العام و الخاص إما مبينان من كل جهة،أو مجملان كذلك،أو يكون العام مجملا و الخاص مبينا،أو بالعكس.
و لا إشكال في تمامية الحجة في الأول،كما لا ريب في عدمها في الثاني، لفرض الإجمال فيهما،و لا حجية في المجمل.
و كذلك الثالث،لأن الخاص كالقرينة للعام و المتمم لفائدته،و مع إجمال ذي القرينة لا أثر لكون القرينة واضحا و مبينا.
و أما الأخير فعمدة القول فيه:أن الخاص إما متصل أو منفصل،و الإجمال في كل منهما إما مفهومي أو مصداقي.و منشأ الإجمال إما للتردد بين المتباينين، أو بين الأقل و الأكثر،فهذه أقسام ثمانية.
و يسري الإجمال من الخاص المتصل المجمل إلى العام بأقسامه الأربعة، لأنه من القرينة المحفوفة بالكلام،و إجمال القرينة يسري إلى ذي القرينة في المحاورات العرفية،فلا حجية للعام في محتملات التخصيص،بل و لا ظهور له فيها أيضا،لفرض عروض الإجمال،و جريان بناء العقلاء على عدم التمسك به فيها حينئذ في محاوراتهم و احتجاجاتهم في الموارد المشكوك في دخولها تحت العام،و الأخذ بالمتيقن بما هو داخل فيه ليس من باب ظهور العام بل من جهة اليقين به،فلا يكون العام و لا الخاص حجة في الفرد المشكوك،لفرض الإجمال فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل آخر،و مع عدمه فإلى الاصول العملية- موضوعية كانت أو حكمية-و كذا في ما يأتي من القسمين من الخاص المنفصل،حيث لا يجوز فيهما التمسك بالعام فيرجع فيهما إلى دليل آخر أو أصل،بل و كذا في ما يأتي من الشبهات المصداقية،حيث لا يصح التمسك بالعام فيها.
و أما الخاص المنفصل فإن كان إجماله للتردد بين المتباينين مفهوما أو مصداقا فلا حجية للعام في محتمل التخصيص أيضا،للعلم الإجمالي بورود التخصيص في الجملة،و عدم وجود حجة معتبرة على التعين،و لا تجري أصالة عدم التخصيص،لمكان العلم الإجمالي.
نعم،لا إشكال في بقاء ظهور العام في العموم،لفرض عدم كون المخصص المجمل متصلا بالكلام،و عدم احتفافه بما يوجب الإجمال،و لا ملازمة بين بقاء الظهور و حجيته،إذ ليس كل ظاهر بحجة،كما في موارد العلم بإرادة خلاف الظاهر تفصيلا أو إجمالا.
و كذا ليس كل حجة من الظاهر،كما في حجية الأدلة اللبية،فيكون بينهما العموم من وجه،كما هو واضح.
و أما إذا كان الإجمال لأجل تردده بين الأقل و الأكثر مفهوما،فالعام حجة في محتمل التخصيص-و هو الأكثر-لاستقرار ظهوره في العموم و عدم المنافي له إلا في ما يكون الخاص حجة فيه-و هو الأقل-فقط،فيرجع في الأكثر إلى أصالة عدم التخصيص.فالمقتضي لحجية العام في الأكثر موجود-و هو الظهور- و المانع عنه مفقود-و لو بالأصل-.
و أما إذا كان إجماله لأجل التردد بين الأقل و الأكثر مصداقا،فهو النزاع المعروف بين العلماء-أنه هل يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؟- فذهب جمع إلى الأول،و نسب الأخير إلى المشهور،و استدل للأول بوجوه:
منها:وجود المقتضي لحجية العام في المشكوك فيه و هو الظهور،و فقد المانع و لو بالأصل،فتتم حجية العام فيه لا محالة.
و فيه:أن الظهور مسلّم و لكن فقد المانع-و هو أصالة عدم التخصيص أول الكلام،لأنها من الاصول المحاورية العقلائية،و لم يحرز بناؤهم على جريانها في المقام و إلا لما وقع الخلاف بين الأعلام،و يكفي الشك في الجريان بعد أن كان المدرك هو السيرة التي لا بد و أن يقتصر فيها على المتيقن،هذا مضافا إلى أنه بعد العلم بورود المخصص المبين مفهوما و تمامية الحجة بالنسبة إلى التخصيص من طرف المولى،لا وجه لجريان هذا الأصل و لو كان مدركه إطلاق أخبار الاستصحاب،إذ الأصل يجري فيما لا حجة فيه في البين،دون ما ثبتت فيه الحجة،و هذا هو الفارق بين المقام و بين ما تقدم من تردد المخصص من حيث المفهوم بين الأقل و الأكثر،حيث قلنا بصحة الرجوع إلى أصالة عدم التخصيص هناك في الأكثر،و ذلك لعدم تمامية حجة أقوى على خلاف العام هناك بالنسبة إلى الأكثر لفرض إجمال المفهوم،فيرجع لا محالة إلى الأصل، بخلاف المقام الذي تمت الحجة الأقوى على خلاف العام من طرف المولى فلم يبق موضوع للرجوع إلى الأصل.
إن قيل:بعد الاعتراف بثبوت حجة أقوى على خلاف العام فليكن الفرد المردد داخلا تحت الخاص الذي هو الحجة الأقوى.
يقال:لا ملازمة بين كونه حجة أقوى بحسب المفهوم بالنسبة إلى العام في الجملة،و بين كونه حجة في الفرد المردد بين كونه داخلا تحته أيضا،بل مقتضى الأصل عدم هذه الملازمة.
هذا إذا كان المراد بأصالة عدم التخصيص الأصل المعروف.و أما إذا كان المراد الأصل الموضوعي فهو صحيح في المقام،و يأتي الكلام فيه.
و القول:بأن أصالة عدم التخصيص معارضة بأصالة عدم حجية العام في المشكوك فيه.
موهون:باختلاف الرتبة بينهما،لأنه بعد جريان أصالة عدم التخصيص لا يبقى موضوع لجريان أصالة عدم الحجية،كما لا يخفى.
و منها:أن مقتضى إطلاق العام بإطلاقه الأحوالي شموله للفرد المردد أيضا،فيكون العام مبينا للحكم الواقعي بالنسبة إلى أفراده الواقعية،و للحكم الظاهري بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها.
و فيه:أن المنساق من العمومات التكفل للأحكام الواقعية فقط،إلا أن يدل دليل من الخارج على أنها متكلفة للحكمين،أو للحكم الظاهري فقط.
و منها:أن حجية العام في المقام أقوى و أظهر من الخاص.و لكن فساد هذا الوجه غني عن البيان.
و من ذلك يظهر أن ما نسب إلى المشهور هو الأقوى،لأن الفرد المردد مشكوك في دخوله تحت كل من العام و الخاص،فيشك في حجية كل واحد منهما بالنسبة إليه،و الشك في الحجية يكفي في عدم الحجية.
و لا ينفع فيها دخوله تحت ظهور العام،لما تقدم من عدم الملازمة بين الظهور و الحجية،و يقتضي ذلك مرتكز المتعارف أيضا،فلا يبادرون إلى الحكم بدخول الفرد المردد تحت العام إلا بقرينة خارجية تدل عليه،مع أن فعلية الأحكام متوقفة على إحراز موضوعاتها،و مع التردد فيها لا وجه لفعليتها.
و حينئذ يرجع في حكم هذا الفرد المشكوك في دخوله تحت كل واحد منهما إلى الاصول الموضوعية،و مع عدمها فإلى الحكمية إن لم يكن دليل خارجي على تعين حكمه في البين.
و أما ما قيل:من أن العام بعد التخصيص يكون كالموصوف و الوصف، فكما لا يصح التمسك بدليل الموصوف مع عدم إحراز الوصف فالمقام مثله أيضا.
فهو حسن ثبوتا و لا كلية فيه إثباتا.
و لا فرق في ما ذكرناه بين ما إذا كان الإجمال من حيث المصداق في المخصص المنفصل اللفظي أو اللبي،لأن المناط كله تردد الفرد بين الدخول و الخروج تحت كل من العام و المخصص،و في مثله لا يبادر أهل المحاورة إلى الجزم بدخوله تحت أحدهما إلا بقرينة اخرى.
و عن صاحب الكفاية التفصيل بينهما،فوافق المشهور في المخصص اللفظي،و أما في اللبّي فذهب قدّس سرّه إلى حجية العام في الفرد المردد،و ادعى بناء العقلاء عليه أيضا.
و حاصل ما ذكره في وجه الفرق:أن في المخصص اللفظي قد ورد ظهوران:ظاهر العام،و ظاهر الخاص،و تردد فرد بين الدخول في كل واحد منهما و الخروج،فلا يكون كل واحد منهما حجة فيه.و أما في اللّبّي فليس في البين إلا ظاهر واحد و هو ظهور العام،فيكون ظهوره متبعا ما لم يقطع بخروج فرد عنه،و حيث لا قطع بخروج الفرد المردد،يكون ظهور العام متبعا لا محالة.
و يرد عليه:
أولا:أن ما ادعاه قدّس سرّه من بناء العقلاء على التمسك بالعام في الفرد المردد مع المخصص اللبي دون اللفظي،دعوى بلا شاهد،بل هو على خلافها.
و ثانيا:أن مناط عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المردد هو مجرد التردد بين الدخول و الخروج،و لا ريب في وجود هذا المناط فيهما.
نعم،للتردد مراتب متفاوتة لا بأس بالتمسك بالعام في بعض مراتبه حتى في الدليل اللفظي أيضا،و إن لم يصح في بعض مراتبه الاخرى،و بذلك يمكن جعل النزاع لفظيا.
و الحاصل:أنه لا يصح الرجوع إلى دليل العام في جميع الأقسام الثمانية التي تقدمت الإشارة إليها،إلا في قسم واحد،و هو ما إذا كان المخصص منفصلا و كان مجملا مفهوما لتردد مفهومه بين الأقل و الأكثر،فيرجع في المشكوك فيه إلى العام،و لا يصح الرجوع إلى العام في بقية الأقسام السبعة،كما لا يصح التمسك بالخاص في جميع الأقسام الثمانية،لسقوط اعتباره في الفرد المردد عند أهل المحاورة.