1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. تهذیب الاصول
  8. /
  9. القسم الرابع العام و الخاص
تعريف العام و الخاص

العام و الخاص من المعاني المرتكزة إجمالا في الأذهان في كل لغة و محاورة.و العموم عند العرف متقوّم بالشمول و السريان،بخلاف الخصوص الذي هو في مقابله،و منه يظهر أن لفظ(عشرة)مثلا ليس بعام بالنسبة إلى الآحاد التي تكون تحتها،لعدم سريان هذا اللفظ و عدم إطلاقه بالنسبة إليها.نعم،هو عام بالنسبة إلى عامة العشرات فيشمل كل عشرة.

و هو وضعي،أو بمقدمات الحكمة،و المقصود بالذكر في المقام هو الأول،و يأتي الأخير في المطلق و المقيد إن شاء اللّه تعالى.

و قد عرّف العام بتعاريف كلها مخدوشة ما لم ترجع إلى ما هو المركوز في الأذهان،مضافا إلى أنه لم يقع لفظا العام و الخاص موردي حكم من الأحكام حتى يحتاج إلى التعريف و التزييف.

نعم الألفاظ الدالة على العموم و الخصوص كثيرة الدوران في الأدلة و هي معلومة لكل أحد،سواء كان عارفا بمعنى العام و الخاص أم كان جاهلا بهما.

و لا يخفى أن العام و الخاص من الامور الإضافية،فرب عام من جهة يكون خاصا من جهة اخرى،كما أن رب خاص من جهة يكون عاما من جهة اخرى،و قد يستعمل كل منهما في الآخر بالعناية إذا استحسنه الذوق السليم.

و العموم إما استغراقي،أي شامل لكل ما يصلح أن يكون فردا له،و هو كثير في الكتاب و السنّة،كقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ  و مثل:(لا تشرب الخمر)أو بدلي،أي أن مدلوله فرد واحد لكن على البدل،فالعموم في البدلية الشاملة لكل فرد يصلح أن يكون بدلا لا في الفرد من حيث هو،كما في القسم الأول.و هو أيضا كثير في الشرع.

أو مجموعي،أي يلحظ جميع الأفراد عنوانا واحدا للعام و كأنه ليس له إلاّ فرد واحد و هو المجموع من حيث المجموع،كغسل الجنابة،فإن جميع البدن بتمام أعضائه جعل شيئا واحدا بحيث لو لم يغسل موضع رأس إبرة لبطل الغسل.

و لازم الأول تحقق الإطاعة بامتثال كل فرد،و العصيان بترك فرد آخر، فيصح أن تتحقق في عام واحد الإطاعة و العصيان معا،بل إطاعات عصيانات.

و لازم الثاني تحقق الإطاعة بإتيان فرد ما،و عدم تحقق العصيان إلا بترك الجميع.

و أما الأخير فهو على عكس الثاني،فلا تتحقق الإطاعة فيه إلا بإتيان الجميع،و يتحقق العصيان بترك فرد ما.و ليس في القسمين الأخيرين إلا إطاعة واحدة و عصيان كذلك بخلاف القسم الأول،إذ يصح تعدد الإطاعة و العصيان فيه،كما هو واضح.

لا ريب في ظهور كل عام في العموم،و الظاهر حجة ما لم تكن قرينة على الخلاف،و المخصص من القرينة على الخلاف،فيكون العام ظاهرا في العموم أو الحجة في غير مورد التخصيص على ما هو المشهور بين الأعلام،بلا فرق فيه بين المخصص المتصل و المنفصل،و لا إشكال فيه بناء على كون العام المخصص حقيقة في العموم بعد التخصيص،كما هو التحقيق.و أما بناء على كونه مجازا بدعوى أنه من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء، فكذلك أيضا.

أما أولا:فلأن دعوى المجازية باطلة،لتقوّم العموم بالإرسال و السريان و عدم تحديده بحدّ معين و مرتبة خاصة،فمهما تحقق الإرسال و السريان يتحقق العموم لا محالة-وسعت دائرته أو ضاقت،كثرت الأفراد أو قلّت-فهو من هذه الجهة كاسم الجنس الصادق على القليل و الكثير صدقا حقيقيا مع استفادة القلّة و الكثرة من القرائن الخارجية،و لكن القلة و الكثرة ملحوظتان في العموم من جهة السريان و الشمول،و في اسم الجنس من جهة الذات المهملة المبهمة،فهو حقيقة في السريان،سواء كثرت الأفراد لعدم التخصيص،أو قلّت بوجود المخصص،فيكون ظاهرا في العموم و حجة فيه،ما لم تكن حجة أقوى على الخلاف.

و منه يظهر أنه ليس من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء، لأن الكل محدود بحدّ خاص بخلاف السريان،فإنه غير محدود بحدّ خاص، كما تقدم.

و ثانيا:على فرض المجازية يكون حجة في الباقي بعد التخصيص لوجود المقتضي-و هو الظهور اللفظي-و فقد المانع،لأصالة عدم مخصص آخر،فإنه لا فرق في حجية الظهور بين كونه مستندا إلى الوضع أو إلى سياق اللفظ و لو كان مجازا.

و ما ذكره في الكفاية من أن المقتضي هو الدلالة على تمام الأفراد،و مع التخصيص لا وجه لثبوت المقتضي.

باطل:لأن المقتضي إنما هو ذات الدلالة على نحو الانبساط،المنطبقة على التمام و على ما في ضمنه.

هذا مع أن استعمال العام المخصص في تمام الأفراد لا بأس به إن كان في البين غرض صحيح من التفنن في البيان،أو تشريع القانون الكلي أو نحو ذلك، فيكون العام مستعملا في تمام الأفراد بالإرادة الاستعمالية إلا أن الإرادة الجدية تعلقت ببعضها،و الظاهر أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث.فلا وجه للإطالة بأكثر من ذلك.

العام و الخاص إما مبينان من كل جهة،أو مجملان كذلك،أو يكون العام مجملا و الخاص مبينا،أو بالعكس.

و لا إشكال في تمامية الحجة في الأول،كما لا ريب في عدمها في الثاني، لفرض الإجمال فيهما،و لا حجية في المجمل.

و كذلك الثالث،لأن الخاص كالقرينة للعام و المتمم لفائدته،و مع إجمال ذي القرينة لا أثر لكون القرينة واضحا و مبينا.

و أما الأخير فعمدة القول فيه:أن الخاص إما متصل أو منفصل،و الإجمال في كل منهما إما مفهومي أو مصداقي.و منشأ الإجمال إما للتردد بين المتباينين، أو بين الأقل و الأكثر،فهذه أقسام ثمانية.

و يسري الإجمال من الخاص المتصل المجمل إلى العام بأقسامه الأربعة، لأنه من القرينة المحفوفة بالكلام،و إجمال القرينة يسري إلى ذي القرينة في المحاورات العرفية،فلا حجية للعام في محتملات التخصيص،بل و لا ظهور له فيها أيضا،لفرض عروض الإجمال،و جريان بناء العقلاء على عدم التمسك به فيها حينئذ في محاوراتهم و احتجاجاتهم في الموارد المشكوك في دخولها تحت العام،و الأخذ بالمتيقن بما هو داخل فيه ليس من باب ظهور العام بل من جهة اليقين به،فلا يكون العام و لا الخاص حجة في الفرد المشكوك،لفرض الإجمال فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل آخر،و مع عدمه فإلى الاصول العملية- موضوعية كانت أو حكمية-و كذا في ما يأتي من القسمين من الخاص المنفصل،حيث لا يجوز فيهما التمسك بالعام فيرجع فيهما إلى دليل آخر أو أصل،بل و كذا في ما يأتي من الشبهات المصداقية،حيث لا يصح التمسك بالعام فيها.

و أما الخاص المنفصل فإن كان إجماله للتردد بين المتباينين مفهوما أو مصداقا فلا حجية للعام في محتمل التخصيص أيضا،للعلم الإجمالي بورود التخصيص في الجملة،و عدم وجود حجة معتبرة على التعين،و لا تجري أصالة عدم التخصيص،لمكان العلم الإجمالي.

نعم،لا إشكال في بقاء ظهور العام في العموم،لفرض عدم كون المخصص المجمل متصلا بالكلام،و عدم احتفافه بما يوجب الإجمال،و لا ملازمة بين بقاء الظهور و حجيته،إذ ليس كل ظاهر بحجة،كما في موارد العلم بإرادة خلاف الظاهر تفصيلا أو إجمالا.

و كذا ليس كل حجة من الظاهر،كما في حجية الأدلة اللبية،فيكون بينهما العموم من وجه،كما هو واضح.

و أما إذا كان الإجمال لأجل تردده بين الأقل و الأكثر مفهوما،فالعام حجة في محتمل التخصيص-و هو الأكثر-لاستقرار ظهوره في العموم و عدم المنافي له إلا في ما يكون الخاص حجة فيه-و هو الأقل-فقط،فيرجع في الأكثر إلى أصالة عدم التخصيص.فالمقتضي لحجية العام في الأكثر موجود-و هو الظهور- و المانع عنه مفقود-و لو بالأصل-.

و أما إذا كان إجماله لأجل التردد بين الأقل و الأكثر مصداقا،فهو النزاع المعروف بين العلماء-أنه هل يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؟- فذهب جمع إلى الأول،و نسب الأخير إلى المشهور،و استدل للأول بوجوه:

منها:وجود المقتضي لحجية العام في المشكوك فيه و هو الظهور،و فقد المانع و لو بالأصل،فتتم حجية العام فيه لا محالة.

و فيه:أن الظهور مسلّم و لكن فقد المانع-و هو أصالة عدم التخصيص أول الكلام،لأنها من الاصول المحاورية العقلائية،و لم يحرز بناؤهم على جريانها في المقام و إلا لما وقع الخلاف بين الأعلام،و يكفي الشك في الجريان بعد أن كان المدرك هو السيرة التي لا بد و أن يقتصر فيها على المتيقن،هذا مضافا إلى أنه بعد العلم بورود المخصص المبين مفهوما و تمامية الحجة بالنسبة إلى التخصيص من طرف المولى،لا وجه لجريان هذا الأصل و لو كان مدركه إطلاق أخبار الاستصحاب،إذ الأصل يجري فيما لا حجة فيه في البين،دون ما ثبتت فيه الحجة،و هذا هو الفارق بين المقام و بين ما تقدم من تردد المخصص من حيث المفهوم بين الأقل و الأكثر،حيث قلنا بصحة الرجوع إلى أصالة عدم التخصيص هناك في الأكثر،و ذلك لعدم تمامية حجة أقوى على خلاف العام هناك بالنسبة إلى الأكثر لفرض إجمال المفهوم،فيرجع لا محالة إلى الأصل، بخلاف المقام الذي تمت الحجة الأقوى على خلاف العام من طرف المولى فلم يبق موضوع للرجوع إلى الأصل.

إن قيل:بعد الاعتراف بثبوت حجة أقوى على خلاف العام فليكن الفرد المردد داخلا تحت الخاص الذي هو الحجة الأقوى.

يقال:لا ملازمة بين كونه حجة أقوى بحسب المفهوم بالنسبة إلى العام في الجملة،و بين كونه حجة في الفرد المردد بين كونه داخلا تحته أيضا،بل مقتضى الأصل عدم هذه الملازمة.

هذا إذا كان المراد بأصالة عدم التخصيص الأصل المعروف.و أما إذا كان المراد الأصل الموضوعي فهو صحيح في المقام،و يأتي الكلام فيه.

و القول:بأن أصالة عدم التخصيص معارضة بأصالة عدم حجية العام في المشكوك فيه.

موهون:باختلاف الرتبة بينهما،لأنه بعد جريان أصالة عدم التخصيص لا يبقى موضوع لجريان أصالة عدم الحجية،كما لا يخفى.

و منها:أن مقتضى إطلاق العام بإطلاقه الأحوالي شموله للفرد المردد أيضا،فيكون العام مبينا للحكم الواقعي بالنسبة إلى أفراده الواقعية،و للحكم الظاهري بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها.

و فيه:أن المنساق من العمومات التكفل للأحكام الواقعية فقط،إلا أن يدل دليل من الخارج على أنها متكلفة للحكمين،أو للحكم الظاهري فقط.

و منها:أن حجية العام في المقام أقوى و أظهر من الخاص.و لكن فساد هذا الوجه غني عن البيان.

و من ذلك يظهر أن ما نسب إلى المشهور هو الأقوى،لأن الفرد المردد مشكوك في دخوله تحت كل من العام و الخاص،فيشك في حجية كل واحد منهما بالنسبة إليه،و الشك في الحجية يكفي في عدم الحجية.

و لا ينفع فيها دخوله تحت ظهور العام،لما تقدم من عدم الملازمة بين الظهور و الحجية،و يقتضي ذلك مرتكز المتعارف أيضا،فلا يبادرون إلى الحكم بدخول الفرد المردد تحت العام إلا بقرينة خارجية تدل عليه،مع أن فعلية الأحكام متوقفة على إحراز موضوعاتها،و مع التردد فيها لا وجه لفعليتها.

و حينئذ يرجع في حكم هذا الفرد المشكوك في دخوله تحت كل واحد منهما إلى الاصول الموضوعية،و مع عدمها فإلى الحكمية إن لم يكن دليل خارجي على تعين حكمه في البين.

و أما ما قيل:من أن العام بعد التخصيص يكون كالموصوف و الوصف، فكما لا يصح التمسك بدليل الموصوف مع عدم إحراز الوصف فالمقام مثله أيضا.

فهو حسن ثبوتا و لا كلية فيه إثباتا.

و لا فرق في ما ذكرناه بين ما إذا كان الإجمال من حيث المصداق في المخصص المنفصل اللفظي أو اللبي،لأن المناط كله تردد الفرد بين الدخول و الخروج تحت كل من العام و المخصص،و في مثله لا يبادر أهل المحاورة إلى الجزم بدخوله تحت أحدهما إلا بقرينة اخرى.

و عن صاحب الكفاية التفصيل بينهما،فوافق المشهور في المخصص اللفظي،و أما في اللبّي فذهب قدّس سرّه إلى حجية العام في الفرد المردد،و ادعى بناء العقلاء عليه أيضا.

و حاصل ما ذكره في وجه الفرق:أن في المخصص اللفظي قد ورد ظهوران:ظاهر العام،و ظاهر الخاص،و تردد فرد بين الدخول في كل واحد منهما و الخروج،فلا يكون كل واحد منهما حجة فيه.و أما في اللّبّي فليس في البين إلا ظاهر واحد و هو ظهور العام،فيكون ظهوره متبعا ما لم يقطع بخروج فرد عنه،و حيث لا قطع بخروج الفرد المردد،يكون ظهور العام متبعا لا محالة.

و يرد عليه:

أولا:أن ما ادعاه قدّس سرّه من بناء العقلاء على التمسك بالعام في الفرد المردد مع المخصص اللبي دون اللفظي،دعوى بلا شاهد،بل هو على خلافها.

و ثانيا:أن مناط عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المردد هو مجرد التردد بين الدخول و الخروج،و لا ريب في وجود هذا المناط فيهما.

نعم،للتردد مراتب متفاوتة لا بأس بالتمسك بالعام في بعض مراتبه حتى في الدليل اللفظي أيضا،و إن لم يصح في بعض مراتبه الاخرى،و بذلك يمكن جعل النزاع لفظيا.

و الحاصل:أنه لا يصح الرجوع إلى دليل العام في جميع الأقسام الثمانية التي تقدمت الإشارة إليها،إلا في قسم واحد،و هو ما إذا كان المخصص منفصلا و كان مجملا مفهوما لتردد مفهومه بين الأقل و الأكثر،فيرجع في المشكوك فيه إلى العام،و لا يصح الرجوع إلى العام في بقية الأقسام السبعة،كما لا يصح التمسك بالخاص في جميع الأقسام الثمانية،لسقوط اعتباره في الفرد المردد عند أهل المحاورة.

لو صح سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد بأمارة،أو قاعدة،أو أصل،يشمله العام بلا كلام،لوجود المقتضي حينئذ-و هو ظهور العام في الشمول-و فقد المانع.

و بعبارة اخرى:العام يشمل جميع ما يمكن أن يكون فردا له،سواء كانت الفردية وجدانية أم ثبتت بالأمارة،أو بالقرينة المعتبرة،داخلية كانت أو خارجية، أم ثبتت بالأصل،موضوعيا كان أو حكميا،فإذا قيل:أكرم العلماء،و لا تكرم الفسّاق.و تردد عالم بين كونه فاسقا أو غير فاسق،و قامت البينة على عدالته،أو جرت قاعدة الصحة في ما صدر منه،أو جرى استصحاب العدالة في حقه،فلا ريب في وجوب إكرامه،بل يصح نفي عنوان الخاص بالأصل الأزلي أيضا.

فإذا ورد أن كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا إذا كانت امرأة قرشية فتراها إلى ستين،و ترددت امرأة بين كونها قرشية أو غير قرشية،فبأصالة عدم انتسابها إلى قريش ينتفي انتسابها إلى قريش،فيشملها العام قهرا،إذ المرأة و انتسابها إلى قريش كانتا معدومتين أزلا،و انتقض العدم بالنسبة إلى أصل وجود المرأة حسا دون الانتساب،فيستصحب العدم بالنسبة إليه.

و قد يقال-أولا:من أن نفس العدم من حيث هو لا أثر له،و ما له أثر هو عدم انتساب هذه المرأة بالخصوص،فما هو المعلوم سابقا لا أثر له،و ما له الأثر غير معلوم سابقا،فكيف يجري الأصل.

و ثانيا:أنه معارض باستصحاب عدم الانتساب إلى غير قريش،فيسقطان بالمعارضة.

و ثالثا:أن جريان الأصل في الأعدام الأزلية خلاف العرف المبني عليه الأدلة.

و يمكن المناقشة فيه:

أما الأول:فلأن المستصحب ليس ذات العدم المطلق،بل الصحة الخاصة منه المقترنة مع هذه المرأة واقعا.

و أما الثاني:فلأنه لا وجه لجريان أصالة عدم الانتساب بالنسبة إلى غير القرشي،لشمول العموم له،فإن مورد العام كل امرأة لم تكن منسوبة إلى قريش و لو كان عدم الانتساب لأجل الأصل المعتبر،فيشمل العام كل امرأة صح نفي القرشية عنها بأي وجه أمكن.

نعم،لو صار العام مجملا لجهة من الجهات لا يصح التمسك حينئذ، فيجري الأصل فيهما و يتساقطان بالتعارض.و أما الأخير فلا يضر بعد شمول إطلاق أدلة الاستصحاب له.

نسب إلى المشهور القول بالضمان في ما إذا ترددت اليد بين كونها أمانية،أو ضمانية مع أنه لا ضمان في الأمانية إلا مع ثبوت التعدي أو التفريط،فيوهم ذلك ذهابهم إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.و يمكن دفع التوهم بأن الضمان في نظائر المقام لأجل أصالة احترام ملك الغير التي هي من الاصول النظامية المعتبرة،و ليس لأجل العموم حتى يكون من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه،و التفصيل يطلب من الفقه.

لو علم بخروج فرد عن حكم العام و لم يعلم أنه لأجل التخصيص أو التخصص،فبأصالة عدم التخصيص لا يثبت الأخير،لأنها إنما تكون معتبرة في مفادها المطابقي دون الملزومات،لعدم الدليل على اعتبارها بالنسبة إليها من سيرة أو نحوها إلا إذا كان بينهما تلازم عرفي.فلو قيل:أكرم العلماء،و علم بعدم وجوب إكرام شخص خاص،لا يثبت جهله بأصالة عدم التخصيص بالنسبة إليه،و العرف لا يساعد عليه أيضا.

كل عام أو مطلق يكون في معرض التخصيص أو التقييد لا يصح العمل به قبل الفحص،لعدم استقرار حجيته قبله،و المعتبر من الحجة الحجية المستقرة دون الشأنية المحضة،و الشك في الحجية قبله يكفي في عدم الحجية.

و يمكن بيان ذلك بصورة الشكل الأول الذي هو بديهي الإنتاج:بأن ظاهر العام و المطلق قبل الفحص عن المخصص و المقيد في معرض الزوال،و كل ظاهر يكون في معرض الزوال لا اعتبار به،فظاهر العام و المطلق قبل الفحص عن المخصص و المقيد لا اعتبار به،و إذا سقط عن المعرضية تستقر الحجية و تصير فعلية.

و منه يعلم مقدار الفحص،إذ ليس له حدّ معين،و المناط كله تبدل شأنية الحجية إلى الفعلية و استقرارها و خروج العام أو المطلق عن المعرضية، و يختلف ذلك باختلاف العمومات و المطلقات.

و من ذلك يعلم أنه لا يجب الفحص في ما لا يكون معرضا له و كان احتمال التخصيص و التقييد فيه مما لا يعتني به العقلاء،فيجب العمل بظاهر العام و المطلق حينئذ،و لكن هذا النحو من العام و المطلق قليل جدا.

ثم إنه لا يجب في الفحص المباشرة فتصح الاستنابة أيضا،بل يصح الاعتماد على قول الخبير الأمين،هذا حال الاصول اللفظية،كأصالة العموم و الإطلاق.

و كذا الحال في الاصول العملية،كأصالة البراءة،و التخيير و الاستصحاب، فإن تأخر رتبة اعتبارها عن الأدلة يقتضي أن لا تكون معتبرة إلاّ بعد الفحص و اليأس عنها،و إلا فلا اعتبار لها حينئذ.

و الفرق بين الفحص في الاصول اللفظية و بينه في الاصول العلمية أنه في الاولى لدفع المانع بعد وجود المقتضي،فإن المقتضي للحجية-و هو الظهور- موجود فيتفحص لدفع احتمال المانع،و أما في الاخرى فإنما هو لأجل إثبات

أصل المقتضي للحجية،إذ لا مقتضي لها في الاصول العملية قبله،لأن الشك بالنسبة إلى الاعتبار لا اقتضاء محض،بلا فرق بين الاصول العقلية و النقلية، و التفصيل يطلب في محله.

هذا،و لو عمل بالاصول اللفظية أو العملية قبل الفحص،فإن طابق عمله للواقع و كان جامعا للشرائط يصح،و إلاّ يجب عليه الإعادة أو القضاء،و الوجه في كل منهما معلوم لا يحتاج إلى البيان.

اختلف الاصوليون في أن الخطابات في الشرع-مثل قوله تعالى:  يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا…  الذي ورد في القرآن في أكثر من ثمانين موردا-هل تختص بالحاضر في مجلس الخطاب،أو يعمه و الغائبين،بل المعدومين أيضا؟ و لا بد أن يعلم أولا أن أحكام الشريعة المقدسة الختمية ثابتة إلى يوم القيامة للجميع بضرورة الدين و إجماع جميع فرق المسلمين،و إنما البحث في شمول الخطابات الشفاهية للغائبين و المعدومين أيضا،و هذه الجهة من البحث مستغنى عنها بعد الإجماع و الضرورة،و حديث:«حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة».

ثم إن الكلام يقع من نواح ثلاث:

الاولى:في أصل جعل القانون،الظاهر أنه لا وقع لهذا النزاع بالنسبة إلى مرتبة أصل جعل القانون ثبوتا من حيث هو،إذ لا يعتبر فيه وجود مخاطب حين الجعل خصوصا في القوانين الأبدية،كما جعلت في الشريعة الختمية،فيصدق جعل القانون على ما كتب في اللوح المحفوظ،أو ما انزل على قلب نبينا صلّى اللّه عليه و آله و لو لم يطلع عليه أحد،و كذا في مقام إظهاره و إثباته،إذ يكفي فيه إظهاره بداعي إتمام الحجة و تمامية البيان على المكلّف،سواء كان موجودا أم غير موجود، و سواء كان الإظهار على نحو الجملة الخبرية أم الإنشائية،أم الكتابة أم غير ذلك مما يمكن به الإظهار و الإعلان،و لو فرض أن توجيه الخطاب فيه يكون إلى شخص أو جمع فهو من باب المرآتية لكل من يصلح لذلك-غائبا كان،أو معدوما-لغرض أن المتكلم في مقام جعل القانون و إنما اختار الكيفية الخاصة من البيان لدواع خاصة و جهات مخصوصة،مثل قوله تعالى: يٰا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ،  و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و يدل على ما ذكرنا العرف،و بناء العقلاء،و أصالة عدم اعتبار شيء في الجعل،من حيث أنه جعل القانون و بيانه و إظهاره من طرف الجاعل.

و ما ورد من تعدد نزول القرآن و لا ريب في اشتماله على القوانين الدنيوية و الاخروية،فتارة نزل على اللوح المحفوظ،و اخرى على البيت المعمور،و ثالثة نزل في مكة أو المدينة،متفرّقا بحسب الوقائع و المناسبات، و في جميع أطوار نزوله هو قانون أبدي.هذا في مرتبة أصل جعل القانون.

الثانية:من ناحية الخطاب من حيث أنه خطاب،فالخطاب هو إبراز المراد في الخارج بما اشتمل على أدوات الخطاب،سواء كان ذلك بداعي التفهيم و التفهم-كما هو الغالب فيه-أو بداع آخر،كجعل القانون،أو التحسّر،أو التحزّن،أو التعشق،أو غير ذلك من الدواعي الصحيحة الموجودة في الكلمات الفصيحة نظما و نثرا،و يشهد له خطابات اللّه تبارك و تعالى مع الجمادات،كقوله تعالى: يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي.  و قوله تعالى: يٰا جِبٰالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ.  فيصح الخطاب بداعي جعل القانون بالنسبة إلى الغائب و المعدوم،كما يأتي لا حقا،فلا أثر لهذا البحث من هذه الجهة.

ثم إن حضور المخاطب لدى المتكلم بما اشتمل على أدوات الخطاب على أنحاء:

فتارة:هو الحضور الواقعي الإحاطي من كل جهة،كحضور الأشياء لدى اللّه عزّ و جل.

و أخرى:هو الحضور الاعتقادي،كحضور المعبود لدى العابد،و هو في المعبود الواقعي حضور واقعي أيضا.

و ثالثة:خارجي شخصي،كقولك لغريمك:أعطني ما أطلبك.

و رابعة:خارجي مرآتي،كقولك:يا بني صلّ،و أطع اللّه تعالى و خالف الشيطان،و نحو ذلك.

و خامسة:فرضي اعتباري،كتكلم العاشق مع المعشوق في غيبته، و كتكلم من يتمرن درسا يريد أن يدرّسه بعد ذلك في مجمع من الطلاب.

فيكفي في صحة التخاطب مطلق الحضور بأي وجه صحيح،و يمكن أن تكون الخطابات الشرعية بلحاظ حضور الامة حضورا اعتباريا لدى الصادع بالشريعة المقدسة،فلا ثمرة لهذا البحث من هذه الجهة أيضا.

الثالثة:من ناحية البعث و الزجر،فالبعث و الزجر إتمام للبيان من طرف المولى لأجل إمكان الانبعاث من البعث،و الانزجار من الزجر.و لا فرق فيه بين الحاضر و الغائب و المعدوم،لصحة إمكان الانبعاث و الانزجار بالنسبة إليهما أيضا.

نعم،لو كان المراد بالانبعاث و الانزجار الفعليان منهما من كل جهة،لا يصح بالنسبة إلى الغائب و المعدوم،بل و لا أثر بالنسبة إلى الحاضر أيضا ما لم تتحقق جميع شرائط الفعلية،فهذا البحث كسابقيه في انتفاء الثمرة من هذه الجهة أيضا،فيصح نفي الثمرة لهذا البحث أصلا من هذه الجهات.

و أما ما ذكر له من الثمرة من حجية الظواهر بالنسبة إلى الغائبين و المعدومين،و صحة التمسك بالإطلاقات بناء على الشمول.

ففيه:أنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه،و هو باطل،كما يأتي،مع أن من قصد إفهامه جميع الامة لا خصوص المشافهين.

فتلخص:أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث بشقوقه و فروعه. و لو شك في تقييد الإطلاقات،و تخصيص العمومات بخصوصية المشافهين، فمقتضى الأصل عدمه،كما في سائر القيود المشكوكة التي يرجع فيها إلى الأصل.

إذا تعقب العام بضمير،و تردد بين رجوعه إلى تمام أفراده أو بعضه و لم تكن قرينة على الأخير،فمقتضى أصالة التطابق بين الضمير و المرجع-التي هي من الاصول المعتبرة المحاورية-هو الرجوع إلى التمام.

و أما إذا علم برجوعه إلى البعض و كان مع العام في كلام واحد،كما إذا قيل:أكرم العلماء بإعطائهم الخمس حيث أن إعطاء الخمس يختص بالهاشمي منهم،فلا حجية للعام بالنسبة إلى غير الهاشمي،لاحتفافه بما يصلح للقرينية عرفا و إن كان ذلك في كلامين،أو كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام،كقوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ..    وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.

و المراد بالعام الأعم من البائنات و الرجعيات،و بالضمير خصوص الأخيرة،فهناك أصلان متعارضان:أصالة العموم و أصالة التطابق بين المرجع و الضمير-التي تكون عبارة اخرى عن أصالة عدم الاستخدام-و هما من الاصول المعتبرة في المحاورات،و العمل بكل واحدة منهما يستلزم سقوط الاخرى.

و عن الكفاية تقديم أصالة العموم،لأنها جارية في تعيين المراد،و أصالة التطابق بين الضمير و المرجع جارية في بيان كيفية المراد مع القطع بأصل المراد، و المتيقن من بناء العقلاء في هذه الاصول هو الأول دون الأخير.

و يرد عليه:

أولا:سقوط هذا البحث رأسا لابتنائه على أن العام المخصص مجاز،و أما بناء على ما مرّ من التحقيق من عدم كونه مجازا بعد التخصيص و أنه مستعمل في العموم على أي تقدير،فلا ريب في جريان أصالة العموم حينئذ،و عدم محذور فيه بالنسبة إلى الإرادة الاستعمالية،لا الإرادة الجدية الواقعية،و لا دليل على المطابقة بين الإرادتين من كل جهة،بل مقتضى الأصل عدم اعتبارها،كما لا ريب في أن الضمير يرجع إلى تمام العام بالإرادة الاستعمالية أيضا لا الجدية الواقعية،فيتحقق العمل بالأصلين بلا مخالفة بينهما في البين بعد معلومية المراد الواقعي بالقرينة الخارجية،فيكون المقام مثل سائر الموارد التي يستكشف فيها المراد بتعدد الدال و المدلول.

إن قيل:بعد معلومية المراد الواقعي الجدي من الخارج فلا وجه لإرجاع الضمير إلى تمام العام.

يقال:هذا نحو من التفنن في الكلام و هو من المحسنات،كما لا يخفى و يمكن أن تترتب عليه أغراض صحيحة اخرى أيضا.

و ثانيا:دعوى أن المتيقن من بناء العقلاء إجراء هذه الاصول في تعيين المراد،لا في كيفية ما اريد أول الدعوى،لجريان بنائهم على الأخير أيضا.

و الحاصل:أنه يعمل بكلا الأصلين في الإرادة الاستعمالية،و لا تعارض في البين مع وضوح المراد الواقعي في الإرادة الجدية،و على أي تقدير فلا ثمرة عملية لهذا البحث بعد تعيين المراد الواقعي بالقرينة،و مع عدمها فالمرجع الاصول العملية بعد سقوط العام عن الحجية.

لا ريب في أن مناط التخصيص إنما هو لأجل تقديم القرينة على ذي القرينة،و الأظهر على الظاهر،و هذا مما اتفق عليه أهل اللسان في جميع الملل و الأزمان،و مهما تحقق هذا المناط يصح التقديم بلا كلام،سواء كان بين المنطوقين أم المفهومين،أم بين المنطوق و المفهوم،و سواء كان المفهوم موافقا أم مخالفا.و لا إشكال في تحققه في مفهوم الموافق الذي هو عبارة عن موافقة المفهوم مع منطوقه في الإيجاب و السلب،لقوة المفهوم حينئذ،لكونه من الحكم القطعي،سواء كان بينه و بين العام الذي يخصص به عموم مطلق،أو من وجه.

و كذا في المفهوم المخالف الذي هو عبارة من مخالفة المفهوم مع منطوقه فيهما إن ثبت كونه أقوى من العام،مثل ما إذا كانت دلالة المفهوم وضعية و دلالة العام بمقدمات الحكمة،أو كانت الأقوائية مستندة إلى جهات اخرى- داخلية كانت أو خارجية-و لا تضبطها ضابطة كلية،و يمكن أن يجعل النزاع في هذا البحث لفظيا،فمن أثبت تخصيص العام بالمفهوم يثبته في ما إذا ثبتت الأقوائية،و من ينفيه إنما ينفيه في ما لم تثبت،فلا ثمرة عملية في هذا النزاع بعد ثبوت كلية الكبرى و إمكان إرجاع النزاع إلى الصغرى.

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة،كقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ `إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا…

فالمتبع هو القرائن المعتبرة داخلية كانت أو خارجية،فقد تدل على الرجوع إلى الكل،و قد تدل على الرجوع إلى البعض،و قد يظهر منها الإجمال، و مع عدمها فالمتيقن الرجوع إلى الجملة الأخيرة لو لم يكن الكلام مجملا، و ليس في البين قاعدة كلية يحكم بها بالرجوع إلى الكل أو البعض أو الإجمال.

و أما ما قيل:من أنه مع وحدة الفعل يرجع إلى الجميع،كأكرم الفقهاء و السادات و الزهاد إلا الفساق،و مع تكرار الفعل الواحد أو تعدده فيرجع إلى الأخيرة،فلا ريب في أنه من القرائن في الجملة.و لكن لا كلية فيه بحيث تكون قاعدة كلية تنفع في جميع موارد الشك.

استقرت السيرة من عصر الأئمّة عليه السّلام على تخصيص عمومات الكتاب و تقييد إطلاقاته بما اعتبر من خبر الواحد،و ذلك لما ارتكز في الأذهان من تقديم القرينة على ذيها،و الأظهر على الظاهر.و الخبر المعتبر-الذي يصلح للتقييد و التخصيص-قرينة على بيان المراد من عمومات الكتاب و إطلاقاته، و أظهر بالنسبة إليهما فلا بد من تقديمه عليهما،و لو لا ذلك لانسد باب الاجتهاد و لزم طرح جملة كثيرة من الأخبار.

و ما استشكل في المقام ليس إلا شبهة في مقابل البديهة.مثل:أنه لو جاز التخصيص و التقييد لجاز النسخ أيضا،و لا ريب في بطلانه،و لأن الخبر ظني الصدور،و الكتاب قطعي الصدور،و لا وجه لتقديم الظني على القطعي، و للأخبار المستفيضة الواردة في أن ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف،أو يضرب على الجدار.

و الكل باطل:

أما الأول:فلأنه لا ملازمة بينهما لا شرعا و لا عقلا و لا عرفا مع الفرق الواضح بين التخصيص و النسخ،فإن الأول خروج بعض الأفراد عن حكم العام مع بقاء أصل وجوده و ظهوره و حجيته،و الثاني إزالة أصل وجوده و تحققه بجميع مراتبه.

و أما الثاني:فلأنه من تقديم الأظهر في الدلالة على الظاهر فيها،لا أن يكون من تقديم الظني على القطعي من جهة الصدور،و نسبة الأخبار إلى الكتاب نسبة الشرح و التفسير و البيان.

و أما الأخير:فلأن موردها المخالفة و المباينة المطلقة من كل جهة، و التخصيص و التقييد ليس منها قطعا.

تاريخ صدور كل من العام و الخاص:

تارة يكون مجهولا.

و اخرى:يكون زمان صدورهما معلوما تفصيلا،و أن العام مقدم على الخاص.

و ثالثة:بالعكس.

رابعة:يعلم بأنهما صدرا متقارنين.

و خامسة:يكون زمان صدور العام معلوما تفصيلا و الخاص مجهولا.

و سادسة:بالعكس.

و مقتضى شيوع التخصيص و غلبته في المحاورات-حتى قيل ما من عام إلا و قد خص-و ندرة النسخ جدا،و الاهتمام بإثباته في الكتاب و السنة أكثر من الاهتمام لإثبات التخصيص،هو الحكم بالتخصيص في جميع تلك الأقسام، و يمكن أن يجعل هذا أصلا محاوريا،و ليس في البين قاعدة معتبرة كلية عند دوران الأمر بين النسخ و التخصيص تعين أحدهما إلا هذا،فيقال الأصل عدم النسخ مطلقا إلا إذا ثبت بدليل قطعي لا سيما في أحكام الشريعة الأبدية،و هذا الأصل أقوى من أصالة عدم التخصيص،لما مرّ من كثرة التخصيص،فأصالة عدم النسخ بمنزلة الأصل الموضوعي،و أصالة عدم التخصيص كالأصل الحكمي في تقدم الأول على الثاني.

و ما قيل:من أنه إذا تأخر زمان صدور الخاص عن العام يتعين النسخ،لأن الخاص بيان للعام،و مع التأخر يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح.

مدفوع:

أولا:بأن تأخير البيان القبيح إنما هو في ما إذا علم أن المقتضي له موجود من كل جهة و المانع مفقود كذلك،و أما مع عدم العلم به فلا محذور فيه،بل قد يجب ذلك،فكيف بما إذا علم بالعدم؟!و قد جرت سيرة العقلاء أنهم يجعلون القوانين العامة ثم يذكرون مخصصاتها في طول شهور بل أعوام،هذا حال القوانين الوضعية الزائلة فكيف بالقوانين الأبدية التي يختلف الحكم فيها باختلاف الموضوعات و الأحوال مع أن موجبات تأخير البيان كثيرة جدا، كقصور الظروف،و الأفهام و التقية و نحو ذلك.

و ثانيا:أن الناسخ بيان أيضا للمنسوخ كالخاص،غاية الأمر أن الخاص بيان لأفراد العام،و الناسخ بيان لأزمانه،فلا فرق فيهما من هذه الجهة،فالنسخ تصرّف في المنسوخ زمانا،و التخصيص تصرّف في العام فردا،مع اشتراكهما في جامع البيانية.

و أما ما قيل:من أنه إذا ورد العام أو الخاص قبل حضور وقت العمل بالآخر،يتعين التخصيص و لا يصح النسخ حينئذ،لعدم صحة النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ.

فهو فاسد:لأن الغالب في النسخ و إن كان بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ و لكن ليس ذلك من مقوماته الذاتية بحيث يقبح بدونه،بل المناط كله وجود مصلحة فيه،سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ،أو في أثنائه، أو بعده.

ثم إن المعروف في الثمرة بين النسخ و التخصيص،أن أثر التخصيص خروج الخاص عن حكم العام رأسا،و النسخ ارتفاع الحكم عن المنسوخ من حين ظهور النسخ.و إثبات الكلية لهذه الثمرة يحتاج إلى الدليل،و هو مفقود.

و مما لا مناسبة له بالاصول ما تعرض له القوم في المقام و هو مسألتا النسخ و البداء،و لا بد أن ينقح الكلام فيهما في غير المقام،و إنما تعرضنا لهما تبعا لهم.

مما تعارف في جميع القوانين النسخ-و قد اصطلح عليه في ما قارب هذه الأعصار ب‍(إلغاء القانون)،و لم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف بين البشر من الكيفيات و الخصوصيات-من العام و الخاص،و المطلق و المقيد،و المجمل و المبين،و الناسخ و المنسوخ إلى غير ذلك-و لو قيل بأن هذه الامور من لوازم جعل القانون لم يكن به بأس-.فلا ريب في وقوعه،و قد دلّت الأدلة الثلاثة من الكتاب و السنة و الإجماع عليه في الجملة أيضا،و إنما الكلام في حقيقته و عمدة الوجوه المحتملة فيه خمسة:

الأول:ظهور خلل في الحكم المنسوخ،و علم مستأنف ببعض خصوصياته مسبوقا بالجهل،بحيث لو علم به ابتداء لم ينشأ الحكم المنسوخ البتة.

الثاني:إبداء القانون بصورة الدّوام لمصلحة في نفس الأمر،أو من دون مصلحة في المجعول و المتعلق،بل لمحض المصلحة في الإنشاء الصوري فقط،ثم تبدل المصلحة الظاهرية بمصلحة اخرى واقعية في المتعلق تقتضي نسخ ما أنشأ أولا،نظير التكاليف الصورية الامتحانية.

الثالث:كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحدّ خاص في الواقع و لكن انشأ في صورة الدوام لمصلحة في ذلك،فليس في الحقيقة نسخ بالنسبة إلى شيء و إنما أظهر ثانيا أن الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حدّه،ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة اخرى يقتضيها الوقت،و تبدل المصالح و المفاسد بحسب الظروف و المقتضيات و الحالات مما يشهد بصحته الوجدان و البرهان.

الرابع:كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات،و مقتضية للدوام أيضا كذلك،ثم تبدلت تلك المصلحة باخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول و نسخه،فيكون النسخ تخصيصا زمانيا،و التخصيص-المصطلح عليه-تخصيصا فرديا.

الخامس:كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك،و إنما انشأ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان الحكم الناسخ في ظرفه.

و كل هذه الوجوه صحيحة في النسخ في القوانين المجعولة،و في نسخ اللّه تعالى لأحكامه المتعالية في شرائعه المقدسة إلا الوجه الأول،فإنه مستحيل بالنسبة إليه تعالى،و إن كان هو الغالب في القوانين المجعولة.

و لكن لا محذور في صحة استناد البقية إلى اللّه تعالى من عقل أو نقل إلا شبهة واهية،و هي:أنه إن علم اللّه تعالى بأنه يرفع المنسوخ فلا وجه لإظهاره في صورة الدوام،و إن لم يعلم فهو مستلزم لجهله تعالى و هو محال،مع أنه إن كانت في المنسوخ مصلحة فلا وجه للنسخ،و إن لم تكن فيه مصلحة فلا وجه لجعله حتى ينسخ.

و لكنه مردود:بأنه تعالى يعلم بالنسخ بلا إشكال،إلا أنه اقتضت المصلحة لإظهاره بصورة الدوام و لا محذور فيه،و منه يعلم أنه كانت في المنسوخ مصلحة موقتة تختلف باختلاف المقتضيات و الجهات.

و بعبارة اخرى:دليل الناسخ كاشف عن أن المنسوخ كان موقتا في الواقع و إنما ذكر بصورة الدوام لمصلحة،بلا فرق بينه و بين سائر الموقتات،إلا أن التوقيت في النسخ كان بتعدد الدال و المدلول،و في غيره من الموقتات يمكن أن يتكفل دليل واحد لذلك،و إن شئت فقل:إن التوقيت في سائر الموقتات بجعل واحد،و في النسخ بتعدد الجعل.

ثم إنه لا يخفى أن النسخ في الشرائع الإلهية بالنسبة إلى اصول الدين قليل جدا،بل لا وجه له،و كذا بالنسبة إلى الفطريات العقلية التي كشف عنها الشارع، و كذا بالنسبة إلى مهمات فروع الدين-من الصلاة،و الصوم،و الزكاة و نحوها- و إنما التغيير في جزئيات قليلة تقتضيها الظروف و الأزمان،فتبدل الأحكام و الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في الشريعة الختمية من الصحة و المرض،و فقد بعض الشرائط و وجدانه.فما قيل:إن الأصل في كل شريعة أن ينسخ ما قبلها.

ساقط لا أساس له أصلا.و قد فصّلنا القول فيه في التفسير فراجع.

و هو وجداني لكل فاعل مختار،و قد دل الكتاب الكريم،و السنّة المستفيضة على ثبوته بالنسبة إلى اللّه تعالى أيضا.قال تعالى: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ،  و في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«ما عبد اللّه بمثل البداء،و ما بعث اللّه نبيّا إلاّ بالإقرار بالبداء».

و حقيقته تجدد الاختيار للفاعل المختار لمصلحة،و ليس متقوّما بالجهل و الندامة و إن تحققا بالنسبة إلى بداء غيره عزّ و جلّ،كما أن السميع و البصير بمعنى العلم بالمسموعات و المبصرات و ليسا متقوّمين بالجارحة الخاصة و إن تقوّما بها في السمع و البصر الحيوانيين،و لا ريب في صحة إطلاقهما عليه عزّ و جلّ مع امتناع الجارحة بالنسبة إليه تعالى،و كذا لا ريب في صحة الإطلاق على ما نرى و نسمع في النوم مع تعطيل السمع و البصر فيه عن العمل.

و لا إشكال في أن البداء من صفات الفعل،كالإرادة،و المشيئة،و القضاء و القدر.فهو تبديل لما وقع من القضاء،لا أن يكون في مرتبة الذات و لا العلم حتى يستلزم التغيير في الذات و هو محال.و اشكل على البداء للّه تعالى بوجوه:

الأول:أن البداء يستلزم الباطل،لأنه تعالى إن علم بأنه سيبدو له و مع ذلك قضى بشيء فهو لغو،و هو قبيح،و القبيح محال بالنسبة إليه تعالى.و إن لم يعلم فهو جهل،و هو أيضا محال عليه عزّ و جلّ.

و يرد عليه:أنه تعالى عالم بأنه سيبدو له و مع ذلك قضى بالقضاء الأول ثم نقضه و قضى بالقضاء الثاني،لمصالح كثيرة في كل منهما،منها ترغيب الناس إلى الدعاء و الأعمال الصالحة و التحذير عن الأعمال السيئة التي لها آثار في تنقيص الأعمار و حبط ثواب الخيرات و قطع الأرزاق و غير ذلك،و منها أنه تعالى كل يوم-بل كل آن-في شأن،و لم يفرغ من الأمر،و ليست يده مغلولة كما قال به اليهود.

الثاني:أنه إن كانت مصلحة القضاء الأول محدودة بحدّ خاص به فلا وجه لتغييره،و إلا فلا وجه للقضاء الأول بذلك الحدّ.

و يرد عليه:

أولا:أنها كانت بالنسبة إليه تعالى لا اقتضاء فيصح معه القضاء الأول.

و ثانيا:أنها كانت محدودة بذلك الحد الخاص لو لم تعرض مصلحة أقوى،و قد تحققت فتبدل القضاء لا محالة.

الثالث:بأنه مستلزم لتكذيب الرسل و عدم اعتماد الناس على إخبارهم بالمغيبات.

و فيه:بعد النقض بالنسخ في الأحكام،أن الإخبار بالمغيبات مع تلقين الأنبياء لاممهم صحة البداء بالنسبة إلى اللّه تعالى،لا يستلزم التكذيب لفرض

التفات الناس إلى البداء.أما قبل إخبار الأنبياء بالمغيبات أو بعده فلا مورد للتكذيب أصلا،فيكون الإخبار بالمغيبات على نحو الاقتضاء لو لا البداء،كإخبار الطبيب بشفاء المريض مثلا لو ساعدت المقادير.

ثم إنه لا ريب في عدم صحة تعلّق البداء بالممتنعات،لاشتراط كون مورده مقدورا مقضيا و هما من أسباب الفعل الخارجي،و لا خارجية بالنسبة إلى الممتنعات،و لا قضاء و لا تقدير بالنسبة إليها،و كذا لا بداء بالنسبة إلى كليات العوام-كانقلاب كرة الشمس مثلا-و إنما مورده ما يتعلّق بالناس من حيث دخل عملهم فيه خيرا كان أو شرا.و بالجملة مقتضى الأصل عدمه إلا في ما دلت عليه النصوص،فيكون مورد البداء خصوص بعض الممكنات في الجملة.

هذا،و قد اجيب عن شبهة البداء بوجوه:

منها:ما تقدم من أنه تجدد الاختيار،و لا إشكال فيه ثبوتا و لا إثباتا.

و منها:أنه بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى خصوص هذا العالم لا جميع العوالم،كما في قوله تعالى: وَ مٰا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ  و قوله تعالى: حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ.  مع أن علمه الأزلي يتحقق بالنسبة إلى جميع الأشياء أزلا و أبدا،فقول:بدا للّه،أي ظهر له في هذا العالم ما لم يكن ظاهرا،و لا ينافي ذلك ظهوره له في سائر العوالم و المراتب.و في البداء أبحاث اخرى ليس هنا محل ذكرها.

هذا ما يتعلّق بالبداء إجمالا.و أما ما يتعلّق بلوحي المحو و الإثبات الذين هما محور البداء،فلا يعلم حقيقتهما و خصوصياتهما و كيفية الثبت و المحو و غير ذلك مما ينوط بهما إلاّ خالقهما أو من أفاض عليه الخالق،و التفصيل يطلب من محله.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"