الموضوع: بحث الأصول – مباحث الألفاظ – مبحث التعارض .
مبحث التعارض
البحث في التعارض من جهات: –
الجهة الأولى: – إنَّ بحث التعارض من مباحث الألفاظ، لأنه في مباحث الألفاظ يبحث فيها عن كيفية استظهار المراد من ظاهر اللفظ، فما تعرضنا له إلى الآن الأمر ظاهر بالوجوب أو لا والنهي ظاهر في الحرمة أو لا إلى غير ذلك من المباحث، وفي تعارض الأدلة يبحث في حاق الواقع عن أنه من أيَّ الظاهرين لابد وأن يؤخذ، فأيّ الدليلين أظهر من الآخر حتى يؤخذ به وأيهما ظاهر حتى يؤخذ به، فمباحث التعارض من مباحث الألفاظ ولابد أن يذكر في مباحث الألفاظ لوجود منافع مباحث الألفاظ في هذا البحث.
الجهة الثانية: – إنَّ مباحث الألفاظ من مسائل علم الأصول وليست خارجة عنه، لما قلنا في أوّل الشرع في علم الأصول أن علم الاصول ما يبحث فيه عن كيفية الاعتذار لدى الشارع، فأيَّ نحو نعتذر لديه في أحكامه المقدسة الواصلة إليه كيفية الاعتذار جهة جامعة شاملة للأصول من أوله إلى آخره، في مباحث الألفاظ نبحث عن كيفية الاعتذار في الأحكام الواصلة إلينا، وفي الأصول العملية أيضاً نبحث عن كيفية الاعتذار بما وصل إلينا، لأنَّ مفاد الأصول العملية عذرٌ إن لم يكن هناك دليل، فالجامع بين جميع مباحث الأصول من أوّلها إلى آخرها كيفية الاعتذار لأنَّ الشرع الأقدس في امتثاله والأخذ بأقواله واجب، ففي مورد تعارض الأدلة نبحث عن أن كيفية الاعتذار لدى الشارع الأقدس هو الأخذ بالأظهر مع وجود الظاهر والأخذ بالنص أو التقييد أو التخصيص أو غير ذلك هذا نحو من كيفية الاعتذار، فمباحث التعارض من أولها إلى آخرها داخلة في هذه الجهة الجامعة فيكون من مباحث الأصول لا أن يكون خارجاً عنها، وبناءً على هذا لا إشكال في الدخول، وأما بناءً على أنَّ علم الأصول ما يبحث فيه عن الأدلة أو حجية الدليل فقد أشكلوا وقد أجبنا على الاشكال على هذا الدليل أيضاً.
الجهة الثالثة:- التعارض من المفاهيم المبينة العرفية، التعارض بمعنى التنافي، كل دليل وكل شيء يكون منافياً مع شيء آخر العرف يطلق عليه عنوان التعارض، فالمرجع في التعارض الرجوع إلى العرف، فكلما حكم بأنَّ بين الدليلين تنافٍ يتحقق موضوع التعارض فيه شرعاً وفي علم الأصول أيضاً، وليس التعارض عند العرف وفي علم الأصول وفي اصطلاح الكتاب والسنَّة عبارة عن التناقض والتضاد، فالتعارض في الفنون العقلية والمنقول يعبر عنه بالتناقض أو بالتضاد، ولكن باصطلاح الأصول والكتاب والسنَّة وفي الأنظار العرفية التعارض أعم من التناقض ومن التضاد المصطلح عليهما في علم المعقول، فكلما صدق عليه التنافي في الجملة كما لو كان هناك دليلان بينهما تنافٍ في الجملة يصدق عليه التعارض الاصطلاحي سواء كان التنافي بعنوان التضاد أو بعنوان التناقض أو بغير ذلك من العناوين الكثيرة، فاصطلاح الكتاب والسنَّة ومنه اصطلاح الأصوليين، ومنه أيضاً اصطلاح العرف في خصوص اصطلاح التعارض أعم من الاصطلاح المنطقيين والمتكلمين، فهم يخصصون التعارض بخصوص التناقض والتضاد ولكن في اصطلاح الكتاب والسنَّة والأصوليين التعارض عبارة عن مطلق التناف سواء وصل إلى حد التناقض والتضاد أو لم يصل إلى ذلك كما سنبين ذلك في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
الجهة الرابعة: – التعارض الذي نبينه أحكمه كثيرة في علم الأصول لا اختصاص هذا الموضع بخصوص الفقه والأصول بل التعارض يجري في كل علم نظري، فكل علم يتوقف على استفادة مسائله على النظر والفكر والتأمل يجري فيه التعارض لأن الأفكار مختلفة والآراء متكثرة فيمكن أن يكون لكل شخص فكر مخالف لفكر الآخر، فما نراه بالوجدان ما من علم من العلوم التي بين أيدينا إلا وفيه آراء مختلفة، فعلم النحو غالباً ما يقولون قال الكوفيون كذا وقال البصريين كذا، فالتعارض بين آرائهم وأقوالهم موجود، وعلم التفسير أيضا مشتمل على آراء كثيرة، فإذا رجعنا إلى آرائهم نرى أنَّ هذا يقول كذا وذاك يقول كذا خصوصاً بين العامة والخاصة، وكذا علم الفقه الذي هو محور الأحكام الإلهية مشتمل على آراء كثيرة من أوّل الفقه إلى آخر، وهكذا علم الطب وسائر العلوم، فكل علم تنتهي مسائله إلى النظر الفر يتحقق فيه اتعارض لأن الأفكار مختلفة والآراء مختلفة، واختلاف الآراء والأفكار تنهي إلى اختلاف الاستعدادات، واختلاف الاستعدادات ذاتية للبشر غير اختيارية بالنسبة إليه، فلنا أن نقول:- إنَّ التعارض في جميع العلوم غير الأحاديث المعصومية أن ينتهي إلى أمرٍ غير اختياري، لأنَّ منشأ التعارض عبارة عن اختلاف الأفكار واختلاف الأفكار ينتهي إلى اختلاف استعدادات البشر واختلاف الاستعدادات أمر ذاتي وليس اختياري، وأما التعارض في الأحاديث المعصومية والتي من المفروض أن تكون معصومة عن الخطأ ومنتهية إلى الوحي السماوي لابد وأن يكون منشأه أمراً آخر غير اختلاف الاستعدادات.
فالتعارض على قسمين: –
القسم الأول: – ما يتحقق في جملة العلوم غير المنتهية إلى نظر المعصوم، فهذا النحو من التعارض تكويني، لانتهائه إلى اختلاف الاستعدادات، واختلاف الاستعدادات غير اختياري للبشر.
القسم الثاني:- من التعارض هو التعارض في خصوص الأحاديث المعصومية، كما هو كثير أيضاً، وليس لأحدٍ أن يقول أن هذا النحو من التعارض أيضاً ينتهي إلى اختلاف الاستعدادات، للنصوص المستفيضة المنقولة في الكافي وغيره ( أنا نحن في العلم واحد وأولنا كآخرنا )، فاختلاف الاستعداد بالنسبة إل المعصوم لا وجه لتوهمه أصلاً، فلابد وأن يكون منشأ تعارض أخبارهم خارجاً عن ماهية الاستعداد، لفرض أنهم من أوّلهم إلى آخرهم في العلم والافاضات الإلهية واحد، فمنشأ التعارض في الأحاديث المعصومية لابد أن يكون أمراً عرضيا لا أن يكون أمراً ذاتياًن، وقد ذكروا لذاك الأمر العرضي وجوهاً:-
الوجه الأول: – ما في موثق زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنهم عليهم السلام تعمدوا بألقاء التعارض، فهذا التعارض في الأحاديث المعصومية ينتهي إلى تعمدهم لذلك لأغراضٍ كثيرة متوقفة عليه. وهذا شيء لا إشكال فيه.
الوجه الثاني: – إنَّ التعارض حصل من الرواة لا من المعصوم، فهذا ينقل الحديث بنحوٍ وذاك ينقل الحديث بنحوٍ آخر وحينما يصل هذين الحديثين إلى شخص آخر يحصل التعارض حينئذٍ، فحصول التعارض يكون من الناقل، خصوصاً بعد إذنهم عليهم السلام بالنقل بالمعنى وعدم احاطة كل ناقل بخصوصيات النقل ورقائق المعاني يحصل التعارض من ناحية النقل لا من ناحية المنقول عنه.
الوجه الثالث: – ما ينقل عن بعضٍ أنَّ منشأ حصول التعارض هو حصول التقية في أخبار الشيعة، حيث أنَّ بناء الصادقين صلوات الله عليهم أجمعين على إعمال التقية في الأخبار الصادرة عنهم وكانت أخبار كثيرة فحصل التعارض من هذه الجهة.
فعلى أيَّ حال التعارض في الأخبار المعصومية غير التعارض في الآراء المنتهية إلى آراء البشر، لأنَّ هناك اختلاف الاستعداد موجودٌ وفي المقام لا يعقل أن ينسب إلى اختلاف الاستعداد، فلابد وأن ينسب إلى أمورٍ عارضة خارجة عن ماهية المعنى.