لا خلاف بين الكل في أن القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا تابع لمقدار دلالة دليل الأخذ فيه تعميما و تخصيصا بالنسبة إلى الأسباب الحاصل منها، و الأشخاص الحاصل لهم،و الموارد الحاصل فيها،و المراتب الحاصلة،فهو مما يناله الجعل من كل جهة.كما لا ريب و لا خلاف في أن غير القطع من الحجج المجعولة العقلائية أو الشرعية تأسيسا أو إمضاء هي أيضا مما يصح فيها التعميم من كل جهة،كما يصح تخصيصها ببعض الأسباب دون بعض،و ببعض الأشخاص دون بعض،و ببعض المراتب دون البعض.
و أما القطع الطريقي المحض فقد قيل بعدم حصوله من الامور العقلية لعدم إحاطة العقول بالواقعيات.
و فيه:أنه خلاف الوجدان إن اريد به السالبة الكلية،و إن أريد به أن الخطأ فيه أكثر مما يحصل من غيرها،فهو من مجرد الدعوى و لا شاهد عليه.
و قد قيل:أيضا بعدم اعتباره و لو حصل منها،لعدم وصول دليل من الشرع على تقريره،و كثرة مخالفته للواقعيات.
و فيه:أنه خلاف الطريقة العقلائية من اتباع القطع مطلقا بلا نظر إلى منشأ حصوله أبدا،و عدم ورود ردع من الشارع مثل ما ورد في الردع عن القياس و الاستحسان،و لا يستفاد منهما الكلية بالنسبة إلى غيرهما،و ما ورد في حصر أخذ الأحكام عن المعصوم عليه السّلام أعم من التأسيسيات و الإمضائيات،و لا ريب فيأنه مع عدم ورود الردع بالخصوص يستكشف الإمضاء في مثل هذا الأمر العام البلوى بين العقلاء.
و قد قيل أيضا بعدم اعتبار قطع القطاع-أي:كل من يحصل له القطع بأدنى شيء على خلاف المتعارف بين الناس في أسباب حصول القطع عندهم- و هو قول حسن،لصحة دعوى عدم بناء من العقلاء على ترتب الأثر لهذا النحو من القطع،بل يلومون هذا القاطع على ترتيبه الأثر على قطعه،كالشكاك الذي يكون ملوما عند الناس.
نعم،هو حين حصول قطعه مجبول على اتباعه،و لكن لا بد له حين التفاته إلى حاله-و لو في الجملة-من الرجوع إلى العالم لتنبيهه على تكليفه إن كان عاميا،أو الرجوع إلى الأدلة إن كان مجتهدا.
ثم إن القطاع في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء من الأسباب المتعارفة لحصول القطع عند متعارف الناس،و هو أيضا ملوم عندهم، بل شرعا أيضا،لما في صحيح ابن سنان من أنه من عمل الشيطان.
ثم إنه يمكن أن يوجه قول كل من قال بعدم اعتبار القطع في بعض الموارد بوجوه:
منها:أن اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع،و قد ورد الردع بمثل قولهم عليهم السّلام:«شرّقوا أو غرّبوا لن تجدوا علما صحيحا إلاّ ما خرج من عندنا أهل البيت»،فكما أن نفس الحكم يكون تحت اختيار الشرع وضعا و رفعا،فما يحصل منه القطع يكون كذلك أيضا.
و منها:أن الأحكام الشرعية مقيدة و لو بنتيجة التقييد بما إذا حصل القطع بها من مباد خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله،و هذا الوجه مثل سابقه في الواقع.
و منها:أن المراد بالقطع في كلماتهم مطلق الاطمئنان لا القطع الاصطلاحي.
و كل هذه الوجوه يصلح لحمل كلماتهم عليها و إن كان بعضها خلاف ظاهرها في الجملة.
و منها:أن مرادهم من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات عدم اعتبار قاعدة الملازمة،و الرد عليها لا عدم ترتب الأثر على القطع المستند إلى المقدمات العقلية مطلقا.و قد استظهر هذا الوجه من مجموع الكلمات بعد رد بعضها إلى بعض،فلا بد من بيان القاعدة أصلا و عكسا بنحو الأسد الأخصر، حتى يتبين مورد صحتها و فسادها،فنقول:
قد اشتهر أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع،و كل ما حكم به الشرع حكم به العقل.و المراد بحكم العقل في القضيتين أصلا و عكسا،جزمه بالشيء بعد الإحاطة بخصوصياته،و ليس المراد به البعث و الزجر المولوي لتقومهما بالثواب و العقاب،و هما مختصان بالشارع فقط و ليسا من شأن العقل في شيء أبدا.
كما أن المراد بالعقل ليس العقول الجزئية التي تكون مناط التكليف،و لا العقل الكلي-الذي أثبته الحكماء بأنه أول ما أفيض من المبدأ،و يظهر من جملة من الأخبار التي جمعها الكليني قدّس سرّه في باب العقل و الجهل من كتابه الشريف، كقولهم عليهم السّلام:«العقل أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش».لأن درك أحكامه و شئونه يختص بمن خلقه أو من علمه،بل المراد حكم العقلاء الذي تطابقت عليه آراؤهم،كحسن الإحسان و قبح الظلم،و لزوم شكر المنعم،و نحو ذلك مما لم يتخلّف فيه عاقل،كما لا يحتمل الخلاف فيه من عاقل إلى الأبد.
فالمعنى حينئذ:أن ما تطابقت آراء العقلاء كافة على حسنه،فالشارع بعث إليه في الجملة،و ما تطابقت آراؤهم على قبحه زجر عنه كذلك.
و الظاهر أن هذا المعنى من البديهيات التي لا ينبغي الارتياب فيها من أحد،بل من أهم مقاصد الشرائع الإلهية دعوة الناس إلى فطرتهم السليمة و مرتكزاتهم العقلائية الصحيحة المتفق عليها عند جميعهم،و إثارة دفائن عقولهم،كما صرّح به علي عليه السّلام.
و تنحصر كبريات مورد الملازمة بالمعنى الذي قلناه في الامور الثلاثة و إن كانت صغرياتها غير محصورة.
إن قلت:إن الملازمة و لو بالمعنى الذي ذكر مبنية على التحسين و التقبيح العقليين،و قد أنكرهما الأشاعرة.أما في فعله تعالى،فلعموم مثل قوله تعالى: اَللّٰهُ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ ،و لأنه مالك،و للمالك أن يفعل في ملكه ما شاء و أراد. فلو عاقب المطيع و أثاب العاصي لم يرتكب قبيحا.و أما في أفعال العباد فلكونها غير اختيارية،و الحسن و القبح من شئون الأفعال الاختيارية.
قلت:أما عدم الحسن و القبح في أفعال العباد و عدم اختياريتها فمخالف للوجدان،و قد مرّ في بحث اتحاد الطلب و الإرادة بعض ما يتعلق به.
و أما عدم القبح في أفعاله تعالى فهو مسلّم عند الكل،و دلت عليه الأدلة العقلية المضبوطة في الكتب الحكمية و الكلامية من عدم صدور القبيح منه تعالى،بل عدم صحة تجويزه عليه جلّ و علا.
و أما عدم اتصاف أفعاله بالحسن،و أن له تعالى أن يرجح المرجوح على الراجح،فهو أيضا باطل بإجماع الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام بل الموحدين كافة بل العقلاء،إذ لا يرضى عاقل أن ينسب إلى الحكيم المطلق ما لا يكون حسنا و يكون لغوا،و المراد بقوله تعالى: يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ أي على حسب المصالح الواقعية التي تعجز العقول عن دركها،و للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء إذا لم يكن سفها و عبثا و إلا فالعقلاء يلومونه مطلقا.
إن قلت:تصح الملازمة بالمعنى الذي قلت،و لكن الأخبار الدالة على أنه لا بد من الرجوع إلى الحجة تبطل هذه الملازمة.
قلت:
أولا:إن المراد بها أعم من الحجة الظاهرية و الباطنية.
و ثانيا:المفروض تحقق التقرير من الحجة الظاهرية،و إلاّ لردع عنها بالخصوص في مثل هذا الأمر العقلائي العام البلوى الثابت في كل عصر و زمان.
إن قلت:نعم،و لكن حكم الشرع في مورد حكم العقل يكون باطلا،لأنه لإيجاد الداعي و هو حاصل من حكم العقل فلا احتياج إليه.
قلت:الاحتياج إليه لتأكيد الداعي و إتمام الحجة و تصحيح الثواب و العقاب،فيصح أن يكون حكم الشارع في موارد حكم العقل مولويا لا إرشاديا.
ثم إنه يمكن أن يجعل النزاع في الملازمة لفظيا،فمن قال بها أي بالمعنى الذي قلناه،و من قال بعدمها أي في حكم العقل الجزئي الذي لا يحيط بشيء و لا يصدقه سائر العقلاء،هذا في أصل القضية.
و أما عكسها-و هو أن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل-فان أريد به أن كل ما حكم به الشرع حكم العقلاء به كافة من حيث عقلهم على نحو الجملة و الإجمال،و أن حكم الشرع يكون عن مصلحة أو مفسدة تقتضيه،فهو حق لا ريب فيه.و إن اريد به أن في كل مورد من موارد حكم الشرع يحكم العقل به أيضا بالخصوص مثله،فهو ممنوع لعدم إحاطة العقول بمثل ذلك إلا من طريق الوحي و الإلهام،و هما مختصان بخاصة أولياء اللّه الذين لم تحجب العوائق و العلائق ذواتهم القدسية و نفوسهم النورية عن وصول الإفاضات الغيبية عليهم.
و يمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا أيضا،فمن أثبت الملازمة أي بين حكم العقل بنحو الجملة و الإجمال و حكم الشرع،و من نفاها أي بينهما بنحو التفصيل.
و ما اشتهر من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية،فإن اريد منه ما ذكرناه فهو حق،و إلا فإثبات كليته يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و يحتمل أن يكون المراد به معنى آخر لا ربط له بالمقام أصلا.و هو أن العبادات الواجبة شرعا توجب استعداد النفس لإفاضة المعارف الإلهية عليها التي هي الواجبات العقلية،و يشير إليه قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا .