إن قلت:لا إشكال في تضاد الأحكام عرفا.
قلت:نعم،و لكن بالضدية الاعتبارية التي يكفي في رفعها مجرد تعدد الجهة و لو اعتبارا.
و جملة القول:أن في الأمارات المتعارفة لدى العقلاء إن صادفت الواقع فلا يرون في ذلك محذور اجتماع المثلين،بل لا يخطر ذلك في خاطرهم أبدا، بل يستهجنون هذا الاحتمال بفطرتهم إن تحقق الفحص عن المعارض و المنافي و حصل اليأس عن الظفر بهما،ثم اتفقت المخالفة مع الواقع واقعا و لم ينكشف ذلك،يحكم العقلاء كافة بالمعذورية،و سقوط الواقع عن الفعلية عند اتفاق المخالفة،و لا يتوهمون بمجعول في موردها سوى الواقع،و الشارع لم يخترع طريقة غير هذه،بل ترك العقلاء و مرتكزاتهم و لم يردعهم عنها.و إن انكشف الخلاف و الخطأ ظاهرا،فالواقع باق على ثبوته إلاّ أن يدل دليل على سقوطه.
ثم إنه قد يجاب عن الإشكال الرابع بوجوه:
الأول:أن المجعول في الواقعيات نفس الأحكام الواقعية،و في الأمارات نفس الحجية،فيتعدد مورد الجعلين،فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.
و يرد عليه:أن جعل الحجية إما بمعنى جعل نفسها من حيث هي،أو بمعنى جعل العقاب،أو بمعنى جعل المؤدي.
و الأول:لغو لكفاية اعتبارها لدى العقلاء،إلاّ أن يراد به الأعم من التأسيسي و عدم الردع،فيرجع إلى ما قلناه أولا،و لا يكون وجها مستقلا.
و الثاني:مستلزم للدور،لأن تحقق العقاب متوقف على الحجية،و لو توقفت عليه لدار،إلا أن يراد أن جعل العقاب على المخالفة عين جعل الحجية لا أن يكونا متغايرين،و هو دعوى بلا دليل.
و الثالث:في مقابل جعل الحجية،لا أن يكون عينها،و لا يقول به أحد.
الثاني:أن الواقعيات إنشائيات محضة،و مفاد الأمارات فعليات صرفة، فتختلفان بالمرتبة،فينتفي موضوع شبهة جمع المثلية و الضدية.
و يرد عليه:أن الإنشاء إن كان بلا داع فهو قبيح بالنسبة إلى الشارع،و إن كان بداع آخر غير الفعلية فلا يصير فعليا و إن وافقه مفاد الأمارة.و إن كان بداعي أن يصير فعليا،فهو عين الفعلية،فلا يتصور معنى معقول للإنشائية،فلا يكون الحكم إلا فعليا من طرف الشارع،و هو الجعل بداعي أن يصير فعليا عند تحقق الشرائط و فقد الموانع في المكلف.و إن أراد بالإنشائية الفعلية من طرف الشارع، و بالفعلية:الفعلية من طرف المكلف فله وجه،و لكنه خلاف ظاهر كلامه، فراجع.
الثالث:أن المجعول في مورد الأمارات جعل في ظرف الجهل بالواقعيات،فتتأخر رتبته عنها،فتدفع الشبهة باختلاف الرتبة.
و يرد عليه:أن مفاد الأمارات و إن كان في ظرف الجهل بالواقع فيتأخر رتبة عنه،لكن الواقعيات غير مقيدة بالعلم و الجهل،فتعم مورد مفاد الأمارات و غيرها،فيجيء المحذور حينئذ.
الرابع:أن المجعول في مورد الأمارات عنوان الحكم المجعول بداعي الطريقية المحضة إلى الواقع،لا أن يكون حكما حقيقيا في عرض الواقع بحيث يكون له موافقة و مخالفة مستقلة في مقابل الواقع.
و يرد عليه:أنه حسن ثبوتا،و لكنه لا دليل عليه إثباتا مع إمكان دفع الإشكال بوجه أحسن آخر،كما مرّ.
و من ذلك كله يظهر الأمر في الاصول العملية،إذ الاستصحاب ليس إلا متمم دلالة الدليل و إسراء حكم اليقين إلى ظرف الشك،فلا استقلال فيه بوجه أصلا،فمع الموافقة يكون المتيقن السابق منجزا،و مع المخالفة و عدم انكشاف الخلاف يكون عذرا،و مع انكشافه لا وجه للإجزاء أصلا إلا أن يدل دليل تعبّدي عليه.
و أما الاحتياط عقليا كان أو شرعيا فليس إلا من آثار منجزية نفس الواقع،و لا اثنينية في البين حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين،بل و لا جعل فيه أصلا غير الواقع المجعول،و لو قيل بوجوب الاحتياط شرعا فهو وجوب طريقي إلى الواقع،لا أن يكون وجوبا مستقلا في عرضه.
و أما البراءة-عقلية كانت أو شرعية-فليست إلا سقوط العقاب عن الواقع المجهول،و يستلزم ذلك الترخيص و الإباحة الظاهرية،و هو غير جعل الحكم في عرض الواقع المجهول.
و كذا التخيير لا اثنينية فيه مع الواقع المجعول حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين،إذ ليس مفاده إلا المعذورية في ما لو كان المختار غير الواقع.