الموضوع: بحث الأصول – مبحث الصحيح والأعم – الأمر بالأمر هل يدل على الوجوب أو لا؟ .
المتعارف عند الناس في كل مذهب وملَّة الأمر بالأمر بشيء، كأن يقول الوالد لولده قل للخادم أن يفعل كذا، فيكون أمراً بأمر الوالد، فأصل ثبوت هذه القضية متعارف بين الناس قديماً وحديثاً ولا اختصاص لها بمذهب دون مذهب وإنما هي من الأمور العرفية الظاهرة في المحاورات مطلقاً، والاحتمالات الثبوتية في مثل هذه القضية ستكون ثلاثة احتمالات: –
الاحتمال الأول: – أن يكون الواسطة مجرد الآلة ومجرد الوساطة في إبلاغ أمر الآمر إلى المأمور الثاني، فالأوامر الصادر من الله تبارك وتعالى بالنسبة إلى الأنبياء والرسل حيث أنَّ المقطوع به من الأدلة العقلية والشرعية أنه منذر في الآية والآية المحضة في ارسال خطاب وخطابات الله وأحكامه إلى البشر، فكلما استظهرنا من الأدلة في مقام الاثبات أنَّ الواسطة من مجرّد الوساطة ولا تأثير حين احتمال آخر غيرها لها، ففي هذه الصورة الأمر بالنسبة إلى المأمور الثاني يدل على الوجوب بلا إشكال.
فإذا أحرزنا من القرائن الخارجية أو الداخلية أن المأمور الأول والواسطة مجرد آلة ولا نفسية فيه بوجهٍ من الوجوه فحينئذٍ الأمر ظاهر في الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني، وهذا صحيح ولا نزاع فيه من أحد ولا ينبغي أن ينازع فيه.
القسم الثاني: – ما إذا أحرزنا بالقرائن المعتبرة داخلية كانت أو خارجية أنَّ الغرض من المأمور الأول ايجاد علوّه واظهار شأنه ونحو ذلك ولا واسطة في البين، يريد الآمر الأول أن يظهر شأن هذا بين أقرانه فيقول له قل لكذا أن يفعل هذا، فحينئذٍ استفادة الوجوب للمأمور الثاني مشكل بل ممنوع، لفرض أنَّ الغرض من الأمر والمصلحة من الأمر اظهار الشأن لهذا الفرد بين أقرانه لا أن يكون هناك غرض آخر، وفي هذه الصورة ليس لنا أن نستفيد الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني لفرض أنَّ الغرض من صدور الأمر كان مجرّد إظهار شأن هذا واعلاء مقامه لا أنه يكون في متعلّق الأمر مصلحة أخرى، فبالنسبة إلى هذا الأمر المأمور الثاني ليس له أن يستفيد الوجوب لفرض أن غرض الأمر وحكمة صدوره معلومة وهي إظهار شأن المأمور الأول.
القسم الثالث: – ما إذا شككنا في أنَّ المورد من أي القسمين، كما لو صدر أمر بالنسبة إلى شخصٍ بأن يأمر هذا الشخص شخصاً آخر ونحن في مقام الاثبات شككنا أنَّ هذا المأمور الأول من مجرّد الوساطة كالأنبياء والرسل أو أنَّ الأمر صدر إليه لغرض آخر في المتعلَّق، فليس لنا استفادة الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني لأنه شك في أصل التكليف والمرجع فيه البراءة.
فالصور المتصورة ثبوتاً هي ثلاثة، الصورة الأولى ما إذا أحرزنا أنَّ الواسطة لا موضوعية فيها بوجه وليس هناك غرض في الأمر إلا وصول المتعلَّق إلى المأمور الثاني، فهنا يستفاد من الوجوب على المأمور الثاني، والقسم الثاني ما إذا أحرزنا أنَّ المراد من هذا الأمر بالنسبة إلى هذه الواسطة غرض آخر غير إيجاب شيء على المأمور الثاني، ففي هذه الصورة لا يستفاد منه الوجوب لفرض القرينة الموجودة، والصورة الثالثة ما إذا شككنا أن المورد من القسم الأول أو من القسم الثاني فالمأمور الثاني نشك في تعلق الوجوب بالنسبة إليه وفي الشك في الشبهة الوجوبية التكليفية تجري أصالة البراءة.
ومن مصاديق المقام ما ورد بالنسبة إلى الأولياء في نصوصٍ مثل ( مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين )، قال عليه السلام ( نحن نأمر صبياننا لست سنين فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ) فهل يستفاد من هذا الأمر وجوب الصلاة بالنسبة إلى الصبيان بحيث يكون هذا الحديث مخصَّصاً لما دل على أنَّ التكاليف إنما تثبت بالبلوغ أو لا يستفاد الوجوب من ذلك؟
فليس لنا استفادة الوجوب بالنسبة إلى الصبيان وأن تلك الأدلة غير قابلة للتقيد، فإنَّ ( رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ) فهذا التعبير غير قابل للتقييد، نعم بالنسبة إلى الولي هل يجب عليه أو لا؟ فإن استظهرنا أنَّ الأمر هو ارشاد إلى تهيئتهم واستعدادهم لأجل قبول التكليف بعد البلوغ يكون استفادة الوجب الشرعي مشكل لفرض أنَّ الأمر حينئذٍ ارشاد إلى ترغيبهم إلى المحسّنات الاسلامية، ولكن إن حملنا الأمر على المعنى الحقيقي فلا إشكال في أنه يستفاد منه الوجوب، وبعد أن استفدنا الوجوب منه فيتحقق الامتثال بمجرد أن يأمر الولي الصبي سواء امتثل الصبي أو لم يمتثل، لأنَّ المستظهر من القرائن الخارجية والداخلية وسائر الروايات الواردة في تربية الصبيان أنَّ الأمر هو ارشاد إلى ترغيبهم في المحسّنات الاسلامية، وحينئذٍ لا يستفاد منه الوجوب التكليفي بالنسبة إلى الولي، كما لا يستفاد منه الوجوب التكليفي بالنسبة إلى الصبي لفرض وجود الأدلة الدالة على أنه لا تكليف عليهم إلا بعد البلوغ.
نقطة أخرى: – إذا ورد أمر وبعد صدور الأمر الأول صدر أمر آخر فالصور المتصورة فيه اثنان: –
الصورة الأولى: – ما إذا صدر أمر ثم صدر بعده أمر آخر أيضاً، كما لو قال ( صلِّ ) وقبل أن يصلي المكلف قال مرة أخرى ( صلِّ )، قالوا بأنَّ الظاهر من هذا التعبير التأكيد لا التأسيس، فإذا ورد أمرٌ وقبل أن يمتثل المكلف متعلّق الأمر الأول ورد أمر آخر، فظاهر التكليف يدل على أنه تأكيد لا أن يكون تأسيساً، فليس لأحدٍ أن يقول بأنَّ أصالة عدم التأكيد جارية وأنَّ الأصل صحيح فيما إذا دل في الظاهر على الصلاة، والظاهر المحاوري في مثل ما إذا قال ( صلِّ صلِّ ) هو التأكد بالنسبة إلى أصل الصلاة لا تأسيس وجوب صلاةٍ أخرى غير الأولى.
الصورة الثانية: – ما إذا أتى المكلف بمتعلَّق الأمر الأول، كما لو قال ( صلِّ )والمكلف أتى بالصلاة جامعة للشراط ثم ورد أمر آخر بأن قال ( صلّ ) فالمستفاد ظاهراً من هذا التعبير بالقرينة الحالية وهي امتثال المكلف أولاً أن هذا تأسيس وليس بتأكيد.
ففي القسم الأول ظاهر القرينة يدل على التأكيد، وفي القسم الثاني ظاهر القرينة الحالية يدل على التأسيس، وإن اشتبه موضوع يكون الشك من كبريات الأقل والأكثر، فصلاة واحدة بالنسبة إليه واجبة والشك يكون في الزائد فتجري البراءة عنه.