التنبيه الأول: انقسام الأحكام إلى تكليفية و وضعية
لا ريب في انقسام الأحكام المجعولة-بالمعنى الأعم من التأسيس و الإمضاء-إلى التكليفية و الوضعية.و الاولى ما يتعلّق بأفعال العباد بلا واسطة، و تنحصر في الخمسة-الواجب و الحرام و الندب و الكراهة و الإباحة-المعروفة. و الأخيرة بخلافها،و لها نحو تعلق بالاولى في الجملة،و المرجع في أقسامها اصطلاح الفقهاء،بل العقلاء.
و يمكن أن يقال:إن كل ما ليس بحكم تكليفي و له دخل فيه،أو في متعلقة،أو في موضوعه فهو حكم وضعي،فاكتفاء بعض بذكر السببية، و الشرطية و المانعية،أو بزيادة العلية،و العلامية،و الرخصة و العزيمة،أو زيادة الولاية و القضاوة أو نحوها-كما عن آخرين-ليس من جهة الحصر،بل من باب ذكر الغالب.
ثم إن البعث نحو الفعل-المعبر عنه بالوجوب-أو الترك-المعبر عنه بالحرمة-أو البعث نحو الفعل مع الإذن في الترك المعبر عنه بالندب،أو البعث نحو الترك كذلك المعبر عنه بالكراهة،أو الترخيص المطلق نحو الفعل و الترك و المعبر عنه بالإباحة،ليست مما تختص بشريعة دون اخرى،بل هي ثابتة في جميع الشرائع،بل في أفعال العقلاء و لو لم يكن التزام بشريعة أصلا،و تكون من الفطريات قررها الشرع.
نعم،تختلف متعلّقاتها باختلاف الشرائع،فرب شيء يكون واجبا في شريعة هو حرام في اخرى أو بالعكس،فأصل الأحكام الخمسة التكليفية من الاعتباريات الفطرية العقلائية لم يردع عنها الشرع،فكيف بالأحكام الوضعية -كالشرطية،و السببية،و المانعية،و الجزئية،و العلية،و العلامية،و القضاوة و الولاية و غيرها-مما كانت شائعة بين الناس ثم وردت الخطابات الشرعية مشتملة عليها،فاستفيدت منها السببية الشرعية و المانعية و نحوها.
ثم إنهم قد اختلفوا في الوضعيات،فمن قائل بأنها انتزاعيات محضة عن التكليفيات،و اختاره الشيخ الأنصاري قدّس سرّه و نسبه إلى المشهور أيضا و ادعى الوجدان في ذلك.
و فيه:
أولا:أنه لم تكن المسألة معنونة في كتب القدماء حتى يستظهر الشهرة فيه،مع أنه لا وجه لاعتبار هذه الشهرة الاجتهادية.
و ثانيا:دعوى الوجدان في نفي الجعل مطلقا حتى إمضاء،خلاف الوجدان،بل في الكتاب و السنة تصريح بالجعل استقلالا في مثل الخلافة و الإمامة و الحجية و نحوها قال تعالى: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً ،و قال تعالى: إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ و غيرهما من الآيات المباركة.
و أما دعوى:أنه لغو فلا وجه لها أيضا،لصحة ترتب الأثر الشرعي عليها من جريان الاستصحاب فيها و نحو ذلك،و قد أجرى نفسه قدّس سرّه الاستصحاب في جملة من الوضعيات،كما لا يخفى على من راجع كتبه الفقهية.
و من قائل بأنه لا جعل إلا للوضعيات.و التكليفيات منتزعة منها،و نسب ذلك إلى الفاضل التوني قدّس سرّه،و هو ظاهر الخدشة،كما لا يخفى.
و من قائل بالتفصيل بأن منها ما تكون مجعولة استقلالا بأسبابها الخاصة و لو إمضاء،كالملكية،و الزوجية،و القضاوة و الولاية،و الصحة و اللزوم،و الحجية و الطريقية و نحوها،و لا وجه للانتزاع فيها بعد صحة الجعل فيها ابتداء.
و منها:ما تكون منتزعة بحسب المتفاهم العرفي،كالشرطية و المانعية و الجزئية للمكلف به،لأنها مجعولة بنفس تشريع المكلف به و جعله،فإذا جعلت الصلاة المشتملة على الأجزاء و الشرائط و الموانع،يكون جعل الصلاة جعلا لها بالعرض،بلا احتياج إلى جعل مستقل بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط، كما أن التكليف النفسي المتعلق بالمركب انحلالي انبساطي بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط،فكذا المقام.
و يرد عليه:أنه يمكن أن يكون الجعل الثانوي لها لغرض التأكيد و التبيين و الاهتمام بها،فلا يكون ذلك لغوا.
و منها:ما لا تكون منتزعة عن التكليف و لا مجعولة و لو بالعرض،كالسببية و الشرطية لنفس التكليف.أما عدم صحة الانتزاع فلأن التكليف متأخر عنها لاقتضاء السببية و الشرطية تقدمهما على المسبب و المشروط،و لا يعقل انتزاعهما عن التكليف المتأخر عنهما ذاتا و حدوثا.و أما عدم صحة الجعل-و لو بالعرض-فلأن السببية أو الشرطية إنما هي لأجل خصوصية تكوينية تقتضي ذلك و مع وجود تلك الخصوصية لا أثر للجعل،إذ لا يحصل الأمر التكويني بالجعل التشريعي،و مع عدمها لا وجه للسببية أو الشرطية.
و فيه:أن الانتزاع عن المتأخر ليس من حيث وجود المتأخر بما هو متأخر ذاتا،بل إنما هو من حيث كونه طرف إضافة المنتزع،و لا ريب في أن المنتزع و المنتزع منه من الامور المتضايفة فيتحدان في الشأنية و الفعلية،فيصح الانتزاع من جهة شأنية المنتزع منه و كونه بالقوة بلا إشكال.و تقدم من هذا القائل نظير ذلك في مقدمة الواجب عند بيان الشرط المتأخر،فراجع.
هذا،و أما عدم الأثر للجعل ففيه أن نفس الخصوصية التكوينية من حيث هي لا تصلح للداعوية ما لم تتم بالجعل الشرعي،لعدم إحاطة العقول بالخصوصيات،و لا بد من الجعل الشرعي لتحقق الداعوية؛فهو لا بد منه من هذه الجهة لا محالة.هذا.
و يمكن أن يرتفع النزاع من البين و إن كان خلاف ظاهر الكلمات،بأن يقال إن من ينفي الجعل عن الوضعيات يريد الاستقلالية و الموضوعية المحضة،و من يثبته فيها يريد الأعم من التبعية و التقريرية،لأن جعل أحد المتلازمين ملازم لجعل الآخر و لو بالتبع،فيكون الجعل أعم من الإمضائي و التأسيسي و الاستقلالي و التبعي،و نتيجة ذلك صحة جريان الاستصحاب في الجميع،و لو انحصر مورد جريان الاستصحاب بخصوص مورد الجعل الاستقلالي الشرعي لبطل جريانه في جملة من الموارد المسلم جريانه فيها عندهم،فيكفي في مطلق الأثر الشرعي و لو بنحو الإمضاء،مع ترتبه على المستصحب بلا واسطة.
ثم إن من الوضعيات الرخصة و العزيمة.
و الاولى التسهيل و الترخيص في الفعل أو الترك،و تطلق على مجرد المشروعية أيضا.
و الثانية عبارة عن عدم المشروعية،و تطلق على الترك اللزومي أيضا.
التنبيه الثاني: الكلام في الاكتفاء بالشك التقديري،مناقشة رأي من اكتفى بالشك و اليقين فقط
يعتبر في الاستصحاب الشك الفعلي،لأنه المتيقن من بناء العقلاء و المتفاهم من الأدلة اللفظية،فلا يكفي التقديري منه،فمن علم بالحدث و غفل عن حاله فصلّى و بعد الفراغ شك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا،لا يجري استصحاب الحدث قبل الصلاة حتى يحكم بالبطلان،لعدم فعلية الشك قبلها و إنما حدث بعد الفراغ منها،بل إنما تجري قاعدة الفراغ و تصح الصلاة.
إن قلت:المناط في جريان الاستصحاب تحقق اليقين و الشك،و هو ثابت في المقام،لأن اليقين بالحدث كان قبل الصلاة و الشك فيه متحقق بعدها، فيجري الاستصحاب و تبطل الصلاة.
قلت-أولا:أن أثر الشك في الاستصحاب لا بد و أن يكون بالنسبة إلى ما بعد حدوثه،فلا يشمل ما قبله.
و توهم:أنه يسري الشك إلى حين صدور الصلاة أيضا.
مدفوع:بأنه لا ينفع في جريان الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية الشك قبل الشروع فيها،و المفروض اعتبارها.
و ثانيا:أنها و إن جرت في الجملة و لكنها محكومة بقاعدة الفراغ.
نعم،لو قلنا بعدم جريان القاعدة،لأنه يعتبر في جريانها عدم العلم بالغفلة حين الشروع في العمل،وجب إعادة الصلاة،لقاعدة الاشتغال.
التنبيه الثالث: المراد من اليقين في مورد الاستصحاب
ليس المراد باليقين في الروايات و الكلمات خصوص اليقين الوجداني المقابل لسائر الحجج المعتبرة،بل هو كناية عن كل حجة معتبرة،و كل ما يصح الاعتذار به،و إنما ذكر مثالا لكل ما يصح الاعتذار به،فكأنه قيل كل ما كنت تعتذر به في الحالة السابقة فابن عليه عند الشك في البقاء،يقينا كان أو أمارة معتبرة،أو أصلا موضوعيا أو حكميا،فيجري الاستصحاب في مورد الأمارات و الاصول مطلقا.
نعم،جريانها في مورد الاصول من قبيل لزوم ما لا يلزم،لكفاية نفس الشك في جريانها بنفسها،فلا وجه بعد ذلك لملاحظة الحالة السابقة و إجراء الاستصحاب إلا إذا ترتب عليه أثر آخر غير ما يترتب على نفس الشك،فلو كان المورد من موارد جريان أصل موضوعي،أو أصل حكمي من الاشتغال،أو البراءة،أو التخيير،يكفي نفس الشك في جريانها بنفسها من دون حاجة إلى عناية اخرى من ملاحظة الحالة السابقة،إلا إذا كان لها أثر خاص لا يترتب على نفس الشك.
التنبيه الرابع:اقسام الاستصحاب باعتبار الجزئي و الكلي
لا ريب في شمول أدلة اعتبار الاستصحاب لما إذا كان المستصحب كليا، كشمولها لما إذا كان جزئيا،و المعروف أن استصحاب الكلي على أقسام ثلاثة، يجري استصحاب الكلي و الجزئي معا في أحدها،و يجري استصحاب الكلي فقط في آخر،و لا مجرى له أصلا في ثالث،لا استصحاب الكلي و لا الجزئي، على ما يأتي من التفصيل.
الأول:ما إذا كان المستصحب جزئيا خارجيا،موضوعيا كان أو حكميا
، فكما يصح استصحاب نفس الجزئي يصح استصحاب الكلي المتحد معه وجودا،فمن بال ثم شك في أنه توضأ أو لا،يصح استصحاب الحدث الجزئي الخارجي البولي،كما يصح استصحاب كلي الحدث أيضا.لأن كلا منهما عين الآخر وجودا و إن اختلفا مفهوما.
الثاني:ما يجري فيه استصحاب الكلي دون استصحاب الفرد و الجزئي
و هو ما إذا لم يكن المستصحب متشخصا خارجا،بل كان بحسب حدوثه مرددا بين فردين و لم يعلم أن ما حدث في الخارج أي منهما،كالرطوبة الحادثة المرددة بين البول و المني،و كما في موارد العلم الإجمالي عند ارتفاع أحد الطرفين،فالاستصحاب في هذا القسم إن أجري في الشخص و الجزئي الخارجي من حيث إنه كذلك،فلا وجه له،لعدم اليقين السابق بحدوث الجزئي متشخصا بالبولية أو المنوية،و إن أجري في المردد بين الفردين من حيث الترديد فلا وجه له أيضا،لأن المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له خارجا بل و لا ذهنا أيضا،و إنما هو من المفروض العقلية،كفرض الممتنعات،لأن التحقق مطلقا مساوق للتشخص،-كما ثبت في محله-و ما لا تحقق له أصلا كيف يتعلق اليقين به،و لو فرض صحة تعلقه به ذهنا لا ينفع لجريان الاستصحاب أيضا،لأنه لا بد فيه من تحقق موضوع الأثر الشرعي تحققا خارجيا،و لا يكفي التحقق الفرضي،فينحصر الاستصحاب الصحيح في استصحاب كلي الحدث،للعلم بتحققه إما في ضمن الفرد الأصغر،أو الأكبر،فحدوث كلي الحدث معلوم بلا كلام و بعد الوضوء يشك في ارتفاعه فيستصحب بقاءه،فيجب عليه الغسل أيضا،فالمقتضي لجريان الاستصحاب في الكلي موجود و المانع عنه مفقود فتجري لا محالة.
إن قلت:لا مجرى لاستصحاب الكلي أيضا لعدم اليقين السابق،بالنسبة إليه أيضا،لأن الكلي عين الفرد،و تقدم عدم اليقين بتحقق شخص خاص من الفرد،و عدم الأثر لليقين بتحقق الفرد المردد في الذهن لو أمكن ذلك.
قلت:لا ريب في أن الكلي عين الفرد،و لكن الفردية متقوّمة بشيئين: الذات المشتركة في جميع الأفراد المتحققة،و الخصوصية التي يتميّز بها كل فرد عن الآخر،و ما لا يقين به هو الثاني دون الأول،فإن حدوث أصل الحدث في المقام معلوم بلا كلام.
إن قلت:نعم،و لكن لا يجري الاستصحاب في الكلي من جهة عدم الشك اللاحق و لو تحقق اليقين السابق بالنسبة إليه،لأن في الرطوبة المرددة بين البول و المني بعد أن توضأ،يعلم حينئذ بارتفاع الحدث الأصغر،و يشك في أصل حدوث الأكبر،فتجري أصالة عدم حدوثه،فيرتفع الشك في بقاء الكلي، لأن الأصل الجاري في السبب مقدم على الأصل الجاري في المسبب،كما يأتي، فلا يبقى موضوع لجريان الأصل في الكلي.
قلت يرد عليه:
أولا:عدم السببية و المسببية في المقام،لتوقفهما على تحقق المغايرة الوجودية،و ليس بين الكلي و الفرد تغاير وجودي أصلا،بل هما واحد وجودا و إن اختلفا مفهوما في العقل.
و ثانيا:الأصل السببي يقدم على المسببي إن كان الترتب بينهما شرعيا، كما في الماء المشكوك الكرّيّة،و الثوب المتنجس المغسول فيه،فإن باستصحاب كرية الماء ترتفع نجاسة الثوب شرعا،و المقام ليس كذلك،فإن وساطة تحقق الفرد لتحقق الكلي تكويني محض و لا دخل للشرع فيه أصلا.
و ثالثا:أصالة عدم حدوث الحدث الأكبر معارضة بأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر،فتسقطان بالمعارضة.
إن قلت:لا كلية لاستصحاب الكلي،فإن من آثار استصحاب كلي النجاسة انفعال الملاقي لها،و لا يحكمون بترتب هذا الأثر في ما إذا علم إجمالا بنجاسة العباء مثلا،و ترددت بين كونها في الطرف الأعلى أو الأسفل ثم تطهر أحد الطرفين،إذ لا ريب في صحة استصحاب كلي النجاسة بعد ذلك و أثر الاستصحاب نجاسة الملاقي للعباء مع الرطوبة المسرية مع أنهم لا يقولون بها، لما تقدم من أن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة،فلا بد إما من القول بعدم صحة استصحاب كلي النجاسة أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة،و كل منهما خلاف المعروف بين الفقهاء،و قد اشتهرت هذه الشبهة بالشبهة العبائية.
قلت:أثر استصحاب كلي النجاسة إنما هو عدم صحة الصلاة في العباء، و أما انفعال الملاقي فليس أثرا لها،لتوقف الانفعال على الملاقاة للنجس المتشخص الخارجي،لما تقدّم في البحث عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة،و باستصحاب كلي النجاسة لا تثبت النجاسة في محل خاص أو موضع مخصوص حتى ينفعل الملاقي له،فالمقتضي لاستصحاب أصل النجاسة موجود و المانع عنه مفقود و أثرها عدم صحة الصلاة،و لكن لا مقتضى لانفعال الملاقي لتوقفه على الملاقاة للنجاسة الشخصية الخارجية.
ثم إن في الرطوبة الخارجة المرددة بين البول و المني إما أن تكون الحالة السابقة على خروجها الطهارة،أو لا يعلم بها أصلا،أو تكون الحدث الأصغر. و في الأولين يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء و الغسل لاستصحاب كلي الحدث،و في الأخير يصح الاكتفاء بمجرد الوضوء،لأصالة بقاء الحدث الأصغر و عدم حدوث الجنابة،هذا كله إن ثبت الأثر للجهة المشتركة.و أما إذا كانت الأدلة ظاهرة في التنويع،و إن أثر كل نوع غير أثر النوع الآخر بحيث يرجع إلى المتباينين أو الأقل و الأكثر ثبوتا،فيكون من القسم الثالث الذي يأتي عدم جريان الاستصحاب فيه،و يمكن أن تكون الرطوبة المرددة بين البول و المني من هذا القبيل،فإن الجهة المشتركة هي النجاسة فقط،و أما الحدثية فأثرها من المتباينات،كما لا يخفى.
الثالث:ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و الجزئي
الثالث من أقسام استصحاب الكلي:ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و لا الفرد،و هو ما إذا علم بحدوث الفرد و علم بارتفاعه أيضا و لكن شك في حدوث فرد آخر قبل ارتفاعه أو مقارنا له،أو شك في تبدله بعد الارتفاع إلى فرد آخر مخالف له من حيث المرتبة لا من حيث الذات،كما إذا علم بحدوث الوجوب و ارتفاعه و شك في تبدله إلى الندب و عدمه.
و الحق عدم صحة استصحاب الكلي في الجميع لاختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا،بل دقة أيضا،إذ الكلي عين الفرد،فما علم حدوثه علم بارتفاعه،و غيره مشكوك الحدوث،فلا وجه لجريان الاستصحاب في بقاء ما حدث للعلم بالارتفاع،بل يجري في عدم حدوث ما هو مشكوك الحدوث.
و أما الصورة الأخيرة فالطلب الجامع بين الوجوب و الندب،و إن علم بحدوثه و شك في زواله،فيصح جريان استصحاب أصل الطلب حينئذ.
لكن فيه:
أولا:أنه لم يثبت كون الوجوب مركبا من الطلب و المنع من الترك،و الندب مركبا منه و الترخيص في الترك،بل هما مرتبتان بسيطتان من الطلب متفاوتتان في الشدة و الضعف،فزوال الوجوب يوجب انعدام تلك المرتبة رأسا،و تحقق الندب يوجب حدوث مرتبة اخرى.
و ثانيا:لا ريب في تباينهما عرفا،و أدلة الاستصحاب منزلة على العرف، فتكون هذه الصورة أيضا كغيرها في اختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة.
نعم،لو كان الوجوب و الندب مركبين من الطلب و الخصوصية،و كانت تلك الخصوصية من الحالات العارضة يجري استصحاب أصل الطلب بلا كلام،و لكنه لا دليل عليه،كما ثبت في غير المقام.
التنبيه الخامس: الكلام في الاستصحاب في الزمان و الزمانيات و المتدرجات في الوجود،الإشكال عليه و الجواب عنه
يعتبر في الاستصحاب اتحاد موضوع الشك و اليقين ليكون الحكم فيهما من الحكم على الموضوع الواحد،و إذا تعدد يكون إجراء حكم اليقين إلى مورد الشك من إسراء حكم ثبت لموضوع إلى موضوع آخر،و لا ريب في بطلانه، فيشكل جريانه في ما لا قرار له و يكون حال اليقين غير حال الشك،كالزمان و الزمانيات،و المتدرجات مطلقا مما لا ربط لكل جزء من سابقه بلا حقه، و يكون كل جزء محفوفا بعدمين.
و لكن هذا الإشكال باطل من أصله،لأنه مبني على كون الاتحاد بحسب الدقة العقلية،و أما إذا كان بنظر العرف فلا إشكال،لحكمه بأن لجميع السيالات و المتدرجات وحدة عرفية اعتبارية،كاليوم،و الليلة،و الأسبوع،و الشهر،و السنة، بل القرن و الدهر و نحوها.و كذا جريان الدم و الماء و نحوها،فيصح الاستصحاب في جميعها لتحقق الوحدة العرفية للمستصحب من حيث اليقين و الشك المتعلقين به.
و أما ما اجيب به عن الإشكال،بأن التعدد إنما هو في الحركة القطعية و هي كون الشيء في كل آن في محل،و أما في التوسطية و هي كون الشيء بين المبدأ و المنتهى فلا تعدد،بل هي واحدة.فإن أريد به ما ذكرناه فهو،و إلا فلا وجه له، لأن الحركة التوسطية لا وجود لها إلا في فرض الذهن و مورد الاستصحاب لا بد و أن يكون خارجيا،و لا يخفى أنه يجري في الزمان و الزماني الاستصحاب الشخصي و الكلي أيضا بما تقدم له من الأقسام.
ثم إن الزمان إما قيد للتكليف،أو للمكلف به،و على كل منهما إما أن يكون على نحو وحدة المطلوب،أو على نحو تعدد المطلوب،أو يشك في أنه من أي النحوين.و لا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان إن شك في بقائه في جميع الأقسام،كما لا إشكال في أنه مع انقضاء الزمان ينقضي التكليف إن كان التقييد بنحو وحدة المطلوب،لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه.و أما إن كان بالنحوين الأخيرين فلا محذور في استصحاب نفس التكليف بعد انقضاء الزمان لعدم القطع بزواله فيستصحب.
و ما يقال:من معارضته باستصحاب عدم جعل التكليف بالعدم الأزلي، فلو شك-مثلا-في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو الرطوبة المرددة بينه و بين البول،فكما تستصحب الطهارة يستصحب عدم جعل الوضوء مثلا موجبا للطهارة،و كذا في نظائره.
مردود:بأنه بعد تشريع الوضوء و جعله موجبا للطهارة مع استجماع الشرائط و بعد حصر النواقض في التشريع،لا وجه لمثل هذا الاستصحاب قطعا، و العرف يأباه و يستنكره.
و أما الإشكال عليه:بأن المتيقن السابق هو العدم المطلق،و المقصود إثباته في زمان الشك الحصة الخاصة منه،فيكون مثبتا.
مردود:بإمكان أن يكون المستصحب نفس الحصة فلا يكون مثبتا،لأنه و إن لم يكن تميز في العدم من حيث هو لكن من جهة إضافته إلى الوجودات يثبت التمييز فيه و تتحقق الحصة أيضا فتستصحب.
ثم إنه إن شك في تحقق أصل زمان خاص بمفاد كان التامة،أو شك في انعدامه،فيستصحب عدم حدوثه في الأول،و بقائه في الثاني،لوجود المقتضي و فقد المانع.و هل يثبت بذلك وقوع العمل في وقته الخاص به أيضا بدعوى عدم الواسطة عرفا،أو خفائه.أو دعوى أن التوقيت عبارة عن وقوع العمل في وقته الخاص به-و لو بالأصل-أو بدعوى جريان الأصل في نفس بقاء الوقت من حيث هو؟لا يبعد ذلك.
التنبيه السادس: في الاستصحاب التعليقي الإشكال عليه و الجواب عنه
مقتضى عموم أدلة الاستصحاب جريانه في ما هو معلّق على شيء، كجريانه في ما لم يكن كذلك،فلو ورد الدليل أن العنب إذا غلى يحرم،ثم صار زبيبا و شك في بقاء هذا الحكم المعلّق على الغليان في حال الزبيبة أيضا،يجري فيه الاستصحاب،فيصير الزبيب المغلي،كالعنب المغلي.و كذا إن قيل أكرم زيدا إن جاءك،و بعد مدة شك في بقاء هذا الحكم لجهة من الجهات،يصح الاستصحاب فيه.
و اشكل عليه:
أولا:بتغاير الموضوع.
و فيه:مضافا إلى عدم اختصاصه بالمقام،فيجري في كل استصحاب كان المشكوك مغايرا مع المتيقن،أن الزبيبة من الحالات لا أن تكون متغايرة مع العنبية،و تغاير الاسم أعمّ من تغاير الذات.
و ثانيا:أنه لا تحقق للمتيقن في مورد الاستصحاب التعليقي،لتعلّق الحرمة على الغليان،و المفروض عدم غليان العنب في حال العنبية،فلا وجه للاستصحاب.
و فيه:أن المستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان،لا الحرمة المنجزة الفعلية،فيستصحب نفس الحكم المنشأ المعلّق،و لا ريب في أن له نحو اعتبار بعد الجعل و الإنشاء.
و ثالثا:أنه معارض باستصحاب الحلية المطلقة،فيسقط بالمعارضة.
و فيه:أن الحلية بغاية الغليان،و مع إثبات الحرمة بالغليان و لو بالأصل لا وجه للحلية المغياة به-كما لا يخفى-فلا محذور في الاستصحاب التعليقي مطلقا،و العرف بحسب ارتكازهم لا يفرّقون بين الاستصحاب التعليقي و التنجيزي،فلا وجه للمناقشة من حيث عدم المتيقن السابق،إذ يكفي فيه الوجود الاعتباري،و لا ريب في أن المنشآت التعليقية لها وجودات اعتبارية عرفية و عقلائية بل و شرعية أيضا.
التنبيه السابع: الاستصحاب في نسخ ما ثبت في شريعة أو شريعتين
يجري الاستصحاب في ما إذا شك في نسخ ما ثبت في الشريعة،سواء كان ذلك في شريعة واحدة أو في شريعتين،لوجود المقتضي له و فقد المانع.
و احتمال تغاير الموضوع،لأن أمة الشريعة السابقة غير اللاحقة.
مردود:بعدم دخالة الخصوصية الصنفية في تشريع الأحكام ما لم يدل عليه دليل بالخصوص،لكونها مجعولة لكل من يستجمع شرائط التكليف مطلقا.كما أن احتمال عدم جريان الاستصحاب للعلم الإجمالي بالنسخ.
مردود أيضا:بانحلاله بالظفر بموارد النسخ بعد الفحص،مع عدم تنجزه لخروج جملة من أطرافه عن مورد الابتلاء،و لا فرق فيه بين كون النسخ قطعا لاستمرار الحكم،أو إظهار أن مدة الحكم و أمده كان إلى حدّ مخصوص و لكنه أنشئ بصورة الدوام لمصلحة فيه،لشمول أدلة اعتباره لكلتا الصورتين.
التنبيه الثامن: في الأصل المثبت،الفرق بين الأمارة و الأصل و المناقشة فيه بيان الحق في المقام
لا ريب في اعتبار وجود الأثر الشرعي في مورد الأمارة و الأصل مطلقا، و هو:
تارة:يترتب عليه بلا واسطة شيء أبدا،أو بواسطة أمر شرعي،و لا ريب في اعتبارهما حينئذ.
و اخرى:مع وساطة أمر عقلي أو عادي،و يعبر عن الأخيرين بالمثبت، أي تثبت الأمارة أو الأصل أمرا غير شرعي و يترتب عليه الأثر الشرعي.و قد اشتهر اعتباره في الأمارات دون الاصول مطلقا.
و خلاصة ما قالوه في وجه الفرق بينهما:أن الأمارة تكون فيها جهة الكشف في الجملة و ما يكشف عن شيء يكشف عن جميع ما يتعلّق به من اللوازم و الملزومات مطلقا.و أما في الاصول فليس فيها جهة الكشف عن شيء أبدا،بل المعتبر فيها هو العمل بالأثر الشرعي المترتب على مفادها فقط،و لا يشمل دليل اعتبارها لغير ذلك.
و بعبارة اخرى:اعتبار المثبتات من سنخ الدلالات الالتزامية التي تتحقق فيما فيه الظهور و الكشف دون غيره.
و فيه:أنه لا كلية في ذلك بل يدور الاعتبار مدار مقدار دلالة الدليل عليه لا محالة مطلقا ما لم تقم.حجة معتبرة عليه،و المتيقن منها ما قلناه،و لا فرق فيه بين الأمارة و الأصل.
نعم،لو قيل بعموم الحجية في مثبتات الأمارات مطلقا لكان بينهما فرق، و لكن لا دليل على هذا التعميم،بل لنا أن نتمسك في اللازم البيّن للاصول بنفس الأدلة الدالة على حجية الاصول،فإنها من الأمارات،و الأمارة حجة في لازمها البيّن،كما مرّ.
و لا بدّ أولا من بيان الأصل،ثم بيان الحق الذي ينبغي أن يقال.
و لا ريب في أن مقتضى الأصل عدم حجية المثبت مطلقا لا في الأمارات، و لا في الأصل،لما اثبتناه من أصالة عدم الحجية في كل شيء إلا ما ثبت بالدليل المعتبر،فإن تمّ الدليل على اعتباره فهو المتبع و إلا فيبقى على مقتضى الأصل. و الدليل على الاعتبار منحصر بنفس الأمارة أو الأصل،فإن استفيد ذلك الأمر العرفي من الأصل أو الأمارة بنحو من الدلالات المحاورية العرفية نقول بالاعتبار،بلا فرق بين الأمارة و الأصل،و إن لم يكن في البين ما يصح الاعتماد عليه في هذه الدلالة فلا اعتبار به مطلقا بلا فرق بينهما أيضا،و مورد الشك ملحق بهذه الصورة أيضا،لأصالة عدم الاعتبار،و إن وجد في الأمارة دون الأصل أو بالعكس فعليه المدار.
و بعبارة اخرى:اعتبار المثبتات من قبيل اعتبار المداليل الالتزامية المختلفة بحسب اختلاف الموارد و الجهات،بلا فرق بين الاصول و الأمارات، و لا كلية للنفي المطلق بالنسبة إلى الأولى،و لا للإثبات المطلق بالنسبة إلى الأخيرة.
و لعل إلى ما ذكرناه يرجع ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من اعتبار مثبتات الاستصحاب مع خفاء الواسطة،و ما عن المحقق الخراساني قدّس سرّه من اعتبارها في ما إذا كانت من قبيل المتضايفين.
بقي امور لا بد من التنبيه عليها:
الأول:في المراد بالأثر الشرعي
الأول:كل ما يصح انتسابه إلى الشارع فهو أثر شرعي،سواء كان تكليفيا أو وضعيا،تأسيسيا أو إمضائيا،فاستصحاب البراءة من التكليف لا يكون مثبتا، لأن نفي التكليف مجعول الشارع كوضعه و لو إمضاء،فيصح نسبة الرفع و الوضع إليه،و ذلك يكفي في عدم كون الأصل مثبتا.و كذا استصحاب وجود الجزء و الشرط و فقد المانع،لا يكون مثبتا لترتب الأثر الشرعي عليه و هو صحة العمل، و كذا استصحاب عدمها لترتب الفساد بلا إشكال في ذلك،بناء على كون الصحة و الفساد مجعولين مستقلين شرعا،بل و كذا بناء على انتزاع الصحة في أثناء العمل من وجوب الإتمام،و انتزاع الفساد من وجوب الإعادة أو القضاء،لما يأتي.
الثاني:لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي و الفرد
و اللازم و الملزوم،سواء كان لازم الوجود،أو لازم الماهية،لمكان الاتحاد بينهما عرفا بل عقلا، فاستصحاب الوجوب الكلي،و الملكية الكلية،و تغير الكر بالنجاسة،لا يكون مثبتا بالنسبة إلى الوجوب الشخصي و الملكية الشخصية و نجاسة الماء الخارجي الجزئي.
الثالث:أقسام الأثر المترتب على الشيء
الثالث:الأثر المترتب إما شرعي فقط،أو غير شرعي فقط،أو غير شرعي مترتب على الشرعي،أو شرعي مترتب على غير الشرعي.
و لا ريب في اعتباره في الأول،كما لا ريب في عدم الاعتبار في الثاني، و الثالث معتبر بلا إشكال،لتحقق الموضوع،فيترتب عليه الأثر غير الشرعي، كترتب استحقاق العقاب على مخالفة الوجوب المستصحب،و إجزاء امتثاله، و نحو ذلك من الآثار غير الشرعية.و الأخير هو الأصل المثبت المعهود،فقد يكون معتبرا مع الاتحاد بنظر العرف،و قد لا يكون معتبرا،كما في مورد حكم العرف بالاختلاف و التباين.
الرابع:الجواب عن موارد ربما يستظهر من المشهور اعتبار الأصل المثبت فيها
الرابع:ربما يستظهر من المشهور ما يوهم ذهابهم إلى اعتبار الأصل المثبت.
منها:ما إذا اتفق الوارثان على إسلام أحدهما في أول اليوم و الآخر في آخره،و اختلفا في موت المورث،فقال أحدهما إنه مات في الظهر-مثلا-فلا يرث من أسلم في آخر اليوم،و قال الآخر بل مات بعد الغروب،فلا يختص الإرث بأحدهما.فحكم الفقهاء باشتراكهما في الإرث و عدم الاختصاص بأحدهما،مع أن الإرث متوقف على كون الإسلام قبل الموت أو مقارنا له، و إثبات ذلك بالأصل يكون مثبتا.
و فيه:أنه ليس من الأصل المثبت،لأن المنساق من الأدلة كفاية الموت عن وارث مسلم و لو كان إحراز الإسلام بالأصل،و لا دليل على لزوم تقدم إسلام الوارث على موت المورث و لا مقارنته معه حتى يكون ذلك من الأصل المثبت.
و منها:حكمهم بالضمان في من استولى على مال الغير،ثم شك في أنه كان بحق أو لا،فإن كان الضمان لقاعدة اليد فهو من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه،و إن كان لأصالة عدم الإذن فلا توجب الضمان إلاّ بعد إثبات العدوان،و لا يكون ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.
و فيه:أنه يصح إثبات الضمان بقاعدة اليد مع عدم كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،لأن مطلق وضع اليد على مال الغير يوجب الضمان إلاّ إذا احرز بوجه معتبر ثبوت الإذن و الرضا فيه،فوضع اليد على مال الغير متحقق وجدانا،فتشمله القاعدة قهرا،مع أن نفس عدم إحراز الإذن و لو بالأصل يكفي في الضمان،و لا نحتاج إلى إثبات العدوان حتى يكون من الأصل المثبت.
و منها:غير ذلك مما يذكر في الفقه مع إمكان دفع الشبهة بأدنى تأمل.
الخامس:جريان الاستصحاب في ما كان الأثر للبقاء فقط أيضا
الخامس:لا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد يكون فيه الأثر الشرعي حدوثا و بقاء،كما لا ريب في جريانه في ما إذا كان الأثر للبقاء فقط.و أما إن كان بمجرد الحدوث فقط دون البقاء فلا مجرى له أصلا،و هو أوضح من أن يخفى.
التنبيه التاسع: أقسام الشك في حدوث الحادث،للكلام في جريان الاستصحاب في ما كان للشك في السبق و اللحوق،الكلام
الشك في حدوث كل حادث على أقسام خمسة:
الأول:أن يلحظ بالنسبة إلى ذاته فقط،و يجري استصحاب عدمه مع تحقق أركانه.
الثاني:أن يعلم بأصل الحدوث في الجملة و يشك في زمانه،فلا ريب في جريان استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به،و أما إثبات أن زمان الحدوث كان في الأمس أو قبله-مثلا-فليس ذلك من شأن الاستصحاب، لكونه مثبتا.
نعم،يمكن إثبات الحدوث في آخر أزمنة إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة من الأصل و الوجدان،و هو احتمال حسن ثبوتا،و لكن يحتاج إلى دليل إثباتا،و مقتضى الأصل عدم حجية الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر عليها من عرف أو شرع.
الثالث:أن يعلم بحدوث الحادثين في الجملة،و يشك في السبق و اللحوق بينهما،و يكون الأثر الشرعي لنفس عدم أحدهما في ظرف الآخر واقعا من دون تقييد بينهما أبدا.و لا ريب في عدم صحة الاستناد إلى استصحاب عدم كل منهما،إما لجريانهما و السقوط بالمعارضة،كما عليه جمع منهم المحقق الانصاري قدّس سرّه.أو لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين،كما عليه جمع آخر منهم المحقق الخراساني قدّس سرّه،كما إذا علم بحياة الوالد و الولد يوم الخميس و بموتهما يوم الأحد،و شك في أن موت الوالد كان في يوم الجمعة،و موت الولد في يوم السبت،أو بالعكس مع العلم بعدم التقارن،فأصالة بقاء حياة الوالد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الولد يوم الجمعة،و أصالة بقاء حياة الولد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الوالد يوم الجمعة،فجريان الاستصحابين مستلزم لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين في كل منهما،و هو معتبر،فلا يجري لعدم المقتضى لا لوجود المانع،أي السقوط بالمعارضة،فعدم صحة الاستناد إلى الاستصحاب مسلّم بين الجميع،و النزاع بينهم علمي و لا يترتب عليه أثر عملي.
و لكن يمكن الخدشة في الوجه الثاني بأن إحراز انفصال المشكوك عن المتيقن بحجة معتبرة،مانع عن جريان الاستصحاب،لا أن يكون إحراز الاتصال شرطا،إذ لا دليل عليه،فيكفي عدم العلم بالانفصال بعد تحقق اليقين و الشك،و صدق عدم النقض عرفا بالنسبة إلى كل واحد من الاستصحابين في حدّ نفسه،مضافا إلى تحقق الاتصال الزماني خارجا،و اتصال المشكوك بالمتيقن ذهنا،و مقتضى الإطلاق و عموم السيرة عدم اعتبار أزيد من ذلك.هذا مع أن إثبات الانفصال بجريان الأصل مثبت لا اعتبار به.
الرابع:ما إذا علم بتاريخ أحدهما،و شك في الآخر،مع ترتب الأثر الشرعي على نفس عدم مجهول التاريخ في زمان الآخر،فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى المجهول دون المعلوم،لليقين بزمان حدوثه.
نعم،يشك في أنه قبل زمان حدوث مجهول التاريخ أو بعده،و يأتي حكمه.
الخامس:أن يشك في التقدم و التأخر و التقارن،و كان الأثر الشرعي مترتبا على ما اتصفت بهذه العناوين خارجا،أي بمفاد كان الناقصة،و لا ريب في عدم جريان الاستصحاب لعدم العلم بالحالة السابقة،إذ المعلوم إنما هو نفس الحدوث في الجملة،لا عنوان التقدم و ضديه.
نعم،لو كانت نفس هذه العناوين من حيث هي موردا للأثر الشرعي، و قلنا بكونها من الاعتباريات العقلائية الممضاة شرعا،يجري الاستصحاب فيها و يسقط بالمعارضة،سواء كان الأثر الشرعي لكل واحد منها في مورد واحد،أو كان لكل منها أثر شرعي خاص مبتلى به في مورد المعارضة،و لا فرق في هذا القسم بين ما إذا جهل تاريخ الحادثين،أو علم تاريخ حدوث أحدهما و جهل الآخر.
ثم إنه لا فرق في مجهولي التاريخ بين ما إذا أمكن الجمع بينهما،كموت المورث و إسلام الوارث،أو لم يمكن،كالحدث و الطهارة المتعاقبين،و قد تشتت الأقوال في الأخير.و الحق جريان الاستصحاب فيهما و سقوطهما بالمعارضة،هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المقام؛و قد ذكرنا بعض الكلام في كتاب(مهذب الأحكام)في مسألة توارد الحالتين من الحدث و الطهارة.
التنبيه العاشر: الكلام في الاستصحاب في الاعتقادات،أقسامها، استصحاب الحكم،استصحاب بقاء الشريعة
يجري الاستصحاب في الاعتقاديات،كجريانه في الفرعيات لعموم أدلته و إطلاقاتها،و تسميته بالأصل العملي باعتبار الغالب،مع أنه أعم من العمل الجارحي و الجانحي.
ثم إن الاعتقاديات على أقسام:
فتارة:يكون المطلوب فيها مجرد الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه من دون لزوم تحصيل العلم به.
و اخرى:يلزم تحصيل العلم به،و على كل منهما:
تارة:يكون مورد الاستصحاب نفس الموضوع.
و اخرى:هو الحكم.و على كل من هذه الأقسام الأربعة:
تارة:يكون الحاكم به هو العقل،و اخرى:يكون هو الشرع.فهذه ثمانية أقسام،و لا وجه لجريان الاستصحاب في الموضوع في جميع هذه الصور؛ سواء كان مما يكفي فيه مجرد الاعتقاد،أو لزم تحصيل العلم به،لأن الاستصحاب متقوّم بالشك و التردد،و الاعتقاد متقوّم بالجزم أو العلم.و هما لا يجتمعان إلاّ أن يدل دليل من الخارج على كفاية الجزم و العلم التعبدي في الاعتقاديات أيضا.
و أما الاستصحاب في الحكم فلا محذور فيه إن كان الحاكم هو الشرع،بل و كذا إن كان هو العقل و قلنا بكفاية عدم الردع في الأثر الشرعي،و إلا فيختص جريانه بما إذا كان الحاكم هو الشرع فقط،بل يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية مطلقا،لأن اللازم في الاعتقاديات تحقق العجز عن تحصيلها،فمع العجز لا وجه للاستصحاب.و كذا مع عدم إحراز العجز لوجوب تحصيلها إلى أن يظهر العجز أيضا،فلا مورد للاستصحاب في الاعتقاديات أصلا،فظهر بطلان تمسك الكتابي بالاستصحاب لبقاء شريعته إلى أن يثبت الدليل على نسخه،مع أن الدليل إما برهاني،أو إلزامي،أو إقناعي؛ و استصحاب بقاء الشريعة لا يصلح لكل منها.إذ الأول عبارة عن اعتقاد الطرفين بصحة جميع المقدمات القريبة و البعيدة في البرهان،و إلا فلا ينفع شيئا،فلا بد و أن يعتقد الكتابي و المسلم بصحة الاستصحاب في الشريعتين،مع الاعتقاد بصحة كل من الشريعتين مستقلا،فإذا اعتقد الكتابي بصحة الشريعة الختمية و كونها دينا سماويا ناسخا لما سبقه من الأديان،يصير مسلما و يزول موضوع الاستصحاب لا محالة.و الثاني عبارة عن كون الدليل مشتملا على مقدمة مقبولة لدى الخصم فيرده بما هو مقبول لديه،مثل أن يقول الكتابي للمسلم:أنت تعترف بصحة الاستصحاب و نبوة عيسى عليه السّلام،و نحن نستصحب نبوة عيسى إلى أن يثبت الدليل على عدمه.و لا يصح ذلك أيضا،إذ المسلم لا يعترف بنبوة عيسى مطلقا،بل نبوته من حيث أخبر بها خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله،و نسخت نبوته بالشريعة الختمية،و مع هذا الاعتقاد لا موضوع للاستصحاب رأسا.و الثالث عبارة عما لا يفيد العلم،بل يوجب رفع المخاصمة في الجملة،و هو باطل في المقام أيضا،لأن النبوة مما يعتبر فيه تحصيل العلم،و الدليل الإقناعي بمعزل عن ذلك.
التنبيه الحادي عشر: الكلام في بعض الموارد التي قد يتردد بين كونها من الأصل اللفظي حتى يتقدم أو الأصل العملي تحقيق الكلام
لا ريب في تقدم الأمارات مطلقا،و الاصول اللفظية على الاصول العملية بلا خلاف من أحد،و لكن قد يتردد بعض الموارد في أنه من موارد الرجوع إلى الدليل اللفظي أو الأصل العملي،و على الأول هل هو العام أو الخاص لو كانا في البين؟كما إذا ورد عام مثل(أوفوا بالعقود)و خاص مثل(المغبون له الخيار) و شك في أنه على الفور أو التراخي،فهل المرجع هو العام،أو الخاص،أو استصحاب بقاء الخيار؟فيه احتمالات،بل أقوال:
و لا بد أولا من بيان أمر،و هو أن الزمان:
تارة:يلحظ بالنسبة إلى ما يقع فيه-حكما كان أو موضوعا-على نحو الظرفية الاستمرارية فقط،كقول:أكرم العلماء دائما و أبدا،أو نحو ذلك من التعبيرات الظاهرة في الاستمرار،فلا يكون في البين إلاّ شيء واحد مستمر،لا أشياء متعددة بحسب تعدد أجزاء الزمان.
و اخرى:تلحظ أجزاء الزمان المتكثرة كل واحد منها لحاظا مستقلا، كقول:أكرم العلماء كل يوم-مثلا-و اصطلح عليه بالعام المفرد،فيحصل لما يقع فيه حينئذ أفراد طولية،كما كان له أفراد عرضية.
و الفرق بين القسمين:أن القسم الأخير يستقر ظهور الدليل في جميع الأفراد الطولية و العرضية.و لا يضرّ عروض التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد باستقرار الظهور في سائرها،فيصح التمسك بالدليل حينئذ في غير ما علم عروض التخصيص عليه،بخلاف القسم الأول،فإنه لم يكن في البين إلا لحاظ الاستمرار لوحدة الاتصالية الملحوظة،و ليس الدليل إلاّ متكفلا لذلك فقط،فإذا ورد عليه التخصيص و انقطع الاستمرار و انفصمت الوحدة الاتصالية،ليس في البين ظهور للعموم بالنسبة إلى سائر الأفراد حتى يرجع إليه،فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر،بلا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص حادثا بحدوث العام أو حدث بعده.
و يمكن أن يجعل القسمان متلازمين واقعا،فالاستمرارية تلازم المفردية و بالعكس،لأن الاستمرارية عبارة عن شمول الدليل للأفراد الطولية بلحاظ الاستمرار،و المفردية عبارة عن شموله لها بلحاظ نفس تلك الأفراد مستقلا. و الظاهر اشتمال كل منهما للمفردية و كونها ملحوظة في الجملة إلاّ أنها في الاستمرارية ملحوظة إجمالا،و في المفرّدية تفصيلا،فالاستمرارية تدل على التفريد بالالتزام العرفي و على الاستمرار بالمطابقة،و المفردية تدل على التفريد بالمطابقة و على الاستمرار بالالتزام العرفي،فلا ثمرة معتنى بها للفرق في البين من هذه الجهة بعد التلازم العرفي بينهما،هذا إذا علم الاستمرارية أو التفريد بالقرينة المعتبرة.
و إن شك في أنه من أيهما و لم تكن قرينة على تعيين أحدهما،فلا موضوع للثمرة حينئذ حتى بناء على عدم التلازم.و لا يبعد أن يقال إن الأصل في العموم الاستمرارية إلاّ أن يدل دليل على التفريد،لأن الأصل عدم ملاحظة الأفراد مستقلا.
ثم إن الأقسام أربعة:فإن العام إما أفرادي،أو استمراري،و على كل منهما يكون الخاص إما أفراديا أو استمراريا.فإن كان العام أفراديا فالمرجع عند الشك في التخصيص هو العام مطلقا،سواء كان الخاص أفراديا أيضا أو استمراريا، لكون الأفراد مورد شمول العام،فالمقتضي للتمسك به موجود و المانع عنه مفقود،و لا يصح التمسك بدليل الخاص لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية،كما لا يصح الرجوع إلى الاستصحاب،لكونه محكوما بدليل العام بلا كلام.هذا إذا كان شمول العام لتلك الأفراد معلوما،و إن كان مشكوكا لجهة من الجهات فلا يصح التمسك به حينئذ أيضا،بل يرجع إلى دليل أو أصل آخر.
و إن كان العام استمراريا فلا وجه للرجوع إليه لانقطاع استمراره بالخاص،كما لا وجه للرجوع إلى الخاص أيضا مطلقا-استمراريا أو إفراديا-لفرض الشك في كون المورد مشمولا له أو لا،فيكون الرجوع إليه من الرجوع إلى الدليل في الموضوع المشتبه،و حينئذ فإن صح الرجوع إلى الاستصحاب يرجع إليه،و إلا فلا بد من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر.هذا بناء على عدم الملازمة بين الاستمرارية و التفريد،و إلا فيصح الرجوع إلى العام في هذا القسم أيضا.
ثم إن الاستمرارية و التفريد لا بد و أن يستفاد من القرائن الداخلية أو الخارجية،و ليست في البين قرينة كلية دالة على احداهما بالخصوص.هذا بعض ما يتعلق بالمقام.
التنبيه الثاني عشر: المراد بالشك في البقاء
المراد بالشك في البقاء مطلق غير الحجة المعتبرة،فيشمل الظن غير المعتبر،كما يشمل الوهم أيضا،لأن ظاهر قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»هو جعل الشك في مقابل اليقين الذي يكون كناية عن مطلق الحجة المعتبرة،فكأنه قال عليه السّلام:لا تنقض الحجة بغيرها.و أما الاستدلال بالإجماع على أن الظن غير المعتبر كالشك فلا وجه له،لعدم اعتبار مثل هذا الإجماع لكونه اجتهاديا لا تعبديا،كما لا يخفى.
التنبيه الثالث عشر: الكلام في استصحاب الصحة،المراد منها
استصحاب الصحة عند الشك فيها إن كان بمعنى الصحة الفعلية من كل حيثية و جهة لا وجه له،للشك في أصل حدوثها و ثبوتها ما لم يفرغ عن العمل مستجمعا للشرائط فلا يقين بحدوثها كذلك في أثناء العمل حتى يستصحب بقاؤها.و إن كان المراد الصحة الاستعدادية الإمكانية التعليقية،بمعنى أنه لو تحققت الأجزاء مستجمعة للشرائط و فاقدة عن الموانع لكانت صحيحة،فهي مقطوعة البقاء،و لا شك فيها أبدا.و إن كان المراد بها بقاء الهيئة الاعتبارية،و عدم زوالها و عدم خروج المكلف عما كان متلبسا به سابقا،فيصح هذا الاستصحاب لوجود المقتضي و فقد المانع.
و أما استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب،فإن اريد به الوجوب الغيري المحض فلا وجه له،لكونه معلوم الارتفاع،مضافا إلى ما تقدم من عدم الوجوب الغيري للأجزاء،و كذا إن اريد به المردد بين الغيرية و النفسية، لكونه مرددا بين ما هو معلوم الارتفاع و مشكوك الحدوث،بل و كذا إن اريد بها النفسي المحض للعلم بزواله بتعذر بعض الأجزاء.
نعم،لا بأس باستصحاب مقدار من الوجوب النفسي الانبساطي لا المقدمي و لا النفسي بتمام حدوده،و حينئذ فإن دلّ على تنزيل الفاقد منزلة الواجد و الاكتفاء بالميسور عن المعسور فهو،و لا تصل النوبة معه إلى التمسك بالأصل،و إلا فلا طريق لنا لإثبات البقية بالأصل،و تقدم في بحث الاشتغال ما ينفع المقام.
التنبيه الرابع عشر: أقسام اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة،تعيين المراد منها
يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة،إذ مع عدمه يكون من إثبات حكم ثابت في موضوع لموضوع آخر مغاير له،و بطلانه غني عن البرهان و موافق للوجدان.
و الاتحاد إما عقلي أو عرفي،أو بحسب المنساق من ظاهر الدليل.و لا وجه لاحتمال الأول،لعدم كون الأحكام الشرعية مبنية على الدقيات العقلية. و الأخير يرجع إلى الثاني،لفرض أن الأدلة منزلة على العرفيات إلاّ ما ورد فيه التعبد بالخصوص،فيرجع لباب المقال إلى أنه يعتبر اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بنظر العرف المنزّل عليه الدليل،و ذلك كله مستغن عن البرهان و التعليل.
ثم إن العرف إنما يعتبر في المفاهيم المستفادة من الألفاظ المستعملة،و ما يتبادر منها من المعاني في المحاورة،لأن الإفادة و الاستفادة مبنيان على المحاورات و المتفاهمات العرفية،و الظهور الاستعمالي-و لو كان مجازا-مقدم على الوضعي-و لو كان حقيقة-و أما المصاديق الخارجية فانطباق مفاهيم الألفاظ عليها لا بد و أن يكون قهريا،لأن نسبتها إلى المفاهيم نسبة الفرد إلى الكلي،و لا يدور ذلك مدار الأنظار العرفية،فمع الانطباق القهري تكون المصاديق من تلك المفاهيم،حكم العرف بذلك أو لم يحكم،و مع عدمه لا يكون منها و لو حكم العرف بذلك.
نعم،قد يكون نظر العرف-كالبينة و نحوها-طريقا إلى صحة الانطباق القهري،فيكون المدار عليه بالآخرة،و الباقي يكون طريقا لإحرازه.
تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية:
لا ريب في تقوم الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة،فيكون من إسراء الدليل السابق إلى حالة الشك في مفاده و مدلوله،فيصير الدليل-علما كان أو أمارة-قسمين:حقيقيا و تنزيليا،و الثاني عبارة عن الاستصحاب.فكل حكم يكون للدليل الحقيقي يكون للتنزيلي أيضا،إلا مع وجود قرينة معتبرة على الخلاف،و حيث أن الدليل الحقيقي مقدم على الاصول مطلقا فكذا التنزيلي،و ما يكون من الحقيقي واردا على الاصول يكون في التنزيلي هكذا،و ما يكون حاكما في الحقيقي فكذلك في التنزيلي.
و بالجملة فإن الأدلة الاجتهادية بحقيقيتها و تنزيليتها مقدمة على الاصول مطلقا،مع أنه لو بني على تقديم الاصول على الاستصحاب يكون اعتباره من اللغو الباطل،مضافا إلى أنه من التخصيص بلا مخصص إلاّ على وجه دائر،مع أن المتعارف بفطرتهم لا يترددون في تقديمه عليها،بل لا يلتفتون مع لحاظ الحالة السابقة إلى أصل من الاصول أصلا.
تعارض الاستصحابين:
و هو على أقسام:
الأول:أن يكون الشك في أحدهما سببا شرعيا للشك في الآخر،كالشك في الكرّيّة،الذي يكون سببا للشك في بقاء نجاسة الثوب المتنجس المغسول فيه.و لا ريب في تقديم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب، استصحابا كان أو غيره،و هو الذي تقتضيه المرتكزات العرفية في المحاورات الدائرة بينهم أيضا،لأن بجريان الأصل في السبب يزول الشك في المسبب شرعا،فيكون خروجه عن تحت عموم دليل الأصل بالتخصّص بخلاف العكس فإن خروجه عنه حينئذ يكون من التخصيص بلا مخصص،كما لا يخفى.
و هل بكون هذا للورود،أو الحكومة،أو التخصيص؟لكل وجه و قال بكل قائل.و لا ثمرة عملية بل و لا علمية في تحقيق ذلك فمن شاء العثور على التفصيل فليراجع المطولات.
و لا فرق في ذلك بين توافقهما في المؤدى أو تخالفهما فيه.
الثاني:أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر،و هو باطل للزوم الدور،و لا فرض له في الشرعيات،بل هو من مجرد الفرض الوهمي فقط.
الثالث:أن لا يكون في البين سببية أصلا،و لكن لزم من جريانهما المخالفة العملية،كالإناءين الطاهرين اللذين علم بحدوث نجاسة في أحدهما فيلزم من جريان الأصل فيهما المخالفة العملية.فلا يجريان معا من هذه الجهة و لا في أحدهما،لأن جريانه في أحدهما المردد من حيث هو لا معنى له،لعدم التحقق للمردد في الخارج.كما أن جريانه في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح،فلا بد من السقوط بالتعارض،و قد تقدّم أن العلم الإجمالي كالتفصيلي في التنجز.
الرابع:أن لا تكون في البين السببية أصلا و لا يلزم المخالفة العملية أيضا،و لكن كان جريانهما مخالفا لما هو المعلوم في البين،كما إذا علم تفصيلا بنجاسة الإناءين،ثم علم بطهارة أحدهما،فلا يلزم من استصحاب نجاستهما المخالفة العملية،بل يكون مخالفا لما هو المعلوم في البين،فلا يجريان من هذه الجهة.
الخامس:ما إذا لم يكن في البين سببية أصلا و لا المخالفة العملية و لا العلمية،و لكن دلّ الدليل من الخارج على عدم جريانهما،كما إذا كان ماء طاهر ينقص عن مقدار الكر بقدر خاص،فتمم ذلك القدر بماء نجس في أحد أطرافه،فلا مانع من جريان استصحاب طهارة الماء الأول و نجاسة الماء المتمم، و يترتب أثر كل منهما،فيكون الطرف الذي القي فيه النجس نجسا بخلاف باقي الأطراف،و لكن ادعي الإجماع على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة و النجاسة.
و ربما يتوهم بأن هذا القسم من القسم الأول،لأن نجاسة المتمم سبب لنجاسة الماء،فيجري الاستصحاب في السبب و لا يبقى موضوع بعد ذلك لجريان الأصل الآخر.
و لكنه مردود بأن منشأ حدوث السببية الإجماع المدعى على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه،راجع التفصيل في المياه من كتاب (مهذب الأحكام).
السادس:ما إذا لم يكن شيء مما سبق في البين أصلا،كمن توضأ غفلة بمائع مردد بين البول و الماء ثم التفت إليه،فيجري استصحاب طهارة مواضع وضوئه و استصحاب بقاء حدثه،بناء على صحة التفكيك في لوازم الاصول،و إلاّ يكون هذا القسم من القسم الرابع،كما لا يخفى.
فمقتضى الأصل في جميع أقسام تعارض الاستصحاب التساقط،لأن الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح،و المفروض عدم إمكان الجمع بينهما،و عدم دليل على التخيير.
و قد يحتمل في جميع ما تقدم من الأقسام الأخذ بالراجح و مع فقده فالتخيير.
و فيه:أن الترجيح إن كان بالأمارة المعتبرة،فمع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل حتى يتحقق التعارض،إذ لا وجه لجريان الأصل مع وجود الأمارة المعتبرة،موافقة كانت أو مخالفة.و إن كان بغير المعتبرة منها فقد تقدّم أن الظنون غير المعتبرة لا تصلح للترجيح.كما لا وجه للترجيح بالأصل موافقا كان أو مخالفا،لأن الأصل عدم حصول الترجيح بشيء إلا بما دلّ الدليل عليه،و لا دليل على حصوله بالظن غير المعتبر و الأصل.
نعم،لا بأس بكون الأصل مرجعا بعد سقوط المتعارضين عن الاعتبار.
ثم إنه قد استشكل على شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بأنه قد علل عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي في جملة من كلماته-فقها و أصولا- بلزوم المخالفة العملية،مع أنه قدّس سرّه علله في بعضها بلزوم المناقضة بين صدر دليل اعتبار الاستصحاب و ذيله.و أورد عليه بوجوه،و قد تقدم ما يتعلّق به في بحث الاحتياط،فراجع.