الموضوع: بحث الأصول – مباحث الألفاظ – مبحث الأوامر – دلالة الأمر على المرة والتكرار .
المعروف بين الأصوليين أنَّ صيغة الأمر لا تدل على المرة والتكرار بشيء من الدلالة، وقد أرسلوا ذلك إرسال المسلَّمات في الكتب الأصولية وفي الكتب الفقهية، فهي لا تدل على المرّة ولا على التكرار لا بالدلالة الطابقية ولا بالتضمّن ولا بالدلالة الالتزامية وأيّ نحو من الأمور لا ملاكاً ولا خطاباً، والوجه في ذلك واحد، وهو أنَّ مفاد الصيغة إنما هو تحريك المكلف نحو المطلوب وبعثه نحو المطلوب وهذه المعاني أجنبية عن المرَّة والتكرار، فمجرد تحريك المكلف نحو المطلوب لا يستفاد منه المرة والتكرار، فإنَّ دل دليل أو قرينة خارجية على المرة نقول بها، وإن دل دليل أو قرينة على التكرار نقول بها، وإلا فنتمسك بأصلين أصالة البراءة وأصالة الاطلاق والاكتفاء بصرف الوجود فتكفي المرة، فالاكتفاء بصرف الوجود بالنسبة إلى الأوامر مسلّمة لكونا باعثة نحو إتيان المطلوب، وإتيان المطلوب يتحقق بمجرد صرف الوجود، هذا مقتضى أصالة الاطلاق ومقتضى أصالة البراءة، وأنَّ الشك في التعدد هو شك في أصل التقييد فيرجع فيه إلى أصالة البراءة العقلية والنقلية، ومقتضى أصالة الاطلاق الاكتفاء بصرف الوجود، فأصالة الاطلاق التي يعبر عنها بالأصل اللفظي وأصالة البراة التي يعبر عنها بالأصل العملي تقضي بكفاية صرف الوجود، ولكنه ليس من دلالة الصيغة على المرة بل من كفاية صرف الوجود ولا شك أنه لا دلالة على الصيغة عليه.
ولابد من بيان أمور متعلقة بهذا الوجه: –
الأمر الأول: – اختلفوا في أنَّ هذا النزاع هل هو في هيأة الصيغة، أو أنه في مفاد مادة الصيغة، أو أنَّ النزاع متعلق بالمادة المتقومة بالهيأة والهيأة العارضة على المادّة، وقد ذهب صاحب الفصول قدس سره إلى أنَّ هذا النزاع مرتبط بالهيأة وأنَّ مادة الصيغة إنما هو المطلق والمطلق يتحقق بصرف الوجود فلا معنى للنزاع في المادة وإنما النزاع هو في الهيأة، ويذكر من علماء الأدب وغيرهم على أنَّ المصدر من دون قرينة يدل على صرف الوجود فقط، أما أنها تدل على غير صرف الوجود فلابد وأن يكون هذا النزاع في مفاد هيأة الصيغة لا من مفاد مادتها.
هذا قولهم وهو مردود: –
أولاً: – إننا ذكرنا في المباحث السابقة أنَّ المنشأ ليس المادة، وقد أثبتنا أنَّ المادة متعرّية عن كل هيأة ومن منظر هيأةٍ خاصة فلا يمكن أن يكون مادّة للاشتقاق، بل المادة إنما هي مهملة، ففي مثل اضرب مادة اضرِب – أي الضرب – مثل الزائد فهي مهملة عن كل حيثية لا أن يكون الضرب مادة لـ( اضرِب ) ونحوه، وهذا مبني على قول الأدباء من أنهم جعلوا مادة المشتقات هو المصدر وقد قلنا إنه لا ينبغي أن يكون مادةً وتعرضنا لذلك مراراً.
وثانياً: – على فرض أنه قد استفدنا من الهيأة شيء ومن المادة المجردة استفدنا شيئاً آخر، فيمكن أن يجعل مورد النزاع في المادة المتهيئة بهيأة ( اِفعل )، ولا ريب في أنه يغاير الاعتبار مع المادّة المجرّدة.
وثالثاً: – إنَّ هذا البحث ساقط من أصله، لأنَّ من شدة ارتباط المادة بالهيأة وشدة ارتباط المادة بالهيأة تسري جهات البحث في كل منهما إلى الآخر، فلو جعلنا مورد البحث عن الهيأة تبعاً لصاحب الفصول يسري البحث إلى المادة المتوفقة بهذه الهيأة، ولو جعلنا مورد البحث المادة المتلبسة بالهيأة كما هو ظاهر المشهور فالأمر أولى أن تكون المادة والهيأة كل منهما مورد البحث، فهذا البحث ساقط من أصله، فلابد أن يكون مورد البحث هو الهيأة كما عن صاحب الفصول لسريان البحث من الهيأة إلى المادة، أو جعلنا مورد البحث عن المادة المتهيئة بالهيأة الكذائية يكون البحث في كلٍّ من المادة والهيأة.
الجهة الثانية: – إنَّ المرة والتكرار يستعمل بمعنيين، المعنى الأول أن يراد من المرة الفرد والمراد بالتكرار ذات الأفراد، والمعنى الثاني أن يكون المراد بالمرة الدفعة ويكون المراد بالتكرار الدفعات، وبين الفرد والدفعة عموم مطلق، فإذا قال القائل جئني بماء وجاء المأمور بفردٍ واحد وظرف واحد من الماء يصدق عليه الفرد والدفعة معاً، ولكن إذا جاء المأمور به بظروف كثيرة مملوءة بالماء لا يصدق عليه الفرد ويصدق عليه الدفعة، فلو كانت هناك ظروف كثيرة ثم جاء بجميع تلك الظروف الكثيرة مرة واحدة لا يصدق عليه الفرد ويصدق عليه الدفعة لفرض أنه جاء بالماء دفعةً واحدةً في ظروف واحد، أما كون الفرق بين الفرد والدفعة عموم مطلق لتصادقهما فيما إذا جيء بفردٍ واحدٍ حقيقي فهنا يصدق عليه الفرد الشخصي وتصدق عليه الدفعة أيضاً، ولكن إذا كان المأتي به أفراد في أمرٍ واحد فهنا يصدق عليه الدفعة ولا يصدق عليه الفرد، فالدفعة أعم من الفرد، وهذا مسلّم، فهل المراد بقول الأصوليين من أنه هل الأمر يدل على المرة أو التكرار هل هو الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات؟
إنه يمكن أن يكون كلّ واحدٍ منهما حسب المقام والثبوت ليس مراداً وأنَّ الأمر لا يدل على الدفعة والدفعات ولا يدل على الفرد والأفراد، وفي مقام الثبوت يمكن أن يجعل واحد منهما مورد النزاع، ولكن المنساق من عنوان البحث في مقام الاثبات هو الفرد والأفراد، فالدفعة والدفعات والفرد والأفراد كلّ واحد منهما يمكن أن يكون ثبوتاً مورد النزاع لفرض عدم دلالة الأمر على جميع ذلك، ولكن بحسب مقام الاثبات والمنساق العرفي أنَّ محل البحث هو الفرد والفراد.
الجهة الثالثة: – إنَّ الأصوليين قدست أسرارهم أنه لابد وأن يكون المراد بالمرّة والتكرار هما الدفعة والدفعات، وأنه لو كان المراد الفرد والأفراد يكون هذا البحث من متممات البحث الآتي، حيث يبحثون أنَّ الأمر هل يدل على الطبيعة أو على الفرد، ثم بناءً على دلالته على الفرد هل المراد به الفرد الخاص أو الأعم، فإذا كان المراد بالمرة والتكرار الفرد والأفراد لا يبغي أن يعنون بحثاً مستقلاً بل لابد وأن يكون جزءاً من البحث الآتي وهو أنَّ الأمر هل يدل على الطبيعة أو على الفرد ثم يقال هل المراد من الفرد هو الفرد الخاص أو غيره، وحيث إنهم جعلوه بحثاً مستقلاً في مقابل ذلك البحث فإذاً المراد من المرة والتكرار الدفعة والدفعات لا الفرد والأفراد، هذا استظهارهم من أنَّ المراد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات وإلا يلزم التكرر في البحث.
وهذا البحث ساقط: – لأنَّ تماثل بحثين في الجملة لا يوجب أن يجعلا بحثاً واحداً، بل يمكن أن يجعلا بحثين مستقلين، فإنه في هذا المبحث والمبحث الآتي يوجد تطابق في الجملة وتشابه في الجملة أيضاً، فكل أمرٍ يدل على الطبيعة أو على الفرد فقد ذكر الفرد في هذا البحث، وفي المقام يقولون هل الأمر يدل على المرة أو التكرار والمراد بالمرّة الفرد، وهذا المبحث مشابه لذاك المبحث من هذه الجهة، فهذه هي جهة المشابهة، ولكن هناك جهة مغايرة عرفية، فالأمر يدل على الطبيعة أو الفرد عنوان عرفي، والأمر يدل على التكرار عنوان عرفي مقابل لذاك العنوان، فليس مجرّد التشابه بين البحثين في الجملة يكون منشأً لأن يكونا بحثاً واحداً، وإلا لزم أن تجعل جملة كثيرة من مباحث الأصول بحثاً واحداً لثبوت التشابه في الجملة بينها، وهذا ليس قرينة على أنَّ المراد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات، بل يمكن أن يكون المراد هو الفرد والأفراد.
الجهة الرابعة: – بعد أن استفدنا من أصالة الاطلاق وأصالة البراءة كفاية صرف الوجود في الامتثال فإن كان هناك قرينة معتبرة دالة على التكرار نأخذ بها، وإن لم تكن قرينة دالة على التكرار يكفي مجرد الاتيان بصرف الوجود عرفاً وعقلاً وشرعاً، أما العرف في كفاية صرف الوجود فأن الاطلاق المحاوري في العرف يقتضي ذلك فإنَّ المفروض أنه يدل على صرف الوجود، وأما العقل فلأنَّ التكليف بالزائد في مورد من نوع التكليف فوق المطلوب وهو باطل، وأما النقل فلقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( رفع ما لا يعلمون )، فكفاية صرف الوجود بناءً على عدم قرينة على الكرار مسلَّمٌ، وإنما البحث في أنه هل يمكن للمكلف أن يكرر أو لا، فإذا ورد الخطاب ( صلَّ ) أو ( زكِّ ) أو نحو ذلك، وامتثل المكلف ذلك وأتى بصرف الوجود فهل يجوز له التكرار أو لا يجوز له التكرار؟، فإن كان هذا الاتيان موجب لسقوط الأمر من كل جهة لا يجوز له الاتيان بداعي الأمر، لفرض سقوط الأمر، فلا أمر على كلّ حال، وإن لم يكن الاتيان موجباً لسقوط الأمر من أصله وكان الأمر جارياً بَعدُ فهنا يجوز له الاتيان به بداعي الأمر ثانياً وثالثاً ورابعاً لفرض بقاء الأمر، ولو كان الأمر ساقطاً لكفاية المأتي به لكونه جامعاً للشرائط يجوز له الاتيان ثانياً وثالثاً إن كان في البين غرض عقلائي لذلك، فالإتيان ثانياً وثالثاً إذا لم تكن قرينة على التكرار إذا كان بداعي الأمر فالإتيان الثاني يكون صحيحاً لفرض سقوط الأمر وكفاية المأتي به، وتارةً يكون المأتي به لا بعنوان الأمر وإنما هو نحو من الانقياد ونحوٌ من الاحتياط على كل حال فلا بأس به.