كما هو شأن الامور الإضافية.

ثم إن لكل واجب هيئة و مادة بالضرورة،و هما متلازمان و متحدان في الوجود عقلا،فيتحدان في الإطلاق و الاشتراط أيضا في الجملة و من جهة خاصة لا مطلقا،لصحة التفكيك بين الحيثيات و الجهات،كما يأتي.فيكون إطلاق أحدهما و اشتراطه عين إطلاق الآخر و اشتراطه،بلا تفكيك بينهما من هذه الجهة في الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة.

نعم،يفرّق العرف بينهما في أن قيود الوجوب غير واجب التحصيل بخلاف قيود الواجب،و هذا أمر آخر لا ربط له بالملازمة العرفية في الإطلاق و الاشتراط و إن صح التفكيك بينهما عقلا،و لكنه بمعزل عن الأحكام الشرعية المنزلة على العرفيات.

و المعروف أن القيود في الواجبات المشروطة قيود للهيئة،فلا وجوب إلا بعد تحققها،فيكون الواجب أيضا كذلك لا محالة،لما ذكرنا من الملازمة بين المادة و الهيئة.

و ذهب المحقق الأنصاري قدّس سرّه إلى لزوم كون القيد قيدا للمادة مع اعترافه بأن مقتضى المحاورات أن يكون قيدا للهيئة،فالوجوب مطلق فعلي و الواجب مشروط بتحقق الشرط،و هو لديه عين الواجب المعلق عند صاحب الفصول.

و استدل على مدعاه:بأن الهيئة من المعاني الحرفية المتقومة بالغير و هي غير قابلة للإطلاق و التقييد،لكونهما من شئون المعاني المستقلة،مع أن الوضع في المعاني الحرفية و ما يلحق بها خاص،فكيف تقبل التقييد؟!

و فيه:ما عرفت من قبولها للإطلاق و التقيد بتبع متعلقاتها،و كون الوضع فيها خاصا ممنوع،و على فرضه فلا ينافي التقييد،كما في تقييد الأعلام الشخصية و غيرها من الجزئيات.مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع أصلا إلا في وجوب بعض المقدمات قبل دخول زمان الواجب،و يأتي بيان الوجوب فيها بطريق صحيح مقبول بلا احتياج إلى ارتكاب ما هو خلاف المشهور باعترافه قدّس سرّه.

ثم إن التكاليف المجعولة لها مراتب متفاوتة،منها مرتبة لحاظ جعل القانون فقط،و منها صلاحيتها للداعوية بالنسبة إلى المكلفين،و منها الفعلية.و لا أثر للإطلاق و الاشتراط في الأولين بالنسبة إلى فعلية الوجوب لأن فعلية التكليف منحصرة بحكم العقل،و لا ربط لها بالشارع و إنما تدور مدار تحقق الشرائط بأسبابها التكوينية خارجا و عدمه،فمع التحقق يكون الوجوب فعليا عقليا،و مع عدمه لا فعلية له.فالإطلاق و الاشتراط في التكليف الفعلي يرجع إلى حكم العقل فقط،و ما هو مربوط إلى الشارع إنما هو الإطلاق و الاشتراط في مرتبة جعل القانون فقط،فيصح جعل القانون المطلق أو المشروط و لو لم يكن مكلف في البين،إذ المقصود منه إنما هو إتمام الحجة و البيان،و هو يحصل بمجرد الإظهار و الإعلان،و هذه هي الفعلية التي يصح انتسابها إلى الشارع، و فعلية التكليف إنما هي من العقل فقط،و منسوبة إليه،فإشكال انفكاك المنشأ عن الإنشاء في التكاليف المشروطة،ساقط من أصله.

و هذا الاصطلاح حدث من صاحب الفصول،فإنه قال:الواجب إما مطلق غير مقيد بشيء،و هو المنجّز،أو يكون نفس الوجوب مقيدا بشيء،و هو الواجب المشروط عند المشهور.أو يكون الوجوب مطلقا و الواجب مقيدا بشيء غير مقدور،و هو المعلّق.و لا فرق بين الواجب المعلّق و ما ذكره المحقق الأنصاري رحمه اللّه في الواجب المشروط،إلا أن التعليق في المعلق يكون على أمر غير مقدور،و في المشروط أعم منه.

فتكون الأقسام أربعة:فإن الهيئة و المادة إما مطلقتان،أو هما مقيدتان،أو أن التقييد للمادة،أو بالعكس.

فالأول مطلق و منجز،و الثاني مشروط على كلا الاصطلاحين،و الثالث إن كان بغير المقدور فهو معلّق،و إن كان بالأعم فهو مشروط عند الشيخ قدّس سرّه، و الأخير مشروط عند المشهور،و الكل صحيح لا إشكال فيه ثبوتا.

ثم إن إحراز كون الوجوب،أو الواجب مقيدا،لا بد و أن يكون من دليل آخر و لا يدل نفس الأمر عليه،كما أن إحراز كون القيد قيدا للمادة أو للهيئة أيضا كذلك،و إنما اختار الشيخ و صاحب الفصول قدّس سرّهما ما اختاراه لدفع الإشكال عن موارد قليلة في الفقه توهم فيها وجوب المقدمة قبل ذيها،كما يأتي.

و اشكل على المعلّق بوجوه جميعها قابلة للمناقشة:

الأول:ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من أنه غير معقول.

و فيه:أنه كذلك بناء على ما ذهب قدّس سرّه إليه في الواجب المشروط،حيث عرفت من أنه عين المعلّق على مصطلح صاحب الفصول،فلا يتصور قسم آخر حتى يسمى بالمعلّق،و أما على ما ذهب إليه المشهور في الواجب المشروط فهو معقول ثبوتا بلا إشكال.

الثاني:أنه محال لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة،و هو كانفكاك المعلول عن العلة التامة،و لا ريب في استحالته.

و فيه:أن المراد في إرادة التكاليف ليس إلاّ جعل القانون و وضع التكليف على عهدة المكلف،و إتمام الحجة،و لا ريب في عدم انفكاكه عن بيان التكاليف -مطلقا كان أو مشروطا،معلقا أو غيره-لأن بمجرد جعل القانون-بأي وجه كان-يحصل ذلك كله في الواقع،فلا يعقل الانفكاك حينئذ.

و أما ما أجاب به صاحب الكفاية قدّس سرّه من صحة انفكاك المراد عن الإرادة و أطال فيه الكلام.فإن أراد بها الشوق المؤكد،فهو حق لا ريب فيه،إذ كم من مشتاق ينفك عن الشوق وجدانا.و إن أراد بها الاختيار المستلزم لتحقق المختار، فلا وجه له من عقل أو نقل.

الثالث:أنه لا قدرة للمكلف على الامتثال حين صدور الخطاب،لفرض تعلقه على غير المقدور.

و فيه:أن المعتبر من القدرة في التكاليف مطلقا القدرة حين الامتثال،لا في حالة اخرى،كما هو أوضح من أن يخفى.

الرابع:ما تقدم من الملازمة بين الهيئة و المادة في الأنظار العرفية،في أن تقييد أحدهما عين تقييد الآخر و إن أمكن التفكيك بينهما دقة.و دفع هذا الإشكال سهل،لأنه ربما يكون نظر صاحب الفصول قدّس سرّه إلى الدقة العقلية،لا الأنظار العرفية.فلا محذور في الواجب المعلق لا ثبوتا،و لا إثباتا.

و لكن لا يخفى أنه لا موجب للقول به،بل هو من التطويل بلا طائل،لأنه لدفع الإشكال عما ورد في موارد من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها،كغسل الجنب أو المستحاضة قبل الفجر في صوم شهر رمضان،و تعلّم أحكام المسائل الابتلائية قبل الابتلاء بها،و المسير إلى الحج قبل زمانه.مع أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها،فتكون تلك الموارد من تقدم المعلول على العلة،و هو محال.

و لدفع هذه الغائلة تشتّت الأقوال و اختلفت المسالك،فاختار كل مهربا، فتعلّق بعضهم بالواجب المعلق،و آخر بما هو خلاف المشهور في الواجب المشروط.

فذهب صاحب الفصول قدّس سرّه إلى أن وجوب ذي المقدمة في تلك الموارد فعلي و الواجب استقبالي من غير أن يلزم المحذور.و لكنه تبعيد للمسافة بلا ملزم في البين.

و ذهب شيخنا الأنصاري إلى أن القيد قيد للمادة،فالوجوب مطلق في الواجب المشروط و فعلي مع اعترافه بكونه خلاف القواعد العربية.

و ذهب شيخ مشايخنا في الكفاية إلى جعل الواجب في تلك الموارد فعليا مشروطا بالشرط المتأخر،و هو مجيء الزمان الخاص.

و هو مردود أيضا،لكونه راجعا إلى الواجب المعلّق في الواقع،مضافا إلى كونه خلاف المنساق من القيود و الشروط التي يكون المنساق منها في المحاورات العربية خصوص المقارنة دون غيرها من السابقة أو اللاحقة.

و ذهب بعض إلى القول بأن وجوب التعلّم نفسي،لا أن يكون غيريا حتى يلزم المحذور.

و فيه:أنه للمعرفة ملاك نفسي أبدا،بل هي طريقية محضة.و كل هذه الامور مبنية على جعل وجوب ذي المقدمة علة تامة منحصرة لوجوب المقدمة، كالعلل التكوينية.و هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليه،بل هو خلط بين الاعتباريات و التكوينيات،مع أنه لا بد من مراعاة الفرق بينهما في الجملة.

فالحق في الجواب أن يقال:

أولا:أن وجوب المقدمة كوجوب ذيها في الشرعيات و العرفيات مطلقا من الاعتبارات الصحيحة العقلائية،حيث تدور مدار الجعل الاعتباري و عدم استنكار ذلك لديهم،فكما أن الوجوب في المقدمات الداخلية وجوب واحد انبساطي على جميع الأجزاء مع ترتبها،و تقدم بعضها على بعضها،و يتصف الجميع بوجوب واحد انبساطي على الجميع مع صحة اعتبار المقدّمية فيها، فيصح أن يسمّى هذا الوجوب بالمقدّمي من جهة و بالنفسي من جهة اخرى، فليكن في المقدمات الخارجية أيضا كذلك،فمنشأ الوجوب إنما هو من ذي المقدمة و منه الانبساط على المقدمات،سواء كانت مقارنة أم متأخرة أم متقدمة على ذيها،و لا مانع من عقل أو نقل،لأنه اعتبار-و أخف الأشياء مئونة إنما هي الاعتباريات.فيصح بكل نحو تطرّق إليه الاعتبار،و ليس ذلك من تقدم المعلول على العلة،أو تأخره عنها زمانا لفرض انبساط العلة على المعلول و تقارنها معه بجميع أجزائه و جزئياته،و التقدم و التأخر الزماني لا ينافي التقارن الاعتباري، و هو يكفي في دفع الغائلة.

إن قيل:لا وجه للوجوب الانبساطي بالنسبة إلى المقدمات الخارجية مطلقا،لأنه إنما يكون فيما لوحظ فيه ملاك النفسية في الجملة،لا في ما إذا تمحّض ملاك الوجوب في إيجاب ذي المقدمة،كما في المقدمات الخارجية، لأن ملاك محبوبيتها ممحّضة في ذلك.

يقال:المناط كله في إيجاب المقدمة،التمكن من ذيها بأي نحو كان لها دخل فيه،سواء كان ذلك من جهة كونها دخيلة في وجوب ذيها أم من جهة اخرى.

و ثانيا:أن وجوب ذي المقدمة علة غائية لوجوب المقدمة،لا أن يكون علة فاعلية حتى يلزم المحذور،فلا تجب المقدمة إلا لأجل وجوب ذيها في وقته،و قد ثبت في محله أن الغاية متقدمة في العلم و متأخرة في الوجود و العمل،و قد جرت السيرة على الاهتمام بإتيان امور لأجل غايات تترتب عليها في أوقات خاصة،فللغاية اعتبار صحيح فعلي،تترتب على فعلها من جهة الاعتبار آثار عرفية صحيحة،بل شرعية،كصحة اعتبار وجوبها فعلا.و ليس ذلك من القول بالوجوب النفسي للمقدمة،لأنه في ما كان الملاك فيه غير وجوب شيء آخر،و لا ملاك للمقدمة في المقام و غيره إلاّ وجوب ذي المقدمة و التمكن من إتيانه.فإن أراد من يقول بالوجوب النفسي التهيئي ذلك فلا مشاحة في الاصطلاح.

و ما يقال:من أن وجوب الشيء لأجل غايته عقلي و الكلام في الوجوب الشرعي المولوي.

مدفوع:بأن المقام من موارد الملازمة قطعا للعلم بالملاك مع استقرار السيرة العقلائية على الوجوب التي يستكشف منها الوجوب الشرعي،كما في سائر الموارد.

و ثالثا:أنه يمكن إثبات الوجوب في هذه الموارد من باب حكم العقل بقبح تفويت التكليف في ظرفه مطلقا،فالوجوب عقلي من هذه الجهة و يتبعه حكم الشرع أيضا،و لا نحتاج إلى إثبات أن وجوبها تبع لواجب آخر أو أن الواجب الآخر غاية له،لفرض كون الوجوب حينئذ عقليا و شرعيا مستقلا، فيكون الوجوب في جميع هذه الموارد كوجوب صلاة الظهر من حيث أنه وجوب مستقل و فيه ملاك المقدمية أيضا.

فوائد:

الاولى: كل واجب مشروط يصير مطلقا بعد حصول شرطه من جهة حصول هذا الشرط فقط،و إن كان مشروطا من جهات اخرى،لما تقدّم من أن الإطلاق و الاشتراط من الامور الإضافية،بلا فرق فيه بين كون الشرط شرطا للوجوب،أو للواجب.

الثانية:لو شك في الاشتراط و عدمه،فمقتضى الأصل و الإطلاق عدمه.

الثالثة:لو كان الواجب مشروطا و شك في حصول الشرط و عدمه فمقتضى الأصل و إن كان عدم الحصول،و لكن يظهر عن جمع من الفقهاء في جملة من الموارد لزوم التفحص.

الرابعة:إذا كان شرط في البين متصلا بالكلام أو منفصلا عنه و شك في أنه يجب تحصيله أو لا،فمقتضى أصالة البراءة عدم الوجوب،فلا يكون أصل التكليف المشروط به منجزا حينئذ إلا بعد حصوله.

و قد يقال:إن إطلاق الهيئة شمولي يشمل صورة الشرط و عدمه،فهو إطلاق قوي لا يزول إلاّ بما هو أقوى منه،و إطلاق المادة بدلي لا يدل إلا على إتيان صرف وجودها في الجملة،فهو إطلاق ضعيف،فيرد القيد على الضعيف و يبقى القوي على حاله.

و فيه:مع أنه من مجرد الاستحسان الذي يجل الأحكام الإلهية أن تبتنى عليه،أنه لا وجه لكون الأول قويا و الآخر ضعيفا بعد كون كل منهما بمقدمات الحكمة.نعم،لو كان الأول بالوضع و الآخر بمقدمات الحكمة لكان له وجه، و لكنه ليس كذلك،مضافا إلى ما تقدم من التلازم العرفي بينهما.

و الأول ما امر به لا لأجل تكليف آخر،بخلاف الثاني فإنه ما كان أمره لأجل التمكن من تكليف آخر،و يكون ذلك التكليف كالعلة الغائية لإيجابه، سواء كان الأمر به مستقلا أم لا،و سواء كان متقدما عليه أم متأخرا أم مقارنا، و سواء كانت فيه مصلحة نفسية أو لم تكن.

ثم إنه إن علم-و لو بالقرائن-خصوص النفسية أو الغيرية فهو،و إلا فمقتضى أصالة الإطلاق عدم كون الإيجاب و البعث عن داع غيريّ؛بل لنفسه فيثبت الوجوب النفسي بالإطلاق،هذا بحسب الأدلة اللفظية.

و أما بحسب الاصول العملية،فإن علم بعدم وجوب ذي المقدمة،أو لم يعلم به،فمقتضى أصالة البراءة عدم فعلية الوجوب مطلقا،و إن علم به و قلنا بأن العلم بجنس الوجوب يجزي في تنجزه،كما هو مقتضى مرتكزات المتشرعة وجب الإتيان به.و إلا فلا لأصالة البراءة،و لكن لا تصل النوبة إليها مع وجود الإطلاق في البين.

ثم إنه لا ريب في ترتب الثواب على امتثال الأوامر النفسية مع الشرائط المعتبرة.و أما الأوامر الغيرية فالمعروف أنه لا ثواب لامتثالها،لعدم المصلحة فيها،بل لا مصلحة لإيجابها إلا إتيان غاياتها.

و لكن يرد عليه:

أولا:أنها أعم من ذلك،كما تقدم.

و ثانيا:مقتضى إطلاق قوله تعالى: مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا   و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ،  و قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ  و غيرها مما هو كثير كتابا و سنة،ترتب الثواب على امتثالها أيضا بعد صدق الحسنة و الخير و العمل الصالح عليها.

و لا وجه للقول بأن ذلك كله بواسطة ذي المقدمة لا في حد نفسها،فلا وجه لانطباق أي عنوان عليها.لأنه يمكن أن تكون الإضافة إلى ذي المقدمة موجبة لتعنونها بعنوان الحسن،و سببا لعروض ذلك عليها،سواء تحقق ذو المقدمة في الخارج أم لم يتحقق.و يشهد له ما ورد في السعي في قضاء حاجة المؤمن:أن من سعى فيها فله كذا من الثواب،قضيت الحاجة أو لا.و ما ورد:من أن نية المؤمن خير من عمله.و تقتضيه كثرة تفضل اللّه تعالى على عباده و سعة رحمته.

و دعوى اختصاص مثل هذه الإطلاقات بخصوص الواجبات النفسية،بلا شاهد بل هو على خلافهما،مع إمكان القول بانبساط الثواب من ذي المقدمة إلى مقدماته،حصل ذو المقدمة أم لا،مضافا إلى صدق الانقياد الذي هو من موجبات الثواب عند العقلاء مطلقا.

ثم إنهم قالوا بانحصار الثواب في ما إذا قصد الأمر و القربة،فلا ثواب في غيره.و هو أيضا بلا شاهد،إن لم يكن على خلافه شاهد،كما لا يخفى على من راجع الأحاديث الشريفة،بل الثواب يدور مدار كون العمل محبوبا لدى اللّه عزّ و جلّ بأي مرتبة من مراتب الحب و لو كان الحب مقدميا انقياديا،لأن لحبه تعالى مراتب متفاوتة،كما أن لثوابه أيضا كذلك،بل ربما يثيب اللّه تعالى على امور غير اختيارية،فسقوط الأمر في العبادات و إن كان متوقفا على قصد الأمر و لكن الإثابة على المحبوبات لدى اللّه تعالى أعم من ذلك.كما أن فساد العباديات بالرياء لا ربط له بالمقام.

و الحاصل:أنه لا مانع ثبوتا من الثواب على المقدمات،لكونها محبوبة للّه تعالى في الجملة،و لا يكون الثواب متقوّما بقصد القربة،هذا إذا كان المراد بالثواب الجزاء المجعول الشرعي،و أما إذا كان المراد به استحقاق المدح الذي هو أمر عقلي و لا ربط له بالشرع-فلا ريب في تحققه أيضا-لانطباق عنوان الانقياد على إتيانه،و لا إشكال في أن كل انقياد ممدوح عند العقل و العقلاء.فلا وجه للإشكال على الطهارة الحدثية بأن مطلوبيتها غيرية،مع ما ورد من ترتب الثواب عليها لما تقدم،مضافا إلى أنه يستفاد من جملة من الأخبار كونها مطلوبة نفسيا،مع أنه يمكن انبساط ثواب الغايات عليها،فيصح قصد أمرها النفسي، كما يصح قصد أمرها الغيري.

و ما يقال:من أنه يلزم حينئذ اجتماع الندب و الوجوب في واحد،و هو من اجتماع الضدين.

مدفوع:بأن الاجتماع المحال ما إذا كان الضدان من الموجودات الخارجية العينية،لا من الاعتباريات،و الأحكام من الأخيرة دون الاولى،مع أن الاجتماع ملاكي،لا أن يكون فعليا،و لو كان فعليا لأمكن الاختلاف بالحيثية.

و ما يقال:من أن حيثية المقدّمية تعليلية و لا تفيد في دفع المحذور،لأن ما يفيد فيه إنما هو الحيثية التقييدية فقط.

مردود:بإمكان فرضها في المقام تقييدية لدفع المحذور.

ثم إنه يمكن القول بصحة ترتب العقاب على ترك الواجب الغيري لانطباق عنوان هتك المولى و الاستخفاف به و مخالفته عليه عرفا،و ذلك مما يوجب الاستحقاق،مع أن ترك العلة مستلزم لترك المعلول.

نعم،هناك عقاب واحد متبسط على ترك المعلول و علته بجميع أجزائها، لا أن يكون العقاب متعددا،بخلاف الأجر و الثواب فإنه يمكن التعدد فيه كما لا يخفى.

و الأول ما لا يكون له عدل في عرضه بخلاف الثاني.و لا ريب في و وقوعهما عرفا و شرعا،و إنما الكلام في تصوير الثاني ثبوتا.

فقيل:إنه ما تعلّقت فيه الإرادة بالمبهم المردد.

و اشكل عليه:بأنه لا تحقق للمبهم حتى تتعلّق به الإرادة.

و يمكن المناقشة فيه بأن المبهم إن كان مبهما من كل جهة فهو حق،و أما إذا لم يكن كذلك،بل كان بين طرفين أو أطراف محصورة،فلا إشكال فيه، لتعينه في الجملة و هو يكفي لتعلّق الإرادة.

و قيل:إنه ما تعلّقت الإرادة فيه بالجامع،و اشكل عليه بأنه من التخيير العقلي حينئذ،و الكلام في التخيير الشرعي.

و فيه:أن التخيير العقلي ما اخذ فيه الجامع القريب في ظاهر الخطاب دون ما إذا انتزع الجامع الاعتباري من الأطراف،و قد ذكر ذلك الجامع العنواني الانتزاعي في ظاهر الدليل،كما في قوله تعالى: فَكَفّٰارَتُهُ إِطْعٰامُ عَشَرَةِ..  الآية، و كما في بعض الأخبار أيضا ذكر الكفارة أولا،ثم بيان أفرادها.

و قيل:إن الغرض الواحد مترتب على كل واحد من الأطراف.

و اشكل عليه:بأنه مستلزم لصدور الواحد عن الكثير،و هو ممنوع.

و فيه:أنه على فرض صحة المنع فهو في الواحد البسيط الحقيقي،لا الواحد الاعتباري،و المقام من الأخير دون الأول.

و قيل:بأن الواجب كل واحد من الأطراف في ظرف عدم الآخر،و لا يلزم تحصيل الآخر مع حصول الأول.

و اشكل عليه:بأنه يلزم عدم الوجوب في صورة إتيان تمام الأطراف، و تعدد العقاب عند ترك جميعها.

و يرد عليه:بأن المراد انطباق الوجوب على أول وجود طرف من الأطراف،فلا وجوب لغيره عند الاجتماع،كما أنه لا وجه لتعدد العقاب عند ترك الجميع،فإنه لا تكليف إلا بالواحد في الواقع.فلا محذور في جميع تلك الوجوه المتصورة في الواجب التخييري ثبوتا و لا إثباتا.

ثم إن التخيير إما بين المتباينين،أو الأقل و الأكثر.

و الأول مسلّم عند الكل،و واقع في الشرعيات و العرفيات،و لكن أشكل على الأخير تارة:بأن الأكثر إما لا مصلحة فيه،أو تكون مصلحته عين مصلحة الأقل،أو متباين معه.و في الأولين لا وجه لإيجابه،و الأخير من المتباينين لا الأقل و الأكثر،فلا وجه لتصويره فضلا عن وقوعه.

و اخرى:بأنه مع اشتمال الأكثر على الأقل ينطبق الوجوب على الأقل لا محالة،فلا يبقى مورد للتكليف به.

و يجاب عن الأول:بأن الأكثر مشتمل على سنخ مصلحة الأقل زائدة عليها لازمة التحصيل مع عدم الاقتصار على الأقل.

و عن الثاني:بأن الأقل يلحظ حينئذ مستقلا و بشرط لا،بلا فرق بين ما إذا تخلل العدم بين الأقل و الأكثر و عدمه.

عرّف الأول بأن له امتثالات متعددة حسب تعدد المكلفين،و يتعدد الثواب و العقاب بتعدد المطيعين و العاصين،و يتحقق فيه امتثال بعض و مخالفة آخرين.

و ظاهرهم التسالم على ثبوت الأولين في الواجب الكفائي أيضا بخلاف الأخير،فإنه بامتثال البعض يسقط عن الآخرين،و هذا الفرق من ناحية المتعلّق، و إلا فالوجوب فيهما على حد سواء.

و أما ما قيل:من أن الواجب الكفائي هو الواجب التخييري،إلا أن التخيير في الأخير في المكلّف به،و في الأول في المكلّف.

فهو مضافا إلى أنه خلاف ظواهر أدلة الواجبات الكفائية،مناف لما تسالموا عليه من عدم تعدد العقاب لو ترك تمام الأطراف في الواجب التخييري،و تعدده في الواجب الكفائي لو اتفق الكل على تركه،إلا أن يراد به التشبيه في الجملة لا من كل جهة.

إن قيل:المصلحة في الواجب الكفائي إما واحدة،أو متعددة،لا وجه للأخير،و على الأول لا وجه لتعدد الثواب و العقاب.

يقال:أما تعدد العقاب فلتحقق الاستخفاف بأمر المولى من كل واحد. و أما تعدد الثواب فيمكن القول بتعدد الأمر اهتماما و احتفاظا للمصلحة الواحدة،و حينئذ مضافا إلى تحقق الانقياد يمكن تحقق الامتثال أيضا من حيث تعدد الأمر الانحلالي الاحتفاظي.

و لا وجه للتطويل بأكثر من ذلك بعد كونهما من المبينات عند متعارف الناس،و بعد انتفاء الثمرة العملية و العلمية في هذا البحث.

و لا ريب في كون الزمان ظرفا للواجب و غيره من أفعال المكلّف تكوينا، فإن كان دخيلا في الواجب شرعا أيضا يسمى موقتا،و إلا فغير موقّت.

و الأوّل إما مضيق،أو موسع.و الموسع إما فوري،أو لا،و الأخير له أفراد طولية و عرضية.و لا إشكال في وقوع الجميع.

ثم إن كان التقييد بالوقت على نحو وحدة المطلوب فلا يدل على ثبوت الواجب بعد الوقت،فلا بد أن يكون القضاء بأمر جديد.و إن كان على نحو تعدد المطلوب فيكون الأمر باقيا بعد الوقت أيضا.و كذا لو شك في أنه من أيهما، لأصالة الإطلاق في دليل المقيد.و المتفاهم من الموقتات عرفا هو الثاني إلا مع الدليل على الخلاف،فيكفي الأمر الأول للقضاء خصوصا في مثل الصلاة-التي ثبت كثرة اهتمام الشارع بها-بحيث يقطع بأن التوقيت من باب تعدد المطلوب، هذا بحسب الأصل اللفظي.

و أما بحسب الأصل العملي،فلا إشكال في أن حدوث ذات الوجوب معلوم،و تقييده بالوقت بحيث ينتفي بانتفائه مشكوك،فيستصحب أصل الوجوب.

و دعوى:أن المتيقن إنما هو الوجوب المقيد بالوقت،و هو معلوم الارتفاع بعد الوقت،و الشك إنما هو في حدوث وجوب آخر،فيكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذي ثبت بطلان الاستصحاب فيه.

مردودة:بأن المستصحب هو ذات التكليف من حيث هو،لأن المفروض الشك في أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب أو تعدده،فلا محذور في الاستصحاب.نعم،لو ثبت أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب فهو من القسم الثالث بلا إشكال.

و يمكن التمسك بأصالة البراءة أيضا،لأن التقييد بلحاظ بعض مراتب المطلوب معلوم يقينا.و أما بلحاظ تمام مراتبه أو كون القيد مقوما لأصل المطلوبية فهو مشكوك،فيرجع فيه إلى الأصل فيبقى ذات الوجوب بعد الوقت أيضا.

ثم إنه إذا ثبت القضاء و شك بعد الوقت في الإتيان بالمأمور به في الوقت و عدمه،فإن كان في البين دليل على عدم الاعتناء بالشك-كما ورد في الصلاة- فلا إشكال فيه.و إلا فلا يصح التمسك لوجوبه بإطلاق الدليل،أما بناء على عدم تكفّله للقضاء فهو معلوم.و أما بناء عليه فلأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.و يصح التمسك بأصالة عدم الإتيان،سواء كان موضوع القضاء مطلق عدم الإتيان،أم الفوت لأنه عبارة اخرى عن عدم الإتيان عرفا،فالترك و الفوت و عدم الإتيان مساوق كل واحد مع الآخر عرفا،و إن أمكن الفرق بينهما بالدقة العقلية،و لكنها ليست مما تدور عليها الأحكام الشرعية.

و الأصلي ما أنشأ عن إرادة استقلالية،و التبعي ما أنشأ عن إرادة تبعية، و لعل هذا هو مراد من عرّفهما:بالتفصيلية و الإجمالية.و عند الشك فيهما تجري أصالة عدم الاستقلالية و عدم التبعية،و تسقطان بالمعارضة و يصح التعريف سلبيا أيضا،بأن يقال:الأصلي ما لم يكن عن إرادة تبعية،و التبعي ما لم يكن عن إرادة استقلالية،و لا يجري الأصل حينئذ،لكونه مثبتا.

و يمكن تعريف الأول سلبيا و الأخير إيجابيا،لأن شرح اللفظ خفيف المئونة يصح بكل وجه أمكن،و عند الشك تجري أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية،فتنتفي التبعية و تثبت الأصلية،و لا تعارض أصالة عدم الأصلية لفرض أن الأصلي عدمي،و تكون أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية مفادا مطابقيا للأصلية،كما أنه يمكن العكس بجعل الأول إيجابيا و الأخير سلبيا،فيجري الأصل في الأصلي و يكون مفادا مطابقيا للتبعي،و كل هذه الوجوه ممكنة ثبوتا، و لا يبعد مساعدة العرف على الثالث.

و مع عدم التعيين لا يجري الأصل لعدم إحراز الموضوع،فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي و هو أصالة الاشتغال مع فعلية خطاب المتبوع،و البراءة مع عدمها.هذا كله في الاحتمالات الثبوتية.

و أما في مقام الإثبات،فقيل:إن الواجب إن كان مفاد الدلالة الاستقلالية المعتبرة و مقصودا مستقلا بالإفادة فأصلي و إلا فتبعي،و هو من مجرد الدعوى و لا شاهد عليها من عقل أو نقل،إذ رب واجب تبعي يستفاد من الدلالة الاستقلالية،و رب واجب أصلي يستفاد من غير الدلالات الاستقلالية، كالمفاهيم و نحوها.و يمكن أن يكون كل من الواجب النفسي و الغيري أصليا و تبعيا في مقام الإثبات كما لا يخفى.ثم إن الواجب النفسي ينطبق على الأصلي غالبا،و الغيري على التبعي كذلك.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"