تقدم أن موردها في مقام الانتساب إلى الشرع لا مرحلة الاقتضاء،إذ لا معنى لجريان الأصل في ما فيه الاقتضاء.
و استدل على عدم الحجية و الاعتبار بالأدلة الأربعة:
فمن الكتاب:بآية الافتراء و هي قوله تعالى: آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ.
و فيه:أن الافتراء هو الكذب العظيم أو العجيب،و مجرد ما لم يعلم أنه صدق أو كذب ليس افتراء،و لكن الظاهر أنه لا بد في استناد شيء إلى الشارع من التصديق بالصدور،و مع عدمه يكون افتراء بالنسبة إليه،و حينئذ تتم دلالة الآية.
و من السنة:بمرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة-إلى أن قال-و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار،و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنة».
و فيه:مضافا إلى قصور سنده،أن التأمل في مساق الأخبار الواردة في القضاء يدل على أنه عليه السّلام فى مقام بيان التفصيل بين قضاة الجور و قضاة العدل، فقوله عليه السّلام:«و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم-أي لا يعتقد بالحق-و قوله عليه السّلام: رجل قضى بالحق و هو يعلم-أي يعتقد بالحقّ»و لا ربط له بالمقام.
و لكن قصور السند منجبر بالعمل،و انطباقه على قضاة الجور من باب أحد المصاديق لا الخصوصية،فلا قصور فيه دلالة و لا سندا.
و من الإجماع:بما عن الوحيد البهبهاني من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات بين العوام فضلا عن الخواص.
و فيه:أنه على فرض تحقق الإجماع به فالظاهر عدم كونه إجماعا تعبديا بل هو حاصل عن مرتكزاتهم العقلائية الدائرة في ما بينهم.
و من العقل:بما ارتكز في أذهان العقلاء من أن الاحتجاج بشيء و اعتباره و صحة الاعتذار به و انتسابه إلى شخص لا بد و أن تكون بحجة معتبرة؛و أن الشك في الحجية و الاعتذار يكفي في عدمها،كما أن الشك في صحة الانتساب يكفي في عدمها لدى العقلاء،فتكون أصالة عدم الحجية و أصالة عدم صحة الانتساب و الاعتذار من الاصول العقلائية مطلقا،و يكفي فيها عدم الردع من الشارع،فكيف بما ورد من التقرير.
و بالجملة:أصالة عدم الحجية من الاصول المعتبرة النظامية الدائرة عندهم في جميع علومهم،بل في امور معاشهم أيضا،إذ لو كان بناؤهم على ترتيب الأثر على كل ما قيل أو يقال لاختل النظام،فينبغي أن يستدل بها لا عليها، و مع الإغماض عن ذلك نقول:إن نفس الحجية و ترتب الأثر من الامور الحادثة، فيستصحب عدمها ما لم يثبت الدليل عليها.
و ما يتوهم:من أنه لا أثر للاستصحاب،لكفاية نفس الشك في الحجية في عدم ترتيب أثرها.
مخدوش:بأن ما هو المعتبر في الاصول العملية من الأثر هو إمكانه لا فعليته من كل حيثية وجهة،و لذا يجري استصحاب اشتغال الذمة في موارد جريان قاعدة الاشتغال أيضا.و في المقام لو قيل بأن أصالة عدم الحجية ليست من الاصول المستقلة العقلائية فتمسك فيها باستصحابها.
و قد يقرر الأصل في المقام بوجوه اخرى:
الأول:أصالة إباحة العمل بغير العلم.
و يرد:بأنها إن اريد الاعتماد في تفريغ الذمة فلا وجه له،لأن الشك في فراغ الذمة عما علم اشتغالها به-و إن اريد بها إباحة العمل بكل رطب و يابس و غث و سمين-فهو معلوم البطلان لدى العوام فضلا عن الأعلام.
الثاني:أن المقام من صغريات دوران الأمر بين المحذورين،لدوران الأمر في غير العلم بين وجوب العمل به و حرمته،و الحكم فيه هو التخيير.
و يرد:بأن ما هو المرتكز في الأذهان من التثبت و التأمل في العمل بغير العلم إلا مع دليل يدل عليه،يخرج المقام عن الدوران بينهما،كما لا يخفى.
الثالث:أن المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير،لاحتمال تعين العمل بخصوص العلم،أو التخيير بينه و بين العمل بغيره.
و يرد:بما مرّ من بطلان العمل بغير العلم مطلقا إلا مع دليل يدل عليه، فكيف يمكن أن يجعل عدلا للعلم و يحكم بينهما بالتخيير،مع أن مسألة دوران الأمر بين التعيين و التخيير محل خلاف و إشكال،فذهب جمع إلى التخيير،كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.