1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. تهذیب الاصول
  8. /
  9. الفصل الرابع الاستصحاب

و هو من الاصول المعتبرة الجارية في تمام أبواب الفقه.و قد عرّف بتعاريف جميعها تشير إلى المعنى المعهود،و ليست بحدود حقيقية منطقية،فلا وجه للإشكال عليها بالنقض و الإبرام،و لعل الأولى الإشارة إليه:بأنه«إسراء أثر ما يعتذر به سابقا إلى زمان الشك فيه».

 و لا بد من تقديم امور:
الأول:الفرق بين المسألة الأصولية و الفقهية،و القاعدة الفقهية

الأول:قد تكرر في هذا الكتاب أن المسألة الاصولية الكبرى الكلية التي تستنتج منها الأحكام،كقول:«كل أمر ظاهر في الوجوب»،فإنه بضميمة أن«هذا أمر و كل أمر ظاهر في الوجوب»يستنتج منه الوجوب لا محالة.و كذا في سائر مسائله من أوله إلى آخره.و القاعدة الفقهية ما يبحث فيها عما يتعلّق بالإنسان من حيث الوظيفة الشرعية،و لا يختص بباب دون باب،كقاعدة نفي الحرج، و الضرر و غيرهما من القواعد العامة،و قد تطلق القاعدة على ما يختص بباب خاص أيضا،كقاعدة«لا تعاد الصلاة إلا من خمس»،و«لا شك لكثير الشك» و نحوهما مما هو كثير و لا مشاحة في الاصطلاح.

و المسألة الفقهية ما يبحث فيها عمّا يتعلّق به و تختص بباب خاص، كوجوب الصلاة مثلا،و قد تطلق على ما لا يختص بباب،كوجوب الوفاء بالعقود الجارية في جميع أبواب المعاملات مطلقا،و وجوب أداء حقوق الناس الجارية في الزكاة و الفطرة و الخمس و المعاوضات و النفقات و الديات و غيرها.

و لا يبعد أن يقال إن القاعدة الفقهية ما لوحظت فيها جهة الكلية في الجملة و إن اختصت بباب،و المسألة الفقهية ما لم يلحظ فيها ذلك و إن لم تختص بباب، و حيث أن الاستصحاب فيه ملاك الأصل و الأمارة و القاعدة الفقهية صار برزخا بين الجميع،و يصح انطباق تعريف الجميع عليه،فيصح جعله في كل بحث من مسائله،كما في كثير من مسائل علم الاصول.حيث يكون فيها ملاك جملة من العلوم.

و الظاهر أن الاستصحاب الجاري في الموضوعات من المسائل الفقهية، و في الأحكام يمكن أن يكون من المسائل الاصولية،لصحة وقوعه في طريق الاعتذار،و حينئذ يمكن أن يكون أمارة إذا لوحظ حصول الظن النوعي منه بنحو الحكمة لا العلة،و يمكن أن يكون أصلا إذا قطع النظر عن ذلك،فراجع المطولات لعلك تجمع بذلك بين شتات الكلمات،فليس الاستصحاب إلا مثل جملة كثيرة من المسائل الاصولية التي يصح أن تكون مجمعا لعناوين كثيرة.

 الثاني:الفرق بين الاستصحاب،و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع

الثاني:لا ريب في اعتبار تحقق اليقين و الشك في الاستصحاب،و قاعدة المقتضي و المانع،و قاعدة اليقين-المعبر عنها بالشك الساري أيضا-و الأول معتبر بخلاف الأخيرين.و خلاصة الفرق بينها أن متعلّق اليقين و الشك إما أن يتعدد وجودا أو لا،و على الثاني إما أن يسري الشك إلى اليقين و يزيله أو لا.

و الأول قاعدة المقتضي و المانع،و تأتي الإشارة إلى أقسام المقتضي في الأمر اللاحق.

و الثاني قاعدة الشك الساري.

و الثالث الاستصحاب.

و يكفي في عدم اعتبار الأولين الأصل بعد عدم دليل عليه من السيرة و الأخبار و الإجماع،لما يأتي من ظهور الأخبار في الاستصحاب دون غيره، و الشك في الشمول لغيره يكفي في عدم جواز التمسك بها،لأنه حينئذ من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.

 الثالث:للاستصحاب أقسام مختلفة
 منها:بحسب زمان اليقين و الشك

فتارة:يكون زمان اليقين و المتيقن سابقا،و زمان الشك و المشكوك فيه لاحقا و هو الغالب في الاستصحابات المتداولة.

و اخرى:يكون زمان حدوث اليقين و الشك واحدا مع كون زمان المتيقن سابقا و زمان المشكوك لاحقا،كما إذا علم فعلا بأن الماء كان كرا في الأمس و شك فعلا أيضا في كريته.

و ثالثة:يكون زمان حدوث الشك سابقا و زمان حدوث اليقين لاحقا مع سبق زمان المتيقن على زمان حدوث الشك،كما إذا شك فعلا في طهارة الماء ثم حصل له اليقين بأنه كان طاهرا قبل حدوث الشك.

و الحق اعتبار الاستصحاب في هذين القسمين أيضا لوجود المقتضي و فقد المانع،إذ المناط كله في اعتباره اختلاف زمان وجود المتيقن و المشكوك مع تقدم الأول على الثاني،سواء اختلف زمان حصول اليقين و الشك أم اتحد، و على الأول سواء سبق زمان حصول الشك أو كان بالعكس.

و رابعة:يكون زمان المشكوك فيه سابقا و زمان المتيقن لاحقا،و يعبّر عنه بالاستصحاب القهقرى،و لا دليل على اعتباره لا من الشرع و لا من بناء العقلاء.

 و منها:بحسب منشأ الشك بين المقتضي و الرافع و الغاية، و تعريف المقتضي

و منها:تقسيمه من جهة منشأ الشك،فإنه إما في المقتضي،أو في الرافع، أو في الغاية.و المقتضي عبارة عن مقدار قابلية الشيء للبقاء،سواء كانت القابلية تكوينية أو تشريعية،أي ملاك المجعول أو حكمة نفس الجعل ثبوتا، المستكشف ذلك كله بالأدلة الشرعية أو الاستظهارات العرفية،و لا ريب في شمول الشك في المقتضي للجميع.و ما عن بعض من اختصاص اصطلاح الشك في المقتضي بخصوص المقتضي الإثباتي-أي:ما يستفاد في مقام الإثبات من الأدلة-لا وجه له ظاهرا،و إن كان لا مشاحة في الاصطلاح.

 أقسام المقتضي،تعريف الرافع و الفرق بيته و بين المانع

و ملخص القول في المقتضي:أنه على أقسام ثلاثة..

الأول:مجرد الاقتضاء الواقعي من دون تحقق ما فيه الاقتضاء خارجا، كما إذا أراد أن يتوضأ-مثلا-ثم بعد مدة شك في أنه حصل له مانع عن إرادته أو لا،و هذا هو موضوع قاعدة المقتضي و المانع التي ذهب المشهور إلى عدم اعتبارها.

الثاني:ما إذا تحقق ما فيه الاقتضاء في الخارج و أحرز بدليل معتبر بقاء اقتضائه مدة خاصة،و شك في أثناء تلك المدة في أنه هل حصل رافع عن استمرار وجوده الخارجي أو لا،و هذا هو مورد الشك في الرافع بعد إحراز بقاء المقتضي.

الثالث:تحقق المقتضي في الخارج و عدم إحراز مقدار استعداد تحققه الخارجي،و دار بين القليل و الكثير بحسب ذاته،و هذا هو الشك في المقتضي الذي ذهب شيخنا الأنصاري قدّس سرّه إلى عدم جريان الاستصحاب فيه.

هذه خلاصة تطويلات القوم في المقام.

و الرافع:عبارة عما يوجب انعدام الموضوع أو الحكم مع إحراز إرسالهما و عدم التحديد لهما بحدّ مخصوص،و هو قد يشك في أصل وجوده،فيعبّر عنه بالشك في الرافع،و قد يشك في شيء أنه رافع أم لا،و يعبّر عنه بالشك في رافعية الموجود،و المانع أعم من الرافع،فإنه يطلق:

تارة: على ما يزاحم المقتضي عن أصل اقتضائه.

و اخرى: على ما يرفعه بعد تحققه و اقتضائه،فيتحد مع الرافع حينئذ.

 تعريف الغاية،تصادق الشك في المقتضي مع النسخ و الغاية في غير الشبهة الموضوعية

و الغاية:عبارة عن تحديد الحكم أو الموضوع في ظاهر الدليل بحدّ خاص معين،و الشك في حصوله يكون من الشك في الغاية.

ثم إن الشك في المقتضي قد يكون من حيث الشبهة الموضوعية،و قد يكون من الشبهة المفهومية أو الحكمية،و الظاهر تصادق الأخيرتين مع الشك في النسخ و الغاية في الجملة.

 و منها:تقسيمه بحسب الدليل الدال على المستصحب فإنه

تارة:يكون هو الكتاب.

و اخرى:السنة.

و ثالثة:الإجماع.

و رابعة:العقل.

 و منها:تقسيمه بحسب المستصحب،

فإنه إما وجودي أو عدمي،أو كلي أو جزئي،أو تكليفي أو وضعي إلى غير ذلك،و يأتي إن شاء اللّه تعالى أن الحق اعتباره مطلقا فلا وجه للتطويلات مع أن جلّها لو لا كلها بلا طائل.

 الرابع:إن كان الدليل على المستصحب هو العقل

،و استكشف حكم الشرع منه بقاعدة الملازمة،قد يشكل حينئذ في صحة الاستصحاب،لأن العقل لا يحكم بشيء إلا بعد الإحاطة بوجود جميع المقتضيات و فقد جميع الموانع، فمع تحقق ذلك كله يحكم و مع العدم لا حكم له،فلا يتصور الشك في حكمه و الاستصحاب متقوّم بالشك،فلا موضوع له حينئذ لا بالنسبة إلى نفس حكم العقل و لا بالنسبة إلى حكم الشرع المستفاد منه بقاعدة الملازمة،لعدم تمامية الملازمة مع عدم حكم العقل.

هذه خلاصة دليل من منع عن استصحاب حكم العقل أو الشرع المستند إليه.

و فيه..أولا:أن ما يتصور الشك فيه من حكم العقل إنما هو ما إذا كان دقيا حقيقيا من كل جهة،و كانت جميع الخصوصيات الملحوظة مقوّمة لموضوعية الموضوع شرعا أيضا،و الظاهر أنه لا يوجد لذلك مثال في الأحكام الشرعية لابتناء جميعها على العرفيات المتعارفة بين الناس.و أما إذا كان المراد بحكم العقل ما تطابقت عليه آراء العقلاء في معاشهم و معادهم،فلا ريب في تصور الشك فيه عندهم،فيتحقق موضوع الاستصحاب حينئذ في حكم العقل.و كذا في حكم الشرع المستفاد منه.

و ثانيا:لا ملازمة بين الشك في حكم العقل و عدم تصوره في حكم الشرع المستفاد منه،لأن قاعدة الملازمة إنما تدل على تبعية حكم الشرع لحكم العقل ثبوتا في الجملة،و أما كون موضوعه تابعا لموضوع حكم العقل من كل حيثية و جهة و بقاء أيضا،فلا دليل عليه بل الظاهر خلافه،لأن سهولة الشريعة المقدسة و سماحتها تقتضي التسهيل في موضوع حكمه و أوسعيته من موضوع حكم العقل.

 الخامس:قد فصل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في الرافع فيعتبر

و بين الشك في المقتضي فلا يعتبر.

فإن كان هذا التفصيل لقصور الإطلاق و العموم عن شمولها،فهو خلاف الظاهر.و إن كان لوجود مانع في البين فليس ما يصلح للمانعية،و يأتي ما تعرض له الشيخ قدّس سرّه من استظهار الاختصاص من مادة النقض،و يأتي الجواب عنه إن شاء اللّه تعالى.

كما أن التفصيل بين العدميات و الوجوديات،فيعتبر في الاولى دون الثانية لا وجه له أيضا،فإن الاتفاق على اعتبار جملة من الاصول العدمية،كعدم القرينة و التخصيص،و المزاحم،و السهو و الغفلة و نحوها مما اتفق عليها الكل لا ينافي شمول الإطلاق و العموم للوجودية أيضا،فالمناط تنقيح أصل الكبرى الشاملة للجميع.

بل يجرى في الأعدام الأزلية أيضا،لعموم ما سيأتي من الدليل و فقد المانع.

و العدم الأزلي عبارة عن العدم السابق على الأشياء مطلقا،لأن كل موجود حادث يكون مسبوقا بالعدم و إلا لا يكون حادثا،بل يتصف بالقدم.

و الفرق بينه و بين العدم النعتي أن الثاني ملحوظ بالإضافة إلى الغير و وصفا له دون الأول،فإذا لوحظت الملكية مثلا بالنسبة إلى موضوع خاص و شككنا في عروضها له،يجرى عدم الملكية له و يسمى هذا بالعدم النعتي (الوصفي)،و إذا أجرينا أصالة عدم تحقق الملكية مطلقا بحسب ذاتها يسمى هذا بالعدم الأزلي،أي مفاد ليس التامة،أو العدم الذاتي.

فينطبق على المورد أيضا انطباق الطبيعي على أفراده،و لا إشكال فيه من عقل أو نقل.

و لكن أشكلوا عليه بأنه من الاصول المثبتة،و هي غير معتبرة،و هو ساقط، لأن انطباق الطبيعي على الأفراد ذاتي لا واسطة فيه حتى يقال بالاثبات،و كذا بالنسبة إلى مفاد كان التامة،أي كان الشيء مسبوقا بالوجود،فيجرى استصحابه و ينطبق على المورد لا محالة بلا محذور في البين،و التعرض بأكثر من ذلك إخراج للبحث عن موضوعه و إدخاله في موضوعات أخرى.

 التفصيل بين الموضوعات و الأحكام و الجواب عنه

كما أن التفصيل بين الموضوعات،فيعتبر فيها،و بين الأحكام الكلية فلا يعتبر.

مردود أيضا،إذ لا وجه للاختصاص إلا دعوى:أن الأحكام الكلية ليست إلا الصور الذهنية،و الأثر الشرعي مترتب على الخارج دون الذهن.أو دعوى أنها معارضة باستصحاب عدم الجعل.

و يرد الاولى:بأن الصور الذهنية ملحوظة طريقا إلى الخارج لا بقيد الذهن،مع أن الأحكام الكلية اعتبارات صحيحة عرفية عقلائية،لها نحو تحقق اعتباري في عالم الاعتبار،و هذا النحو من الوجود منشأ للأثر و هو يكفي في الاستصحاب.

و يرد الثانية:بأن العلم الإجمالي بنقض استصحاب العدم في الأحكام الابتلائية يمنع عن جريانه فيها.فالحق اعتباره مطلقا من غير تخصيصه بمورد أبدا،لوجود المقتضي و فقد المانع.

 الأول:دعوى الإجماع

و لكنه راجع إلى بناء العقلاء،فليس دليلا مستقلا في مقابله،و ليس من الإجماع التعبدي لمعلومية المدرك،مضافا إلى كثرة الخلاف.

 الثاني:إن سبق الثبوت يوجب الظن بالبقاء

و فيه:أنه ممنوع صغرى و كبرى.

 الثالث:بناء العقلاء،لأن الشك عندهم

تارة:بدوي،و المرجع فيه بعد الفحص البراءة.

و اخرى:من أطراف العلم الإجمالي،و قد استقر بناؤهم على الاحتياط فيه ما لم يكن مانع عنه في البين.

و ثالثة:مسبوق بالثبوت و التحقق،و استقر بناؤهم فيه على الأخذ بالحالة السابقة ما لم تكن قرينة على الخلاف،سواء حصل لهم الظن بالبقاء أو لم يحصل،و في مثل هذه السيرة العامة البلوى يكفي عدم ثبوت الردع و لا نحتاج إلى الإمضاء،مع أنه قد ثبت أيضا بما يأتي من الأخبار.

و توهم:إن ما ورد كتابا-كما مر-و سنة من النهي عن اتباع غير العلم رادع عنها.

مردود:لما تقدم غير مرة أن المراد بغير العلم في الكتاب و السنة ما لا يعتمد عليه العقلاء،دون ما يعتمدون عليه في معاشهم و معادهم.فما عن صاحب الكفاية من صلاحيته للردع في المقام مع ذهابه إلى العدم في الخبر

الموثوق به تهافت،كما هو واضح.

 الرابع:جملة من الأخبار:

الأول:مضمر زرارة:

و لا يضرّه الإضمار،لأن مثله لا يسأل إلا من المعصوم عليه السّلام«قلت له: الرجل ينام و هو على وضوء،أ توجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ قال عليه السّلام:يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن،فإذا نامت العين و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء.قلت:فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم. قال عليه السّلام:لا حتى يستيقن أنه قد نام،حتى يجيء من ذلك أمر بيّن و إلا فإنه على يقين من وضوئه،و لا ينقض اليقين أبدا بالشك و لكن ينقضه بيقين آخر». و سوقه يشهد بأنه عليه السّلام في مقام بيان قاعدة كلية و ضابطة عامة تجري في جميع الأبواب بلا شبهة و ارتياب.

و اشكل عليه بوجوه:

الأول:أن جواب الجملة الشرطية في قوله:«فإن حرّك»غير معلوم،فهو مجمل،لأنه إن كان كلمة«لا»،أو جملة(فإنه على يقين)فهو خلاف مصطلحات الأدباء من لزوم كون الجزاء جملة فعلية.و إن كان جملة(و لا ينقض)فهو أيضا خلاف ما تسالموا عليه من عدم تصدر الجزاء بالواو.

و فيه..أولا:أنه لا ملزم لمراعاة ما قاله الأدباء في كلمات سادات الفصحاء،بل لا بد و أن يكون الأمر بالعكس.

و ثانيا:أنه لا يضرّ بالاستدلال،إذ الجواب معلوم على كل حال،فإنه مستفاد من سياق الكلمات،و هذا شائع في المحاورات،فالجواب سياقي لا أن يكون لفظيا،و هذا من أسرار البلاغة،كما هو واضح،مع أن الإشكال اللفظي لا موضوع له بعد معلومية المراد منه عرفا.

الثاني:أن الألف و اللام في لفظ«اليقين»للعهد،فلا يستفاد منه العموم بل يختص بخصوص مورده الذي هو الوضوء فقط.

و يرد عليه:

أولا:أن ظهور مدخولها في الجنسية قرينة عرفية على كونها للجنس أو الاستغراق.

و ثانيا:على فرض كونها للعهد،فهو ظاهر في أنه من باب تطبيق القاعدة الكلية على المورد لا الاختصاص به،فلا وجه لاستفادة الاختصاص أصلا.

الثالث:قد مرّ في مباحث الألفاظ أن المفرد المحلّى باللام يفيد العموم، كلفظ«اليقين»في المقام،و حيث أن النهي ورد عليه في قوله:«لا ينقض اليقين» يستفاد منه سلب العموم،و هو في قوة المهملة،كما ثبت في محله،فلا يدل على الكلية.نعم لو كان من عموم السلب يدل على الكلية،فتكون الأقسام ثلاثة: إحراز عموم السلب،إحراز سلب العموم،الشك في أنه من أيهما.و ما يستفاد منه العموم هو الأول فقط دون الأخيرين.

و فيه:أن هذا التقسيم إنما يجري في ما إذا لم يعلم أن العام سيق مساق جعل القانون الكلي و القاعدة الكلية الأبدية.و إلا فلا وجه لتوهم احتمال سلب العموم فيه.و قد أحرزنا في المقام بقرائن خارجية أن الجملة وردت لجعل القانون الكلي في جميع الموارد،و لا فرق في ذلك بين كون ما يستفاد منه العموم معنى اسميا أو حرفيا أو سياقيا،كما هو واضح.

 الثاني:مضمر زرارة الآخر:

«قلت:فإن ظننت أنه أصابه و لم أتيقن فنظرت فيه و لم أر شيئا فصلّيت فرأيت فيه.قال عليه السّلام:تغسله و لا تعيد الصلاة.قلت:لم ذلك؟!قال عليه السّلام:لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت،و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا».و اشكل عليها:

أولا:بأن المراد باليقين ما حصل بعد الفحص و النظر و عدم رؤية النجاسة،و لا ريب في سراية الشك إليه و زواله،فتكون دليلا على اعتبار قاعدة اليقين-أي الشك الساري-و هو خلاف المشهور.

و فيه:أنه لا قرينة فيها تدل على حصول اليقين بعد الفحص و النظر، و على فرض حصوله لا قرينة على أنه المراد،بل المتفاهم منها عرفا اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة،فلا وجه لاستفادة قاعدة اليقين منه،و على فرض الدلالة عليها تدل على اعتبار الاستصحاب بالفحوى.

و ثانيا:بأنه مع رؤية النجاسة بعد الصلاة في الثوب يكون من نقض يقين الطهارة السابقة باليقين بالنجاسة لا بالشك،فكيف يعلّل عدم وجوب الإعادة بأنه نقض لليقين بالشك،بل الإعادة تكون نقضا لليقين بالطهارة السابقة باليقين بوقوع الصلاة في النجاسة لا بالشك بوقوعها فيها.

و فيه:أن الوجوه المحتملة في رؤية نجاسة الثوب بعد الصلاة خمسة:

الأول:العلم بأنها قد حدثت بعد الصلاة،و لا ريب في صحة الصلاة و صحة الاستصحاب بالنسبة إلى اليقين و الشك قبل الصلاة.

الثاني:قد شك في أثناء الصلاة و لم يعلم بها المصلي إلا بعد الفراغ منها و تصح الصلاة أيضا،لأنه من صغريات الجهل و يصح الاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل الصلاة،كما مرّ في سابقه.

الثالث:التردد في أنها هي السابقة أو الحادثة بعد الصلاة أو في أثنائها و تصح الصلاة أيضا،للاستصحاب و لا شيء عليه.

الرابع:العلم بأنها هي النجاسة السابقة مع الغفلة حين الصلاة و الاعتماد على إحراز الطهارة بالاستصحاب تصح الصلاة،لأن الطهارة الخبثية شرط إحرازي لا واقعي،و المفروض أنه أحرز الشرط،و يصح الاستصحاب أيضا بالنسبة إلى ما قبل الصلاة و العلم بأن النجاسة عين النجاسة لا يضر بصحة الصلاة و الاستصحاب لفرض أن الشرط إحرازي لا واقعي.

الخامس:هذه الصورة مع التردد أو الالتفات إلى حالة حين الصلاة،فإن جرى الاستصحاب قبل الصلاة تصح لإحراز الطهارة الخبثية حينئذ بالأصل و إن لم يجر لأجل عدم اليقين السابق أو التردد فيه لا تصح الصلاة،لقاعدة الاشتغال.

إن قيل:نعم الطهارة الخبثية شرط إحرازي لا واقعي فليس فيها تبين الخلاف،و لكن لا بد من إحرازها حين الدخول في الصلاة،و في بعض الصور المذكورة لا إحراز في البين.

يقال:المناط إمكان فرض وجود الإحراز بحسب الموازين الفقهية،توجه إليه المكلف أو لا.و لا ريب في إمكان فرض وجود الإحراز،كما مرّ.

و أما إدخال المقام في صغريات أن الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء عند تبين الخلاف،و كون قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك»دليلا عليه،و هذا يصح حتى بناء على كون الطهارة شرطا واقعيا،لأنه تكون لنفس امتثال الأمر الظاهري حينئذ موضوعية خاصة طابق الواقع أو لا.فهو من مجرد الاحتمال الذي لا إشارة إليه في الصحيح بوجه.

 الثالث:صحيح زرارة:

«إذا لم يدر في ثلاثة هو أو أربع و قد أحرز الثلاث،قام فأضاف إليها ركعة اخرى و لا شيء عليه،و لا ينقض اليقين بالشك،و لا يدخل الشك في اليقين،و لا يختلط أحدهما بالآخر».

و اشكل عليه بأنه إن كان المراد بإضافة الركعة إتيانها موصولة فهو ينطبق على الاستصحاب،و لكنه خلاف ما استقر عليه المذهب من لزوم إتيانها مفصولة.و إن كان المراد إتيانها مفصولة و كون اليقين عبارة عما جعله الشارع مبرئا للذمة،فلا ربط له بالاستصحاب،كما في قول أبي الحسن عليه السّلام لإسحاق بن عمار:«إذا شككت فابن على اليقين».

و فيه:أن المراد هو اليقين بعدم إتيان الركعة فينطبق على الاستصحاب لا محالة،و مقتضاه صحة إتيانها موصولة،و لكن دلّ الدليل من الخارج على لزوم الإتيان بها مفصولة،و ذلك لا يضر بالاستصحاب أبدا.

 الرابع:قول أمير المؤمنين عليه السّلام:

«من كان على يقين فشك فليمض على يقينه،فإن الشك لا ينقض اليقين».

و اورد عليه:بظهور قوله عليه السّلام في سبق زمان اليقين على الشك و اختلافهما زمانا،فينطبق على قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

و فيه:أن ذلك أعم من قاعدة اليقين،لاختلاف زمان اليقين و الشك في الاستصحاب غالبا أيضا.

نعم،يصح فيه اتحاد زمان حدوثهما أيضا.مع أنه يعتبر في قاعدة اليقين اتحاد متعلّق الشك و اليقين و لا إشارة في الحديث إليه أبدا،فكيف يكون دليلا عليها.

 الخامس:المكاتبة:

«كتبت إليه و أنا بالمدينة عن اليوم الذي شك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟فكتب:اليقين لا يدخله الشك،صم للرؤية و افطر للرؤية»،بناء على أن المراد باليقين اليقين بعدم دخول شهر رمضان إن كان الشك في أوله،و عدم خروجه إن كان في آخره.و أما إن كان المراد اليقين بتحقق دخوله في مقابل الظن به فلا ربط لها بالمقام.و يشهد لذلك الأخبار الدالة على أن شهر رمضان لا يصام بالظن.

ثم إنه قد يدعى دلالة مثل قوله عليه السّلام:«كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام»،و«كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»على الاستصحاب،بدعوى:دلالة الحكم باستمرار ما ثبت إلى ظرف الشك.

و فيه:أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يصلح للاستدلال،كما يحتمل دلالته على الحكم الواقعي فقط،أو هو و الاستصحاب،أو هما و الحكم الظاهري،و لكن الكل من مجرد الاحتمال،و الظاهر منه الأخير،كما لا يخفى على الخبير.

هذه جملة من الأخبار التي استدل بها على الاستصحاب،و في بعضها كفاية لإمضاء السيرة العقلائية فضلا عن تمامها.

و لا بد بعد ذلك من التأمل في أن مورد السيرة عامة لجميع أقسام الاستصحاب أو تختص ببعضها دون بعض.مقتضى الوجدان هو الأول،فيشمل الشك في المقتضي و الرافع و الغاية،و هكذا إطلاق الأخبار شامل للجميع أيضا، فإذا عمت السيرة و لم يردع عنها رادع شرعي يكفي في عموم اعتبار الاستصحاب،فكيف بما إذا قررت بإطلاق أخبار الباب،فلا وجه بعد ذلك لإثبات الاختصاص بخصوص الشك في الرافع استظهارا من مادة النقض الواردة في الأخبار باختصاصها بما احرز فيه المقتضى و شك في الرافع،و أنها لا تشمل الشك في المقتضى،لأن النقض يرد على ما فيه الاستحكام في الجملة و هو متحقق مع إحراز المقتضي،و أما مع الشك فيه فلا استحكام في البين حتى يصح إطلاق النقض عليه.

و فيه..أولا:أن المتفاهم من قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك»خصوصا بقرينة قوله عليه السّلام:«و يتم على اليقين و يبني عليه و لا يعتد بالشك في حال من الحالات»هو ترتب أثر اليقين و تقديمه على الشك مطلقا،و قوله عليه السّلام:«و لا يعتد بالشك…»كالمفسر لقوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك»،و ظهور إطلاق المفسر (بالكسر)مقدم على احتمال الإجمال في المفسر(بالفتح).

و ثانيا:أنه لا ينحصر أن يكون الاستحكام المناسب لإطلاق النقض في خصوص إحراز المقتضي فقط،بل هناك شيء آخر يصح الإطلاق بلحاظه أيضا بل هو المتعين عرفا،و هو استحكام نفس اليقين و الحجة المعتبرة السابقة في مقابل الشك و التردد اللاحق،فكأنه عليه السّلام قال:اليقين و الحجة المعتبرة مستحكم، لا ينقض أثرهما بالشك و التردد.و لمكان الاتحاد الاعتباري بينهما و بين متعلّقهما يسري الاستحكام إليه أيضا،سواء كان من الشك في المقتضي أو في الرافع،و العرض على العرف أولى دليل لدفع هذه المناقشة،و مقتضى الإطلاق الشمول للجميع من الشك في المقتضي و الرافع،و الوجودي و العدمي، و التكليفي و الوضعي،و أما وجه عدم شمولها لقاعدتي الشك الساري، و المقتضي و المانع فقد تقدم سابقا،فراجع.

و لا بد من التنبيه على امور:

التنبيه الأول: انقسام الأحكام إلى تكليفية و وضعية

لا ريب في انقسام الأحكام المجعولة-بالمعنى الأعم من التأسيس و الإمضاء-إلى التكليفية و الوضعية.و الاولى ما يتعلّق بأفعال العباد بلا واسطة، و تنحصر في الخمسة-الواجب و الحرام و الندب و الكراهة و الإباحة-المعروفة. و الأخيرة بخلافها،و لها نحو تعلق بالاولى في الجملة،و المرجع في أقسامها اصطلاح الفقهاء،بل العقلاء.

و يمكن أن يقال:إن كل ما ليس بحكم تكليفي و له دخل فيه،أو في متعلقة،أو في موضوعه فهو حكم وضعي،فاكتفاء بعض بذكر السببية، و الشرطية و المانعية،أو بزيادة العلية،و العلامية،و الرخصة و العزيمة،أو زيادة الولاية و القضاوة أو نحوها-كما عن آخرين-ليس من جهة الحصر،بل من باب ذكر الغالب.

ثم إن البعث نحو الفعل-المعبر عنه بالوجوب-أو الترك-المعبر عنه بالحرمة-أو البعث نحو الفعل مع الإذن في الترك المعبر عنه بالندب،أو البعث نحو الترك كذلك المعبر عنه بالكراهة،أو الترخيص المطلق نحو الفعل و الترك و المعبر عنه بالإباحة،ليست مما تختص بشريعة دون اخرى،بل هي ثابتة في جميع الشرائع،بل في أفعال العقلاء و لو لم يكن التزام بشريعة أصلا،و تكون من الفطريات قررها الشرع.

نعم،تختلف متعلّقاتها باختلاف الشرائع،فرب شيء يكون واجبا في شريعة هو حرام في اخرى أو بالعكس،فأصل الأحكام الخمسة التكليفية من الاعتباريات الفطرية العقلائية لم يردع عنها الشرع،فكيف بالأحكام الوضعية -كالشرطية،و السببية،و المانعية،و الجزئية،و العلية،و العلامية،و القضاوة و الولاية و غيرها-مما كانت شائعة بين الناس ثم وردت الخطابات الشرعية مشتملة عليها،فاستفيدت منها السببية الشرعية و المانعية و نحوها.

ثم إنهم قد اختلفوا في الوضعيات،فمن قائل بأنها انتزاعيات محضة عن التكليفيات،و اختاره الشيخ الأنصاري قدّس سرّه و نسبه إلى المشهور أيضا و ادعى الوجدان في ذلك.

و فيه:

أولا:أنه لم تكن المسألة معنونة في كتب القدماء حتى يستظهر الشهرة فيه،مع أنه لا وجه لاعتبار هذه الشهرة الاجتهادية.

و ثانيا:دعوى الوجدان في نفي الجعل مطلقا حتى إمضاء،خلاف الوجدان،بل في الكتاب و السنة تصريح بالجعل استقلالا في مثل الخلافة و الإمامة و الحجية و نحوها قال تعالى: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً  ،و قال تعالى: إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ  و غيرهما من الآيات المباركة.

و أما دعوى:أنه لغو فلا وجه لها أيضا،لصحة ترتب الأثر الشرعي عليها من جريان الاستصحاب فيها و نحو ذلك،و قد أجرى نفسه قدّس سرّه الاستصحاب في جملة من الوضعيات،كما لا يخفى على من راجع كتبه الفقهية.

و من قائل بأنه لا جعل إلا للوضعيات.و التكليفيات منتزعة منها،و نسب ذلك إلى الفاضل التوني قدّس سرّه،و هو ظاهر الخدشة،كما لا يخفى.

و من قائل بالتفصيل بأن منها ما تكون مجعولة استقلالا بأسبابها الخاصة و لو إمضاء،كالملكية،و الزوجية،و القضاوة و الولاية،و الصحة و اللزوم،و الحجية و الطريقية و نحوها،و لا وجه للانتزاع فيها بعد صحة الجعل فيها ابتداء.

و منها:ما تكون منتزعة بحسب المتفاهم العرفي،كالشرطية و المانعية و الجزئية للمكلف به،لأنها مجعولة بنفس تشريع المكلف به و جعله،فإذا جعلت الصلاة المشتملة على الأجزاء و الشرائط و الموانع،يكون جعل الصلاة جعلا لها بالعرض،بلا احتياج إلى جعل مستقل بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط، كما أن التكليف النفسي المتعلق بالمركب انحلالي انبساطي بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط،فكذا المقام.

و يرد عليه:أنه يمكن أن يكون الجعل الثانوي لها لغرض التأكيد و التبيين و الاهتمام بها،فلا يكون ذلك لغوا.

و منها:ما لا تكون منتزعة عن التكليف و لا مجعولة و لو بالعرض،كالسببية و الشرطية لنفس التكليف.أما عدم صحة الانتزاع فلأن التكليف متأخر عنها لاقتضاء السببية و الشرطية تقدمهما على المسبب و المشروط،و لا يعقل انتزاعهما عن التكليف المتأخر عنهما ذاتا و حدوثا.و أما عدم صحة الجعل-و لو بالعرض-فلأن السببية أو الشرطية إنما هي لأجل خصوصية تكوينية تقتضي ذلك و مع وجود تلك الخصوصية لا أثر للجعل،إذ لا يحصل الأمر التكويني بالجعل التشريعي،و مع عدمها لا وجه للسببية أو الشرطية.

و فيه:أن الانتزاع عن المتأخر ليس من حيث وجود المتأخر بما هو متأخر ذاتا،بل إنما هو من حيث كونه طرف إضافة المنتزع،و لا ريب في أن المنتزع و المنتزع منه من الامور المتضايفة فيتحدان في الشأنية و الفعلية،فيصح الانتزاع من جهة شأنية المنتزع منه و كونه بالقوة بلا إشكال.و تقدم من هذا القائل نظير ذلك في مقدمة الواجب عند بيان الشرط المتأخر،فراجع.

هذا،و أما عدم الأثر للجعل ففيه أن نفس الخصوصية التكوينية من حيث هي لا تصلح للداعوية ما لم تتم بالجعل الشرعي،لعدم إحاطة العقول بالخصوصيات،و لا بد من الجعل الشرعي لتحقق الداعوية؛فهو لا بد منه من هذه الجهة لا محالة.هذا.

و يمكن أن يرتفع النزاع من البين و إن كان خلاف ظاهر الكلمات،بأن يقال إن من ينفي الجعل عن الوضعيات يريد الاستقلالية و الموضوعية المحضة،و من يثبته فيها يريد الأعم من التبعية و التقريرية،لأن جعل أحد المتلازمين ملازم لجعل الآخر و لو بالتبع،فيكون الجعل أعم من الإمضائي و التأسيسي و الاستقلالي و التبعي،و نتيجة ذلك صحة جريان الاستصحاب في الجميع،و لو انحصر مورد جريان الاستصحاب بخصوص مورد الجعل الاستقلالي الشرعي لبطل جريانه في جملة من الموارد المسلم جريانه فيها عندهم،فيكفي في مطلق الأثر الشرعي و لو بنحو الإمضاء،مع ترتبه على المستصحب بلا واسطة.

ثم إن من الوضعيات الرخصة و العزيمة.

و الاولى التسهيل و الترخيص في الفعل أو الترك،و تطلق على مجرد المشروعية أيضا.

و الثانية عبارة عن عدم المشروعية،و تطلق على الترك اللزومي أيضا.

 التنبيه الثاني: الكلام في الاكتفاء بالشك التقديري،مناقشة رأي من اكتفى بالشك و اليقين فقط

يعتبر في الاستصحاب الشك الفعلي،لأنه المتيقن من بناء العقلاء و المتفاهم من الأدلة اللفظية،فلا يكفي التقديري منه،فمن علم بالحدث و غفل عن حاله فصلّى و بعد الفراغ شك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا،لا يجري استصحاب الحدث قبل الصلاة حتى يحكم بالبطلان،لعدم فعلية الشك قبلها و إنما حدث بعد الفراغ منها،بل إنما تجري قاعدة الفراغ و تصح الصلاة.

إن قلت:المناط في جريان الاستصحاب تحقق اليقين و الشك،و هو ثابت في المقام،لأن اليقين بالحدث كان قبل الصلاة و الشك فيه متحقق بعدها، فيجري الاستصحاب و تبطل الصلاة.

قلت-أولا:أن أثر الشك في الاستصحاب لا بد و أن يكون بالنسبة إلى ما بعد حدوثه،فلا يشمل ما قبله.

و توهم:أنه يسري الشك إلى حين صدور الصلاة أيضا.

مدفوع:بأنه لا ينفع في جريان الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية الشك قبل الشروع فيها،و المفروض اعتبارها.

و ثانيا:أنها و إن جرت في الجملة و لكنها محكومة بقاعدة الفراغ.

نعم،لو قلنا بعدم جريان القاعدة،لأنه يعتبر في جريانها عدم العلم بالغفلة حين الشروع في العمل،وجب إعادة الصلاة،لقاعدة الاشتغال.

 التنبيه الثالث: المراد من اليقين في مورد الاستصحاب

ليس المراد باليقين في الروايات و الكلمات خصوص اليقين الوجداني المقابل لسائر الحجج المعتبرة،بل هو كناية عن كل حجة معتبرة،و كل ما يصح الاعتذار به،و إنما ذكر مثالا لكل ما يصح الاعتذار به،فكأنه قيل كل ما كنت تعتذر به في الحالة السابقة فابن عليه عند الشك في البقاء،يقينا كان أو أمارة معتبرة،أو أصلا موضوعيا أو حكميا،فيجري الاستصحاب في مورد الأمارات و الاصول مطلقا.

نعم،جريانها في مورد الاصول من قبيل لزوم ما لا يلزم،لكفاية نفس الشك في جريانها بنفسها،فلا وجه بعد ذلك لملاحظة الحالة السابقة و إجراء الاستصحاب إلا إذا ترتب عليه أثر آخر غير ما يترتب على نفس الشك،فلو كان المورد من موارد جريان أصل موضوعي،أو أصل حكمي من الاشتغال،أو البراءة،أو التخيير،يكفي نفس الشك في جريانها بنفسها من دون حاجة إلى عناية اخرى من ملاحظة الحالة السابقة،إلا إذا كان لها أثر خاص لا يترتب على نفس الشك.

 التنبيه الرابع:اقسام الاستصحاب باعتبار الجزئي و الكلي

لا ريب في شمول أدلة اعتبار الاستصحاب لما إذا كان المستصحب كليا، كشمولها لما إذا كان جزئيا،و المعروف أن استصحاب الكلي على أقسام ثلاثة، يجري استصحاب الكلي و الجزئي معا في أحدها،و يجري استصحاب الكلي فقط في آخر،و لا مجرى له أصلا في ثالث،لا استصحاب الكلي و لا الجزئي، على ما يأتي من التفصيل.

 الأول:ما إذا كان المستصحب جزئيا خارجيا،موضوعيا كان أو حكميا

، فكما يصح استصحاب نفس الجزئي يصح استصحاب الكلي المتحد معه وجودا،فمن بال ثم شك في أنه توضأ أو لا،يصح استصحاب الحدث الجزئي الخارجي البولي،كما يصح استصحاب كلي الحدث أيضا.لأن كلا منهما عين الآخر وجودا و إن اختلفا مفهوما.

 الثاني:ما يجري فيه استصحاب الكلي دون استصحاب الفرد و الجزئي

و هو ما إذا لم يكن المستصحب متشخصا خارجا،بل كان بحسب حدوثه مرددا بين فردين و لم يعلم أن ما حدث في الخارج أي منهما،كالرطوبة الحادثة المرددة بين البول و المني،و كما في موارد العلم الإجمالي عند ارتفاع أحد الطرفين،فالاستصحاب في هذا القسم إن أجري في الشخص و الجزئي الخارجي من حيث إنه كذلك،فلا وجه له،لعدم اليقين السابق بحدوث الجزئي متشخصا بالبولية أو المنوية،و إن أجري في المردد بين الفردين من حيث الترديد فلا وجه له أيضا،لأن المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له خارجا بل و لا ذهنا أيضا،و إنما هو من المفروض العقلية،كفرض الممتنعات،لأن التحقق مطلقا مساوق للتشخص،-كما ثبت في محله-و ما لا تحقق له أصلا كيف يتعلق اليقين به،و لو فرض صحة تعلقه به ذهنا لا ينفع لجريان الاستصحاب أيضا،لأنه لا بد فيه من تحقق موضوع الأثر الشرعي تحققا خارجيا،و لا يكفي التحقق الفرضي،فينحصر الاستصحاب الصحيح في استصحاب كلي الحدث،للعلم بتحققه إما في ضمن الفرد الأصغر،أو الأكبر،فحدوث كلي الحدث معلوم بلا كلام و بعد الوضوء يشك في ارتفاعه فيستصحب بقاءه،فيجب عليه الغسل أيضا،فالمقتضي لجريان الاستصحاب في الكلي موجود و المانع عنه مفقود فتجري لا محالة.

إن قلت:لا مجرى لاستصحاب الكلي أيضا لعدم اليقين السابق،بالنسبة إليه أيضا،لأن الكلي عين الفرد،و تقدم عدم اليقين بتحقق شخص خاص من الفرد،و عدم الأثر لليقين بتحقق الفرد المردد في الذهن لو أمكن ذلك.

قلت:لا ريب في أن الكلي عين الفرد،و لكن الفردية متقوّمة بشيئين: الذات المشتركة في جميع الأفراد المتحققة،و الخصوصية التي يتميّز بها كل فرد عن الآخر،و ما لا يقين به هو الثاني دون الأول،فإن حدوث أصل الحدث في المقام معلوم بلا كلام.

إن قلت:نعم،و لكن لا يجري الاستصحاب في الكلي من جهة عدم الشك اللاحق و لو تحقق اليقين السابق بالنسبة إليه،لأن في الرطوبة المرددة بين البول و المني بعد أن توضأ،يعلم حينئذ بارتفاع الحدث الأصغر،و يشك في أصل حدوث الأكبر،فتجري أصالة عدم حدوثه،فيرتفع الشك في بقاء الكلي، لأن الأصل الجاري في السبب مقدم على الأصل الجاري في المسبب،كما يأتي، فلا يبقى موضوع لجريان الأصل في الكلي.

قلت يرد عليه:

أولا:عدم السببية و المسببية في المقام،لتوقفهما على تحقق المغايرة الوجودية،و ليس بين الكلي و الفرد تغاير وجودي أصلا،بل هما واحد وجودا و إن اختلفا مفهوما في العقل.

و ثانيا:الأصل السببي يقدم على المسببي إن كان الترتب بينهما شرعيا، كما في الماء المشكوك الكرّيّة،و الثوب المتنجس المغسول فيه،فإن باستصحاب كرية الماء ترتفع نجاسة الثوب شرعا،و المقام ليس كذلك،فإن وساطة تحقق الفرد لتحقق الكلي تكويني محض و لا دخل للشرع فيه أصلا.

و ثالثا:أصالة عدم حدوث الحدث الأكبر معارضة بأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر،فتسقطان بالمعارضة.

إن قلت:لا كلية لاستصحاب الكلي،فإن من آثار استصحاب كلي النجاسة انفعال الملاقي لها،و لا يحكمون بترتب هذا الأثر في ما إذا علم إجمالا بنجاسة العباء مثلا،و ترددت بين كونها في الطرف الأعلى أو الأسفل ثم تطهر أحد الطرفين،إذ لا ريب في صحة استصحاب كلي النجاسة بعد ذلك و أثر الاستصحاب نجاسة الملاقي للعباء مع الرطوبة المسرية مع أنهم لا يقولون بها، لما تقدم من أن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة،فلا بد إما من القول بعدم صحة استصحاب كلي النجاسة أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة،و كل منهما خلاف المعروف بين الفقهاء،و قد اشتهرت هذه الشبهة بالشبهة العبائية.

قلت:أثر استصحاب كلي النجاسة إنما هو عدم صحة الصلاة في العباء، و أما انفعال الملاقي فليس أثرا لها،لتوقف الانفعال على الملاقاة للنجس المتشخص الخارجي،لما تقدّم في البحث عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة،و باستصحاب كلي النجاسة لا تثبت النجاسة في محل خاص أو موضع مخصوص حتى ينفعل الملاقي له،فالمقتضي لاستصحاب أصل النجاسة موجود و المانع عنه مفقود و أثرها عدم صحة الصلاة،و لكن لا مقتضى لانفعال الملاقي لتوقفه على الملاقاة للنجاسة الشخصية الخارجية.

ثم إن في الرطوبة الخارجة المرددة بين البول و المني إما أن تكون الحالة السابقة على خروجها الطهارة،أو لا يعلم بها أصلا،أو تكون الحدث الأصغر. و في الأولين يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء و الغسل لاستصحاب كلي الحدث،و في الأخير يصح الاكتفاء بمجرد الوضوء،لأصالة بقاء الحدث الأصغر و عدم حدوث الجنابة،هذا كله إن ثبت الأثر للجهة المشتركة.و أما إذا كانت الأدلة ظاهرة في التنويع،و إن أثر كل نوع غير أثر النوع الآخر بحيث يرجع إلى المتباينين أو الأقل و الأكثر ثبوتا،فيكون من القسم الثالث الذي يأتي عدم جريان الاستصحاب فيه،و يمكن أن تكون الرطوبة المرددة بين البول و المني من هذا القبيل،فإن الجهة المشتركة هي النجاسة فقط،و أما الحدثية فأثرها من المتباينات،كما لا يخفى.

 الثالث:ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و الجزئي

الثالث من أقسام استصحاب الكلي:ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و لا الفرد،و هو ما إذا علم بحدوث الفرد و علم بارتفاعه أيضا و لكن شك في حدوث فرد آخر قبل ارتفاعه أو مقارنا له،أو شك في تبدله بعد الارتفاع إلى فرد آخر مخالف له من حيث المرتبة لا من حيث الذات،كما إذا علم بحدوث الوجوب و ارتفاعه و شك في تبدله إلى الندب و عدمه.

و الحق عدم صحة استصحاب الكلي في الجميع لاختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا،بل دقة أيضا،إذ الكلي عين الفرد،فما علم حدوثه علم بارتفاعه،و غيره مشكوك الحدوث،فلا وجه لجريان الاستصحاب في بقاء ما حدث للعلم بالارتفاع،بل يجري في عدم حدوث ما هو مشكوك الحدوث.

و أما الصورة الأخيرة فالطلب الجامع بين الوجوب و الندب،و إن علم بحدوثه و شك في زواله،فيصح جريان استصحاب أصل الطلب حينئذ.

لكن فيه:

أولا:أنه لم يثبت كون الوجوب مركبا من الطلب و المنع من الترك،و الندب مركبا منه و الترخيص في الترك،بل هما مرتبتان بسيطتان من الطلب متفاوتتان في الشدة و الضعف،فزوال الوجوب يوجب انعدام تلك المرتبة رأسا،و تحقق الندب يوجب حدوث مرتبة اخرى.

و ثانيا:لا ريب في تباينهما عرفا،و أدلة الاستصحاب منزلة على العرف، فتكون هذه الصورة أيضا كغيرها في اختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة.

نعم،لو كان الوجوب و الندب مركبين من الطلب و الخصوصية،و كانت تلك الخصوصية من الحالات العارضة يجري استصحاب أصل الطلب بلا كلام،و لكنه لا دليل عليه،كما ثبت في غير المقام.

 التنبيه الخامس: الكلام في الاستصحاب في الزمان و الزمانيات و المتدرجات في الوجود،الإشكال عليه و الجواب عنه

يعتبر في الاستصحاب اتحاد موضوع الشك و اليقين ليكون الحكم فيهما من الحكم على الموضوع الواحد،و إذا تعدد يكون إجراء حكم اليقين إلى مورد الشك من إسراء حكم ثبت لموضوع إلى موضوع آخر،و لا ريب في بطلانه، فيشكل جريانه في ما لا قرار له و يكون حال اليقين غير حال الشك،كالزمان و الزمانيات،و المتدرجات مطلقا مما لا ربط لكل جزء من سابقه بلا حقه، و يكون كل جزء محفوفا بعدمين.

و لكن هذا الإشكال باطل من أصله،لأنه مبني على كون الاتحاد بحسب الدقة العقلية،و أما إذا كان بنظر العرف فلا إشكال،لحكمه بأن لجميع السيالات و المتدرجات وحدة عرفية اعتبارية،كاليوم،و الليلة،و الأسبوع،و الشهر،و السنة، بل القرن و الدهر و نحوها.و كذا جريان الدم و الماء و نحوها،فيصح الاستصحاب في جميعها لتحقق الوحدة العرفية للمستصحب من حيث اليقين و الشك المتعلقين به.

و أما ما اجيب به عن الإشكال،بأن التعدد إنما هو في الحركة القطعية و هي كون الشيء في كل آن في محل،و أما في التوسطية و هي كون الشيء بين المبدأ و المنتهى فلا تعدد،بل هي واحدة.فإن أريد به ما ذكرناه فهو،و إلا فلا وجه له، لأن الحركة التوسطية لا وجود لها إلا في فرض الذهن و مورد الاستصحاب لا بد و أن يكون خارجيا،و لا يخفى أنه يجري في الزمان و الزماني الاستصحاب الشخصي و الكلي أيضا بما تقدم له من الأقسام.

ثم إن الزمان إما قيد للتكليف،أو للمكلف به،و على كل منهما إما أن يكون على نحو وحدة المطلوب،أو على نحو تعدد المطلوب،أو يشك في أنه من أي النحوين.و لا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان إن شك في بقائه في جميع الأقسام،كما لا إشكال في أنه مع انقضاء الزمان ينقضي التكليف إن كان التقييد بنحو وحدة المطلوب،لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه.و أما إن كان بالنحوين الأخيرين فلا محذور في استصحاب نفس التكليف بعد انقضاء الزمان لعدم القطع بزواله فيستصحب.

و ما يقال:من معارضته باستصحاب عدم جعل التكليف بالعدم الأزلي، فلو شك-مثلا-في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو الرطوبة المرددة بينه و بين البول،فكما تستصحب الطهارة يستصحب عدم جعل الوضوء مثلا موجبا للطهارة،و كذا في نظائره.

مردود:بأنه بعد تشريع الوضوء و جعله موجبا للطهارة مع استجماع الشرائط و بعد حصر النواقض في التشريع،لا وجه لمثل هذا الاستصحاب قطعا، و العرف يأباه و يستنكره.

و أما الإشكال عليه:بأن المتيقن السابق هو العدم المطلق،و المقصود إثباته في زمان الشك الحصة الخاصة منه،فيكون مثبتا.

مردود:بإمكان أن يكون المستصحب نفس الحصة فلا يكون مثبتا،لأنه و إن لم يكن تميز في العدم من حيث هو لكن من جهة إضافته إلى الوجودات يثبت التمييز فيه و تتحقق الحصة أيضا فتستصحب.

ثم إنه إن شك في تحقق أصل زمان خاص بمفاد كان التامة،أو شك في انعدامه،فيستصحب عدم حدوثه في الأول،و بقائه في الثاني،لوجود المقتضي و فقد المانع.و هل يثبت بذلك وقوع العمل في وقته الخاص به أيضا بدعوى عدم الواسطة عرفا،أو خفائه.أو دعوى أن التوقيت عبارة عن وقوع العمل في وقته الخاص به-و لو بالأصل-أو بدعوى جريان الأصل في نفس بقاء الوقت من حيث هو؟لا يبعد ذلك.

 التنبيه السادس: في الاستصحاب التعليقي الإشكال عليه و الجواب عنه

مقتضى عموم أدلة الاستصحاب جريانه في ما هو معلّق على شيء، كجريانه في ما لم يكن كذلك،فلو ورد الدليل أن العنب إذا غلى يحرم،ثم صار زبيبا و شك في بقاء هذا الحكم المعلّق على الغليان في حال الزبيبة أيضا،يجري فيه الاستصحاب،فيصير الزبيب المغلي،كالعنب المغلي.و كذا إن قيل أكرم زيدا إن جاءك،و بعد مدة شك في بقاء هذا الحكم لجهة من الجهات،يصح الاستصحاب فيه.

و اشكل عليه:

أولا:بتغاير الموضوع.

و فيه:مضافا إلى عدم اختصاصه بالمقام،فيجري في كل استصحاب كان المشكوك مغايرا مع المتيقن،أن الزبيبة من الحالات لا أن تكون متغايرة مع العنبية،و تغاير الاسم أعمّ من تغاير الذات.

و ثانيا:أنه لا تحقق للمتيقن في مورد الاستصحاب التعليقي،لتعلّق الحرمة على الغليان،و المفروض عدم غليان العنب في حال العنبية،فلا وجه للاستصحاب.

و فيه:أن المستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان،لا الحرمة المنجزة الفعلية،فيستصحب نفس الحكم المنشأ المعلّق،و لا ريب في أن له نحو اعتبار بعد الجعل و الإنشاء.

و ثالثا:أنه معارض باستصحاب الحلية المطلقة،فيسقط بالمعارضة.

و فيه:أن الحلية بغاية الغليان،و مع إثبات الحرمة بالغليان و لو بالأصل لا وجه للحلية المغياة به-كما لا يخفى-فلا محذور في الاستصحاب التعليقي مطلقا،و العرف بحسب ارتكازهم لا يفرّقون بين الاستصحاب التعليقي و التنجيزي،فلا وجه للمناقشة من حيث عدم المتيقن السابق،إذ يكفي فيه الوجود الاعتباري،و لا ريب في أن المنشآت التعليقية لها وجودات اعتبارية عرفية و عقلائية بل و شرعية أيضا.

 التنبيه السابع: الاستصحاب في نسخ ما ثبت في شريعة أو شريعتين

يجري الاستصحاب في ما إذا شك في نسخ ما ثبت في الشريعة،سواء كان ذلك في شريعة واحدة أو في شريعتين،لوجود المقتضي له و فقد المانع.

و احتمال تغاير الموضوع،لأن أمة الشريعة السابقة غير اللاحقة.

مردود:بعدم دخالة الخصوصية الصنفية في تشريع الأحكام ما لم يدل عليه دليل بالخصوص،لكونها مجعولة لكل من يستجمع شرائط التكليف مطلقا.كما أن احتمال عدم جريان الاستصحاب للعلم الإجمالي بالنسخ.

مردود أيضا:بانحلاله بالظفر بموارد النسخ بعد الفحص،مع عدم تنجزه لخروج جملة من أطرافه عن مورد الابتلاء،و لا فرق فيه بين كون النسخ قطعا لاستمرار الحكم،أو إظهار أن مدة الحكم و أمده كان إلى حدّ مخصوص و لكنه أنشئ بصورة الدوام لمصلحة فيه،لشمول أدلة اعتباره لكلتا الصورتين.

 التنبيه الثامن: في الأصل المثبت،الفرق بين الأمارة و الأصل و المناقشة فيه بيان الحق في المقام

لا ريب في اعتبار وجود الأثر الشرعي في مورد الأمارة و الأصل مطلقا، و هو:

تارة:يترتب عليه بلا واسطة شيء أبدا،أو بواسطة أمر شرعي،و لا ريب في اعتبارهما حينئذ.

و اخرى:مع وساطة أمر عقلي أو عادي،و يعبر عن الأخيرين بالمثبت، أي تثبت الأمارة أو الأصل أمرا غير شرعي و يترتب عليه الأثر الشرعي.و قد اشتهر اعتباره في الأمارات دون الاصول مطلقا.

و خلاصة ما قالوه في وجه الفرق بينهما:أن الأمارة تكون فيها جهة الكشف في الجملة و ما يكشف عن شيء يكشف عن جميع ما يتعلّق به من اللوازم و الملزومات مطلقا.و أما في الاصول فليس فيها جهة الكشف عن شيء أبدا،بل المعتبر فيها هو العمل بالأثر الشرعي المترتب على مفادها فقط،و لا يشمل دليل اعتبارها لغير ذلك.

و بعبارة اخرى:اعتبار المثبتات من سنخ الدلالات الالتزامية التي تتحقق فيما فيه الظهور و الكشف دون غيره.

و فيه:أنه لا كلية في ذلك بل يدور الاعتبار مدار مقدار دلالة الدليل عليه لا محالة مطلقا ما لم تقم.حجة معتبرة عليه،و المتيقن منها ما قلناه،و لا فرق فيه بين الأمارة و الأصل.

نعم،لو قيل بعموم الحجية في مثبتات الأمارات مطلقا لكان بينهما فرق، و لكن لا دليل على هذا التعميم،بل لنا أن نتمسك في اللازم البيّن للاصول بنفس الأدلة الدالة على حجية الاصول،فإنها من الأمارات،و الأمارة حجة في لازمها البيّن،كما مرّ.

و لا بدّ أولا من بيان الأصل،ثم بيان الحق الذي ينبغي أن يقال.

و لا ريب في أن مقتضى الأصل عدم حجية المثبت مطلقا لا في الأمارات، و لا في الأصل،لما اثبتناه من أصالة عدم الحجية في كل شيء إلا ما ثبت بالدليل المعتبر،فإن تمّ الدليل على اعتباره فهو المتبع و إلا فيبقى على مقتضى الأصل. و الدليل على الاعتبار منحصر بنفس الأمارة أو الأصل،فإن استفيد ذلك الأمر العرفي من الأصل أو الأمارة بنحو من الدلالات المحاورية العرفية نقول بالاعتبار،بلا فرق بين الأمارة و الأصل،و إن لم يكن في البين ما يصح الاعتماد عليه في هذه الدلالة فلا اعتبار به مطلقا بلا فرق بينهما أيضا،و مورد الشك ملحق بهذه الصورة أيضا،لأصالة عدم الاعتبار،و إن وجد في الأمارة دون الأصل أو بالعكس فعليه المدار.

و بعبارة اخرى:اعتبار المثبتات من قبيل اعتبار المداليل الالتزامية المختلفة بحسب اختلاف الموارد و الجهات،بلا فرق بين الاصول و الأمارات، و لا كلية للنفي المطلق بالنسبة إلى الأولى،و لا للإثبات المطلق بالنسبة إلى الأخيرة.

و لعل إلى ما ذكرناه يرجع ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من اعتبار مثبتات الاستصحاب مع خفاء الواسطة،و ما عن المحقق الخراساني قدّس سرّه من اعتبارها في ما إذا كانت من قبيل المتضايفين.

 بقي امور لا بد من التنبيه عليها:

 الأول:في المراد بالأثر الشرعي

الأول:كل ما يصح انتسابه إلى الشارع فهو أثر شرعي،سواء كان تكليفيا أو وضعيا،تأسيسيا أو إمضائيا،فاستصحاب البراءة من التكليف لا يكون مثبتا، لأن نفي التكليف مجعول الشارع كوضعه و لو إمضاء،فيصح نسبة الرفع و الوضع إليه،و ذلك يكفي في عدم كون الأصل مثبتا.و كذا استصحاب وجود الجزء و الشرط و فقد المانع،لا يكون مثبتا لترتب الأثر الشرعي عليه و هو صحة العمل، و كذا استصحاب عدمها لترتب الفساد بلا إشكال في ذلك،بناء على كون الصحة و الفساد مجعولين مستقلين شرعا،بل و كذا بناء على انتزاع الصحة في أثناء العمل من وجوب الإتمام،و انتزاع الفساد من وجوب الإعادة أو القضاء،لما يأتي.

 الثاني:لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي و الفرد

و اللازم و الملزوم،سواء كان لازم الوجود،أو لازم الماهية،لمكان الاتحاد بينهما عرفا بل عقلا، فاستصحاب الوجوب الكلي،و الملكية الكلية،و تغير الكر بالنجاسة،لا يكون مثبتا بالنسبة إلى الوجوب الشخصي و الملكية الشخصية و نجاسة الماء الخارجي الجزئي.

 الثالث:أقسام الأثر المترتب على الشيء

الثالث:الأثر المترتب إما شرعي فقط،أو غير شرعي فقط،أو غير شرعي مترتب على الشرعي،أو شرعي مترتب على غير الشرعي.

و لا ريب في اعتباره في الأول،كما لا ريب في عدم الاعتبار في الثاني، و الثالث معتبر بلا إشكال،لتحقق الموضوع،فيترتب عليه الأثر غير الشرعي، كترتب استحقاق العقاب على مخالفة الوجوب المستصحب،و إجزاء امتثاله، و نحو ذلك من الآثار غير الشرعية.و الأخير هو الأصل المثبت المعهود،فقد يكون معتبرا مع الاتحاد بنظر العرف،و قد لا يكون معتبرا،كما في مورد حكم العرف بالاختلاف و التباين.

 الرابع:الجواب عن موارد ربما يستظهر من المشهور اعتبار الأصل المثبت فيها

الرابع:ربما يستظهر من المشهور ما يوهم ذهابهم إلى اعتبار الأصل المثبت.

منها:ما إذا اتفق الوارثان على إسلام أحدهما في أول اليوم و الآخر في آخره،و اختلفا في موت المورث،فقال أحدهما إنه مات في الظهر-مثلا-فلا يرث من أسلم في آخر اليوم،و قال الآخر بل مات بعد الغروب،فلا يختص الإرث بأحدهما.فحكم الفقهاء باشتراكهما في الإرث و عدم الاختصاص بأحدهما،مع أن الإرث متوقف على كون الإسلام قبل الموت أو مقارنا له، و إثبات ذلك بالأصل يكون مثبتا.

و فيه:أنه ليس من الأصل المثبت،لأن المنساق من الأدلة كفاية الموت عن وارث مسلم و لو كان إحراز الإسلام بالأصل،و لا دليل على لزوم تقدم إسلام الوارث على موت المورث و لا مقارنته معه حتى يكون ذلك من الأصل المثبت.

و منها:حكمهم بالضمان في من استولى على مال الغير،ثم شك في أنه كان بحق أو لا،فإن كان الضمان لقاعدة اليد فهو من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه،و إن كان لأصالة عدم الإذن فلا توجب الضمان إلاّ بعد إثبات العدوان،و لا يكون ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.

و فيه:أنه يصح إثبات الضمان بقاعدة اليد مع عدم كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،لأن مطلق وضع اليد على مال الغير يوجب الضمان إلاّ إذا احرز بوجه معتبر ثبوت الإذن و الرضا فيه،فوضع اليد على مال الغير متحقق وجدانا،فتشمله القاعدة قهرا،مع أن نفس عدم إحراز الإذن و لو بالأصل يكفي في الضمان،و لا نحتاج إلى إثبات العدوان حتى يكون من الأصل المثبت.

و منها:غير ذلك مما يذكر في الفقه مع إمكان دفع الشبهة بأدنى تأمل.

 الخامس:جريان الاستصحاب في ما كان الأثر للبقاء فقط أيضا

الخامس:لا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد يكون فيه الأثر الشرعي حدوثا و بقاء،كما لا ريب في جريانه في ما إذا كان الأثر للبقاء فقط.و أما إن كان بمجرد الحدوث فقط دون البقاء فلا مجرى له أصلا،و هو أوضح من أن يخفى.

 التنبيه التاسع: أقسام الشك في حدوث الحادث،للكلام في جريان الاستصحاب في ما كان للشك في السبق و اللحوق،الكلام

الشك في حدوث كل حادث على أقسام خمسة:

الأول:أن يلحظ بالنسبة إلى ذاته فقط،و يجري استصحاب عدمه مع تحقق أركانه.

الثاني:أن يعلم بأصل الحدوث في الجملة و يشك في زمانه،فلا ريب في جريان استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به،و أما إثبات أن زمان الحدوث كان في الأمس أو قبله-مثلا-فليس ذلك من شأن الاستصحاب، لكونه مثبتا.

نعم،يمكن إثبات الحدوث في آخر أزمنة إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة من الأصل و الوجدان،و هو احتمال حسن ثبوتا،و لكن يحتاج إلى دليل إثباتا،و مقتضى الأصل عدم حجية الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر عليها من عرف أو شرع.

الثالث:أن يعلم بحدوث الحادثين في الجملة،و يشك في السبق و اللحوق بينهما،و يكون الأثر الشرعي لنفس عدم أحدهما في ظرف الآخر واقعا من دون تقييد بينهما أبدا.و لا ريب في عدم صحة الاستناد إلى استصحاب عدم كل منهما،إما لجريانهما و السقوط بالمعارضة،كما عليه جمع منهم المحقق الانصاري قدّس سرّه.أو لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين،كما عليه جمع آخر منهم المحقق الخراساني قدّس سرّه،كما إذا علم بحياة الوالد و الولد يوم الخميس و بموتهما يوم الأحد،و شك في أن موت الوالد كان في يوم الجمعة،و موت الولد في يوم السبت،أو بالعكس مع العلم بعدم التقارن،فأصالة بقاء حياة الوالد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الولد يوم الجمعة،و أصالة بقاء حياة الولد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الوالد يوم الجمعة،فجريان الاستصحابين مستلزم لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين في كل منهما،و هو معتبر،فلا يجري لعدم المقتضى لا لوجود المانع،أي السقوط بالمعارضة،فعدم صحة الاستناد إلى الاستصحاب مسلّم بين الجميع،و النزاع بينهم علمي و لا يترتب عليه أثر عملي.

و لكن يمكن الخدشة في الوجه الثاني بأن إحراز انفصال المشكوك عن المتيقن بحجة معتبرة،مانع عن جريان الاستصحاب،لا أن يكون إحراز الاتصال شرطا،إذ لا دليل عليه،فيكفي عدم العلم بالانفصال بعد تحقق اليقين و الشك،و صدق عدم النقض عرفا بالنسبة إلى كل واحد من الاستصحابين في حدّ نفسه،مضافا إلى تحقق الاتصال الزماني خارجا،و اتصال المشكوك بالمتيقن ذهنا،و مقتضى الإطلاق و عموم السيرة عدم اعتبار أزيد من ذلك.هذا مع أن إثبات الانفصال بجريان الأصل مثبت لا اعتبار به.

الرابع:ما إذا علم بتاريخ أحدهما،و شك في الآخر،مع ترتب الأثر الشرعي على نفس عدم مجهول التاريخ في زمان الآخر،فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى المجهول دون المعلوم،لليقين بزمان حدوثه.

نعم،يشك في أنه قبل زمان حدوث مجهول التاريخ أو بعده،و يأتي حكمه.

الخامس:أن يشك في التقدم و التأخر و التقارن،و كان الأثر الشرعي مترتبا على ما اتصفت بهذه العناوين خارجا،أي بمفاد كان الناقصة،و لا ريب في عدم جريان الاستصحاب لعدم العلم بالحالة السابقة،إذ المعلوم إنما هو نفس الحدوث في الجملة،لا عنوان التقدم و ضديه.

نعم،لو كانت نفس هذه العناوين من حيث هي موردا للأثر الشرعي، و قلنا بكونها من الاعتباريات العقلائية الممضاة شرعا،يجري الاستصحاب فيها و يسقط بالمعارضة،سواء كان الأثر الشرعي لكل واحد منها في مورد واحد،أو كان لكل منها أثر شرعي خاص مبتلى به في مورد المعارضة،و لا فرق في هذا القسم بين ما إذا جهل تاريخ الحادثين،أو علم تاريخ حدوث أحدهما و جهل الآخر.

ثم إنه لا فرق في مجهولي التاريخ بين ما إذا أمكن الجمع بينهما،كموت المورث و إسلام الوارث،أو لم يمكن،كالحدث و الطهارة المتعاقبين،و قد تشتت الأقوال في الأخير.و الحق جريان الاستصحاب فيهما و سقوطهما بالمعارضة،هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المقام؛و قد ذكرنا بعض الكلام في كتاب(مهذب الأحكام)في مسألة توارد الحالتين من الحدث و الطهارة.

 التنبيه العاشر: الكلام في الاستصحاب في الاعتقادات،أقسامها، استصحاب الحكم،استصحاب بقاء الشريعة

يجري الاستصحاب في الاعتقاديات،كجريانه في الفرعيات لعموم أدلته و إطلاقاتها،و تسميته بالأصل العملي باعتبار الغالب،مع أنه أعم من العمل الجارحي و الجانحي.

ثم إن الاعتقاديات على أقسام:

فتارة:يكون المطلوب فيها مجرد الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه من دون لزوم تحصيل العلم به.

و اخرى:يلزم تحصيل العلم به،و على كل منهما:

تارة:يكون مورد الاستصحاب نفس الموضوع.

و اخرى:هو الحكم.و على كل من هذه الأقسام الأربعة:

تارة:يكون الحاكم به هو العقل،و اخرى:يكون هو الشرع.فهذه ثمانية أقسام،و لا وجه لجريان الاستصحاب في الموضوع في جميع هذه الصور؛ سواء كان مما يكفي فيه مجرد الاعتقاد،أو لزم تحصيل العلم به،لأن الاستصحاب متقوّم بالشك و التردد،و الاعتقاد متقوّم بالجزم أو العلم.و هما لا يجتمعان إلاّ أن يدل دليل من الخارج على كفاية الجزم و العلم التعبدي في الاعتقاديات أيضا.

و أما الاستصحاب في الحكم فلا محذور فيه إن كان الحاكم هو الشرع،بل و كذا إن كان هو العقل و قلنا بكفاية عدم الردع في الأثر الشرعي،و إلا فيختص جريانه بما إذا كان الحاكم هو الشرع فقط،بل يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية مطلقا،لأن اللازم في الاعتقاديات تحقق العجز عن تحصيلها،فمع العجز لا وجه للاستصحاب.و كذا مع عدم إحراز العجز لوجوب تحصيلها إلى أن يظهر العجز أيضا،فلا مورد للاستصحاب في الاعتقاديات أصلا،فظهر بطلان تمسك الكتابي بالاستصحاب لبقاء شريعته إلى أن يثبت الدليل على نسخه،مع أن الدليل إما برهاني،أو إلزامي،أو إقناعي؛ و استصحاب بقاء الشريعة لا يصلح لكل منها.إذ الأول عبارة عن اعتقاد الطرفين بصحة جميع المقدمات القريبة و البعيدة في البرهان،و إلا فلا ينفع شيئا،فلا بد و أن يعتقد الكتابي و المسلم بصحة الاستصحاب في الشريعتين،مع الاعتقاد بصحة كل من الشريعتين مستقلا،فإذا اعتقد الكتابي بصحة الشريعة الختمية و كونها دينا سماويا ناسخا لما سبقه من الأديان،يصير مسلما و يزول موضوع الاستصحاب لا محالة.و الثاني عبارة عن كون الدليل مشتملا على مقدمة مقبولة لدى الخصم فيرده بما هو مقبول لديه،مثل أن يقول الكتابي للمسلم:أنت تعترف بصحة الاستصحاب و نبوة عيسى عليه السّلام،و نحن نستصحب نبوة عيسى إلى أن يثبت الدليل على عدمه.و لا يصح ذلك أيضا،إذ المسلم لا يعترف بنبوة عيسى مطلقا،بل نبوته من حيث أخبر بها خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله،و نسخت نبوته بالشريعة الختمية،و مع هذا الاعتقاد لا موضوع للاستصحاب رأسا.و الثالث عبارة عما لا يفيد العلم،بل يوجب رفع المخاصمة في الجملة،و هو باطل في المقام أيضا،لأن النبوة مما يعتبر فيه تحصيل العلم،و الدليل الإقناعي بمعزل عن ذلك.

 التنبيه الحادي عشر: الكلام في بعض الموارد التي قد يتردد بين كونها من الأصل اللفظي حتى يتقدم أو الأصل العملي تحقيق الكلام

لا ريب في تقدم الأمارات مطلقا،و الاصول اللفظية على الاصول العملية بلا خلاف من أحد،و لكن قد يتردد بعض الموارد في أنه من موارد الرجوع إلى الدليل اللفظي أو الأصل العملي،و على الأول هل هو العام أو الخاص لو كانا في البين؟كما إذا ورد عام مثل(أوفوا بالعقود)و خاص مثل(المغبون له الخيار) و شك في أنه على الفور أو التراخي،فهل المرجع هو العام،أو الخاص،أو استصحاب بقاء الخيار؟فيه احتمالات،بل أقوال:

و لا بد أولا من بيان أمر،و هو أن الزمان:

تارة:يلحظ بالنسبة إلى ما يقع فيه-حكما كان أو موضوعا-على نحو الظرفية الاستمرارية فقط،كقول:أكرم العلماء دائما و أبدا،أو نحو ذلك من التعبيرات الظاهرة في الاستمرار،فلا يكون في البين إلاّ شيء واحد مستمر،لا أشياء متعددة بحسب تعدد أجزاء الزمان.

و اخرى:تلحظ أجزاء الزمان المتكثرة كل واحد منها لحاظا مستقلا، كقول:أكرم العلماء كل يوم-مثلا-و اصطلح عليه بالعام المفرد،فيحصل لما يقع فيه حينئذ أفراد طولية،كما كان له أفراد عرضية.

و الفرق بين القسمين:أن القسم الأخير يستقر ظهور الدليل في جميع الأفراد الطولية و العرضية.و لا يضرّ عروض التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد باستقرار الظهور في سائرها،فيصح التمسك بالدليل حينئذ في غير ما علم عروض التخصيص عليه،بخلاف القسم الأول،فإنه لم يكن في البين إلا لحاظ الاستمرار لوحدة الاتصالية الملحوظة،و ليس الدليل إلاّ متكفلا لذلك فقط،فإذا ورد عليه التخصيص و انقطع الاستمرار و انفصمت الوحدة الاتصالية،ليس في البين ظهور للعموم بالنسبة إلى سائر الأفراد حتى يرجع إليه،فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر،بلا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص حادثا بحدوث العام أو حدث بعده.

و يمكن أن يجعل القسمان متلازمين واقعا،فالاستمرارية تلازم المفردية و بالعكس،لأن الاستمرارية عبارة عن شمول الدليل للأفراد الطولية بلحاظ الاستمرار،و المفردية عبارة عن شموله لها بلحاظ نفس تلك الأفراد مستقلا. و الظاهر اشتمال كل منهما للمفردية و كونها ملحوظة في الجملة إلاّ أنها في الاستمرارية ملحوظة إجمالا،و في المفرّدية تفصيلا،فالاستمرارية تدل على التفريد بالالتزام العرفي و على الاستمرار بالمطابقة،و المفردية تدل على التفريد بالمطابقة و على الاستمرار بالالتزام العرفي،فلا ثمرة معتنى بها للفرق في البين من هذه الجهة بعد التلازم العرفي بينهما،هذا إذا علم الاستمرارية أو التفريد بالقرينة المعتبرة.

و إن شك في أنه من أيهما و لم تكن قرينة على تعيين أحدهما،فلا موضوع للثمرة حينئذ حتى بناء على عدم التلازم.و لا يبعد أن يقال إن الأصل في العموم الاستمرارية إلاّ أن يدل دليل على التفريد،لأن الأصل عدم ملاحظة الأفراد مستقلا.

ثم إن الأقسام أربعة:فإن العام إما أفرادي،أو استمراري،و على كل منهما يكون الخاص إما أفراديا أو استمراريا.فإن كان العام أفراديا فالمرجع عند الشك في التخصيص هو العام مطلقا،سواء كان الخاص أفراديا أيضا أو استمراريا، لكون الأفراد مورد شمول العام،فالمقتضي للتمسك به موجود و المانع عنه مفقود،و لا يصح التمسك بدليل الخاص لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية،كما لا يصح الرجوع إلى الاستصحاب،لكونه محكوما بدليل العام بلا كلام.هذا إذا كان شمول العام لتلك الأفراد معلوما،و إن كان مشكوكا لجهة من الجهات فلا يصح التمسك به حينئذ أيضا،بل يرجع إلى دليل أو أصل آخر.

و إن كان العام استمراريا فلا وجه للرجوع إليه لانقطاع استمراره بالخاص،كما لا وجه للرجوع إلى الخاص أيضا مطلقا-استمراريا أو إفراديا-لفرض الشك في كون المورد مشمولا له أو لا،فيكون الرجوع إليه من الرجوع إلى الدليل في الموضوع المشتبه،و حينئذ فإن صح الرجوع إلى الاستصحاب يرجع إليه،و إلا فلا بد من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر.هذا بناء على عدم الملازمة بين الاستمرارية و التفريد،و إلا فيصح الرجوع إلى العام في هذا القسم أيضا.

ثم إن الاستمرارية و التفريد لا بد و أن يستفاد من القرائن الداخلية أو الخارجية،و ليست في البين قرينة كلية دالة على احداهما بالخصوص.هذا بعض ما يتعلق بالمقام.

 التنبيه الثاني عشر: المراد بالشك في البقاء

المراد بالشك في البقاء مطلق غير الحجة المعتبرة،فيشمل الظن غير المعتبر،كما يشمل الوهم أيضا،لأن ظاهر قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»هو جعل الشك في مقابل اليقين الذي يكون كناية عن مطلق الحجة المعتبرة،فكأنه قال عليه السّلام:لا تنقض الحجة بغيرها.و أما الاستدلال بالإجماع على أن الظن غير المعتبر كالشك فلا وجه له،لعدم اعتبار مثل هذا الإجماع لكونه اجتهاديا لا تعبديا،كما لا يخفى.

 التنبيه الثالث عشر: الكلام في استصحاب الصحة،المراد منها

استصحاب الصحة عند الشك فيها إن كان بمعنى الصحة الفعلية من كل حيثية و جهة لا وجه له،للشك في أصل حدوثها و ثبوتها ما لم يفرغ عن العمل مستجمعا للشرائط فلا يقين بحدوثها كذلك في أثناء العمل حتى يستصحب بقاؤها.و إن كان المراد الصحة الاستعدادية الإمكانية التعليقية،بمعنى أنه لو تحققت الأجزاء مستجمعة للشرائط و فاقدة عن الموانع لكانت صحيحة،فهي مقطوعة البقاء،و لا شك فيها أبدا.و إن كان المراد بها بقاء الهيئة الاعتبارية،و عدم زوالها و عدم خروج المكلف عما كان متلبسا به سابقا،فيصح هذا الاستصحاب لوجود المقتضي و فقد المانع.

و أما استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب،فإن اريد به الوجوب الغيري المحض فلا وجه له،لكونه معلوم الارتفاع،مضافا إلى ما تقدم من عدم الوجوب الغيري للأجزاء،و كذا إن اريد به المردد بين الغيرية و النفسية، لكونه مرددا بين ما هو معلوم الارتفاع و مشكوك الحدوث،بل و كذا إن اريد بها النفسي المحض للعلم بزواله بتعذر بعض الأجزاء.

نعم،لا بأس باستصحاب مقدار من الوجوب النفسي الانبساطي لا المقدمي و لا النفسي بتمام حدوده،و حينئذ فإن دلّ على تنزيل الفاقد منزلة الواجد و الاكتفاء بالميسور عن المعسور فهو،و لا تصل النوبة معه إلى التمسك بالأصل،و إلا فلا طريق لنا لإثبات البقية بالأصل،و تقدم في بحث الاشتغال ما ينفع المقام.

 التنبيه الرابع عشر: أقسام اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة،تعيين المراد منها

يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة،إذ مع عدمه يكون من إثبات حكم ثابت في موضوع لموضوع آخر مغاير له،و بطلانه غني عن البرهان و موافق للوجدان.

و الاتحاد إما عقلي أو عرفي،أو بحسب المنساق من ظاهر الدليل.و لا وجه لاحتمال الأول،لعدم كون الأحكام الشرعية مبنية على الدقيات العقلية. و الأخير يرجع إلى الثاني،لفرض أن الأدلة منزلة على العرفيات إلاّ ما ورد فيه التعبد بالخصوص،فيرجع لباب المقال إلى أنه يعتبر اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بنظر العرف المنزّل عليه الدليل،و ذلك كله مستغن عن البرهان و التعليل.

ثم إن العرف إنما يعتبر في المفاهيم المستفادة من الألفاظ المستعملة،و ما يتبادر منها من المعاني في المحاورة،لأن الإفادة و الاستفادة مبنيان على المحاورات و المتفاهمات العرفية،و الظهور الاستعمالي-و لو كان مجازا-مقدم على الوضعي-و لو كان حقيقة-و أما المصاديق الخارجية فانطباق مفاهيم الألفاظ عليها لا بد و أن يكون قهريا،لأن نسبتها إلى المفاهيم نسبة الفرد إلى الكلي،و لا يدور ذلك مدار الأنظار العرفية،فمع الانطباق القهري تكون المصاديق من تلك المفاهيم،حكم العرف بذلك أو لم يحكم،و مع عدمه لا يكون منها و لو حكم العرف بذلك.

نعم،قد يكون نظر العرف-كالبينة و نحوها-طريقا إلى صحة الانطباق القهري،فيكون المدار عليه بالآخرة،و الباقي يكون طريقا لإحرازه.

 تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية:

لا ريب في تقوم الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة،فيكون من إسراء الدليل السابق إلى حالة الشك في مفاده و مدلوله،فيصير الدليل-علما كان أو أمارة-قسمين:حقيقيا و تنزيليا،و الثاني عبارة عن الاستصحاب.فكل حكم يكون للدليل الحقيقي يكون للتنزيلي أيضا،إلا مع وجود قرينة معتبرة على الخلاف،و حيث أن الدليل الحقيقي مقدم على الاصول مطلقا فكذا التنزيلي،و ما يكون من الحقيقي واردا على الاصول يكون في التنزيلي هكذا،و ما يكون حاكما في الحقيقي فكذلك في التنزيلي.

و بالجملة فإن الأدلة الاجتهادية بحقيقيتها و تنزيليتها مقدمة على الاصول مطلقا،مع أنه لو بني على تقديم الاصول على الاستصحاب يكون اعتباره من اللغو الباطل،مضافا إلى أنه من التخصيص بلا مخصص إلاّ على وجه دائر،مع أن المتعارف بفطرتهم لا يترددون في تقديمه عليها،بل لا يلتفتون مع لحاظ الحالة السابقة إلى أصل من الاصول أصلا.

 تعارض الاستصحابين:

و هو على أقسام:

الأول:أن يكون الشك في أحدهما سببا شرعيا للشك في الآخر،كالشك في الكرّيّة،الذي يكون سببا للشك في بقاء نجاسة الثوب المتنجس المغسول فيه.و لا ريب في تقديم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب، استصحابا كان أو غيره،و هو الذي تقتضيه المرتكزات العرفية في المحاورات الدائرة بينهم أيضا،لأن بجريان الأصل في السبب يزول الشك في المسبب شرعا،فيكون خروجه عن تحت عموم دليل الأصل بالتخصّص بخلاف العكس فإن خروجه عنه حينئذ يكون من التخصيص بلا مخصص،كما لا يخفى.

و هل بكون هذا للورود،أو الحكومة،أو التخصيص؟لكل وجه و قال بكل قائل.و لا ثمرة عملية بل و لا علمية في تحقيق ذلك فمن شاء العثور على التفصيل فليراجع المطولات.

و لا فرق في ذلك بين توافقهما في المؤدى أو تخالفهما فيه.

الثاني:أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر،و هو باطل للزوم الدور،و لا فرض له في الشرعيات،بل هو من مجرد الفرض الوهمي فقط.

الثالث:أن لا يكون في البين سببية أصلا،و لكن لزم من جريانهما المخالفة العملية،كالإناءين الطاهرين اللذين علم بحدوث نجاسة في أحدهما فيلزم من جريان الأصل فيهما المخالفة العملية.فلا يجريان معا من هذه الجهة و لا في أحدهما،لأن جريانه في أحدهما المردد من حيث هو لا معنى له،لعدم التحقق للمردد في الخارج.كما أن جريانه في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح،فلا بد من السقوط بالتعارض،و قد تقدّم أن العلم الإجمالي كالتفصيلي في التنجز.

الرابع:أن لا تكون في البين السببية أصلا و لا يلزم المخالفة العملية أيضا،و لكن كان جريانهما مخالفا لما هو المعلوم في البين،كما إذا علم تفصيلا بنجاسة الإناءين،ثم علم بطهارة أحدهما،فلا يلزم من استصحاب نجاستهما المخالفة العملية،بل يكون مخالفا لما هو المعلوم في البين،فلا يجريان من هذه الجهة.

الخامس:ما إذا لم يكن في البين سببية أصلا و لا المخالفة العملية و لا العلمية،و لكن دلّ الدليل من الخارج على عدم جريانهما،كما إذا كان ماء طاهر ينقص عن مقدار الكر بقدر خاص،فتمم ذلك القدر بماء نجس في أحد أطرافه،فلا مانع من جريان استصحاب طهارة الماء الأول و نجاسة الماء المتمم، و يترتب أثر كل منهما،فيكون الطرف الذي القي فيه النجس نجسا بخلاف باقي الأطراف،و لكن ادعي الإجماع على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة و النجاسة.

و ربما يتوهم بأن هذا القسم من القسم الأول،لأن نجاسة المتمم سبب لنجاسة الماء،فيجري الاستصحاب في السبب و لا يبقى موضوع بعد ذلك لجريان الأصل الآخر.

و لكنه مردود بأن منشأ حدوث السببية الإجماع المدعى على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه،راجع التفصيل في المياه من كتاب (مهذب الأحكام).

السادس:ما إذا لم يكن شيء مما سبق في البين أصلا،كمن توضأ غفلة بمائع مردد بين البول و الماء ثم التفت إليه،فيجري استصحاب طهارة مواضع وضوئه و استصحاب بقاء حدثه،بناء على صحة التفكيك في لوازم الاصول،و إلاّ يكون هذا القسم من القسم الرابع،كما لا يخفى.

فمقتضى الأصل في جميع أقسام تعارض الاستصحاب التساقط،لأن الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح،و المفروض عدم إمكان الجمع بينهما،و عدم دليل على التخيير.

و قد يحتمل في جميع ما تقدم من الأقسام الأخذ بالراجح و مع فقده فالتخيير.

و فيه:أن الترجيح إن كان بالأمارة المعتبرة،فمع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل حتى يتحقق التعارض،إذ لا وجه لجريان الأصل مع وجود الأمارة المعتبرة،موافقة كانت أو مخالفة.و إن كان بغير المعتبرة منها فقد تقدّم أن الظنون غير المعتبرة لا تصلح للترجيح.كما لا وجه للترجيح بالأصل موافقا كان أو مخالفا،لأن الأصل عدم حصول الترجيح بشيء إلا بما دلّ الدليل عليه،و لا دليل على حصوله بالظن غير المعتبر و الأصل.

نعم،لا بأس بكون الأصل مرجعا بعد سقوط المتعارضين عن الاعتبار.

ثم إنه قد استشكل على شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بأنه قد علل عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي في جملة من كلماته-فقها و أصولا- بلزوم المخالفة العملية،مع أنه قدّس سرّه علله في بعضها بلزوم المناقضة بين صدر دليل اعتبار الاستصحاب و ذيله.و أورد عليه بوجوه،و قد تقدم ما يتعلّق به في بحث الاحتياط،فراجع.

قد جرت عادتهم على التعرض لبعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب في المقام،و لا بأس بالإشارة إليه،و لا بد من تقديم مقدمة.

و هي:أنه لا ريب في عدم كون ما يعتذر به من الأمارات و الاصول في عرض واحد و مرتبة واحدة،بل بينها اختلاف الرتبة اتفاقا،فتقدم الأمارات مطلقا على الاصول كذلك موضوعية كانت أو حكمية.كما لا ريب في تقدم الاصول الموضوعية على الحكمية،فلا تصل النوبة إلى كل لا حق مع وجود السابق عليه،و هذا مما جرت عليه السيرة في المحاورات و الاحتجاجات و الاعتذارات الدائرة بين العقلاء.

و استدل عليه مضافا إلى ذلك باستقرار إطلاق دليل اعتبار الأمارة في مورد الشك مطلقا،سواء كان هناك أصل أو لم يكن.و أما دليل اعتبار الأصل فشموله لمورد وجود الأمارة مشكوك فيه بل معلوم العدم،و إلا لبطل اعتبار الأمارات مطلقا،إذ ما من أمارة إلا و في موردها أصل من الاصول،و حينئذ فإن قدم دليل اعتبار الأصل على دليل اعتبار الأمارة لدار،لأن التقدم متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة،و اعتباره معها متوقف على تخصيص دليل الأمارة بدليل الأصل،و هذا التخصيص متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة،إذ لولاه لكان من التخصيص بلا مخصص،و هذا هو الدور الواضح.هذا ما ذكروه.

و لكنه من تبعيد المسافة،لأن تقدم الأمارة على الأصل أوضح من ذلك في المحاورات،كما لا يخفى.كما أن بين نفس الاصول العملية تقدما و تاخرا، فالاستصحاب مقدم على جميع الاصول و منشأ هذا التقدم ظهور الاتفاق؛ و الاستصحاب يكون برزخا بين الأصل المحض و الأمارة المحضة،فمن الجهة الاولى تقدم عليه جميع الأمارات،و من الجهة الثانية يقدم على جميع الاصول.

ثم إن التقدم في غير موارد التزاحم لا بد و أن يكون لأحد امور خمسة، و هي مرتكزة في أذهان أهل المحاورة و إن لم يلتفتوا إليها تفصيلا:إما للتخصص،أو الورود،أو الحكومة،أو التخصيص،أو الجمع العرفي.و في التزاحم لا بد و ان يكون لأقوائية الملاك على ما تقدّم تفصيله في محله،و الظاهر أن هذه الخمسة من قبيل مانعة الخلو،فيمكن اجتماع أكثر من واحد منها في مورد.

كما أن الظاهر أن تقدم الأمارات على الاصول للورود،لأن الاصول مجعولة في ظرف الحيرة المحضة،و هي منتفية مع وجود الأمارة،و هذا معلوم و لا وجه للإطناب فيه،مع أنه لا ثمرة عملية في البين،سواء كان التقدم لأجل الورود أو الحكومة.

ثم إن التخصص عبارة عن الخروج الموضوعي تكوينا.

و الورود عبارة عن الخروج الموضوعي بعناية التعبّد،أو بناء العقلاء.

و الحكومة عبارة عن كون دليل الحاكم مفسرا و شارحا لدليل المحكوم، توسعة أو تضييقا،أو هما معا من جهتين.

و التخصيص هو الخروج الحكمي عن دليل العام مع كونه من أفراده موضوعا،و لعل الفرق بين التخصيص و الحكومة بأن الثاني من شئون المعنى أولا و بالذات،بخلاف الأول فإنه من شئون الألفاظ في المحاورات.

و الجمع العرفي هو الجمع بين الدليلين بما يقتضيه الطبع السليم و يرتضيه الذوق المستقيم،و لا تضبطه ضابطة كلية،بل يختلف اختلافا فاحشا حسب اختلاف الموارد.

 قاعدتا التجاوز و الفراغ:

القاعدة الفقهية عبارة عن حكم فرعي يتعلّق بالإنسان من حيث الحكم المجعول له شرعا،و يكون تحتها مسائل كثيرة.

و الفرق بينها و بين المسألة الفقهية بالعموم و الخصوص و قد يتساويان. و لا مشاحة في الاصطلاح،و تكون نسبة القاعدة الى المسائل الداخلة تحتها نسبة الكلي إلى الفرد،و قد تعرضنا لذلك في أول الكتاب،فراجع.و البحث فيهما من جهات:

 الجهة الاولى:هل هما من القواعد التعبّدية المحضة،أو العقلائية التي كشف عنها الشارع

كما تكون جملة من القواعد كذلك؟الحق هو الأخير،كما لا يخفى على الخبير،لكونهما من صغريات أصالة عدم السهو و الخطأ و الغفلة و البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج الوجود،و ذلك كله مما استقر عليه بناء العقلاء،و ما ورد من الشرع تقرير لذلك،لا أن يكون تعبّدا محضا.

 الجهة الثانية:هل هما قاعدتان مختلفتان

أو من صغريات كبرى واحدة. و إنما الاختلاف بالحيثية،أي حيثية لحاظ أثناء العمل،فتكون قاعدة التجاوز،أو بعد الفراغ فتكون قاعدة الفراغ؟الحق هو الأخير.أما بناء على كونهما من أفراد أصالة عدم السهو و الغفلة و الخطأ فواضح،و كذا بناء على كونهما تعبديا محضا، لإطلاق قول أبي جعفر عليه السّلام:«كل ما شك فيه مما قد مضى فامضه كما هو»، و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:«كل ما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه و لا إعادة عليك».فإنهما يشملهما معا.و أما قوله عليه السّلام:«إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره و شككت،فشكك ليس بشيء»فإنما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضا،كجريانها بعد الفراغ منه و ليس في مقام بيان تشريع قاعدتين مختلفتين،مع أن في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز كلاما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ما يقال:من أنه لا جامع بينهما حتى تكونا مورد دليل واحد بذلك الجامع.

مردود:بأن الجامع هو الشك في الشيء،سواء كان في أصل تحققه،كما في قاعدة التجاوز،أو في صحته،كما في قاعدة الفراغ،فلا فرق بين كون الشك في أصل وجود الصحيح أو صحة الموجود.

و اورد على هذا الجامع:

تارة:بأن مورد قاعدة التجاوز إنما هو الشك في أصل التحقق،و مورد قاعدة الفراغ إنما هو الشك في صحة المتحقق،و هما متباينان فلا جامع بينهما.

و فيه:أن الجامع هو الشك في انطباق المأتي به على المأمور به،و هو جامع قريب عرفي.

و اخرى:بأن مورد قاعدة التجاوز هو الجزء،و مورد قاعدة الفراغ هو الكل.و الأول ملحوظ تبعا،و الثاني استقلالا،و هما متباينان لا يجتمعان في استعمال واحد.

و فيه:أن اللحاظ وسيع جدا يصحح اجتماع اللحاظ التبعي و الاستقلالي فيه في استعمال واحد،بل هو شائع جدا،فإن في التكلم بكلام يجتمع اللحاظان،لأن أجزاء الكلام ملحوظة تبعا،و تمامه ملحوظ استقلالا،و كذا في جميع الأعمال المتدرجة الوجود التي لها أجزاء و وحدة اعتبارية.

و ثالثة:بأنه مستلزم للتناقض فإنه إذا شك في جزء،و قد دخل في غيره، فمقتضى قاعدة التجاوز الصحة،و مقتضى قاعدة الفراغ عدمها،لكونه في الأثناء لا بعد الفراغ.

و فيه:أنه لا خلاف من أحد في تغاير موردهما،و اختصاص قاعدة الفراغ بما بعد العمل،و التجاوز بالاثناء،فلا مجرى لقاعدة الفراغ في الأثناء حتى يلزم التناقض.

و قد اشكل على وحدتهما من حيث الكبرى بوجوه ضعيفة اخرى،لا يخفى وهنها على من راجعها،مع أن هذا النزاع ساقط من أصله،إذ لا ثمرة عملية بل و لا علمية معتدا بها للوحدة و التعدد،إلا دعوى أنه مع الوحدة لا بد و أن تجري قاعدة الفراغ في الأثناء في كل مورد تجري فيه قاعدة التجاوز،و أن تجري قاعدة التجاوز في الوضوء أيضا،مع أنه لا قائل بذلك.

و فيه:أنه بناء على الوحدة أيضا تكون لكل منهما خصوصية خاصة لدليل مخصوص دلّ عليه،و ذلك لا ينافي وحدة أصل الكبرى،كما لا يخفى.

 الجهة الثالثة:أنه على القول بكونهما من الأمارات تعتبر مثبتاتهما

، بخلاف القول بأنهما من الاصول،و الحق سقوط البحث عن هذه الجهة أصلا، لما مرّ غير مرة من أن ما اشتهر من اعتبار مثبتات الأمارات دون الاصول لا أصل له بنحو الكلية،بل يدور اعتبارها مدار الدلالة العرفية المعتبرة في المحاورات، فمع وجودها تعتبر و لو في الاصول،و مع العدم أو الشك فيها لا وجه للاعتبار و لو في الأمارات،كما أن القواعد مقدمة على الاصول مطلقا،سواء كانت من الاصول أو في الأمارات،فلا ثمرة من هذه الجهة أيضا.فلا فرق بين كونهما من الأمارات أو الاصول.

و كيف كان،لا ريب في تقديمهما على استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك فيه،و إلا لكان اعتبارهما لغوا مطلقا،مع أن اعتبار الاستصحاب معهما لا يكون إلا على وجه الدور دون العكس،كما تقدم و يأتي.

 الجهة الرابعة:الفراغ

تارة:واقعي.

و اخرى:إحرازي بوجه معتبر.

و ثالثة:بنائي،بأن رأى المصلي نفسه فارغا عن الصلاة و كان بانيا عليه بحسب حاله،و لا وجه لإرادة القسم الأول لمنافاته،لتحقق الشك.و إرادة القسم الثاني يحتاج إلى دليل و هو مفقود،مع أنه خلاف التسهيل و الامتنان الذي تبتنى عليه مثل هذه القواعد،فيتعين الأخير الموافق لسهولة الشريعة،فكلما كان المصلي بانيا بحسب حاله على الفراغ عنها و شك في صحتها،تجري القاعدة، و لو كان منشأ الشك فيها الإتيان بالجزء الأخير،و إن كان بانيا على أنه في هذه الصلاة تجري قاعدة التجاوز،و لا تجري قاعدة الفراغ لعدم تحقق شرطها.و كذا لو شك في أنه بان على الفراغ أو لا،لأنه حينئذ من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه،بل تجري أصالة عدم فراغه عنها.

 الكلام في اعتبار الدخول في الغير فيهما

و أما الدخول في الغير فمقتضى الأصل و الإطلاقات،و ظهور التسالم عدم اعتباره في مورد قاعدة الفراغ.و أما قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح:«إذا قمت من الوضوء،و فرغت عنه و قد صرت في حالة اخرى من صلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمي اللّه تعالى عليك مما أوجب اللّه عليه لا شيء عليك».فهو توضيح للفراغ و بيان له،لأن من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء الصيرورة في حالة اخرى غير ما كان مشغولا به أولا،و ليس عليه السّلام في مقام بيان القيد الشرعي المعتبر في مورد القاعدة.و من اعتبر الدخول في الغير في مورد قاعدة الفراغ،فإن كان من جهة أنه من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء،فهو مسلم عند الكل.و إن أراد التعبد الشرعي،فالأدلة قاصرة عن إثباته،مع أن هذا النزاع ساقط من أصله بناء على كفاية مطلق الدخول إلى حالة اخرى عند من يعتبر الدخول في الغير فيها،لأنه تكويني-اعتبر أو لم يعتبر-.

و أما قوله عليه السّلام في صحيح ابن أبي يعفور:«إذا شككت في شيء من الوضوء و قد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء،إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه».فإن مرجع الضمير في(غيره)غير المشكوك فيه،فيكون عبارة عن قاعدة التجاوز،فهو غير معمول به لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء.و إن كان المرجع غير الوضوء من سائر الحالات حتى يكون من قاعدة الفراغ، فالكلام فيه عين ما تقدم آنفا.هذا بعض الكلام في قاعدة الفراغ،و قد تعرضنا لبعضه الآخر في كتاب(مهذب الأحكام).

 الكلام في المراد من التجاوز

و أما التجاوز:فلا ريب في أن المناط فيه التجاوز عن محل المشكوك فيه لا نفسه،إذ مع الشك فيه كيف يعقل التجاوز عنه،و حينئذ فإن كانت القاعدة من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة،و أصالة البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية،فلا وجه لاعتبار الدخول في الغير،لأن في الامور التدريجية تكشف إرادة الدخول في الجزء اللاحق عن تحقق الجزء السابق عليه بأصالة عدم السهو المعتبر عند العقلاء.و إن كانت القاعدة تعبّدية محضة،فيعتبر الدخول في الغير، لظاهر الروايات،و لكن لا بدّ و أن يبحث في أن لنفس الدخول في الغير من حيث هو موضوعية خاصة،أو يكون طريقا و كاشفا عن مضي المحل.يمكن تقريب الأخير،بأن مقتضى المرتكزات كفاية إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تجاوز المحل.

و بعبارة اخرى:تارة:يكون بانيا و مريدا لإتيان الجزء اللاحق.

و اخرى:يكون بانيا على العدم.

و ثالثة:يتردد.و متعارف الناس في الصورة الأولى لا يعتنون بالشك في إتيان الجزء السابق،و قد وردت الأخبار على طبق ذلك أيضا،و في الصورتين الأخيرتين يعتنون بالشك،و حيث أن نفس الإرادة الإجمالية للدخول في الغير غير ملتفت إليها تفصيلا بحسب الغالب،و طريق إحرازها تحقق الدخول في الغير خارجا،ذكر اعتبار الدخول في الغير في الروايات من هذه الجهة لا لموضوعية خاصة فيه،فيكفي مجرد إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تحقق المراد السابق عليه بحسب الارتكازات،و عدم إحراز اعتبار الموضوعية المحضة في اعتبار الدخول في الغير يكفي في عدم الجزم باعتبار الموضوعية فيه،مع ما مرّ من اكتفاء العرف في عدم الاعتناء بالشك السابق عند تحقق إرادة الدخول في الغير و لو لم يدخل فيه بعد،فلا يبقى ظهور في الأدلة لإثبات الموضوعية المحضة.

ثم إنه بناء على اعتبار الموضوعية في الدخول في الغير،هل المراد به الأجزاء المستقلة،أو الأعم منها و أجزاء الأجزاء،أو الأعم منها و مقدماتها؟يشهد للأخير عموم لفظ الغير المتوغل في الإبهام من كل جهة،فيشمل الجميع.

و اشكل عليه:

تارة:بقول زرارة لأبي عبد اللّه عليه السّلام:«رجل شك في الأذان و قد دخل في الإقامة-إلى أن قال-شك في الركوع و قد سجد.قال عليه السّلام:يمضي في صلاته،ثم قال:يا زرارة إذا خرجت من شيء و دخلت في غيره فشكك ليس بشيء».و حيث أن مورد السؤال الأجزاء المستقلة فيخصص عموم الجواب.

و فيه:أن الإمام عليه السّلام في مقام بيان الضابطة الكلية الجارية في تمام الموارد، و تخصيصها بخصوص مورد السؤال خلاف المحاورات العرفية.

و اخرى:بقول أبي جعفر عليه السّلام:«إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، و إن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه».

و فيه:مضافا إلى ما تقدّم في سابقه،أن ذكر ذلك من باب المثال و الغالب لا الخصوصية،إذ لا وجه لها مع بيان الكلية.

و ثالثة:بقوله عليه السّلام أيضا:«و إن شك في السجود بعد ما قام…»فإنه لو كان الدخول في مطلق الغير كافيا لم يكن وجه لذكر القيام،لتحقق الدخول في النهوض له قبل القيام.

و فيه:أن للقيام عن السجود مراتب متفاوتة يصدق بعض مراتبه على أول مرتبة النهوض من السجود،فيصح التمسك بإطلاق القيام،لكفاية الدخول في بعض مراتبة أيضا،بل الظاهر أنه لو رفع رأسه عن السجود و جلس يصح إطلاق: قام عن السجود،كما يصح إطلاق قام عن النوم لمن استيقظ و جلس في فراشه،

و يشهد لكفاية الدخول في مطلق الغير صحيح عبد الرحمن«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:رجل أهوى إلى السجود فلم يدر ركع أو لم يركع.قال عليه السّلام:قد ركع».فإنه نص في كفاية الدخول في مقدمة الجزء أيضا.فالأقوى هو التعميم بالنسبة إلى أجزاء الأجزاء و مقدماتها أيضا،بلا فرق في الأجزاء بين الواجبة و المندوبة،و هذا هو الموافق لسهولة الشريعة المقدسة و مدافعة الشك الذي هو من أقوى وساوس الشيطان.

 الجهة الخامسة:تجري قاعدة الفراغ في الشك في الشرط نصا و إجماعا

و أما قاعدة التجاوز فإن كان لتحصيل الشرط محل مخصوص شرعا،كالطهارة التي لا بد و أن يحصّلها المصلي قبل الدخول في الصلاة-مثلا-فتجري فيه أيضا،لأصالة عدم السهو و الغفلة،و إطلاق الأدلة،و إن لم يكن كذلك-كالستر، و الاستقبال-فعن جمع عدم جريانها فيه.

و استدل عليه:

أولا:بأن الأمثلة المذكورة في الأدلة جميعها من الأجزاء فلا تشمل الشرائط.

و فيه:أنه من باب المثال لا الخصوصية.

و ثانيا:بأنه ليس له محل حتى يصدق التجاوز عن المحل.

و فيه:أن تجاوزه باعتبار محل المشروط،و ذلك يكفي في صدق التجاوز بالنسبة إلى الشرط أيضا.

و ثالثا:بأن مجرى قاعدة التجاوز ما كان موردا للإرادة التبعية،كالأجزاء. و أما الشرائط،فتتعلّق بها الإرادة الاستقلالية لا التبعية.

و فيه:أنها أيضا متعلّق الإرادة التبعية بالنسبة إلى المشروط.

نعم،بعض الشرائط يكون مورد الإرادة الاستقلالية أيضا،كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر،و لكن لا دخل لهذه الجهة بالمقام.

و الحق أن يقال:إنه إن أمكن تحصيل الشرط في الأثناء بلا لزوم مانع في البين،تجري القاعدة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة،فتصح كما تصح الأجزاء اللاحقة،لتحقق الشرط فيها،و إن لم يمكن إلا بتخلل مانع فلا يمكن تصحيح العمل حينئذ،هذا كله في ما كان شرطا لتمام العمل و مجموعه،كالطهارة و الاستقبال مثلا.و أما ما كان شرطا للأجزاء شرعيا كان أو لا،كالجهر و الإخفات بالنسبة إلى أجزاء القراءة،فتجري القاعدة بلا إشكال.لوجود المقتضي و فقد المانع.

 الجهة السادسة:اختصاص جريان القاعدة بخصوص السهو و الغفلة

الجهة السادسة:تختص جريان القاعدتين بما احرز أصل التكليف في الجملة و كان الشك لأجل السهو و النسيان،و أما إن كان لجهات اخرى من عروض دهشة،أو اضطراب،أو احتمال تعمد الترك،أو لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع،أو لاحتمال قصور أو تقصير في الاجتهاد أو التقليد أو نحو ذلك فلا مجرى لهما،بل لا بد من الرجوع إلى القواعد و الاصول الأخر،و لا تضبطها ضابطة كلية،بل تختلف باختلاف الموارد و الأشخاص.

 الجهة السابعة:هل إن البناء على الوقوع في موردها ترخيص أو عزيمة

الجهة السابعة:الظاهر أن البناء على الوقوع في موردهما ترخيص لا أن يكون عزيمة،فيجوز الرجوع و الإتيان ما لم يلزم محذور من زيادة ركن و نحوه. كما أن الظاهر أنه لا يعتبر الالتفات التفصيلي إلى العمل حين الإتيان فيكفي التوجه الإجمالي الارتكازي،للأصل و الإطلاق،و لعل ذلك هو المراد ب‍(الأذكرية)الواردة في بعض الأخبار،فراجع و تأمل.

 الجهة الثامنة:في جريانها في جميع العبادات و المعاملات

الجهة الثامنة:بناء على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو و النسيان لا تختصان بمورد دون آخر،و تجريان في جميع العبادات و المعاملات.و أما بناء على التعبّد فيهما فالتعميم مبني على عدم كون المورد مخصصا،و هو و إن كان كذلك بحسب المحاورات و لكن حيث إن الحكم مخالف لقاعدة الاشتغال فالاقتصار على المورد لعله أحوط،بل يشكل التعميم في الأول أيضا لو لم يكن إجماع عليه في البين،لأن مدرك اعتبار الأصل إنما هو السيرة،و الشك في تعميمها يكفي في عدم التمسك بها للعموم.

 قاعدة الصحة

 الأدلة على اعتبارها

و هي من القواعد المعتبرة،و تدل على اعتبارها-في الجملة-الأدلة الأربعة:

فمن الكتاب:قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ  ، و آية نفي الحرج،و أن بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ  و غيرها من الآيات الواردة في مقام التسهيل و الامتنان و التيسير،المستفاد من عمومها أن التكاليف الفردية و الاجتماعية بين الناس مبنية على التيسير و التسهيل مهما أمكن إليهما سبيل.

و من الأخبار:أخبار مستفيضة واردة في أبواب مختلفة،كقول علي عليه السّلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه،و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير سبيلا»إلى غير ذلك مما هو كثير في أبواب المعاشرة جدا.

و من الإجماع:إجماع المسلمين في الجملة و سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و خلفائه المعصومين عليهم السّلام مع الخلق مطلقا.

و من العقل:بناء العقلاء على عدم التبادر إلى الحكم بالفساد عند الشك فيه بل لا يعتنون بهذا الشك مطلقا،و من بادر إلى الحكم بالفساد يستنكر ذلك منه،فكما أن أصالة الصحة في المزاج أصل معتبر عند الأطباء العقلاء إلا مع إحراز المرض هكذا في الأفعال،و كأصالة الكروية في الأجسام التي أثبتوها في الأجسام الطبيعية بالبراهين،و أصالة عدم العيب في العوضين،إلى غير ذلك من الاصول المرتكزة في الأذهان خلفا عن سلف.

و يدل عليه أيضا أصالة عدم السهو و النسيان،و أن إتيان الفاسد خلاف ما تقتضيه طبيعة الإنسان.

و بالجملة:الصحة مقتضى الطبع في كل شيء مطلقا إلا مع الحجة على الخلاف و قد مرّ مرارا أن الاصول النظامية العقلائية لا تحتاج إلى التقرير،و يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع،فلا وجه لفتح باب المناقشة على الآيات و الروايات مع أن واحدة منها تكفي في استكشاف عدم ثبوت الردع،خصوصا في الشريعة التي بنيت على التسهيل في الامور الفردية و النوعية.و إنما البحث في جهات:

 الاولى:لا وجه للبحث عن أنها أصل،أو قاعدة،أو أمارة

إذ لا ثمرة فيه لا عملية و لا علمية،لتقدّمها على الاستصحاب على كل تقدير،و عدم الكلية في اعتبار المثبتات كذلك ما لم تكن قرينة في البين و تقدم الأمارات المعتبرة عليها. و لكن لا ريب في تقدّمها على الاصول الموضوعية و الحكمية الدالة على الفساد ما لم يكن دليل على الخلاف،و لو قدّمت الاصول عليها لزم لغويتها و بطلان تشريعها مطلقا،و هو واضح البطلان.

 الثانية:المراد بالصحة الواقعية منها

لأن المعاني الواقعية هي المنساقة في المحاورات،مطلقا ما لم تكن قرينة على الخلاف،و هي مفقودة في المقام،مع أن الاعتقادية و الظاهرية طريق إلى الواقع،و لا موضوعية فيها بوجه،فتكون اصالة الصحة كأصالة الإباحة في الأشياء،و أصالة احترام النفس و العرض و المال و سائر الاصول النظامية التي متعلّقاتها واقعيات ما لم يدل دليل على الخلاف.

ثم إنه قد تتحد الصحة في نظر العامل و الحامل اجتهادا أو تقليدا،و قد تختلف،و يمكن أن تكون الصحة في نظر العامل تمام الموضوع للصحة عند الحامل،فلا بد له و أن يرتب عليه آثار الصحة و لا محذور فيه من عقل أو شرع، و هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.

و لا فرق في جريانها بين ما إذا كان الشك في أثناء العمل أو بعد الفراغ منه،للسيرة و إطلاق الأدلة.

نعم،إن كان العمل مما يتقوّم بالقصد و الاختيار لا بد من إحراز ذلك بوجه معتبر.

و يمكن أن يقال إن نفس قاعدة الصحة الجارية في العمل تدل عرفا على تحقق القصد و الاختيار أيضا،و لا يبتنى ذلك على اعتبار مثبتاتها،لأن القصد سواء كان شرطا للعمل أو جزء منه،كسائر أجزائه و شرائطه،فكما تجري القاعدة في الشك في تحقق سائر الأجزاء و الشرائط،تجري عند الشك في تحقق القصد و الاختيار أيضا،مع أنها من صغريات أصالة عدم الغفلة،و هي جارية في الشك في القصد أيضا.

 الثالثة:لا فرق في مجراها بين كونه من العبادات أو غيرها مطلقا

من العقود و الإيقاعات،لشمول الأدلة للجميع،بل قد ادعي إجماع آخر على جريانها في غير العبادات،بل الظاهر أن مورد استدلالهم بأنه لو لم تجر لاختل النظام و تعطلت أسواق الأنام إنما هو في غير العبادات،كما لا يخفى على الأعلام،و لا فرق بين كون منشأ الشك نفس العقد أو الإيقاع،أو ما يعتبر في المتعاقدين،أو العبادات أو العوضين،أو نفس الانتقال،و ذلك كله لعموم الدليل و إطلاق التعليل.

نعم،لو كان الشك في أصل الصدور و الوجود بمفاد(كان)التامة،فلا مجرى للقاعدة حينئذ،لأن مجراها مورد الشك في صحة الموجود لا الشك في أصل التحقق و الوجود،كما هو المتفاهم من الأدلة اللفظية،و مقتضى السيرة العقلائية.

إن قلت:إن منشأ الشك لا بد و أن يرجع إلى فقد جزء أو شرط،فيرجع بالآخرة إلى الشك في أصل الوجود،لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه-شرعيا كان أو لا-و المشروط ينتفي بانتفاء شرطه كذلك،فلا يبقى مجرى للقاعدة أبدا.

قلت:المناط في أصل التحقق هو التحقق العرفي في الجملة و الخروج من العدم إلى الوجود كذلك،لا التحقق من كل حيثية و جهة بجميع القيود و الشرائط المعتبرة،و إلا فلا نحتاج إلى قاعدة الصحة،فيكون المقام نظير التمسك بالعمومات و الإطلاقات في المعاملات لنفي القيود المشكوكة،فكما يكفي فيها مجرد التحقق العرفي في الجملة لئلا يكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،فكذا المقام.

نعم،لو كان الشك مستلزما للشك في أصل الوجود العرفي لا وجه لجريانها حينئذ.

و لعل نظر المحقق الثاني قدّس سرّه حيث ذهب إلى عدم الجريان إلا بعد استكمال الشرائط إلى ما قلناه،فراجع و تأمل،هذا كله إذا شك غير المتعاملين في صحة العقد و فساده،أو اعترف أحدهما بصحته و قال الآخر بالفساد إجمالا من دون الاعتراف بمنشإ الفساد بالخصوص.و أما لو قال أحدهما بالصحة و قال الآخر:إني ما كنت راضيا-مثلا-حين العقد،يشكل جريانها حينئذ،لأن المتيقن من الإجماع و السيرة غير هذه الصورة،بل ظاهر جمع كثير عدم الجريان،فإذا عقد رجل على بنت الأخ و ادعت العمة عدم الإذن و ادعى هو الإذن،فإن الفقهاء يقدّمون قول العمة،مع أن مقتضى أصالة الصحة تقديم قول الرجل،راجع نكاح العروة فصل(المحرمات بالمصاهرة)،و المسألة منقحة في كتاب القضاء من كتاب(مهذب الأحكام).

 الرابعة:مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية و السيرة ترتيب جميع آثار الصحة مطلقا

فكل أثر يترتب على الصحيح الواقعي يترتب على مشكوك الصحة أيضا،فلو شك في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في المجلس،أو في بيع الوقف من عروض المجوز،أو في بيع الفضولي من جهة لحوق الإجازة،أو في عمل النائب من جهة الشك في فراغ ذمة المنوب عنه به، فالكل من مجاري القاعدة،و بجريانها تترتب آثار الصحة مطلقا حتى بالنسبة إلى فراغ ذمة المنوب عنه.

فما يظهر من الشيخ الأنصاري قدّس سرّه من التفكيك في الأخير بجريانها في عمل النائب من حيث هو دون جهة الإضافة إلى المنوب عنه.

مخدوش:لأن النيابة إما تنزيل نفسي،أو تنزيل عملي،و كل منهما مستلزم عند المتشرعة لفراغ ذمة المنوب عنه بعد تصحيح عمل النائب.

ثم إن المتيقن من أدلة قاعدة الصحة اللبية،و المتفاهم من اللفظية منها في ترتيب الآثار على جريانها،هو خصوص الآثار الشرعية،و أما العادية و العقلية فإن حصل الاطمئنان المعتبر بها فهو،و إلاّ فيشكل ترتبها عليه،و الشك في الشمول لها يكفي في عدم الشمول،لأنه حينئذ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.و لكن يمكن القول بالشمول لأنها من الاصول العقلائية،و من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة،فإن ثبت الردع عن الشمول نقول به و إلا فلا محذور في الشمول.

 الخامسة:لا فرق فيها بين أفعال البالغين و المميزين من غيرهم

،فتجري في أفعالهم أيضا.

نعم،لو قلنا ببطلان معاملاتهم رأسا حتى بعنوان الآلية بين الأولياء لا موضوع لها في معاملاتهم،لكنه قول بلا دليل.كما لا فرق في مجراها بين من ظهرت عدالته و بين غيره،و ذلك كله للعمومات و الإطلاقات و عموم بناء العقلاء و أصالة عدم الغفلة.

و مقتضى ذلك أيضا عدم الفرق بين الأفعال و الأقوال في مجراها،فلو تكلم شخص بكلام،و شك في أنه حرام أو مباح،أو مطابق للمحاورات العقلائية أو لا،أو كاشف عن قصده الجدي أو غير كاشف،تجري أصالة الصحة في جميع ذلك كله،فيحكم بإباحته و مطابقته للمحاورات و كشفه عن قصده الجدي.و أما لو شك في أن الكلام ظاهر أو غير ظاهر،أو أنه مطابق للواقع أو لا، فلا يثبت الظهور و لا المطابقة للواقع بأصالة الصحة.

نعم،تجري في نفي احتمال الكذب،و هو أعم من إثبات المطابقة للواقع. و كذا تجري في الاعتقاديات إن شك في التقصير فيها،و أما الشك في القصور أو في المطابقة للواقع فلا يثبت بها ذلك.

 السادسة:هل تختص القاعدة بمورد صدور فعل من الفاعل ثم شك في صحته و فساده

أو تعم مطلق الشك في صدور محرّم منه و لو كان عدما؟مقتضى الإطلاقات هو الأخير،فلو قبض الوصي مال الميت لأن يعمل فيه بالوصية و مات،ثم شككنا في أنه عمل بها فيه أو لا،تجري القاعدة.

 السابعة:مقتضى كون القاعدة تسهيلية امتنانية عدم اختصاصها بفعل الغير

بل تجري بالنسبة إلى نفس الفاعل أيضا لو شك في صحة فعله و عدمها، فتكون قاعدة التجاوز و الفراغ،و أصالة عدم المانع،و عدم وجوب الإعادة و القضاء و غير ذلك من القواعد التسهيلية من صغرياتها،و لا محذور في ذلك من عقل أو شرع.

نعم،منشأ توهم الاختصاص بفعل الغير ظواهر الأدلة اللفظية،مثل قوله عليه السّلام:«ضع أمر أخيك على أحسنه».

و لكنه مردود:بأن التمسك بمثله للاختصاص من قبيل التمسك بمفهوم اللقب و لا وجه له،و المناط كله عدم الاعتناء بالشك،لأنه من فعل الشيطان-كما في بعض الأخبار-و لا فرق حينئذ بين الغير و النفس إلاّ في ما قام دليل معتبر على العدم من إجماع أو غيره،و قد تفحّصنا عاجلا و لم نظفر عليه.

 الثامنة:لا تجري هذه القاعدة مع وجود العلم المنجز على الخلاف

تفصيليا كان أو إجماليا،و كذا لا تجري مع وجود البينة أو الأمارة المعتبرة على الخلاف،بل الظاهر عدم الجريان في ما إذا غلب الفساد على شخص بحيث لم يبق موضوع لحمل فعله على الصحة عند من يعلم بحاله.

 قاعدة اليد:

اليد:عبارة عن الاستيلاء على الشيء عينا كانت،أو منفعة،أو انتفاعا،أو حقا.و تختص بالشبهات الموضوعية فقط.و هي معتبرة بالأدلة الأربعة:

فمن الكتاب: قوله تعالى: وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ  و الإضافة إنما تتحقق باليد و الاستيلاء.

و من السنة:أخبار مستفيضة،منها قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:«من استولى على شيء فهو له»،و قوله عليه السّلام:«لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

و من الإجماع:إجماع المسلمين.

و من العقل:سيرة العقلاء على اعتبارها.

و لا ريب في تقدّمها على الاستصحاب،بلا فرق بين كونها أمارة أو أصلا. و البحث في أنها أصل أو أمارة عين ما تقدم في سابقتها،و لكن الظاهر كونها بالأمارة أشبه.

و لا بأس بالإشارة إلى بعض ما يتعلّق بها و إن كان قد فصّلنا القول فيها في كتاب القضاء:

الأول:لو علم كيفية حدوث اليد من أمانة أو غصب أو نحوهما،ثم احتمل ملكية ذي اليد بالانتقال الصحيح الشرعي إليه،لا يحكم بالملكية لأجل اليد،لعدم السيرة على الحكم بالملكية حينئذ.و الشك في شمول الأدلة اللفظية له،بل الظاهر تحقق السيرة على الخلاف،لجريانها على قبول المدارك المعتبرة في مقابل مثل هذا اليد و الحكم بها عليها.

نعم،لو لم يعلم ذلك و احتمل اقتران حدوث اليد بغصب و نحوه، فمقتضى السيرة و الإطلاق الحكم بالملكية لليد حينئذ.

الثاني:لو كان شيء في يد شخص فعلا،و ثبت شرعا أنه كان لغيره سابقا،يحكم بملكية ذي اليد،لجريان السيرة على العمل بقاعدة اليد حينئذ،

و لعدم المنافاة بين كون شيء ملكا لشخص سابقا و لآخر فعلا،بل ذلك غالبي الوقوع،كما هو واضح.

الثالث:لو أقرّ ذو اليد بأن ما في يده كان لمورّثه،فثبوت موت المورث و ثبوت وارثيته يؤكده،و لا ينافي مثل هذا الإقرار استيلائه على ما في يده،و لا وجه لطلب الحاكم البينة منه أصلا،و عليه فيكون طلب أبي بكر البينة من الصديقة الطاهرة عليها السّلام إن كان لإثبات موت النبي صلّى اللّه عليه و آله،أو لأجل أن الصديقة الطاهرة بنته،فهو مما يقبحه عوام المسلمين فضلا عن خواصهم.و إن كان لأجل أن يد الوارث لا تدل على ملكية ما انتقل إليه من مورّثه فهو خلاف إجماع المسلمين بل سيرة العقلاء كافة،فلا بد لأبي بكر في منع الصديقة عن فدك من إثبات أحد أمرين:إما عدم موت النبي صلّى اللّه عليه و آله،و إما حديث«نحن معاشر الأنبياء لا نورّث…».

و الأول مخالف للوجدان،و ما هو معلوم بين النساء و الصبيان.

و الثاني مخالف للقرآن و سيرة الأنبياء السابقين بل العقلاء أجمعين،هذا إن كانت دعوى الصديقة عليها السّلام أن فدك قد انتقلت إليها بالإرث،و إن ادعت أنها كانت نحلة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لها.أو من اللّه تعالى،كما يظهر من بعض الأخبار، فمقام قداسة الصديقة الطاهرة،و عدم المعارض لها في هذه الدعوى من أحد من المسلمين و لا غيرهم،و كون فدك في يدها يدلّ على أنها عليها السّلام مالكة لفدك، فلا وجه لانتزاعها منها.

و ما يتوهم:من أن المعارض لها أبو بكر و هو وليّ المسلمين،فلا وجه لكون دعواها بلا معارض.

مردود:بأنه لا بد لأبي بكر حينئذ من ردّ دعواها بمقام ولايته،لا بحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»و المسألة مذكورة مفصلا في كتب الكلام و التواريخ من الفريقين.

 قاعدة القرعة:

و هي:مما تعارف بين المسلمين فتوى و عملا،بل و بين العقلاء أيضا في الجملة،و يدلّ عليها:

الكتاب في قصة يونس،قال تعالى: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ  ، و مريم: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ  .

و السنة:مثل قوله عليه السّلام:«فكل شيء مجهول ففيه القرعة»،و ما اشتهر في الكتب الفقهية:«القرعة لكل أمر مشكل».

و يختص مورد جريانها بالشبهات الموضوعية التي ينحصر رفع الشبهة فيها بخصوص القرعة فقط،فلا تجري في مورد يجري فيه الاستصحاب و سائر الاصول الاخرى حتى البراءة،و قاعدتا الحلّية و الطهارة فضلا عن مورد تجري فيه الأمارة،فلا موضوع معها للقرعة أصلا،لأن موردها التحيّر المطلق من كل حيثية وجهة،كما هو المتيقن من الأدلة اللبيّة،و المتفاهم عرفا من الأدلة اللفظية، فلا تعارض بينهما حتى تقدّم إحداهما على الاخرى.

و لا فرق في مورد جريانها بين كونه من حقوق الناس أو حقوق اللّه تعالى،كما ورد في استخراج البهيمة المنكوحة بالقرعة.

ثم إنه قد أثبتنا في كتاب القضاء أن المجهول و المشتبه-الواردين في القرعة-هو الظاهري منهما دون الواقعي،إذ لا يعقل التردد و الجهل في الواقع من حيث هو واقع،لما أثبتنا من أن الوجود مساوق للتشخّص و مناف للتردد، كما لا إشكال في أن القرعة أيضا قد تصيب و قد تخطئ و ما ورد في بعض الروايات من الإصابة لا بد و أن يحمل على حكمة الجعل.و يتوقف جريانها في كل مورد على عمل الأصحاب فهي-و قاعدة الميسور،و قاعدة العدل و الإنصاف-كجزء الدليل لا تمامه،إذ لا اعتبار بها إلا بضميمة عمل الأصحاب.

هذا بعض الكلام في هذه القاعدة و التفصيل يطلب من كتاب القضاء.

هذا آخر ما وفقنا اللّه تعالى لتهذيب الاصول عن الزوائد و الفضول، و نرجو منه عزّ و جل أن يوفقنا لتهذيب أنفسنا،فإنه الغاية القصوى لكل علم و عمل.و كان الختام في أسعد الأيام الثالث من شهر شعبان المعظم من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و ثلاث و سبعين بعد الهجرة،على هاجرها آلاف التحية و الثناء.

و الحمد للّه أولا و آخرا تم الكتاب.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"