تمهيد
هذه المسألة أيضا من المسائل الاصولية العقلية غير المستقلة بناء على الملازمة،أو المقدمية.و أما بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده،أو أن النهي عن الضد جزء مدلوله،أو من لوازمه العرفية المتوقفة على الاستظهار من الأدلة،فتكون من مباحث الألفاظ.
و حيث أن الأولين باطلان،و الأخير يرجع بالآخرة إلى الملازمات العقلية، بل من بعض مراتبها،جعلناها من العقليات غير المستقلة.
ثم إن المراد بالاقتضاء في كلماتهم أعم من العينية و الجزئية و اللزوم مطلقا،إذ قال بكل قائل،فلا بد أن يكون مورد النزاع مجمع الأقوال.
كما أن المراد بالضد مطلق المعاند و المنافي،أي الضد العرفي لا خصوص الضد الاصطلاحي الحكمي،فيشمل الترك الذي يعبّر عنه بالنقيض.
و الضد الخاص،كالضدين اللذين لا ثالث لهما،و القدر المشترك بين الأضداد الوجودية الذي اصطلحوا عليه بالضد العام.
الأقوال في المسألة
1-الترك:
فقد قيل فيه-الذي يعبّر عنه بالنقيض-بأن الأمر بالشيء عين النهي عنه بالمطابقة.و لكنه مردود بانتفاء العينية-لا المفهومية و لا الخارجية-وجدانا فيكون من مجرد الدعوى بلا دليل.
و قيل:بأنه جزء مفهومه فيدل عليه بالدلالة التضمنية،و فيه ما سبق تحقيقه من أن الوجوب بسيط لا تركب في حقيقته.و إنما هو في مقام شرح الاسم تسهيلا للأفهام،فجعلوا المركب مشيرا إلى العنوان البسيط،و كم له نظير عقلا و عرفا،لا أن يكون التركب في مرتبة الذات و الحقيقة،كما لا يخفى على ذوي البصيرة.
و عن جمع أنه بالملازمة،لأن طلب الشيء يلازم مبغوضية تركه،و هذا وجه حسن ثبوتا و إثباتا.
2-الضد العام و الخاص: و قد استدل على الاقتضاء فيهما بوجهين:
الوجه الأول:عن جهة الملازمة،و دليلهم
مركب من مقدمات ثلاث:
أولاها:وجوب كل ضد ملازم لعدم الضد الآخر فيما لا ثالث له،و عدم الأضداد الأخر فيما له ثالث،و هذه المقدمة من الواضحات التي لا ينكرها أحد.
ثانيتها:المتلازمان متحدان في الحكم،فلو كان أحدهما واجبا يكون الآخر أيضا كذلك،لاقتضاء التلازم ذلك،فإذا كانت إزالة النجاسة عن المسجد واجبة نفسية ذاتية فورية،يكون ترك الصلاة الملازم لها أيضا واجبا نفسيا ذاتيا، لمكان الملازمة بينهما خارجا.
ثالثتها:تقدم أن وجوب الشيء ملازم لمبغوضية نقيضه،فإذا كان ترك الصلاة الملازم مع وجود الإزالة واجبا نفسيا ذاتيا فوريا،يكون فعل الصلاة مبغوضا و حراما،لأن الفعل نقيض الترك و بديله بالوجدان فتفسد لا محالة،لأن مبغوضية العبادة عبارة اخرى عن فسادها،كما لا يخفى.
فالنتيجة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده-خاصا كان الضد أو عاما-.
و يرد على هذا الاستدلال:بأن المقدمة الاولى و الأخيرة و إن كانت صحيحة إلا أن المقدمة الثانية باطلة،إذ لا دليل من عقل أو نقل على أن التلازم الوجودي بين المتلازمين موجب للتلازم الحكمي أيضا بالنسبة إلى الحكم الواقعي.
نعم،لا يصح اختلافهما في الحكم الفعلي،و لكن يصح أن لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلي ظاهري أبدا.
و ما يقال:من عدم جواز خلوّ الواقعة من الحكم،إنما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي النفس الأمري دون الظاهري الفعلي.نعم،لو كانت الملازمة موجبة لتحقق المصلحة أو المفسدة في اللازم فلا ريب في كونه موجبا للمشاركة في الحكم،و بذلك يمكن أن يجعل النزاع لفظيا،فمن قال بأن التلازم يوجب الاتحاد في الحكم،أي في ما إذا أوجب وجود الملاك للحكم أيضا. و من قال بالعدم،أي فيما إذا لم يوجب ذلك.
و الحاصل:أن في مورد الملازمة الوجودية إما أن يكون التلازم الوجودي موجبا لوجود مناط الحكم في اللازم أو لا،و على الثاني إما أن يكون اللازم محكوما بخلاف حكم ملازمه فعلا،أو لا حكم له ظاهرا،أو تكون الملازمة موجبة للحكم بلا ملاك.
و الأول صحيح لا بأس به.و الثاني باطل.و الثالث لا بأس به.و الأخير باطل،لبطلان الحكم بلا ملاك.
الوجه الثاني:من جهة مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر
،و قد تشتّت أقوالهم في ذلك.
1-فمن قائل بأن ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر،و بالعكس.
2-و عن آخر أن ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر من دون عكس.
3-و عن ثالث عكس ذلك.
٤-و عن رابع التفصيل بين الضد الموجود خارجا،فيتوقف وجود الآخر على رفعه،و في غير هذه الصورة توقف في البين رأسا.
و هذه الأقوال كلها باطلة لا يمكن المساعدة عليها بوجه.
أما الأول:ففساده غني عن البيان،لأنه دور واضح بالعيان،إلا أن يقال:بأن التوقف من طرف الوجود فعلي،و من طرف الترك-الذي هو ضد العدم-شأني اقتضائي،إذ لا عليّة و لا معلولية في الأعدام،كما ثبت في محله-فلا محذور في هذا النحو من الدور-بل التعبير بالاقتضاء أيضا باطل،لأن هذه التعبيرات من شئون الوجوديات،و لا حظ للأعدام فيها بوجه.
و يمكن أن يقال:إن هذا صحيح في العدم المطلق و المقام من عدم الملكة،مع أنه لا ينافي أصل التوقف في الجملة،و إن لم تصح بعض التعبيرات بالنسبة إلى العدم.
و حق القول أن يقال:إن وجود أحد الضدين في ظرف عدم الآخر،و عدم الآخر في ظرف وجود ضده من قبيل القضية الحينية الحقيقية،و هذا حق لا ريب فيه؛و لكنه لا ربط له بالمقدمية أصلا،هذا إذا اريد بالترك العدم.و إن اريد به الأمر الوجودي-الذي هو فعل اختياري للنفس-فلزوم الدور لا مدفع له.
و أما القول الثاني-و هو كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر من دون عكس-فقد استدل له بأن عدم المانع من أجزاء علة الشيء،و لا ريب في أن العلة بأجزائها و جزئياتها من مقدمات المعلول،و مقدمة الواجب واجبة فيكون فعلها حراما،لما تقدم من الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة نقيضه.
فالنتيجة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده من جهة المقدمية.
و اشكل عليه بوجوه..
الأول:أن العدم لا يصلح لأن يكون منشأ لتحقق الشيء،فلا وجه لمقدمية عدم المانع.
و فيه:أنه لم يقل أحد بصدور الوجود من العدم،بل المقصود أن عدم المانع من شرائط قابلية المحل لوجود أحد الضدين،و عدم المانع ليس من العدم المطلق حتى لا يصلح لشيء أبدا،بل هو من عدم الملكة القابل لمثل هذه الامور باعتبار ملكته المضاف ذلك العدم إليها.
الثاني:أنه لا مانعية لوجود أحد الضدين عن الضد الآخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمه لوجود الآخر،لأن وجود أحد الضدين مستند إلى إرادة فاعلة.و مع تحققه لا يكون المحل قابلا لوجود الضد الآخر،و عدم قابلية المحل لهما من اللوازم الذاتية للمحل،و الذاتي لا يتخلف و لا يعلل.
الثالث:ما عن الكفاية من منع المقدمية حتى بناء على التمانع بين الضدين أيضا،إذ لا منافاة بين أحدهما و وجود الآخر،بل بينهما كمال الملاءمة و المعية الخارجية،كما في عدم أحد النقيضين مع وجود الآخر بلا تقدم و لا تأخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر.
و فيه:أنه على فرض التمانع و أن عدم المانع له دخل في وجود الضد يكفي في المقدمية التقدم الرتبي العقلي،و هو يجتمع مع المعية الخارجية،كما في العلة التامة مع المعلول.
الرابع:بأنه على فرض تسليم التمانع و تسليم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر،لا وجه لعروض الوجوب المقدمي من وجود الضد إلى ترك ضده،لما تقدم من أن مورد عروض الوجوب المقدمي إنما هو صورة تعدد وجود المقدمة مع وجود ذيها خارجا،و لا تعدد كذلك في المقام،فهو مثل الأجزاء الداخلية التي تقدم عدم اتصافها بالوجوب المقدمي.
الخامس:ما عن بعض الأعاظم من أنه من الدور الباطل،فإنه لو توقف وجود أحد الضدين على ترك الآخر توقف الشيء على عدم مانعة،لتوقف عدم الآخر عليه توقف الشيء على العلة التامة،فيثبت التوقف من الطرفين إلا أنه من أحدهما على نحو العلية التامة و من الآخر بغيرها،و لا ينافي ذلك أصل التوقف في الجملة الذي هو مناط تحقق الدور الباطل.
و فيه:أن عدم الآخر لا يستند إلى وجود ضده؛بل يستند إلى عدم إرادته مع إرادة ضده،و يكفي في عدم إرادته الإجمال و الارتكاز بلا احتياج إلى الالتفات التفصيلي،فيكون عدم إرادته منطويا في إرادة ضده من دون احتياج إلى إرادة مستقلة،كانطواء إرادة إجمالية في إرادة تفصيلية مما هو كثير شائع.
ثم إنه بعد بطلان أصل المقدمية رأسا يظهر بطلان القول الثالث،و هو مقدمية وجود أحد الضدين لترك الآخر من دون عكس،كظهور بطلان التفصيل بين تحقق الضد فيتوقف وجود الضد الآخر على رفعه،و بين فراغ المحل عن الضدين،فلا توقف في البين لابتناء ذلك كله على ثبوت المقدمية في الجملة، و قد أثبتنا بطلان المقدمية مطلقا،فلا يبقى موضوع لهذه الأقوال رأسا.
كما اندفع بما ذكر الشبهة المنسوبة إلى الكعبي أيضا حيث قال في تقرير الشبهة:
إن ترك الحرام متوقف على فعل من الأفعال فيكون إتيان ذلك الفعل مقدمة له،و ترك الحرام واجب،و مقدمة الواجب واجبة فيلزم من ذلك انتفاء المباح.
وجه الدفع..أولا:ما أثبتناه من نفي المقدمية رأسا،فلا موضوع لأصل الشبهة.
و ثانيا:أنه يكفي في ترك الحرام وجود الصارف عنه،بأي وجه اتفق من جهة دينية أو دنيوية مطلقا.نعم،لو انحصرت علة ترك الحرام في فعل من الأفعال على نحو العلية التامة المنحصرة لا ريب في وجوب ذلك الفعل حينئذ.
و الحاصل:أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا،لا بنحو الملازمة و لا بنحو المقدمية.
ثمرة البحث في مسألة الضد
و هي فساد العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم بناء على الاقتضاء،فيكون تركها مقدمة للواجب الأهم،فيجب ترك العبادة من باب المقدمة فيكون فعلها محرما،لما مرّ من الملازمة العرفية بين وجوب الشيء و حرمة تركه،و يأتي أن النهي في العبادة يوجب الفساد فتفسد العبادة لا محالة،هذا بناء على الاقتضاء.
و أما بناء على عدم الاقتضاء-كما أثبتناه-فلا وجه للفساد أصلا،بل و كذا بناء على الشك في الاقتضاء و عدمه،لأصالة الصحة،و عدم المانعية في العبادة التي يكون تركها مقدمة لإتيان الواجب الأهم،مع أنه قد أثبتنا عدم الاقتضاء و استقرت عليه آراء المحققين،فيسقط أصل هذه الثمرة،لبطلان أصل المبنى و سقوطه.
و عن الشيخ البهائي قدّس سرّه بطلان الثمرة تخصصا،فقال:إن الثمرة إنما تتصور في العبادة المأمور بها عند ابتلائها بمزاحمة الضد الأهم،و هو غير ممكن لعدم إمكان صدور الأمر بالضدين من العاقل فضلا عن الحكيم تعالى،فتبطل العبادة من حيث عدم الأمر،فلا تصل النوبة إلى القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده أولا،و لا إلى أن النهي في العبادة يوجب الفساد،لأن كل ذلك مبني على إمكان تحقق الأمر للعبادة المبتلاة بالضد الأهم،و هو غير ممكن،و الاستدلال للبطلان بعدم المقتضي للصحة أولى من الاستدلال بوجود المانع عنها،كما لا يخفى.
و يرد عليه أولا:إمكان تصحيح العبادة المبتلاة بالضد الأهم لأجل الملاك،فلو سلّم عدم الأمر للتضاد فلا وجه لزوال الملاك و لا موجب له،إلا احتمال أن سقوط الأمر كاشف عن سقوطه أيضا،و هو باطل،لأن الملاك ليس معلول الأمر،بل الأمر معلول له،فسقوط المعلول لا يكشف عن سقوط العلة،
كما هو واضح.
و ما يقال:إنه لا يصح التقرب بالملاك مع النهي بناء على الاقتضاء.
نقول:إن النهي المانع عن صحة التقرب ما إذا كان تعلّقه بالعبادة بحسب الذات لا بالعرض،و المقام من الثاني دون الأول،إذ النهي تعلّق بترك الأهم، و حيث أن المهم ملازم خارجا مع ترك الأهم،يصير مورد النهي بالعرض لا بالذات.و بعبارة اخرى:النهي في المقام من باب الوصف بحال المتعلق لا الذات،و لا دليل على كون مثل هذا النهي موجبا للفساد،بل مقتضى الأصل عدمه.
و ثانيا:بإمكان إثبات الأمر بالضدين على نحو الترتب،كما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.
الترتب
لم يكن لبحث الترتب في كلمات القدماء عين و لا أثر،و إنما حدث عند متأخري المتأخرين و قد كتبت فيه رسائل،و كانت المسألة نظرية و كان الغالب على الكلمات الامتناع.و لكن المعروف في هذه الأعصار و ما قاربها الجواز.
و الترتب:عبارة عن صحة تصوير أمرين فعليين بالضدين-الأهم و المهم -في آن واحد-و هو آن قبل الإتيان بالمهم-و صلاحية كل منهما للداعوية، فيصح إتيان كل منهما فعلا بداعي الأمر الفعلي،و يتحقق الامتثال حينئذ،كما في سائر الموارد التي يمتثل فيها الأمر مع عدم تزاحم في البين.
و النزاع في الترتب إنما هو في مقام الامتثال و قدرة المكلف فقط،لا في مقام الجعل و الثبوت،إذ لا إشكال من أحد في صحة جعل المتزاحمين خطابا و ملاكا.فيصير أصل هذه المنازعة لفظيا،فمن يثبت قدرة المكلف على الامتثال يقول بوقوع الترتب لا محالة،و لكنه معترف بالامتناع مع عدم القدرة،و من يثبت عدم القدرة على الامتثال لا مناص له إلا القول بالامتناع،و هو معترف بالوقوع مع القدرة.
شروط الترتب:
يعتبر في صحة الترتب و وقوعه امور،و مع اختلال أحدها لا يبقى موضوع للصحة فضلا عن الوقوع،و هي:
الأول:وجود الملاك في كل واحد من المتزاحمين ثبوتا،و تمامية الحجة
على كل واحد منهما إثباتا،لما مرّ من أن المانع-على فرض تحققه-إنما هو منحصر بمرحلة قدرة المكلف على الامتثال.هذا مضافا إلى إجماع المجوزين و المانعين على اعتبار هذا الشرط.
الثاني:كون الأهم مضيّقا،سواء كان المهم أيضا كذلك أو لا،و سواء كان التضييق من جهة الملاك الذاتي-كإنقاذ الغريق-أو من جهة فورية الخطاب فورا ففورا،كإزالة النجاسة عن المسجد-مثلا-و الوجه في اعتبار هذا الشرط معلوم،لأنه لو لم يكن الأهم مضيّقا و كان موسّعا لما كان تزاحم في البين،لقدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين،فلا تصل النوبة لبحث الترتب.
الثالث:كون الضدين مما لهما ثالث،و ألا يكون فعل أحدهما في ظرف ترك الآخر من الامور التكوينية،و يكون الأمر به حينئذ من الشارع إرشاديا لا أن يكون مولويا،و مورد البحث في الترتب إنما هو اجتماع الأمرين المولويين في آن واحد.
الرابع:انحصار مورد البحث بمرحلة قدرة المكلف فقط من دون أن يكون في البين مانع آخر من موانع التكليف،لأنه لا موضوع للخطاب مع وجود مانع عنه في البين،فلا يفرض اجتماع الخطابين في آن واحد حتى يتحقق موضوع الترتب.
الخامس:كون الأهم و المهم متعددين وجودا على ما هو المعلوم من كلماتهم،فلا يكون مورد تداخل الأغسال،و اجتماع الأمر و النهي-بناء على الجواز-من موارد الترتب،لفرض اتحاد الوجود في متعلق الخطاب فيهما.
السادس:إمكان فرض إطلاق خطاب الأهم و تقييد خطاب المهم بترك الأهم،و إلا فمع فرض بقاء إطلاق الخطابين من كل جهة،فلم يقل أحد بالجواز حينئذ.
و إذا تمت هذه المقدمات،فالبحث في جواز الترتب..
تارة:بحسب الدليل العقلي.
و اخرى:بحسب الاستظهار الصناعي الاصولي.
و ثالثة:بحسب الاعتبار العرفي.
أما الأول:فالمقتضي للجواز-و هو الملاك و الخطاب-موجود،و المانع عنه مفقود،فلا بد من الوقوع حينئذ،لأن ما يتوهم من المانعية امور تأتي الإشارة إليها في أدلة المانعين مع دفعها.
و أما الثاني-و هو الاستظهار الاصولي-فإن كان الخطابان عرضيين من كل جهة فلا ريب في الامتناع،و أما إذا كانا طوليين،أي كان خطاب المهم مشروطا بترك الأهم و لو عصيانا،فأي امتناع فيه حينئذ،لأن القدرة الطولية موجودة وجدانا،فأي امتناع في أن يقال:أزل النجاسة عن المسجد و صلّ،و إن تركت الأول عصيانا لا تترك الثاني بجعل الجملة الأخيرة بيانا لكيفية صدور الأمرين.
و أما الثالث:فالمحاورات العرفية أصدق شاهد على الصحة و الوقوع، يقول المولى:اسقني الماء و افرش سجادتي،و إن عصيتني في الأول فلا تعصني في الأخير.
إن قلت:لا ريب في الإمكان و الوقوع في مثل ما ذكرت من المثالين، لوقوع الاشتراط اللفظي فيه،فيدفع بذلك محذور الامتناع.
أقول:بعد ما جعلنا من المقدمات كون خطاب الأهم مطلقا و خطاب المهم مشروطا بتركه و لو عصيانا،فأي فرق بين الشرط اللفظي حينئذ و الشرط الواقعي السياقي العقلي في حاق الواقع صونا للكلام عن القبح و اللغوية،فإن مدار جميع هذه الامور على إمكان التصرفات العرفية المحاورية،فيصح بكلما أمكن للتصحيح طريق عرفي،بل العقلي إن أمكن بالدقة العقلية طريق للتصحيح،و ذلك لفرض أنهم أخرجوا المسألة عن العرفيات و أدخلوها في الدقيات.
الكلام في جواز الترتب
و استدلوا على امتناع الترتب بوجوه:
الأول:أنه من طلب الضدين و هو ممتنع عقلا و قبيح
فيكون محالا بالنسبة إلى الشارع،لاستحالة صدور المحال منه تعالى.
و فيه:أنه طرد لطلب الضدين،لا أن يكون جمعا بينهما في الطلب،لما مرّ من كون المهم مشروطا بعصيان الأهم،فكيف يكون حينئذ طلبا للضدين؟!
و القول:بأن المشروط يصير مطلقا بعد تحقق شرطه،فيعود المحذور من الجمع في الطلب بين الضدين و عدم قدرة المكلف على الامتثال.
مدفوع:بأن المكلّف إن كان عاصيا في خطاب الأهم،كيف لا يكون قادرا على امتثال المهم،سواء كان خطاب المهم مطلقا أو لم يكن كذلك،و مع أنه لا إطلاق في الخطابين من كل جهة بل خطاب المهم ثبوتا مشروط بترك الأهم،فلا يكون الخطابان من الجمع في طلب الضدين.
إن قلت:الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لفرض اشتراطه بعصيانه،و لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم بداهة ثبوت المطلق في المشروط،و تحققه فيه كتحقق المقسم في الأقسام،فيلزم الجمع في الطلب بين الأمرين و الضدين و عدم قدرة المكلف عليه،كما لا يخفى.
قلت:مرتبة عصيان الأمر بالأهم و مخالفته غير مرتبة المهم،فلا اجتماع للأمرين في تلك المرتبة،و على فرض الاجتماع لا مانع من الجمع بين الأمرين و طلب الضدين إلا عدم قدرة المكلف على امتثالهما،و مع عصيان المكلف للأمر بالأهم،لا ريب في قدرته على إتيان الأمر بالمهم،فقد أقدر المكلف نفسه على الامتثال بعصيان أمر الأهم،و الوجدان يحكم بأنه حين امتثال الأمر بالمهم قادر عليه و عاص للأهم،فيكون مجمع العنوانين فعلا،و لا محذور فيه.
فآنات امتثال أمر المهم آنات عصيان الأهم،و بالعصيان تحقق القدرة للأمر بالمهم فتثبت فعليته لا محالة،إذ لا مانع في البين إلا من ناحية القدرة،
و المفروض أنه أقدر نفسه على الامتثال بالعصيان فارتفع المحذور.
فالأقسام في الأمر بالضدين ثلاثة:عصيانهما معا،و عصيان أحدهما و إطاعة الآخر،و إطاعتهما معا في آن واحد،و العقل حاكم بإمكان الأولين و امتناع الأخير،و الترتب المبحوث عنه في المقام من الثاني لا الأخير،فلا وجه لتوهم الامتناع.
إن قلت:هذا إذا كان عصيان الأمر بالأهم آنيا،كما في الغريق المشرف على الهلاك،فإن عصى و لم ينقذه و شرع في الصلاة فمات الغريق.
و أما إذا كان تدريجيا فلا يتحقق العصيان إلا بعد الفراغ من المهم،فلا يتحقق شرطه حين الاشتغال بإتيانه،فلا يثبت موضوع الأمر حينئذ بالنسبة إليه أصلا،لفرض أن موضوعه عصيان أمر الأهم و المفروض عدم تحققه إلا بعد الفراغ من المهم.
قلت:في كل آن من آنات إتيان المهم عصيان ترك الأهم فهو منبسط على جميع الآنات انبساط الظلمة على الساعات،لفرض وجوبه فورا ففورا،ففي كل آن عصيان فعلي و مخالفة عملية للأهم و يتحقق بذلك موضوع أمر المهم،مع إمكان أن يكون الشرط عزم المكلف على العصيان،و كونه في مقام الهتك و العصيان،كما يجوز جعل العصيان الخارجي على نحو الشرط المتأخر شرطا للأمر بالمهم.و تقدم أنه لا محذور في الشرط المتأخر في الاعتباريات،شرعية كانت أو عرفية.
الثاني:-مما استدل به على امتناع الترتب-أن جوازه مستلزم لتعليق وجوب المهم على إرادة المكلف و اختياره،فيلزم خروج الواجب عن وجوبه
لأنه إن اختار ترك الأهم يجب المهم،و إلا فلا يجب،مع أنه من تعليق الواجب على العصيان و مستلزم لتعدد العقاب عند تركهما معا،و هو بعيد عن ساحته تعالى.
و يمكن المناقشة فيه:أما تعليق الوجوب على الاختيار و العصيان فكثير في الفقه،كتعليق وجوب القضاء على ترك الأداء و عصيان أمره،و كتعليق الكفارات على ارتكاب المحذورات في الصوم و الإحرام و غيرهما مما هو كثير.
و أما الأخير فيمكن أن يقال بفعلية عقاب الأهم و تداخل عقاب المهم فيه عند تركهما معا،و لا محذور فيه من عقل أو شرع،فيكون منشأ إمكان تعدد استحقاق العقاب إمكان تعدد الخطاب حقيقة أو اعتبارا أو انحلالا،كما في الواجبات الكفائية.هذا بحسب القواعد،و أما التفضلات الإلهية على عبيده فهي أمر خارج عن درك عقولنا.
ثم إنه قد اعترف القائلون بامتناع الترتب بإمكانه و وقوعه في العرفيات، و هذا تهافت منهم من حيث لا يشعرون،فإن أدلة الشرعيات منزلة على العرفيات،و الدقيات العقلية بمعزل عن الشرعيات،كما هو أوضح من أن يخفى على الأصاغر فضلا عن الأكابر.
الثالث:أنه على فرض صحته و إمكانه ثبوتا،فالأدلة قاصرة عن إثباته
لأنه خلاف المتفاهم العرفي المنزلة عليه الأدلة الشرعية،إذ ليس كل ما هو ممكن ذاتا بواقع خارجا.
و فيه:أن الترتب من المداليل السياقية،نظير المفاهيم،و الجمع العرفي عند أهل المحاورة،و إذا اعترف من ذهب إلى امتناع الترتب شرعا بوقوعه عرفا، فلا وقع لهذا الاستدلال أصلا.
فإذا ورد خطاب مطلق بالأهم و كذا بالنسبة إلى المهم،و تحققت شروط التزاحم،فإما أن يسقطا معا،أو يسقط الأهم دون المهم،أو يكون بالعكس،أو يثبتان معا.
و الأول باطل عند الكل،و الثاني ترجيح المرجوح على الراجح،و الثالث إسقاط لأحد الخطابين بلا وجه مع إمكان إبقائه،فيكون المتعين هو الأخير عقلا و عرفا.
ثم إنه يكفي في تأخر الامتثال عن الأمر،و كذا تأخر عصيانه عنه،التأخر الرتبي فقط.و لا يعتبر التأخر الزماني،لعدم دليل عليه،بل مقتضى الأصل عدم اعتباره،فيكون أول آن الشروع في امتثال المهم و عصيان الأهم رتبة ثبوت الأمرين معا،فتتحقق الإطاعة و العصيان في الرتبة المتأخرة قهرا،فيصح أن يكون عصيان أمر الأهم شرطا مقارنا للأمر بالمهم،أو البناء على العصيان شرطا متقدما،أو تحققه خارجا شرطا متأخرا،و الكل صحيح لا بأس به.
هذه خلاصة الكلام في الترتب.