بما دل على النهي عن القول بغير العلم كقوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و النهي عن الإلقاء في التهلكة مثل قوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ،و بما دلّ على الأمر بالتقوى نصا أو ظاهرا،أو بالفحوى التي تقرب من مائتي آية.
و الجواب عن الكل:إن القول بالبراءة مستندا إلى الحجة المعتبرة، خصوصا القاعدة العقلائية المتفق عليها بين الكل،و هي قبح العقاب بلا بيان ليس قولا بغير العلم و لا من الإلقاء في التهلكة و لا مخالفا للتقوى،كما هو أوضح من أن يخفى لأن التقوى هي إتيان الواجبات و ترك المحرمات،فلا بد أولا من إثباتهما ثم الامتثال حتى تتحقق التقوى،و إثبات أصل الحكم بأدلة التقوى من الدور الواضح.و كذا آية التهلكة لا بد فيها أولا من إثبات التهلكة ثم النهي عن الإلقاء فيها و إثباتها بنفس النهي دور باطل.
بما يظهر منه لزوم الاحتياط و التوقف في الشبهات و أنه خير من الاقتحام في المهلكة،الوارد بألسنة مختلفة،راجع الباب الثاني عشر من كتاب قضاء الوسائل فقد جمع فيه واحدا و سبعين حديثا.مع كون بعضها غير مربوط بالمقام إلا بالمناسبات البعيدة،و لو اريد أن يجمع مثلها لأمكن أن يجمع أكثر منها،كما لا يخفى على الخبير،و فيها الأمر بالاحتياط بطرق شتى،كما هو ظاهر للبصير.و لكن محتملات وجوبه أربعة:
الأول:الوجوب النفسي المولوي،كوجوب الصلاة و الزكاة و نحوهما.
و فيه:أنه خلاف المنساق من الاحتياط لدى المتشرعة،بل أهل المحاورة،فإن المتبادر منه عندهم الطريقية المحضة،كما في جميع الطرق و الأمارات،و الاجتهاد و التقليد لا النفسية من كل حيثية و جهة،مع أن في تلك الروايات قرائن تدل على خلافه.و هي واضحة بأدنى مراجعة،كقوله:«و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».
الثاني:الغيري المقدمي.
و فيه..أولا:أنه يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة،و هو منحصر بأطراف العلم الإجمالي،أو الشبهات البدوية قبل الفحص،و المقام ليس منهما في شيء.
و ثانيا:بما مرّ من أن وجوب المقدمة عقلي و ليس بشرعي،فيكون حينئذ إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه في الموردين،فيصير أجنبيا عما نحن فيه،و لكن ذكرنا ان وجوب المقدمة شرعي فراجع.
الثالث:النفسي الطريقي المحض.
و يرد:بما مرّ من عدم ملاك النفسية فيه بوجه،فكيف يحتمل النفسية في مثل قوله عليه السّلام:«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»،و هل يصح التمسك به في ما ليس فيه الهلكة أبدا لقيام الدليل العقلي على قبحها.
الرابع:الإرشاد المحض إلى حسن الاحتياط عقلا،الذي قد يصل إلى حدّ الوجوب،كما في أطراف العلم الإجمالي و ما قبل الفحص في الشبهات البدوية، و قد يبقى على مجرد حسنه فقط،كما في المقام،و هذا الوجه هو المنساق عرفا مما ورد في الاحتياط عن الشارع.
و بالجملة:الاحتياط بحسب المرتكزات طريقي محض و لا يزيد في الطريقية على الأمارات المعتبرة،فكما أنها منجزة في ظرف تنجز الواقع يكون الاحتياط أيضا كذلك،و هو منحصر بأطراف العلم الإجمالي و ما قبل الفحص، و في غيرهما لا تنجز للواقع،فلا وجه لتنجز الاحتياط الممحض في الطريقية، و جميع ما ورد في الاحتياط و التوقف في الشبهات إنما هو في مقام بيان كثرة الاهتمام بالواجبات و المحرمات،و أنهما بمثابة من الأهمية ينبغي أن يحتاط في مشتبه الوجوب فعلا و مشتبه الحرمة تركا،و ليس هذا إلا معنى حسن الاحتياط عقلا.
هذا مع أن بعض ما استدلوا به لا ربط له بالمقام،كصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد:«إذا أصبتم بمثل هذا و لم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه و تعلموا».فإنه في الشبهات البدوية قبل الفحص التي اتفق الكل على عدم صحة البراءة فيها.و كموثق ابن وضاح الوارد في دخول وقت المغرب:«أرى لك أن تأخذ بالحائطة لدينك».فإنه إن كان في الشبهة الموضوعية فمقتضى الاستصحاب عدم دخول وقت المغرب و في مثله لا يقول أحد بالبراءة،و إن كان في الشبهة الحكمية فاتفق الكل على دخوله بذهاب الحمرة،فلا وجه للاحتياط على كلا التقديرين.
إن قلت:ما وجه أمره عليه السّلام بالاحتياط،و لم لا يبين الحكم الواقعي مع أنه عليه السّلام عالم به،و ليس من شأنه عليه السّلام الأمر بالاحتياط الذي يستلزم الجهل بالواقع و المعصوم منزه عنه؟
قلت:لعله لعدم قدرته عليه السّلام على إظهار الواقع لقصور فهم المخاطب،أو لجهة اخرى،فليس منشأ الأمر بالاحتياط منحصرا في الجهل بالواقع،بل له مناشئ مختلفة كما لا يخفى.
و ذلك من وجوه:
الأول:أن المقام من صغريات الشك في الفراغ،و مقتضى حكم العقل فيه الاشتغال للعلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة فيحكم العقل بالاحتياط في تمام الشبهات تحصيلا للعلم بالفراغ،فإدخال المقام في الشبهات في أصل التكليف مغالطة.
و فيه:
أولا:النقض بالشبهات الوجوبية التي اتفق الأخباري-كالاصولي- على البراءة فيها مع جريان هذا الدليل في الوجوبية و التحريمية معا من غير فرق بينهما.
و ثانيا:بأن العلم الإجمالي ليس مطلقا من كل جهة،بل الحق في بيانه أن يقال:إنا نعلم إجمالا بوجود المحرمات في ما بأيدينا من الطرق و الاصول المعتبرة بحيث لو تفحصنا لظفرنا بها،و قد تفحصنا و ظفرنا بها-و الحمد للّه- فلم يبق علم إجمالي منجز في البين أصلا.
و ثالثا:أنه لو كان مطلقا فلنا علمان إجماليان:
أحدهما:بالمحرمات.
و ثانيهما:بطرق معتبرة عليها.
و هذان العلمان متقارنان حدوثا،و في مثله لا تنجز للعلم الإجمالي بالمحرمات في غير موارد الطرق و الأمارات،فإن قيام الحجة المعتبرة في مورد العلم الإجمالي:
تارة:مقدم على حدوثه.
و اخرى:مقارن معه.
و ثالثة:متأخر عنه بعنوان الكشف عنه،أو بعنوان اكتفاء الشارع بامتثال موارد الحجة عن امتثال جميع أطراف العلم الإجمالي.و في جميع هذه الصور لا أثر للعلم الإجمالي في غير موارد الحجة عند العقلاء،سواء سمي هذا الانحلال حقيقيا أو حكميا،إذ لا ثمرة عملية بين التعبيرين،بل و لا علمية معتدا بها،كما لا يخفى على أهله.
الثاني:أن الأصل في الأفعال غير الضرورية التي تقوّم بها نظام العباد و البلاد هو الحظر،لأنه تصرف في سلطان المولى بدون إذنه و هو قبيح عقلا،فلا يجوز الاقتحام فيها إلا مع الترخيص الشرعي.
و يرد:
أولا:بأن هذه المسألة خلافية غير مسلّمة،فلا وجه لجعلها دليلا للمقام.
و ثانيا:بأنها بحث عن حكم الأشياء قبل البعثة و ظهور الشريعة،و ما نحن فيه بحث عن حكمها بعد تكميل الشريعة و عدم ظهور دليل لنا على حكم من الأحكام،فلا ربط لإحداهما بالاخرى.
الثالث:قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل،فإن اقتحام محتمل الحرمة مظنة للضرر،و العقل حينئذ يحكم بعدم جوازه دفعا للضرر.
و يرد:
أولا:بالنقض بالشبهات الوجوبية.
و ثانيا:بأنه إن اريد بالضرر العقاب فلا عقاب في البين،لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.و إن اريد به الضرر الدنيوي فهو ممنوع صغرى و كبرى،كما مرّ في بعض أدلة حجية مطلق الظن.
فتلخص:أن أدلة القول بوجوب الاحتياط في ما لا نص فيه من الشبهات البدوية التكليفية،قاصرة عن إيجابه فيها تحريمية كانت أو وجوبية.
و كذا الكلام بعينه في مورد إجمال النص أو تعارضه،لعدم تمامية البيان الواصل إلى المكلف فيهما أيضا،فتجري فيهما أدلة البراءة،كما تجري في ما لا نص فيه،إذ لا اعتبار بالمجمل و لا بما هو معارض بمثله لدى العرف و العقلاء، فلا وجه لتوهم البيان في الأول،كما لا وجه لتوهم وجوب الاحتياط في الثاني بمرفوعة زرارة الدالة على الاحتياط في تعارض النصين،لقصورها عن إثبات إيجاب الاحتياط فيه،كما مرّ في مباحث التعارض،هذا مع اتفاق الأخباريين إلى الرجوع إلى البراءة في الشبهات الوجوبية أيضا كالاصوليين.
ثم إنه لا فرق في الحرمة المشكوك فيها بين كونها نفسية أو غيرية،كما لا فرق في الوجوب المشكوك فيه بين كونه نفسيا أو غيريا،عينيا أو كفائيا،لشمول أدلة البراءة لجميع ذلك،كما هو واضح.هذا كله في الشبهة الحكمية تحريمية كانت أو وجوبية بجميع الأقسام المتصورة فيهما.
و أما الموضوعية فاتفق العلماء من اصولييهم و أخبارييهم على البراءة فيها،و يدل عليها مضافا إلى الإجماع المحقق،جميع ما مرّ من أدلة البراءة من الكتاب،و السنة،و العقل،لأن المراد بالبيان الذي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان،و لا أدلة البراءة،هو تبين الحكم بقيوده المعتبرة فيه لا مجرد صدوره من الشارع بأي وجه اتفق،و لا ريب أن تبين الموضوع من حدود الحكم و قيوده،و مع عدمه لا تتم الحجة و البيان،كما هو أوضح من أن يخفى.
الأول:تقدم الأمارات على الاصول الموضوعية و الأخيرة على الاصول الحكمية
الأول:قد تسالم العلماء،بل ارتكز في النفوس أن الأمارات مقدمة على الاصول الموضوعية التي هي عبارة عما يرتفع بها موضوع أصل آخر و هو الشك،و هي مقدمة على الاصول الحكمية،فلا يجري الأصل الموضوعي مع وجود الأمارة،كما لا يجري الأصل الحكمي مع وجود الأصل الموضوعي، و هذا من الامور المسلّمة الجارية في تمام أبواب الفقه،فلا تجري أصالة البراءة مطلقا مع وجود أصل موضوعي في موردها،كأصالة عدم التذكية،و أصالة احترام النفس و العرض و المال،و أصالة الحرية و نحوها من الاصول المعتبرة التي تجري في بعض الموارد،فيزول بها الشك فينتفي موضوع جريان البراءة قهرا.
بعض الكلام في أصالة عدم التذكية
و قد جرت العادة بذكر بعض ما يتعلّق بأصالة عدم التذكية في المقام، لمناسبة أنها من الاصول الموضوعية التي تمنع عن جريان أصل البراءة و الإباحة الذي هو أصل حكمي،و لباب القول فيها يقتضي التعرض لأمرين:
التعرض لأمرين
الأول:المراد من غير المذكي و الميتة
الأول:أنه نسب إلى المشهور أن غير المذكى في اصطلاح الكتاب و السنة عبارة اخرى عن الميتة،فهما و إن اختلفا مفهوما لكنهما متحدان شرعا،و يترتب عليه أنه بجريان أصالة عدم التذكية يحكم بالنجاسة و حرمة الأكل،لفرض أن غير المذكى ميتة شرعا،فلا يكون الأصل مثبتا.لأنه مع وحدة الموضوع يثبت حكم كل منهما للآخر طبعا.
و لكن يمكن المناقشة فيه:بأنه من مجرد الدعوى بلا شاهد عليه،بعد الاعتراف بكونهما مختلفين لغة و عرفا،المستلزم لاختلاف الحكم.و الأخبار الواردة على قسمين:
الأول:و هي كثيرا ما تشتمل على لفظ«لا تأكل»عند فقد بعض الشرائط، و لفظ«كل»عند تحققها،كقول الباقر عليه السّلام:«لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم اللّه عليها».و عن الصادق عليه السّلام بعد أن سئل عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة،فقال عليه السّلام: «كل و لا بأس ما لم يتعمده».و ظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل مما لا ينكر،و أما النجاسة فلا يستفاد منها بوجه من الوجوه،مع أنها واردة في مقام البيان و محل الحاجة،و لا بد و أن يبين النجاسة أيضا،بل هي أهم لاستلزامها حرمة الأكل أيضا بخلاف العكس.
الثاني:جملة من الأخبار الواردة في ما قطعت من الحيوان،كقول علي عليه السّلام:«ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذره،فإنه ميت، و كلوا مما أدركتم حيا و ذكر اسم اللّه عليه».و قول الصادق عليه السّلام:«ما أخذت الحبالة فانقطع منه شيء فهو ميتة».و عن الكاهلي قال:«سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم؟فقال عليه السّلام:لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ،ثم قال عليه السّلام:إن في كتاب علي عليه السّلام إن ما قطع منها ميت،لا ينتفع به».و عنه عليه السّلام أيضا«في أليات الضأن فقطع و هي أحياء،أنها ميتة».و عن الحسن ابن علي:«سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام فقلت جعلت فداك:إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها،قال عليه السّلام:هي حرام.قلت:نستصبح بها؟ قال عليه السّلام:أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام».و عن البزنطي عنه عليه السّلام أيضا:«الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء،أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟قال عليه السّلام:نعم،يذيبها و يسرج بها،و لا يأكلها،و لا يبيعها».
و فيه:أن أهم آثار الميتة إنما هو حرمة الأكل،فالتنزيل من هذه الجهة مسلّم.و أما من حيث النجاسة فهي مشكوك فيها،يرجع فيها إلى الأصل.و أما قوله عليه السّلام:«أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام»،فلا بد من حمله على بعض المحامل،لأن تنجيس اليد و الثوب ليس بحرام قطعا،و يحتمل الحرمة الغيرية بالنسبة إلى الصلاة و هي تكون بالنسبة إلى غير المذكى أيضا،لقوله عليه السّلام: «فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره،و بوله،و شعره،و روثه و ألبانه و كل شيء منه جائز،إذا علمت أنه ذكي،و قد ذكاه».و في خبر الصيقل:«كتبت إلى الرضا عليه السّلام:أنه أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة تصيب ثيابي فأصلي فيها،فكتب عليه السّلام إليّ:اتخذ ثوبا لصلاتك».و استفادة النجاسة من هذه الرواية أيضا مشكلة لاحتمال تلطخ الثوب بأجزاء الميتة،فلا تصح فيه الصلاة من هذه الجهة مع أن ثبوت النجاسة فيها لا تلازم نجاسة غير المذكى إلا بالدليل،و قد مرّ ما فيه.
و ما أبعد ما بين ما نسب إلى المشهور من نجاسة غير المذكى لأنه كالميتة، و ما يظهر من صاحب المدارك من عدم دليل على نجاسة الميتة أصلا فضلا عما يكون نازلا منزلتها.
الثاني:أن الحيوان بالنسبة إلى التذكية و عدمها على أقسام
فتارة:يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أصلا،لا بالنسبة إلى الطهارة و لا الحلية،فهو نجس و حرام مطلقا ذكّي أو لم يذكّ،كالكلب و الخنزير.
و اخرى:يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أيضا من حيث الطهارة و الحرمة،كالحشرات فإنها طاهرة في حال الحياة و الموت و التذكية،و حرام كذلك أيضا.
و ثالثة:مما يكون الأثر بالنسبة إلى الطهارة فقط دون الحلية،كالسباع فإنها إن ماتت حتف الأنف تكون حراما و نجسة،و إن ذكيت تكون حراما و طاهرة.
و رابعة:ما يكون لها الأثر بالنسبة إلى كل من الطهارة و الحلية،كالأنعام الثلاثة مثلا،حيث أنها بالموت تتنجس و تحرم،و بالتذكية تكون حلالا و طاهرة.
إذا تبين هذا نقول:إن الشك في التذكية.
تارة:في الشبهة الحكمية
أي الحكم الكلي لنوع حيوان خاص،كما إذا لم يعلم مثلا أن الحيوان المتولد بين الحيوانين الذي لا يتبعهما في الاسم و الصفة قابل لها أو لا.
و اخرى:في الشبهة الموضوعية الخارجية
.
أما الاولى فلا وجه لأصالة عدم التذكية فيها أصلا،لما عن صاحب الحدائق الإجماع على أن كل حيوان يقبل التذكية إلا ما خرج بالدليل،و عن صاحب الجواهر:«مؤيدا بما يفهم من مجموع النصوص المتقدمة في لباس المصلي من قبول التذكية لكل حيوان طاهر العين حال الحياة،و إن لم يكن مأكول اللحم،و لكن لا يصلي فيه عدا ما استثني».و في صحيح ابن يقطين: «سألت أبا الحسن عليه السّلام:عن لباس الفراء،و السمور،و الفنك،و الثعالب و جميع الجلود؟قال عليه السّلام:لا بأس».فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية فيها مع مثل هذه الإطلاقات،و دعوى الإجماع،مع أنها من العرفيات التي يكفي فيها عدم الردع. مع أن عدم التذكية فيها إما لأجل توهم حرمتها النفسية،أو لأجل الحرمة الغيرية، كالاستعمال في ما يعتبر فيه الطهارة،و قد مرّ أن الشك في الحرمة مطلقا من مجاري البراءة،نفسية كانت أو غيرية،فراجع.
تفصيل القول في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الموضوعية
و أما الثانية فخلاصة القول فيه،أن التذكية إما عبارة عما يقوم بالمذكي (بالكسر)من التسمية و الاستقبال،و فري الأوداج و نحوها مع قابلية المحل، و بعبارة اخرى تكون مركبة من امور خاصة.أو تكون بسيطة و من التوليديات الحاصلة من هذه الامور،نظير الطهارة التي يمكن أن تكون عبارة عن الغسلات و المسحات،فتكون مركبة.أو الحالة النفسانية الحاصلة منها،فتكون بسيطة.و لا ريب في أن الشك في حصول التوليديات إنما يكون من ناحية الشك في أسبابها،و سيأتي أن الأصل الجاري في السبب يغني عن جريانه في المسبب و لو كان توليديا،لمكان اتحاد التوليديات مع أسبابها عرفا يصح كونها مجرى الأصل،بل يصح انتساب الأصل الجاري في أسبابها إليها أيضا،فلا ثمرة عملية بل و لا علمية في تنقيح أنها مركبة أو بسيطة.
و حينئذ فنقول:إن كان الشك في ما عدا قابلية المحل من سائر الشرائط فلا ريب في كونها مسبوقة بالعدم،فتجري أصالة عدم تحقق الشرط مع عدم وجود أمارة على الخلاف من يد مسلم أو سوقه أو أرضه أو نحوها،فيثبت عدم التذكية الذي هو عبارة اخرى عن الميتة شرعا،لكونهما متحدين في اصطلاح الشرع،كما نسب إلى المشهور،فتثبت النجاسة و الحرمة،و أما بناء على صحة التفكيك بينهما كما مرّ،فتثبت حرمة الأكل دون النجاسة.
و إن كان الشك في قابلية المحل و عدمها،فالأصل الجاري حينئذ منحصر بالأصل الجاري في العدم الأزلي،و مفاد ليس التامة،لأن كل حيوان حين تكوّنه إما أن يتكوّن قابلا لها أو غير قابل،و هذه القابلية أو عدمها كلوازم الذات غير المنفكة عنه،فلا يتصور فيها جريان أصالة العدم بالعدم النعتي العارض على الموضوع،بل ما هو المتصور منها إنما هو(أصالة عدم تحقق القابلية للتذكية) بالعدم الأزلي السابق على كل حادث،لأن القابلية أيضا حادث من الحوادث مسبوق بالعدم الأزلي،فيجري الأصل فيه حينئذ كجريانه في جميع الحوادث المسبوقة بالعدم،سواء كانت من الذوات أو من لوازمها.
إن قلت:نعم،و لكن المستصحب هو كلي عدم تحقق قابلية التذكية، و المطلوب هو إثبات عدم قابلية هذا الموضوع الخارجي لها،فيصير الاستصحاب مثبتا بالنسبة إليه.
قلت:هذا الإشكال جار في جميع استصحابات الأعدام الأزلية،و لا اختصاص له بخصوص المورد،و الجواب أن الكلي و الحصة متحدان مع الفرد الخارجي و إن كان بينهما فرق اعتباري عقلي،فلا يكون الأصل مثبتا،فهو كاستصحاب عدم العام لإثبات عدم الخاص المتحد معه.
هذا،و لكن الاستصحاب في الأعدام الأزلية بعيد عن الأذهان العرفية المنزلة عليها الأدلة،مع أنه معارض باستصحاب عدم الخصوصية المقتضية للحرمة،و بعد المعارضة و السقوط تصل النوبة إلى الأصل الحكمي الذي هو أصالة الحلية و الطهارة،فيكون حلالا و طاهرا،و التفكيك بينهما بالحرمة و الطهارة بدعوى:أن المحللات محصورة و ليس المورد منها،فيكون حراما.
مردود:بدعوى العكس،فيحل حينئذ لا محالة.
و كذا دعوى أن الحلية تعلقت بأمر وجودي و هو الطيبات،فلا بد من إحراز الطيبية،و إلا فتشمله أدلة الخبائث فيكون حراما.
مردودة:أيضا بالنقض بأن الحرمة تعلّقت بالأمر الوجودي الذي هو الخبائث،فلا بد من إحرازه،و إلا فيكون حراما،مع أنه يمكن منع كون الطيب أمرا وجوديا،بل هو عدمي أي ما لا يستقذره الطبع،فراجع المطولات.
بيان الحق في المقام،التمسك ببعض الأخبار على ذلك
و الحق أن يقال:إنه لا وجه لجريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك في القابلية و عدمها،لأن عدم القابلية لها مما لا يعلم إلا من طريق الوحي و ينحصر العلم بها فيه،فلو كان حيوان حراما واقعا،و كانت فيه خصوصية الحرمة،وجب على الشارع بيانها لانحصار طريق معرفتها ببيانه،فعدم البيان في مثله يكفي في الحلية مع أن عمومات الحلية بيان،مضافا إلى أن لنا أن نقلب الأصل،و نقول مقتضى سهولة الشريعة المقدسة،و إطلاقات الحلية،أن الحرمة تتقوّم بخصوصية خاصة،و مع الشك في تلك الخصوصية يجري الأصل الأزلي في عدمها،فالحلية مرسلة مطلقة،و الحرمة مقيدة بالخصوصية.
و بالجملة:مقتضى عمومات الحلية و قاعدتها حلية كل حيوان،و كذا مقتضى حصر ما لا تقع عليه التذكية في ما نص عليه بالخصوص،و وقوع التذكية على كل حيوان إلا ما خرج بالدليل،فلا موضوع لأصالة عدم التذكية من هذه الجهة.
نعم،تجري في مثل الشك في الاستقبال،و التسمية ما لم تكن أمارة على الخلاف.
و يشهد لذلك الأخبار التي يستفاد منها أصالة عدم التذكية،فإن جلّها واردة في الشبهات الموضوعية،ففي خبر أبي بصير:«فلما مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لا يعرفون له صاحبا فاشترك جميعا في الصيد،فقال عليه السّلام:لا يؤكل،لأنك لا تدري أخذه معلم أو لا».و في خبر آخر:«فإن يتردى في جب،أو و هدة من الأرض،فلا تأكله و لا تطعمه،فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح»إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الشبهات الموضوعية.
التنبيه الثاني:لا ريب في حسن الاحتياط غير المخلّ بالنظام
نصا و إجماعا،بل باتفاق العقلاء،و لا إشكال فيه في التوصليات.بل يترتب عليه الثواب أيضا إن كان بعنوان الرجاء،و كذا في العباديات مع دوران الأمر فيها بين الوجوب و الندب،لثبوت الأمر الذي يتقوّم به العبادية،فيتحقق موضوع حسن الاحتياط حينئذ.
و أما مع دوران الأمر بين الوجوب و غير الندب أو الندب و غير الوجوب، فقد اشكل في جريانه فيها بعدم إحراز الأمر حينئذ،و المفروض أن العبادية متقوّمة بذلك،و مع عدم تحقق العبادية لا يتحقق موضوع حسن الاحتياط أيضا، لأنه عبارة عن إتيان المتعلق بجميع ما اعتبر فيه جزء و شرطا بعنوان الاحتياط.
و اجيب عن هذا الإشكال بوجوه:
منها:ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من إنكار الاحتياط فيها رأسا،فقال: (و في جريان ذلك في العباديات عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب وجهان:أقواهما العدم).
و يرد عليه:أنه مخالف مع ما في رسائله العملية و كتبه الاستدلالية الفقهية،كما لا يخفى على من راجعها.
و منها:أن من حسن الاحتياط عقلا يستكشف الأمر بقاعدة الملازمة شرعا.
و فيه..أولا:أن الحسن يتعلّق بذات الاحتياط من حيث هو،و الأمر الذي يراد إثباته إنما هو بالنسبة إلى متعلّقه لا ذاته،و لا ربط لأحدهما بالآخر.
و ثانيا:أن مورد قاعدة الملازمة هو الحسن الذاتي الذي يكون وصفا بحال الذات،و حسن الاحتياط طريقي محض لا ذاتية فيه بوجه،فلا وجه لأن يكون مورد قاعدة الملازمة.
و منها:أن من ترتب الثواب يستكشف الأمر،لكون الثواب معلولا للامتثال و هو معلول الأمر.
و فيه:أن ترتب الثواب أعمّ من امتثال الأمر،كما مرّ في بعض المباحث السابقة،مع أن الكلام في أصل ثبوت الأمر واقعا لا في طريق استكشافه في الظاهر،و حينئذ فمعلول الشيء لا يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته،لأنه دور باطل.
و منها:أن نفس الأوامر التي وردت في الاحتياط تكفي للداعوية،فيقصد نفس الأمر الاحتياطي.
و فيه..أولا:أنها ليست عبادية،فمن أين يحصل الأمر العبادي في المتعلق.
و ثانيا:أنها طريقية محضة،لا بد و أن يكون الأمر العبادي ثابتا في المتعلق قبل عروض الأمر الاحتياطي حتى يتحقق الاحتياط في العبادة،فهذا الوجه كالوجه الأول مغالطة بين نفس الاحتياط و العمل المحتاط فيه.
و منها غير ذلك مما ذكر في المطولات مع ما فيه من ظهور الخدشة.
و الحق أن يقال:إن كيفية الامتثال موكولة إلى العقلاء،و هي لديهم إما علمية تفصيلية،أو إجمالية،أو احتمالية رجائية،و الامتثال برجاء المطلوبية نحو من الامتثال لديهم،و لم يردع عنه الشارع بل قرره بالترغيب إلى الاحتياط.فكما أن الامتثال في موارد إحراز الأمر بالأمارات أو الاصول المعتبرة صحيح شرعا، فكذا في موارد رجاء الأمر،بل يكون الانقياد فيها أشد،كما لا يخفى.
و قد يتمسك لإثبات الأمر في المقام بأخبار«من بلغ».
الكلام في قاعدة التسامح من جهات:
بدعوى:أن مفادها تحقق الأمر الشرعي في مورد احتمال ثبوت الأمر، و قد يعبر عن ذلك ب«قاعدة التسامح في أدلة السنن».
و البحث فيها من جهات:
الجهة الاولى:في الأخبار الدالة على القاعدة
،منها قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به،كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله».و عنه عليه السّلام أيضا:«من بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله».و عنه عليه السّلام:«من بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله كان ذلك له و إن كان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يقله».و عنه عليه السّلام أيضا:«من سمع شيئا من الثواب،فصنعه كان له و إن لم يكن على ما بلغه».و عن أبي جعفر عليه السّلام:«من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب،أوتيه و إن لم يكن الحديث،كما بلغه».و يقتضي ذلك في الجملة ما ورد في أخبار كثيرة«إن اللّه تعالى عند ظن عبده المؤمن»،و عموم قوله تعالى: إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً .و قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوٰابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهٰا ،و قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً إلى غير ذلك من الآيات.
المناقشة فيها و ذكر الاحتمالات فيها و الإشكال عليها
و لكن يمكن المناقشة فيها بأنها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن المراد من«أحسن عملا»،و«ثواب الآخرة»و عمل الخير ما ثبت الأمر به شرعا،لا ما لم يحرز الأمر به بعد.
و لكنها مدفوعة بأن المراد ما صدق عليه الخير و الثواب عرفا،فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية.
و كيف كان،فإن أخبار المقام تحتمل وجوها:
الأول:أنها في مقام بيان الأخبار عن تفضل اللّه تعالى،و أنه غير متوقف على شيء غير البلوغ إلى العباد،فلا يتوقف على قصد الأمر و لا على غيره،بل المناط فيه إتيان العمل الذي وعد فيه الثواب،فتكون مثل الأخبار التي يستفاد منها عدم توقف الثواب على قصد الأمر.
و أورد عليه:أن توقف الثواب على إضافة العمل إلى اللّه تعالى غالبا من القرائن الحالية التي تمنع عن التمسك بهذا الإطلاق،مع أن في بعض ما مرّ من الأخبار قرينة لفظية على لزوم الإضافة إلى الشارع،و هو قوله عليه السّلام:«ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله»،و قوله عليه السّلام:«التماس ذلك الثواب».
و هو مدفوع..أولا:بأنه أول الدعوى.
و ثانيا:بأن الإتيان لأجل تفضّل اللّه تعالى عليه نحو إضافة إلى اللّه تعالى، و لا نحتاج في ترتب الثواب أزيد من هذه الإضافة لو قلنا باعتبار الإضافة إلى اللّه في ترتب الثواب.
الثاني:أنها في مقام بيان أن كمية الثواب و كيفيته بأي نحو بلغ إلى العبد، يؤتى تلك الكمية و الكيفية و إن لم تكن صادرة واقعا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله،فعلى هذا يعتبر أن يكون المتعلّق أمرا عباديا بدليل معتبر شرعي.
نعم،كمية الثواب و كيفيته يتسامح فيهما.
و فيه:أنه خلاف ظاهر تلك الأخبار،حيث أنها في مقام بيان بلوغ أصل الثواب على نحو الطبيعة المهملة الصادقة على الذات و الكمية.
الثالث:أن هذه الأخبار من الجملة الخبرية الواقعة موقع الإنشاء،فيكون معنى(فعمل به)أي فليعمله.
و يرد عليه:أنه خلاف المنساق منها عرفا.
الرابع:أن يكون في مقام بيان أن نفس البلوغ من حيث هو بلوغ موجب لحدوث الملاك و الأمر،و تكون هذه الأخبار حاكمة على ما يدل على اعتبار الوثوق في الصدور،فيعتبر الوثوق بالصدور في الروايات إلا في الروايات الدالة على السنن.و هذا الوجه قريب من فضل اللّه تعالى،و مناسب لمذاق الشرع، و لكنه بعيد عن صناعة الاستدلال،كما لا يخفى.
و على أي حال فاستفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل جدا.
نعم،يصح ذلك إن كان برجاء الثواب و التماسه،كما وقع التصريح به فيها.فما نسب إلى المشهور من إطلاق الفتوى بالاستحباب في موردها من غير تقييد بالإتيان برجاء المطلوبية،لعله منزّل على مرتكزات نوع المتشرعة من أنهم يأتون بمعلوم الأمر برجاء الثواب،فكيف بمحتمل الأمر.
الجهة الثانية:هل تدل الأخبار على ترتيب جميع آثار المطلوب الشرعي؟
الجهة الثانية:على فرض استفادة الاستحباب منها-إما مطلقا،أو في ما إذا كان لأجل درك الثواب-هل تترتب عليه جميع آثار المطلوب الشرعي مطلقا أو لا؟ وجهان،بل قولان:أحوطهما الثاني،لعدم ورود الأدلة في مقام البيان من هذه الجهة،فلو دلّ خبر ضعيف على غسل المسترسل من اللحية،و قلنا باستحبابه،فالمتيقن ترتب الثواب عليه،و أما أنه لو جفت بلة يده و لم يتمكن من المسح بها،ففي جواز أخذها من محل الاسترسال و المسح بها إشكال، لقصور الأدلة عن إثبات غير الثواب.
الجهة الثالثة:موارد جريان قاعدة التسامح في الأدلة
الجهة الثالثة:قد جرت سيرة العلماء على التسامح في المندوبات التوصلية،و في أدلة المكروهات،و الفضائل،و المعاجز،و الأخلاقيات،و ما ورد لدفع الأوجاع و الأمراض،و ما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات و الدعوات و غيرها،و ما ورد في الامور التي لها آثار وضعية دنيوية.مع أن أدلة المقام مشتملة على الثواب-كما مرّ-و لا يبعد أن يكون الوجه في ذلك أنهم قدس سرّهم حملوا الثواب على مجرد المثالية،و أنه ذكر من باب الغالب و الترغيب لا الخصوصية، فيكون المعنى:أن من بلغه شيء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في غير الواجب و الحرام،يترتب أثر ذلك الشيء عليه و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله؛و يمكن أن يكون مدرك التسامح في غير الثواب الإجماع على التسامح فيه أيضا.و يمكن الاستدلال على التسامح في ذلك كله بقولهم عليهم السّلام في جملة من الأخبار:«الحكمة ضالة المؤمن، فحيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها»،إذ لا ريب في أن ذلك كله فيه من الحكمة،و قد فسّرت بكل ما فيه خير و صلاح.فتأمل.
و كيف كان،فهل تشمل قاعدة التسامح فتوى المشهور أو الفقيه الواحد باستحباب شيء مع عدم ذكر المدرك؟ وجهان،بل قولان:من أنه لم ينسب إلى السنة أولا و بالذات فلا تشمل،و من انتهائهما إليها فتشمل،و مقتضى التسامح في المندوبات هو الثاني.
التنبيه الثالث:دوران الأمر بين التعيين و التخيير
التنبيه الثالث:قد مرّ الاتفاق على البراءة في الشبهات الوجوبية،بلا فرق فيها بين العيني و الكفائي و غيرهما من أقسام الوجوب،لكن مع احتمال الإباحة أيضا،و أما لو علم بالوجوب و تردد بين كونه تعيينيا أو تخييريا،فهذه هي المسألة المعروفة في الفقه و الاصول بدوران الأمر بين التعيين و التخيير، و المشهور فيها هو الأول،لكنه من موارد قاعدة الاشتغال،و لما مرّ في مباحث الألفاظ من أن مقتضى الإطلاق كون الوجوب عينيا تعيينيا نفسيا إلا إذا دلّ دليل على الخلاف،فيطابق الأصل اللفظي و العملي على التعيينية.
و كذا الكلام بعينه في ما إذا علم بالوجوب و تردد بين كونه عينيا أو كفائيا، هذا خلاصة ما قالوه في الأخذ بالوجوب التعييني عند الدوران بينه و بين التخييري،و نسب ذلك إلى المشهور.
الإشكال على المشهور،و نقل كلام بعض مشايخنا و الرد عليه
و يرد عليه:أن خصوصية التعيينية و العينية قيد زائد مشكوك فيه،فيرجع فيه إلى البراءة،كما في سائر القيود الزائدة المشكوكة فيها فالمقام من مجاري البراءة لا الاشتغال،لعدم العلم بأصل التكليف بحدوده و قيوده،و عدم تمحض الشك في الشك في الامتثال فقط.
نعم،لو اكتفينا في وجوب الاحتياط بمجرد العلم بجنس التكليف من دون أن يعلم نوعه،لوجب الاحتياط في المقام.و لكنه ممنوع،بل التكليف المنجز ما إذا علم نوع التكليف بحسب الطرق و الأمارات و الاصول المعتبرة من جهة النوع.
و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم عدم صحة البراءة هنا،و خلاصة كلامه قدّس سرّه:أنه يعتبر في مجرى البراءة أن يكون من الامور الوجودية لا العدمية،و المقام من الأخيرة دون الاولى،لأن التعيينية عبارة عن عدم العدل و البدل للواجب،و ذلك عدمي،كما هو واضح،و لا يتعلّق الجعل الشرعي بالعدم و العدمي.
و فيه..أولا:أنه مخالف للعمومات و الإطلاقات الواردة بالنسبة إلى البراءة و التوسعة و التسهيل مهما وجد للشارع إليه سبيل،و هذه كلها تشمل الوجودي و العدمي مطلقا.
و ثانيا:أنه منقوض بالاستصحاب و الاصول العدمية المقررة شرعا،سواء كانت تأسيسية أو إمضائية.
و ثالثا:أن هذه كلها من إعدام الملكات و لها حظ من الوجود،كما ثبت في محله.
و رابعا:أنه لا وجه لكون مورد البراءة في المقام عدميا،بل هو عبارة عن خصوصية خاصة في الواجب التعييني تقتضي إتيانه بذاته فقط.كما أن التمسك لتعيين التعييني،بما مرّ في مباحث الألفاظ أن إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا باطل،لأنه في مقام الإثبات،و ما نحن فيه في مقام الثبوت،فلا وجه للخلط بينهما.
أقسام الواجب التخييري
ثم إن الواجب التخييري:
تارة:في ظاهر الخطاب الشرعي،كخصال الكفارات مثلا.
و اخرى:عقلي،كما في المتزاحمين المتساويين خطابا و ملاكا.
و ثالثة:التخيير في المسألة الاصولية-أي التخيير في أخذ الحجة- و الرجوع إلى البراءة إنما يصح في القسم الأول فقط.و أما الأخيرين فاحتمال التعيين في أحدهما مرجح يتعين الأخذ به،فلا وجه للبراءة حينئذ.
موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير
فتلخّص من جميع ما مرّ:تعين الرجوع إلى البراءة في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير،و هي أربعة:
الأول:الشك في أصل تشريع الوجوب ابتداء،ثم الشك في أنه على فرض الثبوت تعييني أو تخييري،فيكون في البين شكان طوليان،و يرجع فيهما إلى البراءة عند الكل.
الثاني:العلم بأصل الوجوب،و الشك في أن هذا بالخصوص تعييني،أو أنه أحد فردي الواجب التخييري،و قد أثبتنا فيه الرجوع إلى البراءة أيضا.
الثالث:العلم بوجوب كل واحد من الطرفين،و الشك في أن هذا الوجوب من كل منهما تعييني أو تخييري،و المرجع فيه البراءة أيضا،لعين ما تقدم في سابقه.
الرابع:العلم بوجوب شيء و العمل بأن الشيء الآخر مسقط عنه،سواء كان مباحا أو مندوبا،و الشك في أنه واجب تعييني أو لا،و المرجع فيه البراءة أيضا،لعين ما تقدم.
الكلام في دوران الأمر بين الواجب العيني و الكفائي
و من ذلك يظهر الأمر في ما دار الأمر بين الواجب العيني و الكفائي،فإنه يجب الإتيان به سواء كان في الواقع عينيا أو كفائيا،لوجوب قيام الكل بالإتيان بالواجب الكفائي،و لكن لو أتى به أحد يشك في تعلّق الوجوب بالنسبة إليه للشك في العينية،فيرجع فيه إلى البراءة.
و لكن مع ذلك كله،فالأحوط ما هو المشهور،لاحتمال كون العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط منجزا،و إن لم يمكن إثباته بالدليل كما عرفت.
التنبيه الرابع:جريان البراءة في جميع الشبهات مطلقا
التنبيه الرابع:لا ريب في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية-وجوبية كانت أو تحريمية بجميع أقسامهما-لعدم كفاية مجرد العلم بالتكليف فقط في تنجزه و صحة المؤاخذة عليه،بل لا بد مع ذلك من إحراز متعلّقه و موضوعه.لأن إحرازهما من حدود إحراز الحكم و قيوده،و مع عدم إحراز ذلك يجري دليل البراءة عقليا كان أو نقليا-كما مرّ-سواء كان تعلّق الحكم بالموضوع على نحو العام السرياني الانحلالي،أو على نحو صرف الوجود،أو على نحو العام المجموعي من حيث المجموع.ففي الشبهات الموضوعية في جميع ذلك يرجع إلى البراءة.
توهم اختصاص البراءة ببعض الأقسام و الجواب عنه
و توهم:أنه لا مجرى لها في الأخير لمعلومية التكليف فيه بحدوده و قيوده،فيكون من مورد الاشتغال لا البراءة.
مردود..أولا:بأن المجموع ليس إلاّ الأفراد و لا تحقق له في غيرها، و الشك في بعضها شك في أصل التكليف بالنسبة إليه،و يكون من موارد الأقل و الأكثر،فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر لوجود المقتضي و فقد المانع.
و ثانيا:بأنه ليس في الشرعيات تكليف يكون كذلك بالنسبة إلى الأفراد، فيكون من مجرد الفرض.
نعم،يصح ذلك بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي تعلّق به التكليف،زمانا كانت تلك الأجزاء-كما في الصوم-أو غيره-كما في الصلاة مثلا-فإن صحة الصوم متوقفة على الإمساك في جميع أجزاء الزمان الصومي من حيثالمجموع،فلو تخلّف في جزء من أوله،أو وسطه،أو آخره بطل الصوم.كما تتوقف صحة الصلاة على تحقق سائر شرائطها من أولها إلى آخرها،فلو تخلّف بعضها في جزء من أجزائها بطلت،و هكذا في جميع المركبات التي تعتبر فيها شروط خاصة،و لكن ذلك كله ليس من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد،كما لا يخفى.
نتيجة البحث
و الحاصل أن مقتضى القاعدة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وجوبية كانت أو غيرها،ففي الدّين أو الفائتة المرددة بين الأقل و الأكثر، تجري البراءة عن الأكثر،لكونه من الشك في أصل التكليف،و لكن نسب إلى المشهور الاحتياط في خصوص الفائتة المرددة بين الأقل و الأكثر مع ذهابهم إلى البراءة في نظائرها،فإن كان ذلك لأجل القاعدة فهي تدلّ على البراءة،كما مرّ. مع أن مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت عدم الوجوب أيضا، و استصحاب عدم الإتيان محكوم بقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت،كما هو معلوم.و إن كان لأجل نص خاص بها فهو مفقود،كما اعترف به جمع،و إن كان لأجل أن كثرة اهتمام الشارع بالصلاة تقتضي ذلك فهو لا يقتضي إيجاب الاحتياط.و إن اقتضى حسنه و استحبابه،كما لا وجه للتفرقة فيه بما عن بعض من أنه إن علم عدد الفوائت ثم عرض النسيان،و تردد بين الأقل و الأكثر،وجب الاحتياط بإتيان الأكثر.و إن كان التردد من أول الأمر بلا سبق العلم فلا يجب، و ذلك لأن المسألة من صغريات الشك في أصل التكليف على كل تقدير،كما لا يخفى.هذا كله لباب القول في دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب،و دورانه بين الوجوب و غير الحرمة.و أما دوران الأمر بين الحرمة و الوجوب-المعبر عنه بدوران الأمر بين المحذورين-فالكلام فيه يأتي في الفصل الآتي.