الموضوع: بحث الأصول – مبحث الأوامر- اجتماع الأمر والنهي ( دخول بحث اجتماع الأمر في باب من التزاحم وليس في باب التعارض ) .
قلنا أنَّ مورد اجتماع الأمر والنهي من التزاحم لا أن يكون من التعارض أو اشتباه الحجة بغير الحجة والملاك في التزاحم تمامية الحكم ثبوتاً واثباتاً وملاكاً وعدم قدرة المكلف على الجمع بينها، والمناط في التعارض متى أثبت أنه ليس في الواقع إلا حكم واحد وطريق اثباته دليلان جامعان للشرائط، ومعنى اشتباه الحجة بغير الحجة أنه ليس في الواقع حكم إلا على فرضٍ وتقديرٍ، ورد في سند الدليل أبي بصير وهو مردد بين ليث المرادي وهو ثقة وعدل وبين غيره الذي هو غير معتبر، فلو فرض أن أبي بصير هو الثقة فالحكم ثابت وإلا فلا يثبت الحكم.
ويشهد بأنَّ المقام من التزاحم أمارات ظاهرة في كلمات المشهور قدس الله أسرارهم: –
الأمارة الأولى: – أنهم يقولون إن مورد اجتماع الأمر والنهي ما إذا كان بين الدليلين تعارض من وجه وعموم من وجه، فرقوا بين المقام وبين النهي في العبادة أن مورد اجتماع الأمر والنهي ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه والنهي في العبادة ما إذا كان بينهما عموم مطلق، وفي المقام ورد دليل الصلاة ( صلّ ) وورد دليل الغصب مستقلاً ( لا يغصب )، فقد يتفق الاجتماع بينهما، ومعنى قولهم بين الدليلين عموم من وجه أن كل واحد منهما تام ثبوتاً واثباتاً وملاكاً، لفرض أنَّ مورد العموم من وجه ما إذا كان هناك مورد مشترك بينهما، مثل ( صل ولا تغصب ) خطاب مذكور بالنسبة إلى الصلاة، وخطاب مذكور النسبة إلى الغصب، فلكل واحد منهما مادة افتراقٍ وفي البين مادة اجتماع، فلابد وأن يكون كل واحدٍ من الدليلين جامعاً لشرائط الحجية في مادة الافتراق، ولابد وأن يكون الحكم ثابتاً في الواقع خطاباً وملاكاً، فنستظهر من قولهم قدس الله أسرارهم أنه يكون في مورد الاجتماع بين الحكمين عموم من وجه، أما المورد فهو من التزاحم لا أن يكون من التعارض.
الأمارة الثانية: – إنَّ المشهور قدس الله أسرارهم حكموا بصحة الصلاة في مقام التطبيق إذا كان لعذرٍ من اضطرار أو ما شاكل ذلك، فاتفقت آراءهم الشريفة على ذلك، وهذه الفتوى منهم لا يمكن إلا أن يكون دليل الصلاة جامعاً لشرائط الحجية وكان دليل الصلاة تاماً خطاباً وملاكاً، فلو لم يكن خطاب في البين أو لم يكن ملاك في البين لا وجه لهذه الفتوى من المشهور قدس الله أسرارهم، فحكمهم بصحة الصلاة في مقام الغصب عند العذر دليل على أنَّ المورد من التزاحم لا أن يكون من التعارض.
الأمارة الثالثة: – إنَّ جمعاً منهم قدست أسرارهم اعتبروا قيد المندوحة كما تعرضنا له في البحث السابق، فإنه يستفاد من اعتبار من اعتبار المندوحة أنَّ الحكم في مرحلة الثبوت والإثبات والخطاب جامعٌ للشرائط وتامٌ والمحذور إنما هو بالنسبة إلى مرحلة قدرة المكلف لا بالنسبة إلى قصورٍ في نفس الحكم خطاباً أو ملاكاً أو إثباتاً.
فمن هذه القرائن يستفاد أن مسألة اجتماع الأمر والنهي داخلة تحت مسألة التزاحم لا أن تكون من التعارض، والظاهر أنَّ المسألة واضحة ولا تحتاج إلى التفصيل.
ثم إنَّ المشهور قدس الله أسرارهم ذهبوا في المسألة إلى امتناع الأمر والنهي، فقد نسب إلى مشهور الأصوليين ومشهور الفقهاء في هذه المسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي، وبيّنوا في المسألة ماهية النهي وجهة النهي، حيث قالوا إنه في مورد الأمر والنهي النهي فعلي من كلَّ جهةٍ فلا أمر بالصلاة أصلاً وأبداً لامتناع الاجتماع، وهذا منهم مبني على قاعدة أسسوها في الفقه وتمسكوا بها في موارد كثيرة، وتلك القاعدة هي ( أنه كلما دار الأمر بين حق الناس وحق الله يقدّم حق الناس على حق الله ) وحيث إنَّ الغصب حق الناس والصلاة من حق الله جلّ جلاله فيقدم النهي عن الغصب، وقد أرسلوا هذه القاعدة ارسال المسلمات وتمسكوا بها في موارد شتى من الفقه كلما دار الأمر بين حق الله وحق الناس يقدم حق الناس، وقد أثبتنا في الفقه في موارد كثيرة أنه لا أصل لهذه القاعدة من أصلها ونحتاج أدلة خاصة في موارد تقديم حق الناس على حق الله.
وبالجملة: – إنهم قالوا بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي كما يأتي تفسيره مع أنهم ذهبوا إلى صحة الصلاة في الدار الغصبية عند العذر والنسيان والجهل، وهذا تهافت منهم، ففقهاؤنا قدس الله أسرارهم على ما صرحوا به في كتب فقههم وأصولهم من امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي وثبوت الأمر خطاباً وملاكاً هذه المقالة منهم على ما صرحوا بهم في كتبهم الفقهية والأصولية وما أفتوا بهم جميعهم من أنَّ الصلاة في الدار الغصبية مع النسيان والجهل والعذر صحيحة فبأيّ وجه يجمع بين رأييهم وبين نظريهم؟!
بل غاية ما يمكن أن يقال في الجمع هذا أنَّ ثبوت الخطاب والملاك على قسمين: –
القسم الأول: – أن يكون النهي فاعلي عند اجتماع الأمر والنهي يسقط الأمر والنهي وملاكاً دائماً وابداً، وبناءً على هذا لا يتصور وجه لصحة الصلاة عند النسيان وعند العذر لثبوت الأمر خطاباً وملاكاً.
القسم الثاني:- ما إذا كان الثبوت مادامياً لا دائمياً، فالأمر يسقط خطاباً وملاكاً مادام لم يحصل العذر للمكلف فإذا حصل العذر للمكلف يكون الخطاب باقياً والملاك باقياً يحدث الخطاب ويحدث الملاك، وفي المقام ثبوت الأمر خطاباً وملاكاً هو سقوط مادامي لا أنه من السقوط الدائمي فما لم يحصل العذر للمكلف يكون التكليف ساقطاً خطاباً وملاكاً، فإذا حصل العذر للمكلف يحدث الخطاب ويحدث الملاك ولا بأس به وله نظائر كثيرة في الفقه حيث أنَّ الشريعة المقدسة مبنية على السهولة والتخفيف فيمكن أن يحدث الملاك عند حدوث العذر ويحدث الخطاب عند حدوث العذر، فنجمع بين كلمات فقهائنا قدست أسرارهم بأنهم قدّموا جانب النهي وحكموا بسقوط الأمر خطاباً وملاكاً سقوطاً مادامياً لا سقوطاً دائمياً، فإذا حصل العذر يحدث خطابٌ بالأمر ويحدث ملاكُ الأمر ولا بأس بذلك، إذ الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الحالات والخصوصيات والأحوال.
وقد استدلوا على جواز اجتماع الأمر والنهي بوجوه: – فهم قد استدلوا على الامتناع بوجوه كما استدلوا على الجواز بوجوه ونحن نذكر وجوه الجواز ثم نعقبها بوجوه الامتناع: –
أما وجوه امتناع اجتماع الأمر والنهي: – فهي: –
الوجه الأول: – ما عن المحقق القمي قدس سره في كتابه الأصولي القوانين، حيث قال إنه لا موضوع لهذا البحث الطويل العريض العميق أصلاً فإنه لا يتصور الاجتماع أصلاً، فيكون البحث في هذا المقام من التطويل بلا طائل ومن البحث بلا موضوع، وبيان ذلك:- أنه فصّل في القوانين كثيراً ونحن نلخّص ما ذكره، فإنه قال إنَّ الأوامر والنواهي يتعلقان بالطبائع، وهذا صحيح ولا إشكال فيه، والفرض أنها مقدّمة للطبع ومقدمة الواجب ليست واجبة على مبناه، فيكون هذا البحث الطويل لا موضوع له أصلاً بل هو بحث بلا موضوع، لأنَّ الأوامر والنواهي متعلّقان بالطبائع، وهذا صحيح، ثم قال إنَّ الفرض أنَّه مقدمة للطبع وأثبت في مقدمة الواجب أنَّ المقدمة ليست واجبة شرعاً، فأين يتصوّر اجتماع الأمر والنهي، فلا موضوع لهذا البحث أصلاً.
وعلى فرض أن تكون مقدّمة الواجب واجبة فالوجوب غيري لا أن يكون نفسياً، ولا بأس باجتماع الوجوب الغيري مع الحرمة النفسية، هذه خلاصة صفحات من كتاب القوانين، والحق أنا نستغرب هذا القول من مثل هذا المحقق في الأصول والفقه لوجوهٍ تأتي الاشارة إليها.