1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. تهذیب الاصول
  8. /
  9. الأمر الخامس الاجتهاد و التقليد

من الحجج المعتبرة بين العقلاء كافة الاجتهاد و التقليد،و لا يختصان بفن دون فن،و لا بملة دون اخرى،بل يجريان في جميع الفنون و الصنائع و الملل، و هما من المبادئ لجميع العلوم،لأن كل علم يحتاج إلى الفكر و التأمل و هو إما اجتهادي أو تقليدي.

نعم لا يتصف علم الباري و ما أفاضه تعالى إلى أوليائه بهما،لأنه أجل من أن يتصف بالاجتهاد و التقليد،أما علم اللّه تعالى فلأنه عين ذاته و لا تدخل للفكر فيه،بل يستحيل ذلك عليه تعالى،لأنه ملازم للجهل.و أما علم الإمام عليه السّلام فلأنه إفاضي بلا ترتيب مقدمات الفكر،و عمله عليه السّلام صحيح و إن كان لا عن اجتهاد و لا تقليد و لا احتياط،بخلاف عمل غيره عليه السّلام فإنه لا بد و أن يكون عن واحد منها.

لم يرد لفظ الاجتهاد-بما هو المعروف في الاصول و الفقه-في الكتاب الكريم و لا في نصوص المعصومين عليهم السّلام،بل و لا أثر له في كلمات القدماء قدس سرّهم و إنما حدث في الطبقات الأخيرة،فلا وجه للنقض و الإبرام على ما قيل في تعريفه.مع أنه من الشرح اللفظي فقط،و الإشكال على الشروح اللفظية ليس من دأب العلماء.

و المعروف أنه:استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم.

 آراء العلماء في الاجتهاد و ما يعتبر في الاجتهاد

و فيه:أنه إن كان المراد به الغالب فله وجه،و إلا فلا تنحصر الأحكام بخصوص المظنونات،بل تشمل اليقينيات و المسلّمات.

كما أن تعريفه بأنه:استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم.

مخدوش:أيضا،إذ لا يشمل جميع موارد المعذورية في ترك الواقع،إذ ليس فيها حكم إلا أن يعمم الحكم إليها أيضا.

و لا بد و أن يفسر أصل الاجتهاد بتفسير كلي يشمل جميع العلوم،و يذكر فيه قيد خاص مختص بالعلم المطلوب فيه الاجتهاد،كما هو الشأن في كل تعريف له صغريات كثيرة.

و لعل الأولى تعريفه:بأنه بذل الطاقة في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار الشارحة للكتاب.

ثم إنه قد نسب إلى بعض تحريم الاجتهاد،فإن أراد به القياس و الاستحسان و الرأي في مقابل المعصوم عليهم السّلام،فلا يذهب أحد من الإمامية إلى جوازه،و إن أراد تحريم بذل الطاقة البشرية في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار المعصومية الشارحة للكتاب الكريم،فلا يتوهم أحد مرجوحيته فكيف بحرمته،لأن الاستفادة من الظواهر و ردّ متشابهات الأدلة الى محكماتها،و الجمع العرفي-المقبول لدى العقلاء بين مختلفاتها-من الفطريات البشرية غير المختصة بمذهب و ملة.

ثم إن مقتضى الأصل عدم حجية الرأي و نفوذ الحكم إلا في ما دلّ عليه الدليل بالخصوص،فيعتبر في الاجتهاد جميع ما يحتمل دخله فيه،و لكن مقتضى إطلاق مثل قوله عليه السّلام:«انظروا إلى رجل منكم نظر في حلالنا و حرامنا»، و قوله عليه السّلام:«و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»،كفاية ما له دخل في فهم المراد من الكلام و في الاستظهارات العرفية من الأدلة،كاللغة و العلوم الأدبية في الجملة،و ما له دخل في حصول الوثوق بصدور الأخبار،و لا يعتبر فيها الاجتهاد،بل يكفي حصول الاطمئنان من الرجوع إلى أقوال خبراء الفن،كما استقرت عليه سيرة الفقهاء قديما و حديثا،و لو اعتبر الاجتهاد في مباديه لتعذّر حصوله عادة في هذه الأعمار المتعارفة،و قد جرت السيرة على الاهتمام بصناعة الاصول،لأنه مجمع مبادئ الاجتهاد و مؤلف متفرقاتها،و قد ذكرنا في الجزء الأول عند تعريفه أنه:بداية الاجتهاد و نهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط و إن اشتملت على ما ليس فيه ثمرة عملية بل و لا علمية معتنى بها، كجلّ مباحث الوضع و الصحيح و الأعم،و المشتق،و اتحاد الطلب و الإرادة، و بحث الانسداد و نحوها مما هو كثير كما هو واضح على الخبير.

و يكفي في الاجتهاد من الاصول الإحاطة بالمسلّمات و المشهورات بين العقلاء و العلماء و ما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة،و لا عبرة بالدقيات العقلية و الاحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها،كما لا يعتبر إبداء الرأي المسبوق بالعدم في الاصول،لأن الآراء محصورة بين النفي و الإثبات،بل يكفي الإذعان الاعتقادي عن تأمل و اجتهاد بما هو المألوف بين أهل المحاورة في كيفية الاحتجاج و الاستظهار،و تأليفات الفقه الاستدلالي في هذه الأعصار و ما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الاصول،و يمكن أن يعد الزائد عليه من الفضول.و من أهم المبادئ الفضائل النفسانية و العمل بما يوجب التقرب إلى الحضرة الربوبية و التجنب عما يسخطه،فإن جميع الإفاضات من حضرته و تمام العنايات من ناحيته،قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّٰهُ  ،هذا بعض الكلام في أصل الاجتهاد.

 تعريف التقليد

التقليد هو جعل العامي وظائفه الدينية العملية في عنق المجتهد ليحتج على صحتها و فسادها،أو جعل المجتهد الوظائف العملية المجتهد فيها في عنق العامي ليعمل بها،أو هما معا و لا محذور في الجميع،و بحسب النتيجة عبارة عن مطابقة العمل لرأي من يصح الاعتماد عليه.و ما قيل:من أنه الالتزام بالعمل برأي المجتهد،أو هو العمل برأيه،كل ذلك من باب الغالب و المقدمية لمطابقة العمل مع رأي من يصح الاعتماد على رأيه،لا أن يكون لما ذكر موضوعية خاصة.

ثم إن دليل وجوب التقليد على الجاهل السيرة العقلائية،و إجماع الفقهاء، و الآيات مثل قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ  ،و الأخبار كما تقدم،و قد فصّلنا القول في ذلك في كتابنا(مهذب الأحكام)فراجع.

و هما تارة:بالنسبة إلى الكيفية،أي:الاشتداد و الضعف في قوة الاجتهاد.

و اخرى:بالنسبة إلى الكمية،أي:الإحاطة بتمام أحكام الفقه كلها أو ببعضها.و لا اختصاص لهما بالفقه بل يجريان في جميع العلوم و الصنائع مطلقا.

أما المطلق في الكيفية و الكمية بحيث لم يمكن حصول قوة الاجتهاد فوقه كما و كيفية،فالظاهر امتناعه عادة،لعدم وقوف القوة و الاستعداد على حدّ خاص بالنسبة إلى شخص واحد فكيف بأشخاص متعددة،فكلما كثر بذل الجهد و الطاقة تزداد تلك القوة كمالا فيهما،و لذا كثر الاختلاف في الفتوى حتى من فقيه واحد في مسألة واحدة،لاختلاف القوة في الشدة و الضعف و الإحاطة و عدمها.

نعم،لا ريب في وجود المطلق في الجملة في مقابل المتجزّي كذلك،كما لا ريب في حجية رأيه و نفوذ حكمه و جواز تقليده،لأنه القدر المتيقن من الأدلة،سواء كان من القائلين بانسداد باب العلم،أو قال بانفتاحه.أما على الأخير فواضح.و أما على الأول فلأن الانسداد لا ينافي صحة الاعتذار بالرأي و النظر، و هي تجتمع مع الجهل بالواقع و سدّ باب العلم عليه،كما في موارد الاصول العملية التي يصح الاعتذار بها شرعا و عقلا.

و أما المتجزّي:فالحق الموافق لوجدان كل عالم في كل علم إمكانه و تحققه خارجا،و مقتضى الإطلاقات و السيرة في الجملة نفوذ حكمه و حجية رأيه و صحة تقليده إلا إذا كان بحيث تنصرف الأدلة اللفظية عنه،و يشك في ثبوت السيرة فيه،فمقتضى الأصل عدم الاعتبار رأيه و نفوذ حكمه حينئذ.

منها:العلم على تفصيل تقدم.

و منها:الرجولية،و الحرية،و طهارة المولد إجماعا.

و منها:البلوغ و العقل،للإجماع على اعتبارهما،بل بناء العقلاء على اعتبار الثاني أيضا.و لو كان عاقلا فجنّ،فمقتضى الاستصحاب ببعض تقريراته الآتي في تقليد الميت،صحة البقاء على تقليده لو لا الإجماع على الخلاف، و عن صاحب الجواهر إرسال اعتبار جميع الشرائط حدوثا و بقاء إرسال المسلّمات،فراجع كتاب القضاء.

و منها:الإيمان،للقطع بعدم رضاء المعصومين عليهم السّلام برجوع شيعتهم إلى غير فقهاء مذهبهم.

نعم،لو اجتهد في الفقه الجعفري في حال كونه مخالفا ثم استبصر،يصح تقليده إن كان واجدا لسائر الشرائط،و أما العكس فلا يجوز.

و منها:العدالة إجماعا.

و منها:مخالفة الهوى،لمرتكزات المتشرعة،و خبر الاحتجاج الدال عليها،و هي أخص من العدالة و يمكن الاستشهاد له بقوله تعالى: يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لاٰ تَتَّبِعِ اَلْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ  لأن مقتضى المذهب عدم صدور الذنب منه،فيكون المراد بعدم اتباع الهوى الأهوية المباحة غير اللائقة بهذا المنصب،و لا ريب في سقوط مرتبة المتابع لها عن القلوب و عدم مناسبة متابعتها لمقام النبوة و الإمامة و فروعهما التي منها مرجعية الحكم و الفتوى.

و منها:الحياة على ما يأتي تفصيله.

و منها:حسن السليقة و العلم بمذاق الفقاهة على ما هو المتسالم عليه عند أهل الخبرة من الفقهاء،و أما النسيان و عدم الضبط فهما مانعان عن صحة التقليد،كما تعرضنا لجميع ذلك في مباحث الاجتهاد و التقليد و كتاب القضاء من(مهذب الأحكام)،فراجع.

ثم إنّه لا يخفى أن أصل التقليد فطري و ليس بتقليدي،و كذا شرائط صحته،فلو أفتى من فقد بعضها بعدم اعتبار ما فقده،لا يصح تقليده للشك في حجية قوله،و لا يجوز إثبات حجية قوله بقوله.بل لو أفتى الواجد بعدم الاعتبار يشكل اعتبار قوله إن شك العامي في الاعتبار،لأن المتيقن من مورد سقوط شك العامي خصوص الفرعيات المحضة فقط.

و أما شرائط صحة التقليد التي هي كالأصل و الأساس للفرعيات المحضة، فمقتضى الأصل عدم اعتبار قوله فيه مع الشك و التردد.

نعم،لو حصل اليقين من قوله بعدم الاعتبار يتبع لا محالة.

و بعبارة اخرى:هناك امور ثلاثة:الفرعيات المحضة،و الفطريات المحضة،و ما هو برزخ بينهما.و مورد التقليد هو الأول فقط،و شرائط صحة التقليد من الثالث.

ثم إن شئون الفقيه الجامع للشرائط ليست منحصرة في حجية الفتوى و نفوذ الحكم،بل له حجية وجودية أيضا و لو كان ساكتا،لأنه يصح أن يحتج به اللّه تعالى يوم القيامة،و يصح له أن يشتكي إلى اللّه تعالى من الجهال إن لم يرجعوا إليه في فهم الأحكام،و قد ورد في الحديث:«ثلاثة يشكون إلى ربهم يوم القيامة عالم لا يسأل عنه-الحديث-».كما أن له الولاية الانتظامية أي نظم دنيا البشر و سياساتهم نظما إليها،بشرط استيلائه على الكل في الكل و بسط يده على الحكم من كل حيثية و جهة.و قد ذكرنا القول في ذلك كله في المهذب.

لا ريب في أن بين المعلومات و الواقعيات مطلقا عموما من وجه،فرب معلوم مخالف للواقع،و رب واقع غير معلوم،و قد يتصادقان و لا اختصاص لذلك بعلم دون علم و فن دون آخر،فيجري في الفقه و غيره.و لازم ذلك هو صحة القول بالتخطئة في جميع العلوم-فقها كان أو غيره-و لا ينكره أحد،و إنما توهم التصويب في خصوص الأحكام الفقهية الظاهرية فقط،بدعوى:أن الإجزاء و صحة الاعتذار بها يستلزمان التصويب،و فساد هذه الدعوى أوضح من أن يخفى،لأن الإجزاء و صحة الاعتذار تسهيلا على الامة أعم من إصابة الواقع،كما في موارد جميع القواعد التسهيلية الامتنانية المجعولة في الشريعة، كقاعدة الصحة،و الفراغ و التجاوز،و الطهارة،و الإباحة و جميع الاصول التسهيلية.

نعم نفس أحكام الشريعة-سواء كانت في الكتاب أو في السنة-هي أحكام واقعية بلا شبهة،و لكن الاجتهاد فيها أعم من إصابة الواقع و لو كان من الاجتهاد الصحيح،فضلا عما إذا كان من قياس أو استحسان أو نحوهما.

إن التصويب على أقسام:

الأول:انقلاب الوظيفة الظاهرية إلى الأنظار الاجتهادية في مقام الفعلية فقط لا في مقام الإنشاء الواقعي النفسي الأمري،فالوظيفة الفعلية الظاهرية كانت مطابقة للواقع لو تمت عليها الحجة و لم يكن الاجتهاد على خلافه،و إلا فتكون في مورد الاجتهاد و لو كان على خلاف الواقع و توجد حينئذ فيها المصلحة التداركية،و لا دليل على فساد هذا القسم من عقل أو نقل إلا ما يأتي مع بيان الإشكال فيه.

الثاني:تعدد الواقع المنشأ حسب تعدد الآراء الاجتهادية المختلفة.

و اشكل عليه..أولا:بالإجماع على وحدة الحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم و الجاهل و عدم تعدده.

و فيه:أن المتيقن منه الأحكام الكلية التي تدور عليها الشريعة،مثل وجوب أصل الصلاة و الزكاة و الحج و نحوها في الجملة.و أما الجزئيات الاختلافية التي تختلف حسب اختلاف الآراء فلا دليل على وحدتها في الواقع، بل مقتضى السيرة تعددها من مجتهد واحد في أوقات مختلفة،فكيف بالمتعددين من أهل الاجتهاد،فكل من هذه الآراء واقعيات اعتبارية في حدّ نفسها تشملها إطلاقات أدلة الحجج و عموماتها.

فالأحكام الواقعية:

تارة:واقعيات أولية حقيقية بني عليها أصل الشريعة المقدسة.

و اخرى:امتنانية تسهيلية ثانوية،كالأحكام الاضطرارية التي يطلق عليها الواقعيات الثانوية،و هي مجعولة شرعا،فهي من الأحكام الإلهية بالاتفاق، فلتكن الاجتهاديات أيضا كذلك،أي أنها أحكام إلهية اقتضاها التسهيل و الامتنان على الامة و الرأفة بهم،و ليس ذلك مختصا بالأحكام الشرعية فقط،بل يجري في أنظار العلماء في جميع العلوم،سواء كان متعلّقها من الاعتباريات أو من الماديات،فكلما يقال فيها يقال في الاجتهاد في الأحكام أيضا.

و ثانيا:بتواتر الأخبار على وحدة الحكم الواقعي.

و فيه:إنه لم يظفر على خبر أو خبرين من تلك الأخبار فضلا عن المتواتر منها،و إن أريد بها أخبار الاحتياط فهي و إن كنت متواترة في الجملة لكنها أعم من المدعى،كما لا يخفى.

الثالث:أنه لا واقع أصلا إلا ما يراه المجتهد،فيكون رأيه موجبا لحدوث الواقع و تحققه مطلقا.

و اورد عليه..أولا:بما أورد على الثاني من الإجماع و الأخبار المتواترة، و تقدم الإشكال عليه.

و ثانيا:بأنه لو لم يكن شيء موجود في الواقع لما صدق التفحص عنه و الاجتهاد فيه،و الاستنباط متقوم بالتفحص في الأدلة للظفر على الواقع.

و فيه:أن الاجتهاد و التفحص في المباني لأجل إحداث الرأي،كما في ذوي الرأي في جميع العلوم و الفنون،سواء كان الرأي تأسيسيا أو إمضائيا،و لا محذور فيه.

ثم إن القول بالتصويب مخالف لما رواه البخاري في صحيحه في الجزء التاسع باب الاعتصام بالكتاب و السنة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،و ان اجتهد و اخطأ فله أجر واحد»،إذ لا فرق بين الحاكم و المفتي عندهم،إلا أن يقال:إن الحديث مختص بخصوص الموضوعات التخاصمية دون الأحكام،و لكنه تخصيص بلا وجه.

حق العنوان أن يعنون بالأفقهية تبعا للنصوص،كقول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلماتنا»،و قوله عليه السّلام:«أفقههما في دين اللّه» إلى غير ذلك مما ورد فيه لفظ الأفقه،فراجع قضاء الوسائل.كما أن الحق أن يعنون هكذا:(أن مخالفة فتوى العالم لفتوى الأعلم منه و للاحتياط هل تكون مانعة عن تقليده؟)،إذ لا كلام لأحد في صحة التقليد في مورد التوافق في الفتوى أو الاختلاف مع كون فتوى العالم موافقة للاحتياط.و إنما الكلام في صورة واحدة و هي كون فتوى العالم مخالفة للاحتياط و مخالفة لفتوى الأعلم منه.

فنسب إلى جمع تعيين تقليد الأعلم حينئذ،و استدل:

تارة:بالإجماع المدعى عن المرتضى رحمه اللّه.

و فيه:أن مورده مسألة الخلافة العظمى دون التقليد و الفتوى،فراجع كتاب القضاء من(جواهر الكلام).

و اخرى:بالسيرة على الرجوع إلى الأعلم.

و فيه:أن دعوى ثبوتها على نحو الكلية غير معلومة إن لم تكن معلومة العدم.

و ثالثة:بقاعدة الاشتغال بعد كون المقام من التعيين و التخيير.

و فيه:أن التعيين كلفة زائدة يكون من الشك في أصل التكليف فيرجع فيه إلى البراءة،لأن المسألة خلافية،كما تقدم.و لكن الأحوط تعيين تقليد الأعلم إن لم يكن مخالفا للاحتياط من جهة اخرى،كما أثبتناه في الفقه في كتاب(مهذب الأحكام).

الاستدلال على اعتبارها في المرجع و المناقشة فيه

و أما الاستدلال عليه:بأن رأي الأعلم أقرب إلى الواقع فهو من مجرد الدعوى،كما أن ما ورد في الأخذ بالأفقه عند تعارض الحكمين إنما هو في مورد الرجوع إلى الحكمين،فلا يشمل ما قبل الرجوع،فكيف بالتقليد،إلا أن يدعى العلم بعدم الفرق،و إثباته مشكل،مع أن المراد بالأفقه في تلك الأعصار المتأمل في الأحاديث في مقابل من يكتفي منها بمجرد الحفظ فقط،و كون المراد بها الأعلمية الاصطلاحية محل إشكال.و لعله لذلك لم يعبر العلماء بها، بل عبروا بالأعلمية.

و بعبارة اخرى:المراد بالأفقه فيها مطلق المجتهد،و المراد بغيره مطلق الحافظ للأحاديث.

 أدلة عدم اعتبار الأعلمية و الردّ عليها

ثم إنه قد استدل على عدم اعتبار الأعلمية بوجوه مخدوشة،منها: الإطلاقات و العمومات الدالة على الرجوع إلى العالم.

و فيه:أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و منها:أن تشخيص الأعلم متعذر.

و فيه:أنه ليس بأصعب من تشخيص أصل الاجتهاد و العدالة المعتبرة في إمام الجماعة و الشهود و نحو ذلك،فكل ما يقال فيهما يقال في تشخيص الأعلم أيضا.

و منها:جريان السيرة على الرجوع إلى العالم مع وجود الأعلم.

و فيه:أنه لم يحرز ذلك مع الاختلاف في الامور المهمة،و أي أمر أهمّ من الدين.

و منها:رجوع الشيعة إلى الرواة مع وجود الإمام عليه السّلام.

و فيه:أنه لم يكن من الرجوع التقليدي،بل كان مثل رجوع العوام إلى من يعرف رسالة المجتهد مع وجود المجتهد بينهم.إلى غير ذلك من الوجوه التي هي ظاهرة الخدشة فراجع(مهذب الأحكام).

و يمكن جعل النزاع لفظيا،فمن منع عن الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل،أي في صورة إحراز الاختلاف في الرأي مع عدم موافقة رأي المفضول للاحتياط،و من جوّز أراد غير هذه الصورة.

 فوائد:

 الاولى:بيان المراد من الأعلم

الاولى:المراد من الأعلم من كان أجود فهما في تطبيق الفروع على مداركها،و أجود استنباطا للوظائف الشرعية عن مبانيها،و ليس المراد به الأعلمية المطلقة من كل جهة لانحصاره بالمعصوم عليه السّلام،بل المراد بها الأعلمية الإضافية.

 الثانية:كيفية تحقق موضوع الأعلم

الثانية:لا ريب في تحقق موضوع تقليد الأعلم مع العلم باختلاف الفتوى تفصيلا!و أما مع العلم الإجمالي فيجب الفحص،لكونه منجزا و مع اليأس لا يتحقق موضوعه،لأن موضوعه إحراز الاختلاف في ما هو مورد الابتلاء، و المفروض عدم تحققه.

 الثالثة:لو شك في اختلاف الأعلم مع غيره

الثالثة:لو شك في الاختلاف،فالظاهر صحة جريان أصالة عدم المخالفة،فيتحقق موضوع صحة تقليد العالم،لأن موضوعه عدم إحراز المخالفة و لو بالأصل،و لا موضوع لوجوب تقليد الأعلم،لأن موضوعه إحراز المخالفة و هو غير حاصل.و هنا فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه، فراجع.

و هو إما بالقطع على الخلاف،أو بغيره مما يكون معتبرا.و على كل منهما إما أن يكون الاجتهاد السابق قطعيا،أو ظنيا،أو بالاختلاف.و على الجميع إما أن يكون متعلّق الاجتهاد نفس الحكم،أو موضوعه،أو قيدا من قيوده.و على الجميع إما أن نقول بالطريقية المحضة،أو السببية الانقلابية،أو المصلحة السلوكية.و مقتضى الأصل في الجميع عدم الإجزاء إلا مع الدليل على الخلاف من إجماع أو غيره.

و يمكن أن يقال:إن من لوازم جعل اعتبار الاجتهاد و وجوب الرجوع إلى المجتهدين هو الإجزاء،لأن اعتبار قول المجتهد و الرجوع إليه جعل في مورد يلزمه التبدل غالبا بل دائما في الجملة،مع أنه لم يشر إلى حكم هذه المسألة العامة البلوى في خبر من الأخبار مع كثرة الابتلاء بها في جميع الأزمنة، و يقتضي الإجزاء سهولة الشريعة المقدسة أيضا.

قد ادعي الإجماع على بطلان الابتدائي منه،فإن تم و إلا فيشمله ما يدل على صحة البقاء عليه.و موضوع البحث في ما إذا خالفت فتوى الميت لفتوى الحي،و في مورد الموافقة لا ثمرة لهذا البحث أصلا،لتحقق مطابقة عمل العامي لرأي من يصح الاعتماد على رأيه و يصح عمله لا محالة،سواء قلنا بجواز تقليد الميت ابتداء و بقاء،أو لم نقل به.

 و خلاصة الكلام أنه لا بد و أن يبحث من وجهين:

الأول:من جهة وجود المقتضي لتقليد الميت.

و الآخر:من جهة وجود المانع عنه.

أما الوجه الأول:فمقتضى الاصول الموضوعية-من أصالة حجية الرأي في حدّ نفسه،و صحة الاعتذار به،و أصالة بقاء الوظيفة الظاهرية التي استفادها من الأدلة،و أصالة بقاء حكمة الاعتبار من غلبة الإصابة أو تسهيل الأمر على الأنام-صحة تقليد الميت ابتداء و البقاء عليه استمرارا،مضافا إلى الإطلاقات و العمومات كما تقدم من الآيات و الأخبار،و تقتضيه السيرة في الجملة أيضا، لاستقرارها على الرجوع إلى آراء الأموات ابتداء و بقاء في كل علم و فن و صنعة.

و اشكل عليه..تارة:بأصالة عدم الحجية في مشكوكها.

و فيه:أنها من الأصل الحكمي،و الأصل الموضوعي مقدّم عليه.كما ستعرف،مع أنها محكومة بالسيرة و الإطلاقات و العمومات.

و اخرى:بزوال الرأي بالموت.

و فيه:أن الحياة منشأ حدوث الراي لا بقائه،و لا يدور مدار بقاء الحياة أبدا،لوجود آراء الأموات من العلماء عندنا خلفا عن سلف و يحتجون بها في جميع العلوم و الفنون،كوجود كلماتهم عندنا.فما الفرق بين حجية ظواهر كلماتهم و حجية آرائهم حتى تصح الاولى دون الثانية؟

و ثالثة:باحتمال كشف الخلاف بالموت.

و فيه:مضافا إلى أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يمنع عن جريان الأصل إن كشف الخلاف،و إنما يضر إذا كان بالطرق المألوفة الاجتهادية لا بغيرها.

و رابعة:بأنه لا يقين بالحكم السابق حتى يستصحب.

و فيه:أنه لا يحتاج اليقين بالحكم في مجرى الاستصحاب،بل يكفي اليقين بالوظيفة الظاهرية و صحة الاعتذار.

و أما الوجه الثاني-و هو وجود المانع-فالظاهر أنه منحصر بدعوى الإجماع:

تارة:على عدم الجواز مطلقا.

و اخرى:بأن الإجماع الدال على عدم الجواز لعروض الهرم و النسيان يدل على عدم الجواز لعروض الموت بالأولى.

و فيه:مضافا إلى أن هذه الإجماعات من الإجماعات الاجتهادية التي لا اعتبار لها أن المتيقن من الأول خصوص الابتدائي منه،لكثرة الاختلاف في الاستمراري،و لم تثبت الأولوية في الثاني لا عقلا و لا عرفا و لا شرعا،فلا بد من الاقتصار على مورده هذا،مع أن لنا أن نقول إنه حيث لا يجوز تقليد الميت ابتداء و لا بقاء إلا بالرجوع إلى الحي،يكون هذا التقليد تقليدا للحي فلا يبقى موضوع للإشكال أصلا.

ثم إنه يجري في تقليد الميت جميع ما يجري في الحي من تعينه إن كان أعلم،و التخيير بينه و بين غيره مع التساوي.و في هذه المباحث فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه فراجع.

الاستدلال على اعتباره و الجواب عنه

تقدم الكلام في الظنون الخاصة،و أما مطلق الظن فقد استدلوا على اعتباره بأمور:

 أحدها:أن مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنة للضرر

و دفع الضرر المحتمل واجب فكيف بالمظنون،فيكون العمل بالظن القائم على الحكم الإلزامي واجبا،و هو المطلوب.

و يرد عليه:أن الكبرى ممنوعة،لأنه إن اريد بالضرر فيه العقاب الاخروي،فالضرر العقابي الذي يجب دفعه منحصر بما إذا كان في أطراف العلم الإجمالي أو في الشبهات البدوية قبل الفحص،و في غيرهما تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان عقلا و البراءة شرعا،و ليس المقام منهما،و مع فرض كونه من أحدهما فصحة النتيجة متوقفة على تمامية باقي مقدمات الانسداد،لأنه حينئذ يصير من إحدى مقدماتها كما لا يخفى.و يأتي عدم تمامية دليل الانسداد.

 و إن كان المراد به الضرر الدنيوي فيرد عليه:

 أولا:أن تبعية الأحكام مطلقا للمصالح و المفاسد الدنيوية تحتاج إلى دليل

و هو مفقود على نحو الإطلاق و العموم،و إن كان مما لا ينكر إجمالا.

 و ثانيا:كل ضرر دنيوي ليس بواجب الدفع مطلقا

بل السيرة العقلانية على الخلاف،فإن بناءهم على ملاحظة الجهات المرجحة،فربما يتحمّلون الضرر لما يترتب عليه من المقاصد الصحيحة العقلائية التي يكون الضرر المتحمل بالنسبة إليها بحكم العدم.

نعم،لو كان الضرر على نحو لا يغلبه شيء من الأغراض العقلائية و يكون غالبا على جميعها،فلا ريب في وجوب دفعه حينئذ،و لا دليل على كون المقام منها إن لم يكن على عدمه.

 و ثالثا:على فرض تحققه

فما لم يدل دليل على أن الحكم الذي في مورده من الكبائر فهو مكفّر بالحسنات،كما في الآيات مثل قوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ  و الروايات،و هذا يجري في ما إذا كان الضرر المحتمل عقابا أيضا،فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام أصلا.

 ثانيها:أنه من البديهي وجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة

و مع عدم العلم بها تفصيلا وجب الاحتياط،و مع تعسّره وجب الأخذ بالمظنون.

 ثالثها:إنه بعد لزوم الأخذ بها في الجملة لو لم يؤخذ بالمظنون

لزم ترجيح المرجوح على الراجح،و هو قبيح،فوجب الأخذ بالمظنون.

و يرد عليهما:أن كل واحد منهما مقدمة من مقدمات الانسداد الآتية،و لا ينتج إلا بعد ضم سائر مقدماتها،فلا وجه لذكرها مستقلة.

 رابعها:دليل الانسداد

 مقدمات دليل الانسداد و المناقشة فيها

و هو مركب من مقدمات أغلبها قابلة للمناقشة،و لم يكن لهذا الدليل رسم في كتب المتقدمين و إنما حدث بين متأخر المتأخرين.

 المقدمة الاولى:

العلم بتشريع أحكام في الشريعة،بل يكفي الاحتمال العقلائي لذلك.

 المقدمة الثانية:

انسداد باب العلم و العلمي فيها.

 المقدمة الثالثة:

عدم جواز إهمال الوقائع المثبتة للتكليف.

 المقدمة الرابعة:

بطلان العمل بوظيفة الجاهل من العمل بالاحتياط و الاصول و الأخذ بفتوى الغير.

 المقدمة الخامسة:

بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

و مع صحة جميع هذه المقدمات تنتج حجية مطلق الظن لا محالة.

و لكن يرد عليها:

أولا:بأن حق بيان المقدمة الاولى أن يكون هكذا: «نعلم بوجود أحكام في موارد الطرق المعتبرة تأسيسا أو إمضاء،بحيث لو تفحّصنا و ظفرنا بها و رجعنا في غيرها إلى الاصول المعتبرة،لم يلزم محذور عقلي و لا شرعي أبدا،و قد تفحّصنا و ظفرنا بها فنرجع في غيرها إلى الاصول المعتبرة».و لا ريب في صحة هذه المقدمة،كما لا ريب في تحققها خارجا، و معها لا تصل النوبة إلى سائر المقدمات أصلا،فتكون عقيمة رأسا،فلا وجه للبحث عن سائر المقدمات صحة و فسادا.

و ثانيا:أنه لا ريب في فساد المقدمة الثانية،لأن المراد بالعلم فيها إن كان مطلق ما يوجب الاطمئنان و سكون النفس-كما يكون المراد بالعلم في الكتاب و السنة ذلك-فلا ريب في انفتاح بابه في الأحكام،كما لا يخفى على العوام فضلا عن الأعلام.و إن كان المراد به ما هو المصطلح لأهل المعقول أي:ما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا،فهو و إن كان مسدودا في غير الضروريات، و المتواترات،و المسلّمات الفقهية،و ما استفاضت فيه الإخبار،أو نقل الإجماع، و موارد الإجماعات المتحققة.و لكن باب العلمي مفتوح في الأحكام إلى يوم القيامة بلا شبهة فيه و لا كلام هذا.

و لا ريب في صحة المقدمة الثالثة إما للقطع بأن إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال مبغوض لدى الشارع،أو للإجماع القطعي على عدم صحة الإهمال من الإمامية،بل من المسلمين،و إما لأن نفس العلم الإجمالي منجز عقلا،فلا يصح الإهمال لدى العقلاء.و هذه وجوه ثلاثة لتمامية المقدمة الثالثة،و قد ابتني عليها الكشف و الحكومة،فإن استند البطلان إلى أحد الأولين،فالنتيجة هي الكشف لكونها تابعة لأخس المقدمات،و لا ريب في كون كل واحد منهما شرعيا لا عقليا.و إن استند البطلان إلى الأخير تستنتج الحكومة،لكون جميع المقدمات-على فرض تماميتها-عقلية.و لكن هذا الابتناء ممنوع،لأنه بعد تحقق العلم الإجمالي و حكم العقل بعدم صحة الإهمال،لقاعدة دفع ضرر العقاب المعلوم،يكون حكم الشرع إرشادا إليه لا محالة،سواء كان دليله الإجماع القطعي،أو القطع بالمبغوضية لدى الشارع،كما في سائر موارد حكم الشرع مع وجود حكم العقل البتي.و لو كان المدرك تمام الوجوه الثلاثة لتعين الحكومة أيضا،لكفاية حكم العقل للمدركية،و تكون البقية إرشادا إليه.

و لا ريب في صحة المقدمة الرابعة أيضا،أما الرجوع إلى العالم فلفرض عدمه،إذ المفروض انسداد باب العلم و العلمي،و الرجوع إليه يكون من العلمي، هذا مع إباء نفوس المجتهدين عن الرجوع إلى غيرهم،بل لا وجه له بالنسبة إليهم،كما لا يخفى.

 جملة القول في الاحتياط أقسامه بيان الإشكال فيه

و أما الاحتياط فجملة القول فيه:أنه إما تام مخل للنظام،أو موجب للعسر و الحرج،أو لا يوجب شيئا منهما.و الأولان منفيان لدى العقلاء كافة في كيفية الامتثالات و يرون ذلك منكرا،بل يلومون من احتاط بما يوجب العسر و الحرج فضلا عما أوجب اختلال النظام،و يكفي في ذلك عدم بلوغ الردع في الشريعة فكيف بالأدلة الكثيرة الدالة على أنه لا حرج في الدين،و إنه سمحة سهلة.و قد لاحظ الشارع الأقدس في جعله للأحكام قدرة الضعفة،لا سيما الشريعة الختمية المبنية على بيان المعارف و الأحكام و نشرها و تعليمها و تعلمها و التفقه فيها،و قد جرت سيرة الرواة و من بعدهم في كل طبقة على تبويبها و تفصيلها جزئية و كلية و اهتموا بذلك نهاية الاهتمام في كل عصر،و ذلك كله يلازم سقوط الاحتياط الموجب للعسر في كيفية الامتثال فكيف بما إذا كان مخلا للنظام.

و الحاصل:أن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية،فيكون خلاف الطريقة الشرعية أيضا إلا مع التنصيص على الجواز،فكيف بالتصريح بالمنع.

 نقل كلام صاحب الكفاية في الحرج الحاصل من الامتثال و الرد عليه

و قال صاحب الكفاية:«إن أدلة نفي الحرج إنما تنفي الجعل الحرجي»، يعني لا يتعلّق جعل للشارع بالتكليف الحرجي،و لا تشمل الحرج الحاصل من ناحية الامتثال،لأنه لم يحصل من طرف الشارع.

و يرد عليه:

أولا:أنه لا حرج في الدين مطلقا،سواء كان في جعل أصل التكليف،أو في امتثاله لعموم دليل نفيه الشامل لهما معا،و يدلّ عليه صحيح ابن سنان حيث جعل عليه السّلام فيه الابتلاء بالوسوسة في الوضوء من الشيطان.

و ثانيا:بأن الامتثال الحرجي-خلاف الطريقة العقلائية-يكفي عدم ثبوت الردع فيه شرعا،فلا تصل النوبة إلى البحث عن أن دليل نفي الحرج هل له الحكومة بالنسبة إلى الامتثال الحرجي أيضا أو لا.هذا كله مضافا إلى ما يأتي من عدم تنجز هذا العلم الإجمالي أصلا.

هذه خلاصة الكلام في الاحتياط المخل للنظام،أو الموجب للعسر و الحرج على الأنام.

و أما ما لا يوجبهما:فجملة القول فيه أنه لا دليل على وجوبه أصلا،لأن دليل وجوبه منحصر بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الواقع،و لا أثر لهذا العلم الإجمالي أصلا.

أما أولا:فلأن الحق في بيان العلم الإجمالي أن يكون هكذا:«إنا نعلم إجمالا بتشريع أحكام في الشريعة،لو تفحصنا عنها لظفرنا بها في موارد الطرق المعتبرة،و قد تفحّصنا و اطلعنا عليها فيها فيزول العلم الإجمالي حينئذ رأسا»، فلا يبقى بعد ذلك موضوع لوجوب الاحتياط أصلا.

و أما ثانيا:فلأن هذا العلم الإجمالي غير منجز،لخروج جملة كثيرة من أطرافه عن مورد الابتلاء في كل عصر و زمان من أول البعثة إلى ظهور الحجة،إلا أن هذه الجملة تتبدل بحسب الظروف و الجهات الخارجية،كخروج أحكام العبيد و الإماء و نحوها في هذه الأعصار عن محل الابتلاء،و في أوائل الإسلام جملة مهمة منها غير الضروريات كانت خارجة عن مورد الابتلاء.

و بالجملة:الابتلاء و عدمه من الامور التدريجية الوجود و الانقضاء،كما لا يخفى على المتأمل.

 الإشكال في وجوب الاحتياط الذي لا يوجب العسر و الحرج

إن قيل:العلم الإجمالي الكبير يكون كذلك،فلا تنجز له من هذه الجهة. و أما الصغير-و هو الحاصل بين الأحكام الابتلائية-فلا ريب في تنجزه فيجب الاحتياط فيه،و هو المطلوب.

يقال:ينحل ذلك أيضا،و لا أثر له بسبب الأمارات المعتبرة و الضروريات و المسلّمات و غيرها،فلا تنجز للعلم الإجمالي بكبيره و صغيره،فلا وجه لوجوب الاحتياط و لا تبعيضه،كما لا يخفى.و قد استقصى صاحب الوسائل في كتابه المسمى ببداية الهداية:الواجبات بألف و خمسمائة و خمسة و ثلاثين، و المحرمات بألف و اربعمائة و ثمانية و أربعين،و الظاهر أنه قدّس سرّه عدّ جميع الشواذ و النوادر أيضا و استقصى ذلك نهاية الاستقصاء.و لا ريب في كفاية الأمارات و القواعد و الاصول المعتبرة بهذا المقدار،كما هو معلوم على الخبير البصير.

و أما ما عن الشهيد قدّس سرّه من أن واجبات الصلاة ألف،و كتب فيها كتابه «الألفية».فلا يخفى أن ابتلائيات الصلاة لا تبلغ إلى ذلك الحدّ كما هو واضح على من راجعها.و أما ما ورد من أن للصلاة أربعة آلاف حدّ،فلا بد من ردّ علمه إلى أهله،أو حمله على بعض المحامل.هذا ما يتعلق بالاحتياط.

 الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه الجواب عن الإشكال المعروف من التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله

الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه و أما الرجوع إلى الاصول فإن كانت مثبتة للتكليف فلا محذور من الرجوع إليها حينئذ،و إن كانت نافية فقيل بعدم صحة الرجوع إليها إما لأجل استلزامه الخروج عن الدين،أو لأجل الإجماع على الخلاف،أو لأجل العلم الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية في البين،فيلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله حينئذ في قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»،كما يأتي بيانه.و لا مجرى لسائر الاصول معه أيضا،لاختصاصها بالشك البدوي دون المقرون بالعلم الإجمالي.

و يرد الأول:بأنه صحيح إن جرت الاصول النافية في جميع أحكام الشريعة أو في معظم الأحكام،و لا يقول به أحد بل لا يرضى به عاقل، لاختصاص مجراها لدى العقلاء بمورد فقد الأمارات و القواعد و الاصول المثبتة المعتبرة،و هي موجودة كافية.فيرجع في غير مواردها إلى الاصول النافية بلا محذور أبدا.

و يرد الثاني:باستقرار بناء الفقهاء في كل عصر إلى الرجوع إليها بعد الفحص و اليأس عن غيرها،و سيأتي أن نزاع الأخباري مع الاصولي نزاع صغروي،لا أن يكون كبرويا.

و يرد الثالث:بما مرّ غير مرة من سقوط هذا العلم الإجمالي عن التنجز بالمرة،فالمقتضي لجريانها في مورد فقد الأمارات-و هو الشك-موجود، و المانع عنه مفقود،فتجري الاصول النافية بلا محذور في البين.

إن قلت:عند تحقق الشك و الظن،مقتضى الفطرة الأخذ بالأخير،فلا تصل النوبة إلى الأصل،فيصح استنتاج اعتبار مطلق الظن حينئذ.

قلت:نسلّم أن مقتضى الفطرة في الظنون الخاصة المعتبرة بالخصوص. و أما مطلق الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل فاقتضاؤها للأخذ به و ترك الأصل الذي دل على اعتباره الأدلة ممنوع،كما لا يخفى.

و أما لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله،فالجواب عنه إن محذور جريان الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي:

تارة:ثبوتي.

و اخرى:إثباتي.

أما الأول:فالقول بوجوب الاجتناب-مثلا-عن جميع الأطراف مقدمة للعلم،و عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما محذور بنفسه،لا ينبغي صدوره عن عاقل فضلا عن الحكيم.و كذا عدم وجوب الاجتناب عن الأطراف جميعا، للأصل مع وجوب الاجتناب عن أحدها لا بعينه.

و أما الثاني:فإنه بناء على شمول اليقين في قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»لليقين الإجمالي أيضا.فتقرير لزوم التناقض أن مقتضى الصدر حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الطرفين، و مقتضى الذيل حينئذ عدم حرمة نقض اليقين بالشك في مورد العلم الإجمالي، فيلزم التناقض.

و يرد عليه:

أولا:إمكان منع شموله لليقين الإجمالي فلا يلزم المحذور أبدا.

و ثانيا:على فرض الشمول إن اليقين الاجمالي إما أن يلحظ بالنسبة إلى يقين كل واحد من الطرفين بالخصوص الذي كان سابقا،ثم شك في البقاء،أو بالنسبة إلى مجموعهما من حيث المجموع،أو بالنسبة إلى المردد من حيث الترديد،أو بالنسبة إلى المعلوم واقعا و في علم اللّه تعالى.

أما الأول:فلا ريب في عدم اليقين بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين على خلاف اليقين الاستصحابي.

و أما الثاني:فلا ريب في عدم تحققه في الخارج حتى يكون مجرى الاستصحاب و يلزم التناقض بين صدره و ذيله،فإن مجراه هو الفرد الشخصي الخارجي دون المجموع من حيث المجموع الذي ليس إلا أمرا وهميا فقط.

و أما الثالث فلا تحقق له أصلا،إذ التحقق و الوجود مساوق للتشخّص في الجملة،و المردد من حيث هو لا تشخّص له رأسا.و أما الرابع فهو حق و لكنه ليس مجرى الاستصحاب في شيء حتى يلزم التناقض في دليله،إذ لا شك فيه مع أنه ليس له أثر عملي لفرض التردد الظاهري هذا.

و لكن يمكن أن يقال:إن التنافي الثبوتي بين جريان الاصول النافية في الأطراف و العلم الإجمالي بالخلاف،يسري إلى مقام الإثبات أيضا،لمكان التلازم العرفي بينهما،كما هو أوضح من أن يخفى.و لعل هذا مراد من قال بلزوم التناقض أيضا أي التنافي بالعرض لا بالذات،فيصح أن يجمع بهذا بين الكلمات،فمن ينفيه يريد به ما بالذات،و من يثبته يريد ما بالعرض.

 بيان المختار في دليل الانسداد

فتلخّص مما مرّ:أنه لا نتيجة لدليل الانسداد أصلا،و على فرضها فهي تكون التبعيض في الاحتياط،لو فرض أن دائرة العلم الإجمالي بالأحكام تكون أوسع من موارد الأمارات،و القواعد،و الاصول المعتبرة فيعمل حينئذ بالاحتياط حتى يضعف العلم و تصير الأطراف عرفا كالشك البدوي،فيعمل بالاصول النافية حينئذ.فمن قال بأن النتيجة-على فرض التمامية-العمل بالاصول النافية. أي بعد ضعف العلم الإجمالي و صيرورة أطرافه كالشك البدوي،و من قال بأن النتيجة التبعيض في الاحتياط أي قبل ذلك،فيصير هذا النزاع أيضا لفظيا بلا ثمرة،فراجع و تأمل.

 و ينبغي التنبيه على امور:

 الأول:هل تكون نتيجة دليل الانسداد في المسألة الأصولية أو في الأحكام أو فيهما معا

الأول:هل تكون نتيجة دليل الانسداد-على فرض تماميتها-اعتبار الظن في المسألة الاصولية أي الحجية و الطريقية فقط،أو في نفس الأحكام فقط،أو فيهما معا.

و الحق سقوط هذا البحث من أصله لأن نفس دليل الانسداد من المسائل الاصولية،و المناط في المسألة الاصولية ما كانت مستلزمة لصحة الاعتذار، و حينئذ فكل ظن مطلق صح الاعتذار به لدى الشارع الأقدس يشمله دليل الانسداد،سواء كان في الطريق،أو في الحكم،أو فيهما معا بلا واسطة،أو معها و ما لا يصح فلا يشمله الدليل،سواء كان في الطريق أو في غيره،مع أن ظاهرهم التسالم على لزوم الأثر الشرعي فيه،مضافا إلى أن الظن بالطريق في الغالب يستلزم الظن بالواقع و بالعكس.

نعم ينفك كل منهما عن الآخر عقلا بل و أحيانا في الخارج أيضا،و لكنه ليس بنحو يفصل فيها لقول.

و استدل من قال بالاختصاص بخصوص الطرق:

تارة:بانحصار الواقعيات بمؤدياتها.

و يرد:بأنه إما من التصويب المحال،أو المجمع على بطلانه.

و اخرى:بأن امتثال التكاليف مقيد بأن يكون منها.

و يرد:بعدم دليل عليه بعد الانسداد.

نعم،منع عن العمل بالقياس و الاستحسان و نحوهما،و ذلك لا يستلزم التقييد،مضافا إلى ما مرّ من الملازمة الغالبية بينهما و لا وجه للتقييد،كما لا يخفى.

و ثالثا:بأن الظن بالطريق أقرب إلى الواقع.

و يرد:بأنه من مجرد الدعوى.

و رابعة:بأنه كما إنا نعلم بالواقع نعلم بجعل طرق إليه أيضا،و بعد تمامية المقدمات يعمل بالظن بالطريق و في غيره يرجع إلى البراءة.

و يرد:بأن الطريق المجعول لا موضوعية فيه بوجه،بل هو طريق محض إلى الواقع،و المدار كله عليه فجعل الطريق على فرض حجيته لا أثر له إلا الطريقية،بلا فرق بينهما مع الملازمة الغالبية بينهما،فالحق عدم الفرق في الحجية على فرض تمامية المقدمات بين الظن بالواقع،أو بالطريق،أو بهما معا.

 الثاني:هل تكون نتيجة دليل الانسداد الكشف أو الحكومة؟

الثاني:هل تكون النتيجة بعد تمامية المقدمات اعتبار الظن شرعا-المعبر عنه بالكشف-أو لغاية امتثال المظنونات-المعبر عنه بالحكومة-الحق هو الأخير،لأنه بعد فرض تماميتها يحكم العقل بكفاية الامتثال الظني ما لم يردع عنه الشرع،و لا ردع إلا في مثل القياس،فلا نحتاج بعده إلى استكشاف حكم الشرع،و لو فرض ذلك لكان إرشادا محضا،لفرض كفاية المقدمات في لزوم الامتثال الظني و كفايته عقلا،فيكون حكم الشرع حينئذ إما إرشادا أو مؤكدا لحكم العقل.هذا مع أن المقدمات إما عقلية أو عقلائية.فتكون النتيجة تابعة لها أيضا،لأن العلم بالأحكام وجداني و انسداد بابي العلم و العلمي على فرض التمامية كذلك،و بطلان الإهمال عقلي أيضا،لأنه ظلم و كفران بالنسبة إلى المنعم الحقيقي،بل ظلم بالنسبة إلى نفس المكلف أيضا،و بطلان الاحتياط المطلق بل عدم جوازه كذلك.و كذا الرجوع إلى الاصول النافية مطلقا و رجوع العالم إلى غيره أيضا خلاف مرتكزات العقلاء،و قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلي فتكون النتيجة عقلية لا محالة.و ابتناء الكشف و الحكومة على أنه إن كان مدرك بطلان المقدمة الثالثة الإجماع القطعي،أو الخروج من الدين فيتعين الكشف حينئذ،و إن كان مدركه غيرهما فالحكومة لا وجه لها،إذ الإجماع القطعي أو الخروج من الدين لا موضوعية لهما قطعا،بل مرجعهما إلى أن ترك الامتثال المطلق بعد العلم بالتكاليف ظلم على المنعم و على النفس فيرجعان إلى ما مرّ و لا محالة تكون النتيجة الحكومة.

إن قلت:إن مدرك بطلان مطلق الاحتياط هو الإجماع و هو شرعي، و النتيجة تابعة لأخس المقدمات فيستفاد منه جعل الشارع للظن حجة.

قلت:بطلان الاحتياط المطلق أوضح من أن يتمسك له بالإجماع،و لا ريب في كونه عقلائيا،و لو فرض تمامية الإجماع فهو حاصل من المرتكزات العقلائية،لا أن يكون إجماعا فقهيا معتبرا،كما لا يخفى.

إن قلت:معنى الحجية هو أن يكون الشيء تخصص به العمومات أو تقيد به المطلقات،و يعمل به كسائر الحجج المعتبرة.و الظن بناء على الحكومة ليس كذلك،لأن معناه-كما مرّ-كفاية الامتثال الظني،و ليس هذا من الحجية في شيء،بل يكون مثل كفاية الاحتياط في الامتثال.

قلت:الحجة عند العقلاء،ما يصح أن يحتج بها العبد لدى المولى؛مع أن من مقدماته العلم بالأحكام و هو حجة بالذات،و لا ريب في إطلاقها بهذا المعنى على الظن بناء على الحكومة،فلا محذور في أن يخصص به عام أو يقيد به مطلق.هذا مع أن الحجية إنما هي لأجل الطريقية للامتثال و لا موضوعية فيها بوجه،و هو الأصل الذي لا بد و أن يعتنى و يهتم به،فلا ثمرة عملية في هذا البحث بل و لا علمية معتنى بها و إن اطيل الكلام فيه.

 الثالث:هل تكون النتيجة كلية أو مهملة؟

الثالث:هل النتيجة كلية-بمعنى اعتبار الظن من أي سبب حصل و في أي مورد،و بأي مرتبة كان-أو هي مهملة و يحتاج في التعميم إلى دليل آخر فيكون دليل الانسداد على فرض التمامية جزء الدليل لا تمامه؟

الحق هو الأول إلا مع القرينة على الخلاف،لأن مقتضى طبع الاستدلال على شيء أن يكون وافيا بحدود المدلول و قيوده مطلقا،و ذلك مقتضى السيرة العقلائية أيضا في استدلالاتهم في علومهم و محاوراتهم،و الإجمال و الإهمال في الأدلة خلاف السيرة العقلائية،و لا فرق فيه بين الكشف و الحكومة.

نعم،مع وجود الظن الاطمئناني في البين و كفايته،مقتضى بناء العقلاء و المتشرعة عدم التعدي عنه إلى غيره،و كذا لو فرض أهمية المورد بحيث لا يكتفى فيه بغير الاطمئناني،أو بأصل الظن مطلقا و تشخيص ذلك ليس من وظيفة الاصول،بل لا بد و أن يثبت في الفقه،و يكفي فيه هذا المقدار من البحث.

و يمكن جعل النزاع لفظيا،فمن قال بالإهمال أي الاكتفاء بالقدر المتيقن لو كان،و من قال بالتعميم قال به بحسب عموم الدليل ثبوتا،و لكن مع وجود القدر المتيقن الكافي لا ريب في الاقتصار عليه خارجا،و لا يجترئ كل فقيه أن يتعدى عنه.

ثم إنه لو كانت أسباب حصول الظن و مرتبته و موارده متحدة من تمام الجهات فالنتيجة كلية لا محالة،و مع الاختلاف بالقوة و الضعف و بالأهمية يتحقق القدر المتيقن،فيقتصر عليه مع الكفاية و يتعدى عنه مع عدمها.

و لا يخفى سقوط هذا النزاع و عدم الثمرة له من أصله لعدم اجتراء أحد على التعدي عن المتيقن إلى غيره،سواء قيل بالكلية أو بالإهمال.

و كيف كان،فإنه بناء على الإهمال استدلوا بوجوه للتعميم:

منها:دعوى الإجماع عليه.

و يرد:بأن المسألة من المستحدثات،مع أن التعميم مع الاحتياج إليه في الجملة من المرتكزات،فكيف يكون هذا من الإجماع التعبدي الذي يستكشف منه رأي الإمام عليه السّلام،لا سيما في هذه المسألة المبتنية على مقدمات جعلية فكرية كجملة من المقدمات المنطقية،و يجلّ شأن الإمام عليه السّلام من التدخل في مثل هذه المقدمات و توابعها.

و منها:الظن المطلق بعد تمامية المقدمات يكون كالقطع،فلا فرق فيه بين الموارد و الأسباب و المراتب.

و يرد:بأنه كذلك لو لم يكن قدر متيقن للثلاثة،من السبب،و المورد، و المرتبة في البين،و مع وجوده يكون القياس مع الفارق،كما لا يخفى على كل أحد.

و منها:مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في جميع موارد الظنون و مراتبها و أسبابها هو التعميم،مع أنه مقتضى قاعدة الاشتغال بعد العلم باعتبار الظن في الجملة.

و يرد:بانحلال العلم الإجمالي بما هو متيقن الاعتبار في الجهات الثلاث، و معه لا موضوع لقاعدة الاشتغال في غير معلوم الاعتبار.

 الرابع:الإشكال على النهي عن الظن القياسي و الرد عليه

الرابع:قد استشكل في النهي عن الظن القياسي بعد تمامية مقدمات الانسداد من وجهين:

أولهما:أنه قد يصيب الواقع و قد يخطئ،كسائر الظنون،فالنهي المطلق عنه،تفويت للواقع على المكلفين عند الإصابة،و هو مناف لمقام الشارعية.

و يرد عليه:بأن إصابة الواقع فيه أحيانا مع المفاسد الكثيرة المترتبة عليه من الخير القليل النادر المستلزم للشر الكثير،و ليس بناء العقلاء في مثله الأخذ بالخير القليل النادر و التحمّل للشر الكثير الغالب،بل و لا يلتفتون إلى مثل هذا الخير القليل أصلا،و لا فرق في هذا الإشكال بين الكشف و الحكومة.

ثانيهما:بناء على الحكومة يكون الظن كالقطع عند العقل فكما لا وجه للنهي عن اتباع القطع،فكذا الظن الانسدادي بناء عليها،و قد اشتهر:أن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.

و يرد:بأن الحكم العقلي غير القابل للتخصيص منحصر في ما إذا كان العقل الحاكم به محيطا بما له دخل في حكمه جزئية و كلية،جزء و كلا،إحاطة واقعية من كل حيثية و جهة،و مثل هذا العقل منحصر بالعقول المؤيدة بروح القدس،فإنه يكشف عليهم الواقع فيرونه على ما هو عليه،و أما سائر العقول فمطلق أحكامهم تعليقية و ليست تنجيزية،فهي معلّقة على عدم ورود التخطئة أو التخصيص من عقل آخر يكون قاهرا عليها الذي يكون نسبة جميع العقول إليه نسبة الشمع إلى الشمس،فمع ورود التخطئة أو التخصيص لا حكم أصلا لها،كما لا يخفى.

 الخامس:لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر

الخامس:لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر يتعين الأخذ بالظن المانع، لأن طرحهما معا مخالف لفرض تمامية النتيجة،و الأخذ بهما معا مخالف لاعتبار الظن المانع،و الأخذ بالممنوع ترجيح المرجوح على الراجح،فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التخصيص و التخصص،فإن إخراج الظن المانع عن المقدمات يحتاج إلى مخصص،و لكن خروج الظن الممنوع عنها يثبت بوجود الظن المانع،و مع دوران الأمر بينهما مقتضى المحاورات العقلائية تقديم التخصص على التخصيص.

 السادس:كلام في الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف

السادس:نتيجة دليل الانسداد على فرض التمامية إما حجية الظن في إثبات الواقع المعبّر عنه بالكشف،أو كفاية امتثال مظنونات التكليف-المعبّر عنه بالحكومة-و أما اعتبار الظن بالفراغ بعد تعلّق أصل التكليف و ثبوته بحجة معتبرة،فلا ربط له بدليل الانسداد أصلا،لعدم تكفّل مقدماته له.و النتيجة تابعة لها،لأنه من المقدمات العلم بالواقع إجمالا،و انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إليه،و أين هذا مما إذا علم الواقع و تنجز التكليف به فعلا من كل جهة و ظن بامتثاله؟!فمقتضى أصالة عدم الحجية عدم اعتبار مثل هذا الظن مع ما ارتكز في الأذهان:إن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك:إلا إذا دلّ دليل خاص على تسهيل الشارع و تيسيره،و الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا،كما دل على عدم الاعتبار بالشك بعد الوقت،و بعد الفراغ،و التجاوز عن المحل،و مثل حديث:«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»،و غيره من القواعد الامتنانية التسهيلية.

 السابع:في الظن الغير المعتبر

السابع:الظن غير المعتبر ساقط عن الاعتبار مطلقا،فلا يجبر به ضعف السند و لا الدلالة و لا جهة الدلالة،كما لا يوهن به ذلك كله،لفرض عدم اعتباره.

نعم،بناء على اعتبار الخبر الموثق به لو حصل به الوثوق صح الاعتماد عليه حينئذ من جهة الوثوق،كما أنه لو كان من القرينة المحفوفة بالكلام التي منعت عن تحقق الظهور،يسقط الظهور حينئذ،فتكون من السالبة بانتفاء الموضوع،لا لأجل اعتبار الظن،كما أنه لو كان في الفقه مورد دلّ الدليل فيه على اعتبار مطلق الظن فيه،يعمل به و لو لم يكن معتبرا لأجل الدليل حينئذ،و قد مرّ بعض القول في بحث الظواهر و التعارض أيضا.

 الثامن:اعتبار الظن في الاعتقاديات

الثامن:هل يكون الظن-خاصا كان أو مطلقا على فرض اعتباره-معتبرا في الاعتقاديات،كاعتباره في الفرعيات؟

 أقسام الاعتقاديات.الاستدلال على وجوب المعرفة عقلا و الرد عليه

الحق أن يقال:إن الاعتقاديات على قسمين:

الأول:ما وجب فيه تحصيل العلم.

و الثاني:لا يجب فيه ذلك،بل وجب الاعتقاد به على ما هو عليه في الواقع و لو لم يعلم،و لا موضوع لاعتبار الظن بقسميه فيهما،كما يأتي.و من الأول معرفة المبدئ تعالى،و النبي صلّى اللّه عليه و آله،و الإمامة التي هي من المناصب الإلهية.

و استدل على وجوب المعرفة فيها عقلا:

تارة:بقاعدة حسن شكر المنعم،إذ لا ريب في كون اللّه تعالى هو المنعم على الكل بجميع أنحاء النعم،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام وسائط الفيض و النعمة، كما لا ريب في توقف الشكر على معرفة المنعم و الواسطة،فتجب المعرفة عقلا.

و يرد عليه:

أولا:أن شكر المنعم حسن عقلا،و ليس كل ما هو حسن عقلا بواجب كذلك،فلا تتم قاعدة المقدّمية في المقام إلا بناء على وجوب الشكر،و هو يحتاج إلى دليل عقلي آخر.

 الاستدلال على وجوب معرفة المعاد و المناقشة فيه

و ثانيا:أن معرفة اللّه التي هي أجلّ الكمالات النفسانية أجلّ من أن يكون وجوبها غيريا،بل لا بد و أن يكون نفسيا،و كذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام.

و اخرى:بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل التي هي من القواعد العقلائية في الجملة،إذ لا ريب في احتمال الضرر في ترك معرفة اللّه تعالى و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام،خصوصا مع احتمال أن اللّه تعالى يريدها من خلقه، فيحكم العقل بوجوبها دفعا للضرر.

إن قيل:الضرر المحتمل إن كان دنيويا فليس كل احتمال ضرر دنيوي بواجب الدفع،كما مرّ.و إن كان أخرويّا فهو متوقف على تحقق المخالفة،و هو متوقف على إثبات المولوية له تعالى و صدور الأمر منه و ثبوت المخالفة،و ذلك كله متأخر عن أصل المعرفة،فكيف تثبت به المعرفة.

قلنا:المراد بالضرر في المقام الدنيوي و الاخروي معا لأهمية المورد الذي لا أهم منه.أما الضرر الدنيوي فلأن الجهل باللّه تعالى و بنبيه و خليفته نقص نفساني،فإذا كان عدم العلم بالحساب،و النحو و الصرف و نحوها نقصا عرفيا عقلائيا،فكيف لا يكون في الجهل بما هو أهم الكمالات النفسانية نقصا.

و أما الضرر الاخروي فهو و إن كان في الغالب مترتبا على مخالفة التكليف و لكن ليس متقوّما بذلك،بل المناط فيه تفويت الواقع بعد التوجه إليه في الجملة عن عمد و اختيار،و لا ريب في المقام بعد احتمال العقاب في ترك المعرفة و احتمال أن اللّه تعالى يريدها من عباده.

و أما المعاد فاستدل على وجوب معرفته في الجملة:

تارة:بأن العلم به مقدمة لامتثال التكاليف،فيجب من باب المقدّمة.

و يرد:بأنه لا كلية فيه،لأن من عباد اللّه تعالى من يعبده حبا له تعالى،لا خوفا من ناره و لا طمعا في جنته.

و اخرى:بأنه من ضروريات الإسلام،بل جميع الشرائع الإلهية.

و يرد:بأن وجوب معرفته حينئذ شرعي لا أن يكون عقليا،كسائر الضروريات.

و ثالثة:بأن في ترك معرفته احتمال الضرر بنحو ما مرّ في معرفة اللّه تعالى،و الظاهر صحته،كما لا يخفى.

فتلخّص:أن دليل الوجوب العقلي لمعرفة المبدأ و المعاد،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام هو قاعدة دفع الضرر المحتمل،فتبصّر.هذا ما يتعلّق بأصل المعرفة.

و أما إثبات أصل وجود اللّه تعالى و نفي الشريك عنه،و توحيده الذاتي، و انحصار المعبود به تعالى،و إثبات وجوب وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، فمحل البحث عن ذلك في علم الحكمة و الكلام.

 الاستدلال على وجوب المعرفة شرعا و ردّه

ثم إنه قد استدل على وجوب المعرفة:

تارة:بالإجماع.

و يرد:بعدم كونه إجماعا تعبّديا،بل هو حاصل مما ارتكز في الأذهان من قاعدة دفع الضرر.

و اخرى:بما ورد في الترغيب إلى المعرفة و العلم.

و يرد:بأنه أعم من الوجوب مع أن الوجوب المولوي متوقّف على معرفة المولى،فلو توقفت عليه لدار،و على فرض دفع الدور بالإجمال و التفصيل و تمامية الاستدلال،يكون إرشادا إلى ما حكم به العقل.

و ثالثة:بقوله تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ  بناء على تفسير العبادة بالمعرفة.

و فيه:مضافا إلى ما ورد على سابقه أخيرا،أن المراد بالمعرفة-على فرض صحة التفسير بها-إما المعرفة بمعنى الغاية التكوينية،أو الغاية الجعلية، أو المعرفة الحاصلة من العبادة.و الأول مستلزم للكذب،و الثاني حاصل،كما ورد في الحديث عن الصادق عليه السّلام:«خلقهم ليأمرهم بالعبادة»،و قد تحقق ذلك، عبده أحد أو لا.

و بعبارة اخرى:غاية الخلق بيان التكاليف بواسطة الأنبياء و الرسل،و قد حصل و ثبت بأحسن وجه.و الأخير لا ربط له بالمقام،مع أنه لا بد و أن يحمل على المعرفة الكاملة الحاصلة من العبادة لا أصل ذات المعرفة،لأن العبادة متوقفة عليها،كما لا يخفى.

و رابعة:بآية النفر و هي قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

و فيه:أنها في مقام الترغيب إلى التفقه و كيفيته في الجملة،و أما ما يجب التفقه فيه فليست في مقام بيانه،و على فرضه تكون إرشادا إلى حكم العقل لا أن يكون دليلا مستقلا.

 فوائد:

 الاولى:المناط في المعرفة هو الاعتقاد و الجزم

الاولى:لا ريب في أن مجرد المعرفة أعم من الاعتقاد و الجزم،و الواجب في الاصول الأربعة-التوحيد،و المعاد،و النبوة،و الإمامة-الاعتقاد و الجزم دون مجرد المعرفة،لأن احتمال دفع الضرر لا يندفع بمجرد العلم من دون اعتقاد و جزم.و كما أن العلم في الأحكام الفرعية العملية طريق إلى العمل يكون في الاعتقاديات طريقا إلى عقد القلب و الجزم بما علم،فلا يكفي مجرد العلم و المعرفة.

 الثانية:عدم اعتبار حصول المعرفة من الاستدلال الفلسفي

الثانية:لا يعتبر في المعرفة أن تكون حاصلة عن الاستدلالات الكلامية و الحكمية أو غيرهما من البراهين العلمية،بل يكفي حصول الاعتقاد و الجزم و لو من تلقين الآباء و الأجداد و نحوهم،للاتفاق على صحة إسلام العوام و غيرهم ممن حصل لهم الجزم بها مما ذكر،و لا يقدرون على شيء أزيد منه.

 الثالثة:تعيين أحد مراتب الاعتقاد و الجزم،تعيين مراتب القصور

الثالثة:للاعتقاد و الجزم مراتب متفاوتة يكفي أدناها في تحقق الإسلام و الإيمان،لثبوت سيرة الأنبياء و الأوصياء العظام(عليهم الصلاة و السلام)على الاكتفاء بذلك بالنسبة إلى السواد،و لو لا ذلك لاختل النظام و تعطّلت الأحكام، فمن أقرّ بالشهادتين يترتب عليه جميع أحكام الإسلام،و من لم يقرّ بهما لا يترتب عليه أحكامه،سواء كان قاصرا أو مقصرا مطلقا.

و أما استحقاق العقوبة فمقتضى الأدلة ثبوته بالنسبة إلى المقصر الملتفت، بل و غيره أيضا مع الانتهاء إلى الاختيار.و أما بالنسبة إلى القاصر فاللّه تعالى أعلم بما يفعل به،و في بعض الأخبار أنه تتم عليه الحجة في البرزخ،و للقصور مراتب أيضا.

منها:ما إذا لم يكن للشخص استعداد فهم الامور.

و منها:ما إذا كان له ذلك و لكن لم يلتفت إلى اختلاف الأديان أصلا.

و منها:ما إذا التفت إليه و لكن قطعه بحسن طريقة الآباء و الأجداد،و عدم احتماله للخلاف يمنعه عن اتباع الحق.و لا ريب في وجود القسم الأول و الأخير في الجملة،و أما الثاني فالظاهر عدم تحققه خصوصا في هذه الأعصار، و بذلك يمكن أن يجمع بين الأقوال و الأخبار،فما يظهر منها عدم وجوده أي القسم الثاني.

 الرابعة:أن ما يعتبر فيه الجزم لا يكفي فيه الظن

الرابعة:ما كان من الاعتقاديات يعتبر فيها تحصيل الجزم،فلا وجه لاعتبار الظن فيها مطلقا،لعدم كونه من الجزم أبدا،و كذا ما يعتبر فيه الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه،لأن عقد القلب شيء غير الظن،فلا مورد لاعتبار الظن في الاعتقاديات مطلقا.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"