1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. ماقیل حول السید
  6. /
  7. جمال السالکین
  8. /
  9. الفصل الثانی: حياته الأخلاقيّة والعرفانيّة

اشتهر السيّد السبزواري رحمة الله علیه بين الناس ، بأنّه من أهل التقوى والورع ، وأصحاب السير والسلوك إلى الله تعالى ، ومن العرفاء المنقطعين إلى الله تعالى ، والذين لهم كشوفات عن العالم الغيبي .

وقد كان قدس سره يقول : « كانت تنكشف لي بعض الحقائق في مرحلة من عمري » إلا أنّه لم يبين ما هي تلك الحقائق .

يقول عنه العلامة الثبت السيّد محمّد حسن الطالقاني حفظه الله :

عُرف الإمام السبزواري بين صفوف أهل العلم وغيرهم من أصناف الناس ، بالتقوى وشدة الورع ، والمحافظة والاحتياط ، فقد كان عابدأ متهجّداً ، مواظباً على قراءة القرآن ، والأدعية المأثورة ، والأذكار المتداولة ، التي يحيى بها الأسحار ، .. وقد كان من العرفاء الشامخين ، والأولياء المخلصين ، نَهَج طريق السير والسلوك إلى الله تعالى منذ يومه الأوّل ، فقد فتح عينيه على أستاذه المربّي العارف ، الشيخ حسن علي الأصفهاني في خراسان ، ولازمه ملازمة الظل عشر سنين ، يتبعُ خُطاه ، ويقتفي أثره ، ويضع قدمه في موضع قدمه ، حتّى طُبع بطابعه … ولمّا سافر إلى النجف الأشرف ، اتصل بالحكيم الإلهي الشيخ محمّد حسين الكمباني الأصفهاني، والعارف الربّاني السيّد حسين البادكوبي ، فتأثّر بهما كثيراً، واتّبع خطاهما وتعاليمهما ، ويعرف عن ذلك قوله : « إن فعل بعض مشايخنا حُجّة علينا ، ومنه نأخذ الفعل المندوب ، وما كان يتركه فهو محرم أو مكروه ».

وممّا يدل على سموّ مقامه الروحي ، تلك الكرامات التي صدرت منه في حياته وبعد وفاته ، فإنّ « الكرامات لأصحاب المقامات » ، وقد اشتهر الكثير منها بين الناس ، وتناقلها الثقاة من سائر الطبقات .

العملية الجراحية لعينيه:

وقبل ذكر كرامات السيّد رضوان الله عليه ، يعجبني في هذا المجال أن أنقل عبارة له من كتابه « مهذب الأحكام » ، وهي قوله :

« مقتضى العرف والعادة ، في جميع المذاهب والأديان والملل والنحل ، أن يكون لعالمهم مقام إمامهم أو نبيّهم ، جميع ما كان للإمام والنبيّ من الشؤون الدينيّة والمناصب مطلقاً ، إلا ما خرج بالدليل ، وبحسب هذا الارتكاز ، يترقّب الناس من العلماء صدور الكرامة والمعجزة أيضاً »([1]).

حدّثني العلامة الحجّة السيّد علي السبزواري حفظه الله ، أنّ طبيب العيون قرّر إجراء عملية لعيني السيّد قدس سره، ولمّا حان وقت العملية ، وأراد الطبيب تزريق السيّد بإبرة البنج ، رفض السيّد رحمة الله علیه ذلك ، لأنه يرى أنّها تُسبّب يري الإغماء الذي يترتّب عليه أحكام شرعية ، والتي منها إبطال الوكالات التي أعطاها السيّد لوكلائه ، فأصرَّ الطبيب على وضع البنج ، لأنّ عملية العين حسّاسة جداً ، كما هو واضح .

فقال السيّد علي ـ حفظه الله ـ للطبيب : إجرِ العملية كما يقول السيّد، وهكذا حصل ، وعندها بدأ السيّد بالتسبيح ، وأخذ الطبيب بإجراء العملية من دون تخدير ، وانتهت العملية بالنجاح .

ولاشكَّ أنّ مَنْ يتحمل إجراء عملية جراحيّة من دون ألم ، لإنشغاله بالتسبيح الله تعالى ، لهو من أصحاب المقامات العالية ، الذين يعيشون الانقطاع إلى الله تعالى، وهو بذلك يشبه جَدّه أمير المؤمنين علیه السلام ، الذي كان يستغرق في عبادة الله تعالى ، إلى درجة أنّه إذا أصيب بالسّهام في جسده ، تركوه حتّى يصلّي ، فإذا توجّه إلى الله تعالى في صلاته ، أخرجوا السهام من جسده ، بدون أن يشعر بالألم .

في طريق الحجّ :
1 ـ الكرامة الأولى:

كان السيّد السبزواري قدس سره في إحدى سني عمره ، ذاهباً لحجّ بيت الله الحرام ، مع حملة الحاج السيّد إسماعيل حبل المتين ، وفي أثناء مسيرهم مروا بمنطقة (عرعر ) السعودية ، فتاهت قافلتهم في الصحراء ، حتّى نفذ الماء الذي كان معهم ، وحشرت السيارات في الرّمال ، إلى أن بلغ اليأس بهم أن حفر كلّ واحدٍ منهم حفرة صغيرة في الرّمال ، كقبر له ، وضجّوا بالدعاء والتوسل .

وأما السيّد السبزواري قدس سره ، فقد ابتعد عن أنظار الحجّاج ، تدفعه روح إيمانية صامدة إلى مناجاة السماء .

وهنا انقطع إلى الله بصلاته المحبوبة ، وهي صلاة جعفر علیه السلام متوسّلاً إليه بصاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء .

وإذا برجلين أو ثلاثة قد أقبلوا إلى الحجّاج ، وملؤوا قِربهم ماءاً ، ثمّ أرشدوهم إلى جادّة الطريق ، بعد أن ساعدوهم في إخراج السيارات من رمال الصحراء ، وبعدها لم يجد الحجّاج لأولئك الثلاثة أثراً .

2 ـ الكرامة الثانية:

كان السيّد السبزواري قدس سره متوجهاً لحجّ بيت الله الحرام ، فأضاع قطعة من القماش ، كانت تحتوي على جواز سفره ، وجميع ما يحمله من المال .

فلمّا لم يجدها ، توجّه قاصداً البيت الإلهي المعمور ، وهناك انقطع إلى خالق السماء ، برفيقة دربه ، وعشيقة عمره ألا و وهي صلاة جعفر علیه السلام ، متوسّلاً للحقّ تعالى ، طالباً منه الفرج وتسهيل الأمور في تلك الظروف الشديدة ، والساعات العصيبة .

وإذا بشاب نوراني أقبل إليه ، فوجده مشتغلاً بالعبادة والمناجاة ، منقطعاً الله أيّما انقطاع ، فقال له : سيّد عبد الأعلى هذا ما تبحث عنه .

وأعطاه تلك القطعة  من القماش  ، وعندها انتبه السيّد السبزواري قدس سره من مناجاته ، فلم يجد أثراً لذلك الشخص .

إن في هاتين الكرامتين دلالة واضحة على مدى انقطاع السيّد السبزواري إلى الله تعالى ، في أحلك الظروف ، وعلى قُربه من الله تعالى ، حيث استجاب له الدعاء .

الشفاء من مرض القلب:

في سنة من سنيّ عمره الشريف ، ابتلاه الله بمرض في قلبه ، فطلب منه الذهاب إلى المستشفى ، فرفض ذلك وأصرّ على رفضه .

فذهب تلميذه الوفي سماحة السيّد محمّد کلانتر « دام ظلّه » ، وجاء له بالطبيب محمّد سعيد الأسدي ، لمباشرته بالعلاج والاطمئنان عليه .

وبعد إجراء الفحوصات اللازمة ، قرّر الطبيب أن يذهب السيّد السبزواري قدس سره إلى المستشفى ، لأنّ الحالة كانت خطرة للغاية . ولكن السيّد السبزواري قدس سره لا زال مصرّاً على موقفه ، وما كان منه إلا أن توجّه إلى الله متوسّلاً بالإمام الصادق قدس سره ، ناذراً لإن ألبسه الله ثوب الصحّة والعافية ، ليكتبنَّ دورة فقهيّة كاملة .

وإذا بالمرض العضال لا أثر له ، وأفاق من نومه تلك الليلة ، وهو لا يشكو ألماً . وذهب إلى مسجد السهلة فور قيامه من نومه بعد منتصف الليل ، وكأن لم يكن به شيء .

فلمّا جاء الطبيب الأسدي لملاحظة أوضاعه الصحّية ، تعجّب أيّما تعجّب ، بعد أن ظهر له بأنّ السيّد السبزواري قدس سره قد شُفي تماماً . وعلم بأنّ الأمر ليس طبيعيّاً جزماً ، بل هو خارج حدود الطبيعة .

شفاء ولده بالتوسّل :

عن العلامة السيّد حسين السبزواري حفظه الله ، أنّه قال :

« كان عمري سبعة أعوام ، فسقطت في سرداب عمقه حوالي ۲۰ متراً ، وكان سقوطي على قمّة رأسي ، الذي خرقته عظمة دخلت في رأسي ، حتّى أوشكت أن تصل إلى المخ ، وأمّا بطني فقد تمزّقت بالزجاج ، فأُغمي عليَّ ، ولمّا افتقدتني أُمّي ، صارت تبحث عنّي فنادت لأبي وصار يبحث معها ، حتّى وجداني ، فأسرع بي أبي إلى الطبيب ، فقال له الطبيب : سيّدنا هيئ نفسك للعزاء ، وهكذا بقيتُ في المستشفى ثلاثة أيّام ، وأنا في حالة إغماء ، والأطبّاء ينظرون إليَّ بنظرة يأس ، عند ذلك رفع والدي يديه إلى السماء ، متوسّلاً بالإمام جعفر الصادق علیه السلام ، وهو يُقسم عليه بالضلع المكسور لجدّته الزهراء ” ، ثمّ حملني ليخرج من المستشفى ، فما خطا إلا خطوات ، وإذا بي أفتح عيني في وجهه ، فاستغرب الأطبّاء وصاروا يؤمنوا بتأثير الأدعية([2]).

السبزواري لم يسافر للحجّ ولكنّه حَجَّ:

إن جماعة من المؤمنين الأخيار ، قصدوا دار السيّد عبدالأعلى السبزواري ، في حاضرة العلم الكبرى النجف الأشرف ، بعد انفضاض الناس من أداء فريضة الحج المباركة ، وقدموا له التهاني والتبريكات بمناسبة رجوعه من بيت الله الحرام ، وتوفيق الله إيّاه بالوقوف في تلك العرصات الشريفة ، فشكرهم ولم يعترض بشيء ، مع أنّ السيّد السبزواري لم يكن قد حجّ في ذلك العام . ولمّا خرجوا من داره ، سأله بعض خواصّه عن السبب في عدم بيان الأمر الواقع ، فأجابه السيّد بأنّ الله تعالى قد وَكَّلَ عن كلّ عبد صالح مطيعٍ ، مَلكاً يحجُّ عنه كل عام ، كما ورد في أخبار المعصومين علیهم السلام ، ثمّ أمره بأن يكتم ما سمعه حال حياة السيّد، فامتثل أمره ، ولم يخبر به انتقال السيّد إلى الرفيق الأعلى .

رجوع العقل ببركة السبزواري:

وعن السيّد حسين أبو سعيدة :

كتب لنا أحد الثقاة ، أنّ أحد المؤمنين أُصيب بجنون مطبقٍ ، وظلَّ هائماً على وجهه في شوارع بغداد ، وقد عجز عنه الأطباء الأخصائيون . وانقطع عن عمله الوظيفي طوال تلك الفترة . فاتصلت بسماحة الإمام السيّد رحمة الله علیه وأخبرته بذلك ، فأعطانا قارورة ماء بعد بعد أن قرأ عليه بعض الأذكار ، وأمر بغسل بدنه من ذلك الماء ، وتمّ العثور عليه وكان رثّ الحال والهيئة ، وأدخلناه إلى الحمّام ، وعندما اغتسل عاد إليه عقله ، ثمّ أخذ يتحدث مع عياله بشكل طبيعي .

الحدس عند السبزواري:

وعنه حفظه الله :

نقل أحد الثقاة  عن أحد المؤمنين أنّه كان يرتكب بعض الأمور المنكرة في الخفاء ، بحيث لا يعلمها إلا الله تعالى ، حتّى زوجته لم تكن تعلم بذلك ، قال : فاتفق أن زرت السيّد السبزواري قدس سره في الكوفة ، وعندما أردت تقبيل يده ، قال لي : كفى فعل المنكرات ، وكان قوله سبباً في ردعي عنها ، وذهلت من إخباره إيّاي ، مع أنّي لم أخبر أحداً بذلك ، وكان ارتكابي لها في السرّ فقط .

شفائه للمرضى:

التمس منه أحد المرضى ، المبتلين بمرض الفقرات ، أن يدعو له، فوضع السيّد يده الشريفة على ظهر المريض فبرأ من مرضه ، ولا يزال حيّاً يرزق ، وفي صحّة جيّدة ، يُغبط عليها بعد معاناته المستديمة من ذلك المرض .

دعاؤه المستجاب :

دعاؤه المستجاب للذين أتوا يلتمسون منه الدعاء لهم ، وقد أخبر بعضهم أنّه التمس من السيّد أن يدعو له بأن يلهمه الله تعالى قوّة الحفظ ؛ فوضع يده المباركة على رأسه ، ومن ذلك اليوم لم ينس ذلك الرجل شيئاً ممّا وهو الآن أحد الخطباء ، ولا يزال هذا الرجل يذكر تلك الكرامة إن تعلمه استوجب الحال ذكرها .

إشعار مسبق برحيل السبزواري:

عن السيّد حسين أبو سعيدة :

أخبرني أحد الفضلاء ، أنّ أحد العلماء من العرفانيّين ، رأى في المنام في الليلة التي توفّى السيّد عبد الأعلى السبزواري في صباحها ، أنّ النبيّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم متوجّه إلى المدينة المنوّرة من النجف الأشرف ، وبصحبته السيّد السبزواري طاب ثراه . قال العالم : فاضطربت كثيراً ، ولمّا حلّ ظهر ذلك اليوم وصلني نعي السيّد، وأنّه توفى صباح ذلك اليوم . وقد تحدّث بهذا الإشعار الربّاني جملة من فضلاء الجامعة الدينيّة ، وغيرهم من الناس([3]) .

([1]) مهذب الأحكام : ج 15 / 157 .

([2]) قصص وخواطر ص 145 .

([3]) راجع كتابي : « الأنوار الساطعة » و « ألطاف الباري » .

لقد شهد كلّ من عرف السيّد السبزواري رحمة الله علیه ، بكثرة تعبّده لله تعالى ، وعدم التهاون في أداء الواجبات والمستحبّات ، والابتعاد عن المحرمات والمكروهات .

يقول السيّد الستار : « واشتهر عنه أنّه كان كثير العبادة ، ملازماً لذكر مولاه ، مراقباً لنفسه ، لا يفترّ لسانه عن التسبيح والاستغفار ، وسائر الأوراد والأذكار ، حتّى أنّه لم يكن يترك نوافل الظهرين مع إمامته للجماعة » .

وسأذكر طُرفاً من عبادته ، مع مراعاة التفصيل والتبويب ، لتكون مثالاً يُحتذى لمن أراد السير والسلوك إلى الله تعالى .

ولكن قبل الدخول في بيان العبادات ، لابدّ لنا من وقفة عند أساتذة السيّد السبزواري رحمة الله علیه في العرفان ، لكي يعلم القارئ العزيز ما للأستاذ من دور كبير في العرفان والسير والسلوك .

قال السيّد رحمة الله علیه في المواهب :

« ليعلم أنّه لا يمكن السير والسلوك ، إلا بعد التزوّد بالمعرفة ، والعلوم الحقيقية ، والمُعلّم الذي يرشد الإنسان إلى طريق استكماله ، ومن ذلك يعرف أهمية أهل الذكر في الرجوع إليهم » ([1]).

 ويقول قدوة العرفاء السيّد علي القاضي رضوان الله عليه :

« أهمّ ما يلزم في هذا الطريق ، الأستاذ الخبير البصير ، الخارج من أسر الهوى ، الواصل إلى المعرفة الإلهية … وإذا أمضى الإنسان الذي يطلب طريق الله نصف عمره يبحث عن أستاذ هذا الطريق ، فإنّه يكون مصيباً ، فمن وصل إلى الأستاذ ، وحصل عليه ، فقد قطع نصف الطريق »([2]).

فهنا نقول : إنّ لأساتذة السبزواري قدس سره دور كبير في تكوين شخصيّته العرفانية، فقد تتلمذ في مدينة مشهد المقدّسة على يد الأستاذ ، المربّي العارف ، الشيخ حسن على الأصفهاني ، ولازمه عشر سنوات ملازمة الظلّ ، مريداً له وتابعاً لأقواله وأفعاله .

وقد تحدّث السيّد السبزواري عن أُستاذه في العرفان ، فقال :

« إنَّ الشيخ الأصفهاني قدس سره في أحد مجالس درس التفسير، كان يدرّس كتاب ( الصافي ) للفيض الكاشاني قدس سره ، فأغمض عينيه أثناء الدرس ، وكأنّه قد غطَّ في نومٍ عميق ، ولم يجرأ أحد من تلامذته أن يوقظه ، إلى أن مرّ وقت ليس بالقصير فتح عينيه ، وهو يردّد « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » ، واعتذر عن الدرس، فأراد أحد تلامذته معرفة سرّ هذه الحالة ، فلم يصرّح له بشيء.

يقول السيّد السبزواري قدس سره : لمّا علمت بأنّ هذه الحالة خاضعة لبعض الأسرار الغيبيّة ، صرتُ ألحُّ عليه كثيراً لمعرفة السرّ ، إلى أن أجابني ، فقال :

إنّي في تلك الساعة ذهبتُ إلى النجف الأشرف لحضور تشييع جثمان أحد العلماء الصالحين .

يقول السيّد السبزواري قدس سره : وكنّا في مشهد الإمام الرضا علیه السلام ، فبادرت إلى ورقةٍ وكتبت اليوم والساعة بالتحديد .

ومرَّ وقت على الحادثة ، حتّى جاء أحد المؤمنين من النجف الأشرف ، فسألته عن يوم وفاة ذلك العالم ، ووقت تشييعه ، فأفاد بأنّ يوم الوفاة ووقت التشييع هو نفس اليوم ونفس الوقت الذي ذكره الشيخ الأصفهاني قدس سره .

وإلى هذه الحادثة يشير رحمة الله علیه في كتابه المواهب ، في أثناء الكلام عن خلع الرّوح بالشكل الإرادي ، وانتقال الجسد من مكان إلى آخر ، فيقول :

« وحينئذٍ قد يقدر العبد المجاهد المؤمن ، على الخلع واللّبس ، ومن حيث شروق نوره على هذا البدن ، يتحرّك البدن بقدر ذلك الشارق ، ومع درك هذه المرتبة ، قد يصل إلى مرتبة جمع الجمع ، بأن يكثر بدنه ، كما نُسب إلى بعض الأولياء ، من وجودهم في زمان واحد في أمكنة متعدّدة ، وقد رأينا بعض مشايخنا رضوان الله تعالى عليه ، ورآه بعض أصحابه في عين هذا البدن في محل آخر »([3]).

وتتلمذ في النجف الأشرف على يد العالم الربّاني ، محمّد حسين الكمباني ، والسيّد حسين البادكوبي ، وقد ذكر رحمة الله علیه في كتابه المواهب كرامة لأحد أساتذته ، فقال رحمة الله علیه في التعقيب على قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : « تنام عيني ولا ينام قلبي » .

« وقد رأينا بعض المشايخ أنّه رحمه الله تعالى في أثناء بحث التفسير ينام ، مع أنّه كان مشغولاً بالبحث حين النوم ، بلا خللٍ  منه في البين»([4]).

والآن ، فلنشرع بذكر عباداته :

1 ـ الصلاة :

لقد كان السيّد السبزواري قدس سره عاشقاً للصلاة ، فهي قُرّة عينه ، ومعراجه إلى الله تعالى، ولذلك فقد كان يوصي أتباعه بالصلاة في أول وقتها ، لما في ذلك من التوفيق والبركة .

وكان لا يترك النوافل اليومية ، مع إمامته للجماعة ، وإلى مرحلة متأخّرة من عمره الشريف ، فإذا لم يؤدّها في وقتها ، قضاها بعد الوقت ، وقد رقد مدة في المستشفى، على أثر مرضه الذي أصيب فيه بجلطةٍ في القلب ، فقضى النوافل التي لم يتمكّن من أدائها أثناء دخول المستشفى([5]).

وأمّا صلاته في الليل ، فكان له فيها شأنٌ آخر ، لأنّه يرى فيها محلاً لعناية الله تعالى :

« وكم الله من نفحةٍ عطرة يمنُّ بها على من يشاء ، وجائزة موفرة يخصُّ بها مَنْ أخلص في الدعاء ، وكم من عبادة فيه ( وقت السحر ) هبّت عليها نسمات القبول ، ودعوة من ذي طلبة مشفوعة ببلوغ المأمول ، ومشكل مسائلٍ اتّضح بمصابيح الهداية ، وعَريضٌ من المطالب افتتح بمفاتيح الهداية ، فهو وقت العلماء العاملين ، والعرفاء والمتعبّدين ، والسعيد مَنْ سعد  بإحياء هذا الوقت الشريف ، واستدر به أخلاف الكرام من الجواد اللطيف »([6]).

ولشدّة حبّه لصلاة الليل ، فقد أدخل في موسوعته الفقهية ، كيفيّة صلاة الليل مع أدعيتها بالتفصيل ، ولمّا سُئل عن إدراجه لصلاة الليل في الفقه الاستدلالي ، وهو عمل غير متعارف عند العلماء ، قال : « لعل الله يوفّق من يطبعها في كتاب مستقلّ ».

إضافة إلى ذلك ، فقد كان السيّد قدس سره مواظباً على صلاة جعفر الطيّار ، وكان يؤدّيها عند طلب الحوائج من الله تعالى، وكم قضى الله له حوائج متعسّرة ببركتها وفضلها ، كما تقدّم بعضها عند ذكر كراماته .

وكان قدس سره يُصلّي في مساجد النجف المهجورة ، حتّى لا تشتكي إلى الله تعالى، كما كان يتصدّى إلى قبور المؤمنين المندرسة ، كي يتقرّب إلى الله تعالى عندها ، ولِما ورد أنّ نبيّ الله موسى علیه السلام ، سأل ربّه أين أجدك ؟

فقال : تجدني عند القبور المندرسة والقلوب المنكسر([7]).

2 ـ تلاوة القرآن الكريم :

لقد كان للسيّد السبزواري قدس سره ارتباطٌ مستمرٌ مع القرآن الكريم ، لأنّه يرى فيه أنه « مأدبة الله تعالى » « وأنّ الله عزّ وجلّ تجلّى لخلقه في كلامه»، ولذلك فإنّه كان يعيش معه في كلّ أوقاته ، فقد كان يختمه في كلّ شهر ثلاث مرّات ، وأمّا في شهر رمضان فكان يختمه عشر مرّات ، وكان يُوصي بقراءته ولو بمقدار ورقة واحدة ، بحيث لا يعدّ المسلم تاركاً له ، وكان يواظب على بعض الآيات القرآنية ، كآية الكرسي ، وآخر الآيات من سورة الحشر .

وقال في المواهب :

« إنّ المتأمّل من أهل العرفان ، في جملة من الآيات الشريفة من سورة آل عمران ، والآيات المباركة في آخر سورة الحشر ، والآيات الأول من سورة الحديد، يعلم أنّها تتضمّن أبواباً من المعارف ، وحقائق من الواقعيّات ، وإشارات من المعنويات ، ولا يصل إلى جميع ذلك ، إلا بتصفية النفس ، والمجاهدة في سبيل الله .

وعن بعض المشائخ : أنّ في هذه الآيات أسراراً أفاضها الله تعالى علينا ، إنّه ولي الإفاضة ، خصوصاً في تكرار لفظ « هو » » أربع مرات»([8]).

وقد ترك لنا تفسيره « مواهب الرحمان » ليبقى شاهداً على مدى علاقته بالقرآن الكريم ، تلاوةً وتدبّراً وعملاً به .

۳ ـ الدُّعاء :

كان رحمة الله علیه دؤوباً على قراءة الأدعية والمناجاة ، وخصوصاً منها أدعية الصحيفة السجادية ، التي كانت تلازمه في جميع الأوقات ، ولشدّة عشقه للدُّعاء ، فقد  جمع جملة من محفظته ، يحملها معه في حلّه وترحاله ، فيقرؤها حين تسنح له الفرصة ، حتّى أنّه رحمة الله علیه لم يترك دعاءً ورد عن الأئمّة علیهم السلام إلا وقرأه .

وكان شديد الالتزام بالأحراز ، لاسيّما ( الحرز اليماني ) ، الذي أخذه بإجازة من بعض مشايخه ، ويقول : إنَّ فيه شروطاً معيّنة ، وترتيباً خاصاً ، لابدّ من الإجازة الخاصّة .

4 ـ الذكر:

كان السيّد السبزواري قدس سره لهجاً بذكر الله تعالى في ليله ونهاره ، فلا يحرّك لسانه إلا بذكر الله تعالى ، فهو يرى أنّ الذكر « من أجلّ مقامات العارفين ، بل هو من أعظم مظاهر حبّ الحبيب لمحبوبه ، فإنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره ، ومن علامات الحبيب الاستمتاع بذكر حبيبه »([9]).

ولذلك فقد كان يذكر كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) عشرة آلاف مرّة في اليوم ، وذلك لما ورد في الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : « خير العبادة قول لا إله إلا الله »([10]).

وكان يلهج بالذكر اليونسي ، وهو « لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنتُ من الظالمين » ، ويقول : رأينا منه العجب العجاب .

ويُعتبر الذّكر اليونسي ، من أهمّ الأذكار التي أوصى بالعمل بها كبار العرفاء ، والتي تترك أثراً نورانيّاً في قلب العبد ، خصوصاً إذا ذكره في حال السجود .

وكانت أوراده الخاصّة ممّا أخذه من أساتذته الكرام ، في علم العرفان كالشيخ الاصفهاني والسيد البادكوبي ، وكان ضنيناً بها ، لا يبوح بها حتّى لخلّص أصحابه ، فليس من المبالغة في شيء أن يُقال إنّ الإمام السبزواري من أئمّة العرفان، وأرباب السلوك الكمّل الكتومين ، الذين لا يبوحون بكلّ ما يعلمون ، أو لعلّ أساتذته قدس سره لم يأذنوا له في أن يعطيها لغيره ، فمن تلك الأذكار ما ذكره السيّد قدس سره أنّه أعطاه السيّد البادكوبي ، واشترط عليه قراءته في وقت الشدّة فقط ، وكان مجرّباً ، ففي إحدى الحالات طرأت على السيّد حالة مرضية شديدة ، وهو في طريقه إلى إقامة الصلاة في مسجده الخاصّ به في محلّة الحويش ، فلم يتمكّن من المسير ، فتذكّر الذّكر الذي خصّه به أُستاذه السيّد البادكوبي فقرأه فقام من وقته ، وواصل مسيره إلى المسجد وصلّى، وبعد رجوعه إلى الدار أُحضر له الطبيب ، وبعد فحصه قرّر الطبيب بأنّ مرضه ورجع شديد، وكانت جلطة صعبة ، وتعجّب كيف ذهب إلى الصلاة وأدّاها ، ورجع إلى الدار ، وكان المرض مهلكاً لولا ما تداركته العناية الربّانية ببركة ذلك الذكر الخاصّ .

٥ ـ الرياضة النفسية :

كان قدس سره يجاهد نفسه ، ويروّضها في كلّ حالاته ، اقتداءً بأمير المؤمنين علیه السلام الذي قال : « وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى ، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر »([11]).

ولذلك فإنّه كان قليل النوم ، بحيث أنّه لا ينام في اليوم والليلة أكثر من ثلاث ساعات ، وقليل الطعام ، تاركاً للمكروهات ، وفاعلاً للمستحبات ، ولا يُعطي نفسه ما تشتهي من الأمور المادّية الدنيوية .

٦ ـ المداومة على الطهارة :

كان قدس سره مداوماً على الوضوء والأغسال المستحبّة ، محافظاً على الطهارة في كلّ الأوقات ، وذلك لأنّه كان يرى في الطهارة نوراً ؛ فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام: « الوضوء على الوضوء نورٌ على نور»([12]).

۷ ـ العزلة :

كان قدس سره يحبّ الاعتزال ، ولا يميل إلى الاختلاط بالناس ، وخصوصاً في مرحلة الشباب ، وكانت له أوقات يعتزل فيها ليعتكف في بعض المساجد البعيدة عن الناس .

وقد جاء في مدح العزلة عن الإمام الصادق علیه السلام ، أنّه قال :

« صاحب العزلة متحصّنٌ بحصن الله ، ومتحرّسٌ بحراسته فيا طوبى لمنْ تفرّد به سرّاً وعلانية ، وفي العزلة صيانة الجوارح ، وفراغ القلب ، وسلامة العيش ، وكسر سلاح الشيطان ، والمجانبة من كلّ سوء وراحة ، وما من نبيّ ولا وصيّ إلا واختار العزلة في زمانه ، إمّا في ابتدائه وإمّا في انتهائه »([13]).

۸ ـ الصمت :

من المعروف أنّه قدس سره كان كثير الصمت ، ولا يتحدّث إلا عند الضرورة وبالمقدار اللازم ، وقد انعكس ذلك على أجوبته على المسائل الشرعيّة بحيث كان الجواب كلمات معدودة ، كما انعكس على دروسه وأبحاثه الفقهية ، كما هو واضح في كتابه « مهذَّب الأحكام » .

۹ ـ التفكر:

كان كثير التفكّر والتأمُّل والتدبُّر في القرآن الكريم .

۱۰ـ كتمان الأسرار:

كان السيّد العارف قدس سره كتوماً على أسراره العبادية ، بل ولا يسمح بذكر حالاته ومكاشفاته .

والمتتبع لكلمات السيّد رحمة الله علیه، يجد أنّه رحمة الله علیه كثيراً ما كان يتوقّف في التوسعة في المباحث العرفانية ، ويقول : ـ مثلاً ـ : « والبحث نفيس ، لو وجدتُ لهذا العلم الشريف حملةً » .

ويقول في بحث الدُّعاء : « ولم نذكر جملة أخرى منها ، لإمكان كونها من الأسرار »([14]).

۱۱ ـ الارتباط بأهل البيت علیهم السلام:

علاقة السيّد السبزواري قدس سره بأهل البيت علیهم السلام لا توصف ، فهو عاشق لهم مولعٌ بذكرهم ، ويتجلّى ذلك بوضوح في كتابه « مواهب الرحمان » ، فهو لا يذكرهم إلا مع الألقاب الرفيعة ، وحالات الخشوع والأدب تفوح من كلماته وقلمه .

وكان له ارتباط خاصّ بسيّد الشهداء الله علیه السلام ، فقد كان كثير البكاء عليه ، وقد خرج ماشياً على قدميه ـ وهو في سنّ العشرين ـ من مشهد الإمام عليّ الرضا علیه السلام إلى مرقد أمير المؤمنين علیه السلام في النجف الأشرف ، كما أنّه كثيراً ما كان يخرج ماشياً من النجف إلى كربلاء لزيارة سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام.

وممّا يعكس مدى علاقته بالمعصومين علیهم السلام ، كلامه المذكور في كتاب «مواهب الرحمان » ، وممّا جاء فيه :

« ولا ريب في أنّ لسيّد الأنبياء علیهم السلام ، أرفع الدرجات على سائر المرسلين علیهم السلام ، لما ورد عنه صلی الله علیه و آله و سلم : « آدم ومنْ دونه تحت لوائي يوم القيامة » وفي الدنيا أيضاً ، يكون العلّة الغائية للخليقة مطلقاً ، وقد ثبت في محلّه أنّ العلّة الغائية علّة فاعلية بوجودها العلمي ، وغائية بوجودها الخارجي»([15]).

وقال في مورد آخر :

« وتختلف درجات الإصطفاء ، حسب اختلاف درجات الفضل ، ورأس كلّ مصطفىً ورئيسهم أشرف الكائنات على الإطلاق ، وسيّد الخلائق مجمعُ كلّ فضيلة ومكرمة ، ومظهر كلّ فيض ورحمة ، خاتم الأنبياء الذي وصل إلى ما لم يصل إليه أحد من العالمين ، في الأخلاق السامية ، والكمالات الإنسانية ، حتّى وصل إلى مقام قاب قوسين أو أدنى ، ممّا لا يحظى به الأملاك والأفلاك ، ويلحق به أهل بيته الذين هم من البضعة الطاهرة الصدّيقة ، التي تربّت في حجر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ووصلت إلى مقام الرضا لأبيها ، وهو القائل فيها : « فاطمة منّي يرضيني ما يرضيها ويغضبني ما يغضبها » ، وهي مستودع علم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، ومظهر أخلاقه القدسيّة ، والذرّية الطيّبة من نسلها ، وهم المعصومون المطهّرون الممتازون عن سائر الخلق ، خَلقاً وخُلقاً ، وهم أسرار الله تعالى ، ومظهر أسمائه وصفاته ، ومحالّ تجلّياته الخاصّة، ومبلغ أمره ونهيه ، وهي من تلك الذرّية المصطفاة التي تبقى هذه الذرّية إلى آخر الدّهر ، لتقيم العدل وتمحق الجور »([16]).

([1]) مواهب الرحمان : ج 13 / 462 .

([2]) سيماء الصالحين : ص ۱۳۹.

([3]) مواهب الرحمان : ج ۷ / ۸۳ .

([4]) مواهب الرحمان : ج 4 / 263.

([5]) ألطاف الباري : ص 36 .

([6]) مهذب الأحكام : ج 5 / 99 ، نقلاً عن كتاب الجواهر.

([7]) قال & في شرح الحديث المذكور أعلاه في كتابه :

    «أي كسرها حبّ الله جلّ جلاله ، وجبرها تجلّي المحبوب فيها ، فكسرت الهيبة الإيمانية جميع الحُجب الظلمانية ، بل الجهات الإمكانية ، فاتّصلت إلى معدن النور ومنبع الخير والسرور، فاستعدت للإشراق ، فأشرق عليها المعارف الحقّة ، والعلوم الغيبية » مواهب الرحمان : ج 5 / 266.

([8]) مواهب الرحمان : ج 5 / 30 .

([9]) مواهب الرحمان : ج 2 / 159 .

([10]) السير إلى الله : ص 159.

([11]) نهج البلاغة : الكتاب 45.

([12]) مهذب الأحكام : ج ۲ / ۲۸۰.

([13]) المنهج العبادي : ص ۲۲۹.

([14]) مهذّب الأحكام : ج 7 / 140 .

([15]) مواهب الرحمان : ج 4 / 186 .

([16]) مواهب الرحمان : ج 5 / 327 .

ولاشتهار السيّد المُقدّس بالعرفان والكمال ، فقد كان الكثير من طلابه ومريديه يطلبون منه النصائح التي توصلهم إلى الله تعالى ، فكان رضوان الله عليه ينصحهم نصيحة الوالد المربّي ، حتّى اشتهر بكثرة نصائحه ، وممّا وصل إلينا من نصائحه :

1 ـ الصلاة في أوّل الوقت لما فيها من التوفيق الكبير  .

2 ـ قراءة القرآن .

۳ ـ المداومة على النوافل ، ويقول : إنّها تمنح الصبر على الطاعة ، وترفع الدرجة .

4 ـ المداومة على نيّة الخير ، فإنّ الله مُطّلع على القلوب ، فإذا أظهر الله نيّة العبد للملأ ، فإنّه يكون في أبهى صورة ، فلا يخجل بما نواه .

يقول السيّد محمّد تقي الحجّار حفظه الله : سألته مرّة : كيف يمكن لي الوصول ؟

فقال : عليك بالتقوى ، والمثابرة على الطاعة ، والعمل الصالح .

وقد جاء في وصيّته إلى بعض وكلائه : « والوصيّة بملازمة التقوى ، وسلوك سبيل الاحتياط » .

ولاشكّ أنّ وصاياه مأخوذة من القرآن الكريم ، والأحاديث الشريفة ، وللتبرّك نذكر منها :

ما جاء في وصيّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى أسامة بن زيد ، عندما سأله :

فقال : يا رسول الله ما أيسر ما ينقطع به ذلك الطريق ؟

فقال صلی الله علیه و آله و سلم: «السهر الدائم، والظمأ في الهواجر، وكفّ النفس عن الشهوات ، وترك اتّباع الهوى ، واجتناب أبناء الدنيا .

يا أسامة! عليك بالصوم ، فإنّه قربةً إلى الله ، وليس شيءٌ أطيب عند الله من ريح فم صائمٍ ترك الطعام والشراب لله ربّ العالمين ، وآثر الله على ما سواه ، وابتاع آخرته بدنياه ، فإن استطعت أن يأتيك الموت ، وأنت جائعٌ ، وكبدك ظمانٌ فافعل ، فإنّك تنال بذلك أشرف المنازل ، وتحلُّ مع الأبرار والشّهداء والصالحين » .

ومن وصيّة الإمام الصادق علیه السلام لعنوان البصري :

« أوصيك بتسعة أشياءٍ ، فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفّقك لاستعماله .

ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم ، فاحفظها وإيّاك التهاون بها .

قال عنوان : ففرغت قلبي له .

فقال : أمّا اللواتي في الرياضة : فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه ، فإنّه يورث الحماقة والبله ، ولا تأكل إلا عند الجوع ، وإذا أكلت فكُلْ حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول صلی الله علیه و آله و سلم : « ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنه ، فإنْ كان ولابدّ فثلثٌ لطعامه ، وثلثٌ لشرابه ، وثلثٌ لنفسه » .

وأمّا اللواتي في الحِلْم : فمَن قال لك : إن قلت واحدةً سمعت عشراً فقل : إنْ قلت عشراً لم تسمع واحدةً .

ومَن شتمك فقل له : إنْ كنت صادقاً فيما تقول ، فأسأل الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذباً فيما تقول ، فالله أسأل أن يغفر لك .

ومن وعدك بالخنى فعده بالنصيحة والرعاء .

وأمّا اللواتي في العلم : فاسأل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئاً ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجده إليه سبيلاً ، واهرب من الفُتيا هَرَبك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً .

قُمْ عنّي يا أبا عبدالله ، فقد نصحت لك ، ولا تفسد علَيَّ وردي ، فإنّي امرىءٌ ضنين بنفسي ، والسلام على من اتبع الهدى » .

نصائحه إلى طلبة العلم:

قال رحمة الله علیه : « وعلى مرشدي الأمّة ، وطلاب العلم ، لاسيّما علوم الدّين أن يزكّوا أنفسهم أوّلاً ، ويتخلّقوا بمكارم الأخلاق ، وأن يكونوا داعين إلى الله تعالى علماً وعملاً ، بل يكونوا داعين إلى الله بعملهم أكثر من دعوتهم إليه بعلمهم ، ولا يخرجوا عن زيّ العبودية أبداً »([1]).

وقال قدس سره في بيان صفات النائب عن المعصوم ، في عصر الغيبة :

« الرابع : ـ وهو الأهمّ ـ إنسلاخه  عن المادّيات ، بتمام معنى الإنسلاخ ، وعلوّ همّته من كلّ جهة ، وكثرة اهتمامه بالدّين وأهله ، وجهده في الورع والتقوى ، ومتنزّهاً عن الصفات الرذيلة ، بل المكروهة ـ عند الناس ـ وعدم توهم الاعتلاء في نفسه على أحد، وكثرة مواظبته على العبادة مع بعض الروايات ـ ويلهمه بما هو صلاح النوع »([2]).

وكان طيّب الله رمسه ، ينصح أهل العلم بمداومة المطالعة، والتفقّه في الدّين، فإنّ المطلوب منهم عند الناس هو التفقّه ، فلا يرجعوا جُهّالاً بعد برهة من الزمن، امتثالاً لقوله صلی الله علیه و آله و سلم: « لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظنّ أنّه قد علم فقد جهل » ، وأن يصرفوا هممهم في كسب المكارم ، والإعراض عن الدنيا ، حتّى تؤثّر أقوالهم وأفعالهم في القلوب ، ويكونوا في مأمن من المكر الإلهي في الدنيا والآخرة.

وكان يوصيهم بالورع والتقوى ، ثمّ التفقّه ، فإنّه لا تُنال أحكام الله تعالى إلا بالتشبّه بأخلاق الله ، والتخلّي عمّا يبغضه جلّ جلاله ، والتجربة أكبر شاهد على صدق ما قاله رضوان الله عليه . وكان يأمر أهل العلم أيضاً بالمراقبة لأقوالهم وأفعالهم ، حتى لا يجدهم الله تعالى في غير طاعته .

جاء في موسوعته الكبرى « مهذب الأحكام »([3]) عند قول الماتن :

« إنّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة ـ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة ـ ، وكذلك طلب العلم ينقسم حكمه إلى الأحكام الخمسة ، وعند المزاحمة وفقد المرجّح من كلّ جهة يرجّح طلب الفقه».

إذ قال السيّد رضوان الله عليه ، معلّقاً وشارحاً لقول أمير المؤمنين علیه السلام :

« أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين ، طلب العلم والعمل به ، ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، إنّ المال مقسومٌ مضمونٌ لكم ، قد قسّمه عادلٌ بينكم وضمنه وسيفي لكم ، والعلم مخزونٌ عند أهله ، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه » .

ويشهد له قول أبي جعفر علیه السلام : « قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : يقول الله تعالى : وعزّتي وجلالي ، وكبريائي ونوري ، وعظمتي وعلويّ ، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبدٌ هواه على هواي ، إلا شتّت عليه أمره ، ولبست عليه دنياه ، وشغلت قلبه بها ، ولم أعطه منها إلا ما قدّرت له ، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلويّ وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبدٌ هواي على هواه ، إلا استحفظته ملائكتي ، وكفلت السماوات والأرضين رزقه ، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر ، وأتته الدنيا وهي راغمة » .

وتشهد له التجربة والتأمّل في حالات العلماء الماضين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، لأنّهم كانوا في نهاية الفقر الذي قد لا يتصوّر فوقه فقر ، وقد اختاروا طلب العلم ، واستقاموا في ذلك ، فكفاهم الله شؤون دُنياهم ، وتلك سنّة الله التي قد جرت في عباده ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}([4]) {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}([5])، ولو أردنا أن نذكر في ذلك بعض ما شاهدناه في أنفسنا ، ورأيناه من مشايخنا العظام ، لصار ذلك كتاباً مستقلاً ، وفي يسير من الكثير عبرة لمن اعتبر » . انتهى كلامه قدس سره .

وفي تعليقة له رحمة الله علیه على حديث الإمام محمّد الباقر علیه السلام ، عندما سُئل :

« إنّا نتحدّث نقول : مَنْ صلّى وهو جالسٌ من غير علّة ، كانت صلاته ركعتين بركعة وسجدتين بسجدة ؟

فقال علیه السلام : ليس هو هكذا هي تامّة لكم » .

قال رحمة الله علیه : يمكن أن يكون عدُّ الركعتين بركعة لغير العلماء العاملين ، المشتغلين بالأهمّ ، كاستفادة الأحكام الإلهية ونشرها وضبطها وحفظها ، فإنّ ذلك أفضل من الصلوات المندوبة بالنسبة إليهم([6]) .

وقد سُئل عن أعمال الطلبة في ليلة القدر ، فقال : الدرس والمباحثة أولى .

وقال رحمة الله علیه في بحث التجويد في القراءة :

« ثمّ إنَّ الظاهر ، بل المعلوم أنّ التأمّل كثيراً في التجويد ، سواء كان في الصلاة أو في قراءة القرآن ، أو الأذكار والدعوات يسلب الخشوع ، لأنّ توجيه النفس إلى جهة خاصّة ، يوجب انصرافها عن سائر الجهات ، ولعلّ هذا أحد الأسرار التي لم يهتمّ أئمّة الدّين بترغيب النّاس إلى ذلك ، وقال صلی الله علیه و آله و سلم: « مَنْ انهمك في طلب النحو سلب الخشوع »([7]).

نصائحه إلى وكلائه :

وكان يقول أيضاً : إنّ الوكلاء الذين يأخذون الإذن في قبض الحقوق الشرعية ، لابدّ لهم من أن يكونوا في أقصى درجات الضبط ، وشدة الورع  والتقوى والمعرفة بالأمور .

فإذا رأى من أحدهم ما ينافي هذه الأوصاف ، فإنّه كان يعطيه بعض الإذن الخاصّ ، لإرجاعه إلى رشده ، وإرجاع ثقته بنفسه وثقة الناس به ، فلا يتمادى في الغيّ ، والابتعاد عن الحقّ ، فإذا رأى أنّه أثّر ذلك فيه رفع درجته من الإذن ، وإلا سلب منه ذلك الإذن الخاصّ ، وأرشد الناس إلى الابتعاد عنه ، فكانت إجازته ومأذونياته لبعض هؤلاء ، عملية تربوية له ، لا لجلب نفع منه ، أو أنّ قصده إيذاء غيره من الأعلام . فإنّه كان أجلّ من ذلك وأسمى .

فقد ظهرت الرّوح العرفانية والتقوى على مقلّديه في هذه البرهة الوجيزة من مرجعيّته ، وأخذ طلاب العلوم يبحثون عن أسباب التقوى والعرفان ، لأنّ الناس يتأثّرون بالمرجع وروحيّته على نحو المثل المعروف ( الناس على دين ملوكهم ) ، ولكن مرجعيّته لم تدم طويلاً ، حيث توفّي قدس سره في سنة 1414 هـ ([8]).

([1]) مواهب الرحمان : ج 6 / 104 .

([2]) مهذب الأحكام : ج 15 / 12 .

([3]) مهذب الأحكام : ج 16 / ۲۱۲ و ۲۱۳.

([4]) سورة الأحزاب : الآية 62 .

([5]) سورة فاطر الآية 43 .

([6]) مهذب الأحكام : ج 5 / 27 .

([7]) مهذب الأحكام : ج 6 / 338 .

([8]) ألطاف الباري : ص 76 .

تميّز المُقدَّس بأخلاق عظيمة ، وسجايا فريدة ، حتّى ملك قلوب الناس ، ومن ثمّ أحبّته القلوب ورأت فيه أخلاق المعصومين علیهم السلام ، إلى درجة أنّ بعض الناس كانوا يبكون عندما ينظرون إليه .

يقول عنه مَن عرفه : « كان رحمة الله علیه سكوتاً ، لا يتكلّم إلا عند الحاجة، شديد الاحترام للعلماء والمشايخ ، كثير البكاء من خشية الله في جوف الليل ، كثير الحياء حتّى في مرحلة شيخوخته ؛ وقد وصفه السيّد أبو الحسن الأصفهاني قدس سره في رسالة بعث بها إلى والده بأنّه « أفرط في الحياء » ، كان عزوفاً عن المخالطة والأمور الدنيوية ، ولا يخرج إلا لقضاء حقوق الإخوان ، وكان زاهداً في حطام الدنيا ، بحيث أنّه لم يملك منزلاً طوال حياته ، وقد جاءه يوماً أحد تجّار البحرين ، وعرض عليه شراء دار له ، فأمره السيّد بإعادة بناء أحد المساجد المعروفة في النجف الأشرف ، ومات رحمة الله علیه ولم يملك داراً .

وكان رحمة الله علیه كريماً وسخيّاً كأجداده الطّاهرين علیهم السلام ، بحيث كان السائل يكتفي بعطائه ، فلا يقصد سواه ، وكان بعضهم يقول : إنّ السيّد لو كان حيّاً لعمّ النفع جميع الناس ، ولما بقي فقير ، ومع ذلك فقد كان يشترط على من يعطيه أن لا يبوح بذلك، كما كانت له مساعدات في المشاريع الخيرية ، مع اشتراط عدم البوح بذلك ، وكان يأمر ولديه العَلَمين بإعانة الفقراء ، وخصوصاً طلاب العلم من دون إخبارهم أنّ المال من السيّد رضوان الله عليه .

كان قدس سره يعيش على القرض والهدايا ، ولم يأكل من سهم الإمام علیه السلام.

وأمّا تواضعه فقد كان مضرب المثل ، فقد كان يقوم بغسل ثيابه بنفسه ، ويقوم بتكنيس مسجده بنفسه ، وربّما قُرع باب داره ، فيقوم ليفتح الباب مع طلاقة الوجه ، وعذوبة الأسلوب ، ومن تواضعه أنّه كان أوّل الداخلين إلى مجلس الدرس ، كي لا يقف له أحد من طلابه ، ولم يترك مجالاً من الوقت إلا وكان يملؤه بالعلم ، حتّى أنّه كان إذا جلس مع عائلته على الطعام ، حدّثهم بالروايات الشريفة ، وكان له درسٌ في التفسير خاصّ بعائلته .

وكان رحمة الله علیه يتعامل مع المجتمع تعامل الوالد الحنون مع أولاده؛ فكان يتفقّد أحوال الفقراء والمحتاجين من الطلبة وغيرهم ، وينقل عنه آية الله السيّد علي السيستاني حفظه الله ، بأنّه كان كثير الاعتناء بالطلبة والمشتغلين ، خصوصاً من هم حديثُ عهدٍ بالنجف الأشرف ، وكان السيّد السيستاني ممّن شملتهم عناية السيّد أبّان مجيئه إلى النجف الأشرف »([1]).

ويقول عنه السيّد الطالقاني حفظه الله :

« وقد زهد في الدنيا زهداً منقطع النظير ، لم يعهد مثله إلا عند الأوائل من رجال السلف ، فقد كان لا يعتدّ بالمال والجاه ، بل قنع بالقليل من كلّ شيء ، لم يكترث بما يأكل ويشرب ويلبس ويفترش ، حتّى أواخر أيّامه  وكان أثاثه متواضعاً جدّاً ، ومظهره بسيطاً للغاية .

وقد كُتِب لي شرف التعرّف عليه منذ الصغر ، ولا أزال أذكر أنّه كان قبل أكثر من نصف قرن من « الذين يمشون على الأرض هوناً » ، وكان يلوذ في مشيه بجانب الزقاق ، شبه منكسرٍ في رواحه وغدوه ، من البيت إلى المسجد الذي يصلّي ويدرس فيه ، إلى حرم أمير المؤمنين علیه السلام ، الذي كان يزوره ليستمدّ من روحه ، ويجدّد به وله العهد على الاستقامة ، حتّى الانتقال إلى دار الإقامة…

وكان يتميّز بالهدوء والتواضع ، فإذا سلَّم عليه أحد وقف احتراماً له ، كبيراً كان أو صغيراً ، شريفاً أو وضيعاً ، وجامله وعلى فمه علت ابتسامة موقّرة بريئة …، وأُشهد الله ـ والرجل غنيّ عن ثنائي وشهادتي ـ أنّه استمرّ على ذلك منذ اليوم الأوّل إلى اليوم الذي فارقته ؛ فما رأيته مزهوّاً ، ولا متبختراً ، ولا راغباً في الظهور ، أو متصدّياً للبروز ، أو طالباً للجاه والعنوان ، بل لاحظت أنّه بعد أن تقدّم به العمر والمقام ، وعُرف في الأوساط كافّة، وصار له مقامه بين الجمهور ، كان ـ يخرج من البيت أو المسجد وخلفه بعض طلابه أو المؤمنين أو أحد أنجاله ، فكان يبدو طبيعيّاً مترسّلاً ، لا يفرق ذلك المظهر وبين ما إذا كان يمشي منفرداً ، ومن أجل ذلك أحبّه الناس ، كُلُّ الناس ، وتعلّقوا به وقدّسوه ».

([1]) لاحظ کتابي : « صفحات مشرقة » و « ألطاف الباري » .

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"